تفسير سورة التوبة

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ أي هذهِ مِن اللهِ، فيكون رَفعاً على الابتداءِ، ويجوزُ أن يكون (بَرَاءَةٌ) رَفعاً بالابتداءِ، وخبرهُ: ﴿ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ ﴾.
والبراءةُ: رفعُ العِصمَةِ، يقالُ: فلانٌ بريءٌ من فلانٍ، وبرِىءَ اللهُ مِنَ المشرِكين. وإنما ذكرَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ من العهدِ؛ لأنَّ المشركين كانوا ينقضُونَ العهدَ قبلَ الأجَلِ، ويُضمِرُونَ الغدْرَ، فأمرَ اللهُ بنَبْذِ العهدِ إليهم، إما بخيانَةٍ مَستُورَةٍ ظهرت أمَارَتُهَا منهم، وإما أن يكون شرطُ النبيِّ عليه السلام لنَقضِهم في العهدِ أنْ يُقِرَّهُم ما أقرَّهم اللهُ. فأما تركُ البسملةِ في أوَّل هذه السُّورة، فقد رُوي أنَّ أُبَيَّ بن كعبٍ سُئِلَ عن ذلكَ فقال: (لأنَّهَا نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ أوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ (بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَلَمْ يَأْمُرْ فِي سُورَةِ الْبَرَاءَةِ بذَلِكَ، فَضَمَّتْ إلَى الأَنفَالِ لِشَبَهِهَا بهَا) يعنِي أنَّ أمرَ العُهودِ مذكور في الأنفالِ، وهذه السُّورة نزلَتْ بنقضِ العهُودِ. سُئل عليٌّ رضي الله عنه عن هذا فقالَ: (لأَنَّ هَذِهِ السُورَةَ نَزَلَتْ فِي السَّيْفِ، وَلَيْسَ لِلسَّيْفِ أمَانٌ، وَبسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ الأَمَانِ، ولأَنَّ الْبَسْمَلَةَ رَحْمَةٌ، وَالرَّحْمَةُ أمَانٌ، وَهَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَتْ بالسَّيْفِ وَلاَ أمَانَ فِيْهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾؛ أي سِيرُوا في الأرضِ على الْمَهْلِ وأقْبلُوا وأدبرُوا في الأرضِ إلى أن يمضيَ أربعةٌ. وَقِيْلَ: هو على الخطاب؛ أي قُل لَهم سِيرُوا في الأرضِ مُقبلِينَ ومُدبرِينَ آمِنِينَ غَيرَ خائفِين من قَتْلٍ ولا أسْرٍ ولا نَهْبٍ. ويقالُ: إن قولَهُ: ﴿ فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ بيانُ أن هذا السَّيْحَ المذكورَ في أوَّل هذه السورةِ إنَّما هو بعدَ أربعةِ أشهرُ، فإنَّ عهدَ الكفَّار باقٍ إلى آخرِ هذه المدَّة. قال الحسنُ: (أمَرَ اللهُ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أنْ يَنْظُرَ فِي عُهُودِ الْكُفَّارِ، فَيُقِرَّ مَنْ كاَنَ عَهْدُهُ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ عَلَى عَهْدِهِ أنْ يَمْضِي، وَيَحِطَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ أكْثَرَ مِنْ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، وَيَرْفَعَ عَهْدَ مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ قَبْلَ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فَيَجْعَلَهُ أرْبَعَةَ أشْهُرْ). واختلَفُوا في هذهِ الأربعة أشهُر، قال بعضُهم: من عشرين ذِي القِعدَةِ إلى عِشرين من رَبيع الأوَّل. ورُوي في الخبرِ: أنَّ مكَّة فُتحت في سنةِ ثَمانٍ من الهجرة، ووَلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عتَّابَ بن أُسَيدٍ الوقوفَ بالناسِ في الموسمِ، واجتمعَ في تلك السَّنة في الوقوفِ المسلِمُون والمشركون." فلمَّا كانت سنةُ تسعٍ ولَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أبَا بكرٍ وبعثَ معه عشرَ آياتٍ من أوَّلِ براءةً أو تسعِ آياتٍ، وأمرَهُ أن يقرَأها على أهلِ مكَّة، وينبذَ إلى كلِّ ذِي عهدٍ عهدَهُ كما وصفَ اللهُ تعَالَى، فلمَّا خرجَ أبوُ بكرٍ رضي الله عنه منها إلى مكَّة، نزلَ جبريلُ عليه السلام فَقَالَ: للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: " لاَ يُبَلِّغُ عَنْكَ إلاَّ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ بَيْتِكَ " فدَعَا عَلِيّاً رضي الله عنه وأمَرَهُ بالذهاب إلَى مكَّةَ، وقال: " كُنْ أنْتَ الَّذِي يَقْرَأ هَذِهِ الآيَاتِ عَلَى أهْلِ مَكَّةَ، وَمُرْ أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بالنَّاس ". فسارَ حتى لَحِقَ أبا بكرٍ رضي الله عنه في الطريقِ، فأخبرَهُ بذلك فمَضَيَا، وكان أبُو بكرٍ على الموسِمِ ". فلمَّا كان يومُ النحرِ واجتمعَ المشركونَ، قام عليٌّ رضي الله عنه عند جمرةِ العَقَبَةِ وقالَ: (يَا أيُّهَا النَّاسُ؛ إنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَيْكُمْ) فَقَالُواْ: بمَ ذَا؟ فقرأ عليهم (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ...) إلى آخرِ الآياتِ التي نزلَتْ. وكان الحجُّ في السنَّة التي قرأ عليٌّ رضي الله عنه فيها هذه السُّورةَ في العاشرِ من ذي القعدَةِ، ثم صارَ الحجُ في السَّنة الثانيةِ في ذي الحجَّة، وكان السببُ في تقديمِ الحجِّ في سَنَةِ العهدِ ما كان يفعلهُ بنو كِنَانَةَ في النَّسِيءُ وهو التأخيرُ. وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ الأربعةَ الأشهر المذكورة في هذهِ الآيةِ هي: شوَّال وذُو القعدة وذو الحجَّة والمحرَّم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ ﴾؛ أي غيرَ فائِتِين عن اللهِ بعدَ الأربعةِ الأشهر، فإنَّكم إنْ أجَّلتُم هذه الأشهرَ فلن تفُوتُوا اللهَ تعالى. وقولهُ تعالى: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ ﴾؛ أي معذِّبَ الكافرين في الدُّنيا بالقتل في الآخرةِ بالنار. والإخْزَاءُ: هو الإِذلاَلُ على وجههِ الأدْوَنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾؛ أي وإعلامٌ من اللهِ ورسوله إلى الناسِ يومَ الحجِّ الأكبرِ وهو يومُ النحرِ، كذا روَى ابنُ عبَّاس، وسُمي يومُ النحرِ يومَ الحجِّ الأكبرِ؛ لأنه اتَّفقَتْ فيه الأعيادُ على قولِ أهل الْمِلَلِ. وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:" أنَّهُ يَوْمَ عَرَفَةَ "، قال قيسُ ابن مَخْرَمَةَ:" خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ: " أمَّا بَعْدُ؛ فَإنَّ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ ". ويروى أنَّ عَلِيّاً رضي الله عنه خرجَ يوم النَّحرِ على بغلةٍ بيضاءَ إلى الجبانة، فجاءَهُ رَجُلٌ فأخَذَ بلِجَامِهَا وسَأَلَهُ عن يومِ الحجِّ الأكبرِ، فقال: (هُوَ يَوْمُكَ هَذَا، خَلِّ سَبيلَهُ). وسُئلَ عبدُاللهِ بن أبي أوفَى عن يومِ الحجِّ الأكبرِ، فقالَ: (سُبْحَانَ اللهِ! هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمَ يُهْرَاقُ فِيْهِ الدِّمَاءُ وَنَحْلِقُ فِيْهِ الشَّعْرَ وَيُحَلُّ فِيْهِ الْمُحَرَّمُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَذَانٌ ﴾ عطف على قوله: ﴿ بَرَآءَةٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ أي أن اللهَ ورسولهُ برِيءٌ من المشركين، تقديرهُ: أنَّ اللهَ برِيءٌ ورسولهُ أيضاً بَرِيءٌ. ومَن قرأ (وَرَسُولَهُ) بالنصب فعلى معنَى وأن رسولَهُ بريءٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾؛ أي تبتُم من الشِّرك فهو خيرٌ لكم من الإقامةِ عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾؛ معناهُ: وإنْ أعرَضتُم.
﴿ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ﴾؛ فَائِتِينَ عن؛ ﴿ ٱللَّهِ ﴾.
وقولهُ تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾؛ تكرارٌ للوعيدِ، وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: (كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالبَرَاءَةَ إلَى مَكَّةَ) فَقِيلَ لأَبي هُرَيْرَةَ: بمَ إذاً كُنْتُمْ تُنَادُونَ؟ قََالَ: (كُنَّا نُنَادِي: أنَّهُ لاَ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَحُجَّنَّ هَذَا الْبَيْتَ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مَشْرِكٌ وَلاَ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَأَجَلُهُ إلَى أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، فَإذَا مَضَتْ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ فَإنَّ الله بَرِيءٌ مِنْ عَهْدِ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ﴾؛ استثناءٌ من اللهِ تعالى من قوله:﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾[التوبة: ١] وأرادَ بقولهِ: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ ﴾ بني ضَمْرَةَ وهم حَيٌّ من بَنِي كِنَانَةَ عاهدَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عامَ الحديبية عند البيتِ، وكان بقيَ لهم من عهدِهم تسعةٌ من بعدِ يوم النَّحرِ من السَّنة التي حجَّ فيها أبو بكرٍ رضي الله عنه، وكانوا لم يَنقُضوا شيئاً من عُهودِهم، ولَم يُمالُوا عدُوّاً على رسولِ اللهِ عليه السلام، فأمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن - أبقَى - لهم بعهدِهم إلى آخرِ مُدَّتِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي يرضَى عملَ الذينَ يتَّقون نقضَ العهدِ. قرأ عطاءُ (يَنْقُضُوكُمْ) بالضَّادِ المعجمة من نقضِ العهد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ إذا مضَتِ الأشهرُ التي حرَّمَ اللهُ القتالَ بالعهدِ فيها.
﴿ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ ﴾؛ يقالُ أرادَ بذلك الأشهُرَ الْحُرُمَ المعروفةَ؛ وهي: رجبُ وذو القعدةِ وذو الحجَّة والمحرَّم، كأنه قالَ: فإذا انسلخَ الأشهرُ الحرُمُ فاقتلُوا المشركين حيث وجدتُموهم في الحِلِّ أو في الحرَمِ، وخُذُوهُمْ؛ أي أأسرُوهم.
﴿ وَٱحْصُرُوهُمْ ﴾؛ أي احبسُوهُمْ، ويقالُ: أراد بذلك أن يُحالَ بينهم وبين البَيْتِ؛ أي امنَعوهُم دخولَ مكَّة. وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾؛ أي اقعُدوا القتالَ على كلِّ طريقٍ يأخذون فيهِ إلى البيتِ أو إلى التجارةِ، وهو أمرٌ بتضييقِ السبيل عليهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ﴾ معناهُ: فإن تابُوا عن الشِّرك، وقَبلُوا إقامَ الصلاةِ وإيتاءِ الزَّكاة فأطلِقُوهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾؛ لِمَا سَلَفَ من شِركهم.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾؛ بهم حين قَبلَ توبتَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾؛ معناهُ: وإنْ أحدٌ من المشرِكين استأمَنَك ليسمعَ دعوتَك واحتِجَاجَكَ بالعدلِ، فأَمِّنْهُ حتى يسمعَ كلامَ اللهِ، فإن أرادَ أن يُسلِمَ فرُدَّهُ إلى موضعِ أمْنِهِ.
﴿ ذٰلِكَ ﴾؛ الأمانُ لَهم.
﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أمرَ اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ ﴾ أي كيف يكونُ لهم عهدٌ، وهم يُضمِرُونَ الغدرَ في عُهودِهم عندَ اللهِ وعندَ رسُولِهِ؛ أي لن يكونَ لهم عهدٌ يجبُ الوفاءُ به.
﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ ﴾؛ في وفَاءِ العهدِ فلم ينقضوهُ كما نقضَ غيرُهم.
﴿ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ ﴾؛ بوفاءِ أجَلِهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾؛ لنقضِ العهد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ﴾؛ أي كيف يكون لهم العهدُ، وقال الأخفشُ: (مَعْنَاهُ: كَيْفَ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَهُمْ إن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ لاَ يَحْفَظُوا فِيكُمْ قَرَابَةً وَلاَ عَهْداً)، وقال قتادةُ: (الإلُّ: الْحِلْفُ)، قال السديُّ: (هُوَ الْعَهْدُ) وَلَكِنَّهُ كَرَّرَهُ لِمَا اخْتَلَفَ اللَّفْظَانِ وَإنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. قال مجاهدُ: (الإِلُّ هُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ) وَمِنْهُ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فإنَّ مَعْنَاهُمَا عَبْدُ اللهِ. وَأبُو بَكْرٍ لَمَّا سَمِعَ كَلاَمَ مُسَيلَمَةَ قَالَ: (هَذَا كَلاَمٌ لَيْسَ هُوَ إلٍّ) أي لم يتكلَّمْ به اللهُ. وقرأ عكرمةُ (إيْلاً) بالياءِ يعني اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، مثل جِبرِيل ومِيكَائِيل. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾؛ أي يتكلَّمون العهدِ بأفواهِهم.
﴿ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ ﴾؛ إلاَّ نقضَ العهدِ.
﴿ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
أي مُتمَادُونَ في الكفرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾؛ أي اختَارُوا على القرآنِ عَرَضاً يَسِيراً من الدُّنيا.
﴿ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ فصَرَفُوا الناسَ عن طاعةِ اللهِ؛ فبئْسَ العملُ عمَلُهم، وذلك أنَّهم نقَضُوا العهدَ الذي بينَهم وبين رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأَكْلَةٍ أطعمَهُم إيَّاها أبُو سُفيان.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ﴾؛ فإن قِيْلَ: لِمَ أعادَ قولَهُ تعالى: ﴿ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ﴾؟ قِيْلَ: ليس هذا بإعادةٍ؛ لأنَّ الأولَ وَرَدَ في جميعِ الكفَّار الذين نقَضُوا العهدَ، والثاني إنَّما وردَ في طائفةٍ من اليهودِ الذين كانوا ينقضُونَ العهدَ، فإنَّ هذه الطائفةَ منهم الذين اشتَرَوا بآياتِ الله ثَمناً قليلاً؛ فإنَّهم كانوا يكتُمون صفةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ من المواكَلَةِ كانوا يأخذونَها من سَفَلَتِهم، وكانوا يأخُذون الرِّشَاءَ على الحكمِ الباطل، ويغيِّرون أحكامَ اللهِ التي أنزلَها على أنبيائِهم. وقولهُ تعالى: ﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ ﴾؛ يعني في نقضِ العهد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ ﴾؛ أي فإن تَابُوا عن الكفرِ وقَبلوا إقامةَ الصَّلاة وإيتاءَ الزَّكاة، فهُم إخوانُكم في دينِ الإسلام.
﴿ وَنُفَصِّلُ ﴾؛ ونأتِي بـ.
﴿ ٱلأيَـٰتِ ﴾؛ أيةً بعدَ آيةٍ.
﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أمْرَ اللهِ وأحكامَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ ﴾؛ أي نقَضُوا أيمانَكم والحلفَ من بعدِ العهُودِ التي عاهدَّتهم أنْ لا يُقاتِلُوكَ ولا يُعِينُوا عليكَ ولا على حُلفائِكَ.
﴿ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾؛ الإسلام وعابوهُ، وذلك أنَّهم قالوا: ليس دينُ مُحَمَّدٍ بشيءٍ.
﴿ فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ ﴾؛ أي رُؤُوسَ الكُفرِ؛ ﴿ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ ﴾.
قال ابنُ عباس: (نَزَلَتْ فِي أبي سُفْيَانَ وَالْحَارثِ بْنِ هِشَامِ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةَ بْنِ أبي جهلٍ وَسَائرِ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ، وَهُمُ الَّذِينَ همُّواْ بإخْرَاجِ الرَّسُولِ). وقال مجاهدُ: (هُمْ أهْلُ فَارسَ وَالرُّومُ). وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ ﴾ أي لا عهودَ لهم؛ جَمْعُ يَمِينٍ، وقال قطربُ: (لاَ وَفَاءَ لَهُمْ بالْعَهدِ). وقرأ الحسنُ وعطاء وابنُ عامرٍ (لاَ إيْمَانَ) بكسرِ الهمزة؛ أي لا تصديقَ لهم، قال عطيَّة: (لاَ دِينَ لَهُمْ) أي هم قومٌ كفَّار. وَقِيْلَ: معناهُ: لا أمانَ لهم فلا تُؤَمِّنُوهُمْ واقتلُوهم حيث وجدتُّموهم، فيكون مصدرُ أمَّنْتُهُ إيْمَاناً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ﴾؛ أي ليُرجَى منهم الانتهاءُ عنِ الكُفرِ ونقضِ العهد. وفي الآية بيانُ أنَّ أهلَ العهدِ متى خالَفوا أشياء مما عاهدوهم عليه فقد نُقِضَ العهدُ، وأما إذا طَعَنَ واحدٌ منهم في الإسلام: فإنْ كان شُرِطَ في عُهودِهم أن لا يذكُروا كتابَ اللهِ ولا يذكرون مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بما لا يجوزُ، ولا يَفتِنُوا مُسلِماً عن دينهِ ولا يقطَعُوا عليه طَريقاً ولا يُعِينُوا أهلَ الحرب بدلالةٍ على المسلمين، فإنَّهم إذا فعَلُوا ذلك في عهودِهم وطَعَنوُا في القرآنِ وشَتَموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ففيه خلافٌ بين الفقَهاءِ. قال أصحابُنا: يُعْذَرُونَ ولا يُقتلون، واستدَلُّوا بما روَى أنسُ بن مالك رضي الله عنه:" أنَّ امْرَأةً يَهُودِيَّةً أتَتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ فَقِيلَ: ألاَ تَقْتُلُوهَا؟ قَالَ: " لاَ " "ولحديث عائشةَ:" أنَّ قَوْماً مِنَ الْيَهُودِ دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ! فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ فَقَالَتْ: وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ النِّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَهْلاً يَا عَائِشَةُ! فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ " فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ألَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُواْ؟! فَقَالَ: " بَلَى قَدْ قُلْتُ: عَلَيْكُمْ " ولَمْ يقتُلْهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك. فذهب مالكُ إلى أنَّ مَن شَتَمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم من اليهودِ والنصارى قُتِلَ إلا أن يُسلِمَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (ذَلِكَ أنَّ قُرَيْشاً أعَانُواْ بَنِي الوَلِيدِ بْنِ بَكْرٍ وَكَانُواْ حُلَفَاءَهُمْ عَلَى خُزَاعَةَ؛ وَخُزَاعَةُ حُلَفَاءُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَهَزَمُوا خُزَاعَةَ، فَجَاءَ وَفْدُ خُزَاعَةَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأخْبَرَهُ بالقصَّة، وناشدُوا حِلْفَهُ فقالَ قائلُهم: يَا رَب إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا   حِلْفَ أبينَا وَأبيهِ الأَتْلَدَاكُنَّا وَالِداً وَكُنْتَ وَلَدا   ثَمَّتَ أسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَافَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْراً أبَدَا   وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَافِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا   إنَّ قُرَيْشاً أخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَاوَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا   وَبَيَّتُونَا بالْوَتِيرِ هُجَّدَانَتْلُوا الْقُرْآنَ رُكَّعاً وَسُجَّدَا   فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" " لاَ نُصِرْتُ إن لَمْ أنْصُرْكُمْ " فقالَ أبُو بكرٍ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ أتَنْصُرُهُمْ عَلَى قَوْمِنَا؟! قَالَ: " لاَ نُصِرْتُ إنْ لَمْ أنْصُرْهُمْ " ثُمَّ أمَرَ النَّاسَ أنْ يَتَجَهَّزُوا إلَى فَتْحِ مَكَّةَ، فَفَتَحَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ ". وَأحَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ الْقِتَالَ لِخُزَاعَةَ ولَمْ يُحِلَّهُ لأَحَدٍ غَيْرَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ ﴾ أي نقَضُوا عُهودَهم يعنِي قُريشاً.
﴿ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ ﴾ من مكَّة حين اجتمَعُوا على قتلهِ في دار النَّدوة ﴿ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ أي هم الذين بَدأُوا بنقضِ العهد حين قاتَلُوا خزاعةَ حلفاءَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ ﴾؛ أي تخَافُونَ أن ينَالَكم مكروهٌ في قتالِهم فتتركوا قتالَهُم.
﴿ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ ﴾؛ تخافوهُ في تركِكم لقتالهم.
﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ ﴾؛ مصدِّقين بعقاب الله وثوابه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾؛ أي قاتِلُوا أهلَ مكَّة يعذِّبْهم اللهُ بأيدِيكم بالسَّيف.
﴿ وَيُخْزِهِمْ ﴾؛ أي يذِلّهم.
﴿ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾؛ يعني بَنِي خزاعةَ يومَ فتحِ مكَّة الذين قاتَلَهم بنو بكرٍ.
﴿ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ﴾؛ بني خُزاعةَ، فشَفَى اللهُ صدورَ بني خزاعة وأذهبَ غيظَ قُلوبهم؛ أي كَرْبَها ووَجْدَها. وقولهُ تعالى: ﴿ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ﴾؛ استثناءُ كلام اللهِ؛ أي يتوبُ الله على مَن يشاء من أهلِ مكَّة فيهديهِ للإِسلامِ.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾؛ بجميعِ الأشياء.
﴿ حَكِيمٌ ﴾؛ في جميعِ الأمُور.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾؛ معناهُ: إنْ ظنَنتُم أيُّها المؤمنون أن تُتْرَكُوا على الإقرار والتصديقِ فلا تُؤمَرُوا بالجهادِ، قوله: ﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ﴾ أي ولَمَّا يرَ اللهُ جهادَكم حين تُجاهدون، ولَمَّا يرَ اللهُ الذين لم يتَّخذوا منكم من الكفارِ بطَانَةً يُفْشُونَ إليهم سِرَّهم وأمْرَهم. وكان اللهُ تعالى قد عَلِمَ أمْرَهم بالقتال، مَن يقاتلُ مِمَّن لا يقاتلُ، ولكنَّهُ يعلمُ ذلك عَياناً، وأرادَ العلمَ الذي يُجازَى عليه وهو علمُ الْمُشَاهَدَةِ؛ لأنه يُجازيهم على عمَلِهم لا على عِلْمِهِ فيهم. والوَلِيجَةُ: المدخَلُ في القومِ مِن غيرهم؛ مِنْ وَلَجَ شَيْء يَلِجُ إذا دَخَلَ. والخطابُ في الآيةِ للمؤمنين حين شَقَّ على بعضِهم القتالُ وَكِرَهُوا، فأنزلَ اللهُ هذه الآية ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ ﴾ فلا تُؤمَروا بالجهادِ وتُمتَحَنُوا به؛ ليظهَرَ الصادقُ من الكاذب، والمطيعُ من العَاصِي، وقال قتادةُ: (مَعْنَى وَلِيجَةً أيْ خِيَانَةً)، وقال الضَّحاكُ: (خَدِيعَةً)، وقال ابن الأنباريُّ: (الْوَلِيجَةُ: الدَّخِيلَةُ)، وقال عطاءُ: (أولياء)، قال الحسنُ: (كُفْرٌ وَنِفَاقٌ). وَقِيْلَ: الوَلِيجَةُ: الرجلُ من يختص يدخله مودَّةً دون الناسِ، يقالُ: هو وَلِيجَةٌ وهُم وَلِيجَةٌ، للواحدِ والجمعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾؛ أي عالِمٌ بأعمالِكم، وفي هذا تَهديدٌ للمنافقين وعِظَةٌ للمخلصين.
قولهُ تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ، أقْبَلَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ يُعَيِّرُونَهُ بالْكُفْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَعَوْنِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأغْلَظَ عَلَيٌّ رضي الله عنه الْقَوْلَ لَهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: مَا لَكُمْ تَذْكُرُونَ مَسَاوِءَنَا وَلاَ تَذْكُرُونَ مَحَاسِنَنَا؟! فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه: ألَكُم مَحَاسِنُ؟! قَالَ: نَعَمْ؛ إنْ كُنْتُمْ تُجَاهِدُونَ الأَعْدَاءَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَحْنُ نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ، وَنَسْقِي الْحَاجِّ، وَنَفُكُّ الأَسِيرَ، فَنَحْنُ أفْضَلُ مِنْكَ أجْراً. فَاَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ رَدّاً عَلَى الْعَبَّاسِ). ومعناها: ما كانَ للمشرِكين أن يقُوموا بعمارةِ المسجدِ، وأنَّ المساجدَ للهِ. والعمارةُ على وجهين؛ تُذكَرُ ويرادُ بها البناءُ وتجديدُ ما انْهَدَمَ منها، ويؤنَّثُ ويرادُ بها الزيادةُ، ومِن ذلك العُمْرَةُ ومعناها زيارةُ البيتِ، فانتظمت الآيةُ، نَهَى المشركين على بناءِ المساجد وعن عمارِتها بالطاعةِ، فإنَّهم إنما يعمرونَها بعبادةِ الأوثان ومعصيةِ الله. ومَن قرأ (مَسْجِدَ اللهِ) على التوحيدِ أرادَ المسجدَ الحرام خاصَّة وهي قراءةُ ابن كثيرِ وأبي عمرٍو ومجاهد وسعيد بن جبير وقراءة ابنِ عبَّاس، وقرأ الباقون (مَسَاجِدَ) بالجمعِ، وإنما قالَ (مَسَاجِدَ) لأنه قِبْلَةُ المساجدِ كلِّها. وقيل لعكرمة: لِمَ تَقْرَأُ (مَسَاجِدَ) وإنَّمَا هُوَ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ؟ فقال: (إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ مَسَاجِدِ اللهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ﴾؛ نُصبَ (شَاهِدِينَ) على الحالِ على معنى: ما كانت لَهم عمارةُ المسجدِ في حال إقرارِهم بالكُفرِ، وهم كانوا لا يقولون نحنُ كفَّار، ولكن كان كلامُهم يدلُّ على كُفرِهم، وهذا كما يقالُ للرجلِ: كلامُكَ يشهدُ أنَّك ظالِمٌ، وهو قولُ الحسنِ، وقال السديُّ: (شَهَادَتُهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ بالْكُفْرِ، أنَّ الْيَهُودِيَّ لَوْ قُلْتَ لَهُ: مَا أنْتَ؟ قَالَ: يَهُودِيٌّ، وَيَقُولُ النَّصْرَانِيُّ: هُوَ نَصْرَانِيٌّ، وَيَقُولُ الْمَجُوسِيُّ: هُوَ مَجُوسِيٌّ). وَقِيْلَ: شهادَتُهم على أنفُسِهم بالكفرِ سجُودُهم لأصنامِهم وإقرارُهم أنَّها مخلوقةٌ. قًوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾؛ معناهُ: إنَّ الكفرَ أذهبَ ثوابَ أعمالِهم وهي التي مِن جنسِ طاعة المسلمين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾؛ ظاهرُ المرادِ. ثم بَيْنَ اللهُ تَعالى مَن يكون أوْلَى بعمارةِ المسجد الحرامِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ وَآتَىٰ ٱلزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ ﴾؛ معناهُ: إنما يعمرُ مساجدَ اللهِ بطاعةِ الله مَن كان في هذه الصِّفة، قوله: ﴿ وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ ﴾ يعني إقامَ الصلاة المفروضةَ ﴿ وَآتَىٰ ٱلزَّكَاةَ ﴾ الواجبةَ في مالهِ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ ﴾ أي لم يَخَفْ مِن غيرِ الله، ولم يَرْجُ إلا ثوابَهُ، وكلمةُ عسى مِن الله واجبةٌ، والفائدةُ في ذكرِها في آخرِ هذه الآية ليكونَ الإنسانُ على حذَرٍ من فعلِ ما يُحبطُ ثوابَ عملهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾؛ رُوي عن ابنِ عبَّاس أنه قال: (قالَ الْعَبَّاسُ: لَئِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بالإسْلاَمِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، لَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَسْقِي الْحَاجِّ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). يعني أنَّ ذلك كان منكُم في الشِّركِ ولا أقْبَلُ ما كانَ في الشركِ. ورُوي أنَّ المشركين قالُوا: عمارةُ المسجدِ الحرام وقيامٌ على السِّقايةِ خيرٌ ممن آمَنَ وجاهَدَ. وكانوا يفتَخِرون بالحرَمِ، ويستكبُرون به مِن أجل أنهم أهلهُ وعُمَّارُهُ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ، وأخبَرَهم أنَّ عِمَارَتَهم المسجدَ الحرامَ وقيامَهم على السِّقايةِ لا ينفعُهم عندَ اللهِ من الشِّرك بالله. وقال الحسنُ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسَ وَطَلْحَةَ بْنِ شَيْبَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّار، وَذلِكَ أنَّهُمُ افْتَخَرُواْ، فَقَالَ طَلْحَةُ: أنَا صَاحِبُ الْبَيْتِ، بيَدَيَّ مِفْتَاحُهُ، قَالَ الْعَبَّاسُ: أنَا صَاحِبُ السَِّقَايَةِ، وَقَالَ عَلِيٌّ: أنَا صَاحِبُ الْجِهَادِ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ﴾ أي أجعلتُم صاحبَ سقايةِ الحاجِّ وصاحبَ عمارةِ المسجد الحرام كإيمانِ مَن آمنَ بالله واليومِ الآخر.
﴿ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ ﴾؛ وَقِيْلَ: معناهُ: أجَعلتُم ساقيَ الحاجِّ وعامرَ المسجدِ الحرام، جعلَ السقايةَ بمعنى السَّاقِي، والعمارةَ بمعنى العامرِ، كقوله:﴿ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾[طه: ١٣٢] أي للمتَّقين. وقرأ عبدُالله بن الزُّبير وأُبَي: (أَجَعَلْتُمْ سُقَاةَ الْحَاجِّ وَعَمُرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) على جميعِ السَّاقي والعامرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ أي لا يرشِدُهم إلى الحجَّة ما دامُوا مُصِرِّينَ على الكُفرِ، ولا يرشِدُهم إلى الجنَّة والثواب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ ﴾؛ معناهُ: الذين صَدقُوا بتوحيِدِ الله، وهاجَرُوا من أوطانِهم إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وجاهَدُوا العدوَّ في طاعةِ الله أعظمُ درجةً عند اللهِ، وهذا كقولهِ تعالى:﴿ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾[الفرقان: ٢٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ ﴾؛ معناهُ: إنَّ المهاجرين هم الظَّافِرُون بأمَانِهم من الخيرِ، النَّاجُونَ من النار.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ ﴾؛ أي يُبشِّرُهم ربُّهم في الدُّنيا على ألْسِنَةِ الرُّسل نجاةً من العذاب في الآخرة، ورضوان عنهم ويبشِّرُهم بجناتٍ.
﴿ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ﴾؛ دائمٌ لا يزولُ عنهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾؛ أي دَائِِمِين فيها أبداً مع كونِ النَّعيمِ مُقيماً لَهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾؛ أي ثوابٌ كثير في الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ ﴾؛ نزلَت في المهاجِرين، ومعناهُ: لا تتَّخِذُوا آباءَكم وإخوانَكم الذين بمكَّة أولياءَ، تُنصَرون بهم وتَنصُرونَهم إنِ اختاروا الكفرَ على الإيمانِ.
﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾؛ إنما جعلَ الظالمينَ لموالاةِ الكفار؛ لأنَّ الراضي بالكُفرِ يكون كافراً، وعن الضحَّاك: (لَمَّا أمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بالْهِجْرَةِ وَكَانُواْ قَبْلَ الْفَتْحِ بمَكَّةَ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ، لَمْ يَقْبَلِ اللهُ إيْمَانَهُ إلاَّ بمُهَاجَرَةِ الآبَاءِ وَالأَقْرِبَاءِ أيْ بمُجَانَبَتِهِمْ إذَا كَانُوا كُفَّاراً، فَقَالَ الْمُسْلِمُون: يَا رَسُولَ اللهِ! إنْ نَحْنُ اعْتَزَلْنَا مَنْ خَالَفَنَا فِي الدِّينِ، انْقَطَعَ آبَاؤُنَا وَعَشِيرَتُنَا، وَتَذْهَبَ تِجَارَتُنَا وَتخْرَبَ دِيَارُنَا؟ فَأنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيةِ). وقال الكلبيُّ: (لَمَّا أمَرَ اللهُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ، جَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ لأَخِيهِ وَأبيهِ وَامْرَأتِهِ وَأقْرِبَائِهِ: إنَّا قَدْ أُمِرْنَا بالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ فَاخْرُجُواْ مَعَنَا إلَيْهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْجِبُهُ ذَلِكَ فَيُنَازِعُ إلَيْهِ مَعَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْبَى أنْ يُهَاجِرَ فَيَقُولُ الرَّجُلُ لَهُمْ: وَاللهِ لاَ أنْفَعُكُمْ بشَيْءٍ وَلاَ أُعْطِيكُمْ وَلاَ أُنْفِقُ عَلَيْكُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَعَلَّقُ بهِ زَوْجَتُهُ وَوَلَدَهُ وَعِيَالُهُ، فَيَقُولُونَ لَهُ: نُنْشِدُكَ اللهَ أنْ لاَ تُضَيِّعْنَا، فَيَرِقُّ وَيَجْلِسُ وَيَتْرُكُ الْهِجْرَةَ، فَأنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَة ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي أصدقاءُ فتُفْشُونَ إليهم سِرَّكُم وتُؤثِرُونَ المقامَ معهم على الهجرةِ والجهاد إن استحَبُّوا الكفرَ على الإيمانِ، ومَن يتوَلَّهم منكم فيُطلِعُهم على عورةِ الإسلام وأهلهِ، ويُؤثِرِ الْمُكْثَ معهم على الهجرةِ.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ أي القَاضُونَ الواضِعُون الولايةَ في غيرِ موضعِها.
قًوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ ﴾؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ للذِينَ ترَكُوا الهجرةَ إنْ كان آباؤُكم وأبناؤُكم وإخوانكم ونساؤكُم وقراباتُكم.
﴿ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا ﴾؛ اكتسَبتُموها بمكَّة وأصبتُموها.
﴿ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ﴾؛ أي عدمَ نفاقِها إذا اشتغَلتُم بطاعةِ اللهِ.
﴿ وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ ﴾؛ ومنازلُ تعجِبُكم الإقامة بها بمكَّة.
﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ﴾؛ طاعةِ.
﴿ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾؛ بالهجرةِ إلى المدينةِ.
﴿ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ ﴾، وأحبَّ إليكم من الجهادِ في طاعة اللهِ.
﴿ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾، أي فانتَظِروا حتى يأْتيَ اللهُ بفتحِ مكَّة، ويقال: حتى يأتي اللهُ بعذابٍ عاجل أو آجِلٍ.
﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾؛ أي لا يرشدُ الخارجِين عن طاعتهِ إلى معصيتهِ، ولا يهديهم إلى جنَّتهِ وثوابه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً ﴾؛ وذلك أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ من مكَّة بَعْدَ مَا فَتَحَها، وَكَانَ انْفِتَاحُها فِي بَقِيَّةِ أيَّامِ رَمَضَانَ، فَمَكَثَ بهَا حَتَّى دَخَلَ شَوَّالُ مُتَوَجِّهاً إلَى حُنَينٍ، وَبَعَثَ رَجُلاً مِنْ بَنِي سُلَيمٍ عَيْناً لَهُ يُقَالُ لَهُ عَبْدُاللهِ بْنُ أبِي حَدْرَدَ، فَأَتَى حُنَيناً فَكَانَ بَيْنَهُمْ يَسْمَعُ أخْبَارَهُم، فَسَمِعَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ يَقُولُ لأَصْحَابهِ: أنْتُمُ الْيَوْمَ أرْبَعَةُ آلاَفِ رَجُلٍ، فَإذا لَقِيتُمُ الْعَدُوَّ فَاحْمِلُواْ عَلَيهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَوَاللهِ لاَ تَضْرِبُونَ بأَرْبَعَةِ آلاَفِ سَيْفٍ شَيْئاً إلاَّ أفْرَجَ لَكُمْ. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ عَلَى هَوَازن، وَكِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلِ عَلَى ثَقِيفٍ، فَأَقْبَلَ ابْنُ أبي حَدْرَدَ حَتَّى أتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بمَقَالَتِهِمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَجِّهاً إلَيهِمْ فِي عَشْرَةِ آلاَفِ رَجُلٍ، كذا قال الكلبيُّ. وقال مقاتلُ: (كَانُوا أحَدَ عَشَرَ ألْفاً وَخَمْسَمِائَةٍ)، وقال قتادةُ:" خَرَجَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى حُنَينٍ لِقِتَالِ هَوَازنَ وَثَقِيف فِي اثْنَي عَشَرَ ألْفاً مِنَ المُهَاجِرينَ وَالأَنْصَار، وَألْفَيْنِ مِنَ الطُّلَقَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ سَلاَمةَ: يَا رَسُولَ اللهِ لاَ نُغْلَبُ الْيَومَ مِنْ قِلَّةٍ، فَسَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَتُهُ وَابْتَلَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ بذَلِكَ، فَلَمَّا الْتَقَواْ حَمَلَ الْعَدُوُّ عَلَيهِمْ حَمْلَةَ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَقُومُواْ لَهُمْ حَلْبَ الشَّاةِ أنِ انْكَشَفُواْ وَتَبعَهُمُ الْقَوْمُ فِي أدْبَارِهِمْ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأبُو سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ يَقُودُ بهِ، وَالْعَبَّاسُ أخَذَ بالثَّغْرِ، وَحَوْلَ رَسُولِ اللهِ يَوْمَئِذٍ نَحْوٌ مِنْ ثَلاَثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَانْهَزَمَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ، فَجَعَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَكِّضُ بَغْلَتَهُ نَحْوَ الْكُفَّارِ لا يَأْلُ، وَكَانَتْ بَغْلَتُهُ شَهْبَاءَ وَهُوَ يُنَادِي: " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَيَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ إلَيَّ، أيْنَ أصْحَابُ الصُّفَّةِ " أيْ أصْحَابُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ يُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، أيْنَ الَّذِينَ بَايَعُواْ تَحْتَ الشَّجْرَةِ، يَا مَعْشرَ الَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُواْ، هَلُمُّواْ فَإنَّ هَذَا رَسُولُ اللهِ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ صَيِّتاً جَهُوريَّ الصَّوْتِ، يُروَي أنَّهُ مِنْ شِدَّةِ صَوْتِهِ أنَّهُ أُغِيرَ يَوْماً عَلَى مَكَّةَ فَنَادَى وَاصُبْحَاهُ، فَأَسْقَطَتْ كُلُّ حَامِلٍ سَمِعَتْ صَوْتَهُ. فَلَمَّا صَاحَ بالْمُسْلِمِينَ عَطَفُواْ حِينَ سَمِعُواْ صَوْتَهُ عَطْفَةَ الْبَقَرِ علَى أوْلاَدِهَا، وَقَالَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وَجَاؤُا عُنُقاً وَاحِداً لِنَصْرِ دِينِ اللهِ، وَأقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى مِنَ السَّمَاءِ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَأظْهَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَحَمِيَ الْوَطِيسُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ يَتَطَاوَلُ إلَى قِتَالِهمْ، ثُمَّ أَخَذَ كَفّاً مِنَ الْحَصَى فَرَمَاهُمْ بهِ وَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ، انْهَزَمُواْ وَرَب الْكَعْبَةِ " فَوَاللهِ مَا زَالَ أمْرُهُمْ مُدْبراً وَجَدُّهُمْ كَلِيلاً، وَهَرَبَ حِينَئِذٍ آمِرُهُمْ مَالِكُ بْنُ عُوْفٍ ". وقال أبي اسحاق:" قُلْتُ لِلْبَرَاءِ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ مُوَلِّياً؟ قَالَ: لاَ وَالَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ، مَا وَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دُبُراً قَطُّ، وَلَقَدْ رَأيْتُهُ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءَ يَرْكُضُ نَحْوَ الْكُفَّارِ وَهُوَ يَقُولُ: " أنَا النَّبيُّ لاَ كَذِبْ، أنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ " ثُمَّ قَالَ لِلعَبَّاسِ: " نَادِ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار، يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ " فَعَطَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مُسْرِعِينَ، فَأَنْزَلَ اللهُ جُنْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْمُشْرِكِينَ وَنَصَرَ الْمُسْلِمِينَ ". قال سعيدُ بن جُبير: (أمَدَّ اللهُ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم بخَمْسَةِ آلاَفِ ملَكٍ)، وقال الحسن ومجاهدُ: (كَانوُا ثَمَانِيَةَ آلاَفٍ)، قال قتادةُ: (كَانُوا سِتَّةَ عَشَرَ ألْفاً)، وقال سعيدُ بن جبير:" حَدَّثنِي رَجُلٌ كَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَالَ: لَمَّا الْتَقَيْنَا نَحْنُ وَأصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقِفْ لَنَا حَلْبَ شَاةٍ، فَلَمَّا كَشَفْنَاهُمْ جَعَلْنَا نَسُوقُهُمْ حَتَّى انْتَهَيْنَا إلَى صَاحِب الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ - يعني - النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تَلَقَّانَا رَجالٌ بيضُ الثِّيَاب حِسَانُ الْوُجُوهِ، فَقَالُواْ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ ارْجِعُوا، فَرَجَعْنَا وَرَكِبُواْ أكْتَافَنَا فَكَانَتْ ايَّاهَا "يَعِنْي الْمَلاَئِكَةَ. ورُوي أن الملائكةَ قاتَلت يومئذ، في الخبر: أنَّ رُجلاً من بني نَضْرِ بن معاوية قال للمؤمنين وهو في أيدِيهم: أينَ الخيلُ البُلْقُ؟ والرجالُ عليهم الثياب البيضُ؟ ما كنَّا نراكم فيهم إلاَّ كهَيئةِ الشَّامة، وما كان قتلُنا إلا بأيدِيهم، فأخبَرُوا بذلكَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: " تِلْكَ الْمَلاَئِكَةُ ". قالَ:" فلما هربَ أميرُ المشركين مالكُ بن عوف انْهزمَ المشركون وولُّوا مُدْبرِين، وانطلقَ المسلمون حتى أتَوا أوْطَاساً بها عيالُ المشركين وأموالُهم، فبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين رجُلاً من الأشعريِّين أمَّرَهُ عليهم يقالُ له أبو عامرٍ، فسارَ معهم إلى أوطَاس فقاتلَ أهلَها حتى هزمَهم اللهُ وسبَى المسلمون عيالَ المشركين، وهربَ مالك ابن عوفٍ حتى أتَى إلى الطائفِ فتحصَّنَ بها، وأُخِذَ مالهُ وأهله في مَن أُخِذَ، وقُتِلَ أبو عامر رضي الله عنه. ثم أتَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الطائفَ فحاصرَهم بقيَّة ذلك الشهرِ، فلما دخلَ ذو القعدةِ وهو شهرٌ حرام لا يحلُّ فيه القتالُ، رجعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى الْجُعْرَانَةِ فأحرمَ منها بعُمرةٍ، وقسَّم بها السَّبيَ والمالَ وغنائمَ حُنَين وأوطاس. وتألَّفَ أناسٌ منهم أبو سُفيان بن حربٍ، وسهلُ بن عمرو، والأقرعُ بن حابس، فأعطَاهُم وجعلَ يُعطي الرجلَ منهم الخمسينَ والمائة من الإبلِ، فقالَ طائفةٌ من الأنصارِ: مَنَّ الرجلُ وآثرَ قَوْمَهُ بالعُجب، إنَّ أسيافَنا تقطرُ من دمائِهم وغنائمُنا تُرَدُّ عليهم. فبلغَ ذلك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فجمعَهم وقالَ: " يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ " فَقَالُوا: هُوَ الَّذِي بَلَغَكَ، وَكَانُوا يَكْذِبُونَ، فَقَالَ: " ألَمْ تَكُونُوا ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللهُ بي؟ وَكُنْتُمْ أذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللهُ بي؟ وَكُنْتُمْ وَكُنْتُمْ؟ ". فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: ائْذَنْ لِي أتَكَلَّمُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " تَكَلَّمْ " قَالَ: أمَّا قوْلُكَ " كُنْتُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللهُ بي " بحَقٍّ كُنَّا كَذِلِكَ، وَأمَّا قَوْلُكَ: " كُنْتُمْ أذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللهُ بي " فَقَدْ عَلِمَتِ الْعَرَبُ أنَّهُ مَا كَانَ حَيٌّ مِنْ أحْيَاءِ الْعَرَب أمْنَعَ لِمَا وَرَاءَ ظُهُورهِمْ مِنَّا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا سَعْدُ أتَدْري مَنْ تُكَلِّمْ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا عُمَرُ أُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فََقَالَ صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَوْ سَلَكَتِ الأنْصَارُ وَادِياً وَسَلَكَتِ النَّاسُ وَادِياً لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأنْصَار، الأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، فَاقْبَلُواْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وتَجَاوَزُواْ عَنْ مُسِيئِهِمْ " ثُمَّ قالَ: " يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أمَا تَرْضَوْنَ أنْ يَنْقَلِبَ النَّاسُ بالشَّاةِ وَالإبلِ وَتَنْقَلِبُونَ برَسُولِ اللهِ إلَى بُيُوتِكُمْ؟ " قَالُواْ: بَلَى رَضِينَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ مَا قُلْنَا ذَلِكَ إلاَّ مَحَبَّةً للهِ وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذُرَانِكُمْ ". فلما قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قامَ خطيباً فقال: " أمَّا خَطِيبُ الأَنْصَار؛ وَلَوْ قَالَ: كُنْتَ طَرِيداً فَآوَيْنَاكَ، وَكُنْتَ خَائِفاً فآمَنَّاكَ، وَكُنْتَ مَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ، وَكُنْتَ وَكُنْتَ، لَكَانَ قَدْ صَدقَ " فَبَكَتِ الأَنْصَارُ "
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ﴾؛ أي أنزلَ أمْنَهُ ورحمتَهُ على رسولهِ.
﴿ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ حتى عادُوا فظََفَروا. والسَّكِينَةُ في اللغة اسمٌ لِما يسكنُ إليه القلبُ، وقال الحسنُ: (أرَادَ بالسَّكِينَةِ الْوَقَارَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾؛ أي أنزلَ من السَّماء ملائكةً لنصرِكُمْ، لم ترَوها بأعيُنِكم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾؛ يعني بالقتلِ والأسرِ.
﴿ وَذٰلِكَ ﴾؛ العقابُ.
﴿ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ ﴾؛ في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ﴾؛ أي ثم يتوبُ مِن بعد الهزيمةِ على مَنء يشاءُ منهم مَن كان أهْلاً لذلكَ.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ ﴾؛ لِمَا كان منهم في الشِّرك إذا تابُوا ﴿ رَّحِيمٌ ﴾؛ بهم في الإسلامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ﴾؛ معناهُ: إنما المشركونَ قَذَرٌ، وَقِِيْلَ: خَبَثٌ. والنَّجَسُ: مصدرٌ أُقِيمَ مقامَ الاسمِ لا يُثَنَّى ولا يُجمَعُ، يقالُ: رجلٌ نَجَسٌ وامرأَةٌ نَجَسٌ، ورجال ونساءٌ نَجَس، ولا يؤنَّثُ ولا يُجمع؛ فلهذا لم يقل إن المشركينَ أنجاسٌ، وسَمَّى المشرِكَ نَجَساً؛ لأنَّ شِرْكَهُ يجرِي مجرَى القذر في أنه يُجْنَبُ الْجُنُبُ، كما تُتَجَنَّبُ النجاسات؛ أي يجبُ التبرُّؤ من المشركين وقطعُ مودَّتِهم. والنجاسةُ على ضَربين، نجاسةُ أعيانٍ، ونجاسةُ الذُّنوب، وكان الحسنُ يقول: (لاَ تُصَافِحِ الْمُشْرِكِينَ، فَمَن صَافَحَهُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ)، وقال قتادةُ: (سَمَّاهُمُ اللهُ نَجَساً لأنَّهُمْ يُجْنِبُونَ وَلاَ يَغْتَسِلُونَ، وَيُحْدِثُونَ وَلاَ يَتَوَضَّؤوُنَ، فمُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ؛ لأَنَّ الْجُنُبَ لاَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ﴾ أي لا ينبَغِي لهم أن يقربوهُ للحجِّ والطَّواف بعد هذا العامِ، وهو العامُ الذي حجَّ فيه أبو بَكرٍ رضي الله عنه، ونادَى عليٌّ رضي الله عنه فيه ببرَاءَةٍ، وهو سنةُ تسعٍ من الهجرة، ثم حجَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في العام الثاني حجَّة الوداعِ في سنة عاشرِ من الهجرة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ ﴾ بيانُ أنَّ المرادَ بالآيةِ إبعادُ المشركين عن المسجدِ الحرام، كما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه كان يُنادي فيهم في ذلك العامِ: [ألاَّ لاَ يَطُوفَنَّ بهَذَا الْبَيْتِ بَعْدَ هذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ وَعُرْيَانٌ].
قال ابنُ عبَّاس: (فَقَالَ أُنَاسٌ مِنْ تُجَّارِ بَكْرٍ بْنِ وَائِلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكينَ بَعْدَ قِرَاءَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه هَذِهِ الآيَةَ: سَتَعْلَمُونَ يَا أهْلَ مَكَّةَ إذَا فَعَلْتُمْ هَذَا مَاذَا تَلْقَوْنَ مِنَ الشِّدَّةِ وَمِنْ أيْنَ تَأكُلُونَ، أمَا وَاللهِ لَتُقَطَّعَنَّ سُبُلُكُمْ، وَلاَ نَحْمِلُ إلَيْكُمْ شَيْئاً. فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ أهْلِ مَكَّةَ وَشُقَّ عَلَيْهِمْ، وَألْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوب الْمُسْلِمِينَ حُزْناً وَقَالَ لَهُمْ: مِنْ أيْنَ تَعِيشُونَ وَقَدْ نَفَى الْمُشْرِكِينَ وَقَطَعَ عَنْكُمُ الْمِيرَةَ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ كُنَّا نُصِيبُ مِنْ تِجَارَاتِهِمْ، فَالآنَ يَنْقَطِعُ عَنَّا الأسْوَاقُ وَالتِّجَارَةُ ويَذْهَبُ الَّذِي كُنَّا نُصِيبُهُمْ فِيْهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ ) معناهُ: وإنْ خِفْتُم فَقراً من إبعادِ المشركين.
﴿ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ بغيرِهم، فأخْصَبَتْ تَبَالَةُ وَجَرَشُ وحَملوا إلى مكَّة الطَّعامَ والإدامَ، وأغنَى اللهُ أهلَ مكَّة من تُجَّارِ بني بكرٍ. ورُوي أن أهلَ نَجْدٍ وصنعاءَ من أهلِ اليمَنِ أسلَمُوا وحملوا إلى مكَّة الطعامَ في البحرِ والبرِّ. والعَيلَةُ: الفقرِ والصِّفَاقِ، يقالُ: عَالَى الرجلُ يَعِيلُ عليه، قال الشاعرُ: وَلاَ يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاؤُهُ   وَلاَ يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُأي يفتقرُ. وفي مُصحف عبدِالله (وَإنْ خِفْتُمْ عَائِلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). وقولهُ تعالى: ﴿ إِن شَآءَ ﴾؛ استثناءٌ، فجاء عِلمُ اللهِ أنه سيكون لئَلا تترُكَ العبادُ الاستثناءَ في أمورِهم، ولتنقطعَ الآمالُ إلى اللهِ في طلب الغِنَى منه. قَولُهَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾؛ أي عليمٌ بخلقهِ وما يُصلِحُهم، حكيمٌ فيما حكمَ من أمرهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾؛ معناه: قاتِلُوا اليهودَ والنصارى الذين لا يؤمنون بآياتِ الله التي أنزلَها على نبيِّه صلى الله عليه وسلم. وَقِيْلَ: معنى قولهِ ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ﴾، أي كانوا يَصِفُونَ اللهَ سبحانه بصفةٍ لا تليقُ به، لأن اليهودَ مُثَنِّيَةٌ والنَّصارى مُثَلِّثَةٌ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ أي لا يحرِّمون الخمرَ والخنْزِير ونحوَ ذلك مما لم يُقِرُّوا بتحريمهِ. وقولُه تعالى: ﴿ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ ﴾؛ أي لا يعتقدون دينَ الإسلامِ ولا يخضعون لله بالتوحيدِ، وَقِيْلَ: معنى ﴿ دِينَ ٱلْحَقِّ ﴾ أي دينَ اللهِ؛ لأن اللهَ هو الحقُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾؛ يعني اليهودَ والنصارى.
﴿ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ ﴾؛ أي حتَّى تؤخذَ الجزيةُ من أيديهم وهم قِيَّامٌ إذِلاَّء، والآخِذُ جالسٌ. ويقال: أرادَ بالقهرِ، كأنه قالَ: عن قَهْرٍ من المسلمين عليهم واعترافٍ منهم للمسلمين بأنَّ أيدِي المسلمين فوقَ أيدِيهم، كما يقالُ: اليدُ لفلانٍ في هذا الأمرِ، ويرادُ به نَفَاذُ أمْرِهِ. ويحتملُ أن يكون المعنى باليدِ إنعامُ المسلمين عليهم بقَبولِ الجزيةِ عنهم. ويقال: أراد باليدِ القوَّة على معنى أنه ليس على الفقيرِ غيرِ المتموِّل جزيةٌ. وأما طعنُ المخالف كيف يجوزُ إقرار الكفَّار على كفرِهم بأداءِ الجزية بدَلاً عن الإسلامِ؟ فالجواب: أنه لا يجوز أن يكون أخذُ الجزيةِ عنهم رضًى بكُفرِهم، وإنما الجزيةُ عقوبةٌ لهم على إقامتِهم على الكفرِ، وإذا جازَ إمهالُهم بغيرِ الجزية للاستدعاءِ إلى الإيمان كان إمهالُهم بالجزيةِ أولى. قال أبو عُبيد: (يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أعْطَى شَيْئاً كَرْهاً مِنْ غَيْرِ طِيب نَفْسٍ مِنْهُ أعْطَاهُ عَنْ يَدٍ). قال ابنُ عبَّاس: (هُوَ أنْ يُعطِيهَا بأَيدِيهِمْ يَمْشُونَ بهَا كَارِهِينَ، وَلاَ يَجِيئُونَ رُكْبَاناً وَلاَ يُرْسِلُونَ بهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾؛ أي ذلِيلُونَ ومَقهُورُونَ، قال عكرمةُ: (مَعْنَى الصَّغَار هُوَ أنْ تَأْخُذََهَا وَأنْتَ جَالِسٌ وَهُوَ قَائِمٌ)، وقال الكلبيُّ: (هُوَ أنَّهُ إذا أعْطَى الْجِزْيَةَ صُفِعَ فِي قَفَاهُ)، وَقِيْلَ: هو أنه لا يُقبَلُ فيها رسالةٌ ولا وكالَةٌ. وتؤخذُ الجزية أيضاً من الصَّابئين والسامِرِيِّ؛ لأن سبيلَهم في أهلِ الكتاب سبيلُ لأهلِ البدَعِ فِينَا، وتؤخذُ الجزية أيضاً من الْمَجُوسِيِّ؛ لأنه قد قيلَ إنَّهم كانوا أهلَ كتابٍ فُرفِعَ كتابُهم، وعن سعيدِ بن المسِّب (أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ الْهَجَرِ، وَأَخَذَهَا عُمَرُ رضي الله عنه مِنْ مَجُوسِ أهْلِ السَّوَادِ)." رُوي أنَّ عمر رضي الله عنه قال: لاَ أدْري كَيْفَ أصْنَعُ بالْمَجُوسِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " سُنُّوا بهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الْكِتَاب غَيْرَ نَاكِحِينَ نِسَاءَهُمْ وَلاَ آكِلِي ذبَائِحِهِمْ " ".
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ ﴾؛ الآيةُ؛ أي قالتِ اليهودُ حين قرأ عليهم عزيرٌ التوراةَ عن ظهرِ قلبٍ: إن اللهَ لم يجعلِ التوراةَ في قلب أحدٍ إلا وهو ابنهُ! وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه: (أنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمُ النُّعْمَانُ بْنُ أوْفَى، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ صَيْفٍ أتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا لَهُ: كَيْفَ نَتَّبعُكَ وَقَدْ تَرَكْتَ قِبْلَتَنَا، وَلاَ تَزْعُمُ أنَّ عُزَيْراً ابْنُ اللهِ تَعَالَى! فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). وقرأ عاصمُ والكسائي ويعقوب (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) بالتنوينِ، وقرأ الباقون بغيرِ التنوين، فمَن نَوَّنَ قال: لأنه اسمٌ خفيف فوجههُ أن يصرفَ وإنْ كان أعجميّاً مثل نوحٍ وهود ولوطٍ، وقال أبو حاتم والمبرد: اختيار التنوينِ لأنه ليس بصفةٍ والكلامُ ناقصٌ، و(ابْنُ) في موضعِ الخبر وليس بنَعتٍ، وإنما يحذفُ التنوين في النَّعتِ. ومَن تركَ التنوينَ قال لأنه اسمٌ أعجمي. قال الزجَّاج: (يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفاً تَقْدِيرُهُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ مَعْبُودٌ، عَلَى أنْ يَكُونَ (ابْنُ) نَعْتاً للْعُزَيْرِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ﴾؛ هذا قولُ نصارى نَجْرَان، وقولهُ تعالى: ﴿ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾؛ معناهُ: أنَّهم لا يتجاوَزون في القولِ عن العبادةِ؛ أي المعنى إذ لا بُرْهانَ لأنَّهم يعتَرِفون أنَّ اللهَ لا يتخذُ صاحبةً، فكيف تزعُمون أنَّ له ولداً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ ﴾؛ أي يُشَابِهُونَ في قولِ ذلك قولَ أهلِ مكَّة حين قالَ: اللاَّتُ والعُزَّى ومناةُ. وَقِيْلَ: أرادَ يُشَابهُونَ قولَ الكفَّار الذين يقولون الملائكةُ بناتُ اللهِ. قرأ عاصم (يُضَاهِئُونَ) بالهمزِ، وقرأ العامَّة بغيرِ همزٍ، يقال: ضَاهَيْتُهُ وَضَاهَأْتُهُ بمعنى واحدٍ، وقال قتادةُ والسدي: (ضَاهَتِ النَّصَارَى قَوْلَ الْيَهُودِ مِنْ قَبْلُ، فَقَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، كَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُضَاهِئُونَ ﴾ أي يُشَابهُونَ، يقالُ: امرأةٌ أُضْهِيَأ إذا شابَهت الرجُلَ في أنَّها لا ثديَ لها ولا تحيضُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ ﴾؛ أي لَعَنَهُمُ اللهُ، كذا قال ابنُ عبَّاس، وقال ابنُ جُرَيجٍ: (مَعْنَاهُ قَتَلَهُمُ اللهُ).
﴿ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾؛ أي أنَّى يَكْذِبُونَ ويَصْدِفونَ عن الحقِّ بعد قيام الدلالةِ عليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾؛ اتخذَ النصارَى واليهود علماءَهم وعُبَّادَهم أرْبَاباً؛ أي أطاعُوهم في معاصِي الله، فجعلَ اللهُ طاعَتهم عبادتَهم؛ لأنَّهم اتَّبعُوهم وتركُوا أوامرَ الله ونواهيهِ في كتُبهم، قال الضحَّاك: (الأَحْبَارُ: الْعُلَمَاءُ) وَاحِدُهُمْ حِبْرٌ وَحَبْرٌ بكَسْرِ الْحَاءِ وَبِفَتْحِهَا، وَالْكَسْرُ أفْصَحُ، وَالرُّهْبَانُ مِنَ النَّصَارَى: أصْحَابُ الصَّوامِعِ وَأهْلُ الاجْتِهَادِ فِي دِينِهِمْ. وقولهُ تعالى: ﴿ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ أي سَادَةً من دونِ الله يُطيعونَهم في معاصِي الله. وأما تسميةُ العالِم حَبراً فلكثرةِ كتابتهِ بالحِبرِ، وَقِيْلَ: لَتبْحِيرهِ المعانِي بالبيانِ الحسَنِ. وأما الراهبُ فهو الخاشعُ للهِ. وقوله تعالى: ﴿ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ ﴾؛ أي اتُّخِذَ المسيحُ إلَهاً. وقولهُ تعالى: ﴿ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً ﴾؛ أي لَم يُؤمَروا في جميعِ الكتُب ولا على ألْسِنَةِ الرُّسلِ إلاَّ بعبادةِ إلَهٍ واحدٍ، وقولهُ تعالى: ﴿ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي تنْزِيهاً للهِ عن الشِّرك وما لا يليقُ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ ﴾؛ أي يريدونَ أن يُرَدَّ القرآنُ ودلائلُ الإسلام بالتكذيب بألسِنَتِهم، وقال الضحَّاك: (يُرِيدُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أنْ يَهْلَكَ مُحَمَّدٌ وَأصْحَابُهُ وَلاَ يُعْبَدَ اللهُ بالإسْلاَمِ) ﴿ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ﴾؛ ويعلِي دِينَهُ وكلماتِهِ ويُظهِرَ الإسلاَم وأهلَهُ على أهلِ كلِّ دينٍ.
﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ ﴾؛ ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ ﴾؛ أي هو الذِي بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بالقرآن ودينِ الإسلام، ليُظهِرَهُ على سائرِ الأديان بالحجَّة والغَلَبَةِ.
﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ ﴾.
واختلفَ العلماءُ في قوله ﴿ لِيُظْهِرَهُ ﴾.
قال ابنُ عبَّاس: (إنَّهَا عَائِدَةٌ عَلَى الرَّسُولِ، يَعْنِي لِيُعِمَّهُ بشَرَائِعِ الدِّينِ كُلِّهِ فَيُظْهِرَهُ عَلَيْهَا حَتَّى لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا). قال آخرون: (الهاءُ) راجعٌ الى دينِ الحقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ ﴾؛ معناهُ: يا أيُّها الذين آمَنُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآن إنَّ كَثيراً من الأحبار وهم من ولدِ هارُون، قوله: ﴿ وَٱلرُّهْبَانِ ﴾ وهم أصحابُ الصَّوامعِ وهم دونَ الأحبارِ في العلم، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ ﴾ أرادُوا به أخذَ الرِّشَا على الحُكمِ، وما كان لَهم مِنَ الهدايا من سَفَلَتِهِم على كِتْمَانِ بَعْثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصفتهِ، هكذا رُوي عن ابنِ عبَّاس، وقال السديُّ: (الأَحْبَارُ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ، وَالرُّهْبَانُ أصْحَابُ الصَّوَامِعِ مِنَ النَّصَارَى). وأما تخصيصُ الأكلِ في الآية، فلأنَّ مُعظَمَ المقصودِ من التَّمليكِ الأكلُ، فوُضِعَ الأكلُ موضعَ الْمِلْكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي يَصرِفُونَ الناسَ عن دينِ اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾؛ أي يجمَعونَها ويضَعون بعضها فوقَ بعضٍ؛ ولا يُنفِقُونَ الكُنُوزَ في طاعةِ الله. وَقِيْلَ: معناهُ: ولا يُنفِقُونَ الفضَّة، وحذفَ الذهبَ؛ لأن فِي بيانِ أحدِهما حكمُ الآخر، كما قالَ تعالى:﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا ﴾[الجمعة: ١١]، والدليلُ على أنَّ هذه الكنايةَ راجعةٌ إلى الذهب والفضَّة جميعاً أنَّها لو رَجعت إلى أحدِهما لبَقِِيَ الآخرُ عَارِياً عن الجواب، فيصيرُ كلاماً مُنقطعاً لا معنى له، وتقديرُ الآيةِ: لاَ يُنفقون منها؛ أي لا يُؤَدُّونَ زَكاتَهما ولا يُخرِجُونَ حقَّ الله منهما، إلاَّ أنه حذفَ (مِنْ) وأرادَ إثباتَها، بدليلِ أنه تعالى قال في آيةٍ أخرى﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾[التوبة: ١٠٣] قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" فِي مِائَتَي دِرْهَمٍ خَمْسُ دَرَاهِمَ، وَفِي عِشْرِينَ مِثْقَالاً مِنَ الذَّهَب نِصْفُ مِثْقَالٍ "ولو كان الواجبُ إنفاق جميعِ المال لم يكن لِهذا التقديرِ وجهٌ. وسُمِّي الذهبُ ذَهباً؛ لأنه يذهبُ ولا يبقَى، وسميت فضةُ لأنَّها تَنْفَضُّ؛ أي تُفرَّقُ ولا تبقَى، وحسبُكَ باسمِهنَّ دلالةً على فَنَائِهما وأنه لا بقاءَ لهما. وقولهُ تعالى: ﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي ضَعِ الوعيدَ لهم بالعذاب موضعَ بشارةِ بالنِّعم لغيرِهم؛ وعن ابنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قالَ: (كُلُّ مَالٍ أدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بكَنْزٍ وَإنْ كَانَتْ تَحْتَ سَبْعِ أرْضِينَ، وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإنْ كَانَ ظَاهِراً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ﴾؛ أي يوم يوقدُ على المكنوز في نار جهنَّم فتُكوَى بها جِبَاهُهم وجنُوبُهم وظهورهم عقوبةً، قال ابنُ عباس: (لاَ يُوضَعُ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ عَلَى دِينَارٍ وَلاَ عَلَى دِرْهَمٍ، وَلَكِنْ تُوَسَّعُ جُلُودُهُمْ لِذَلِكَ فَلاَ يَمَسُّ دِينَارٌ دِينَاراً وَلاَ دِرْهَمٌ دِرْهَماً). قَوْلُهُ تََعَالَى: ﴿ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾؛ أي يقالُ لَهم: هذا ما جمَعتُم في دارِ الدُّنيا.
﴿ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾، فذُوقوا عقوبةَ ما كنتم تجمعونَ. وسُئل أبو بكر الورَّاق: لِمَ خُصَّتِ الجِبَاهُ والْجُنوبُ والظُّهورُ بالكَيِّ؟ فقال: (لأَنَّ الْغَنِيَّ صَاحِبَ الْكَنْزِ إذا رَأى الْفَقِيرَ انْعصَرَ وَإذا ضَمَّهُ وَإيَّاهُ مَجْلِسٌ ازْوَرَّ عَلَيْهِ وَوَلاَّهُ ظَهْرَهُ). عن ثوبَان مولَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لَمَّا نَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ قَالَتِ الصَّحَابَةُ: فَأَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: أنَا أسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ فَقَالَ عليه السلام: " لِسَاناً ذاكِراً وَقَلْباً شَاكِراً وَبَدَناً صَابراً وَزَوْجَةً تُعِينُكَ عَلَى إيْمانِكَ " ". وعن أبي هُريرة قالَ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" مَا مِنْ صَاحِب كَنْزٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إلاَّ أُحْمِيَ عَلَيٍْهِ فِي نَار جَهَنَّمَ فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَتُكْوَى بهَا جَبينُهُ وَجَنْبَاهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقَدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإمَّا إلَى النَّار. وَمَا مِنْ صَاحِب إبلٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ بُطِحَ لَهَا بقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسِيرُ عَلَيْهِ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ آخِرُهَا رُدَّ عَلَيْهِ أوَّلُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإمَّا إلَى النَّار. وَمَا مِنْ صَاحِب بَقَرٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ بُطِحَ لَهَا بقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسيرُ عَلَيْهِ، كُلَّمَا مَضَى آخِرِهُا رُدَّ عَلَيْهِ أوَّلُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ، ثُمَ يُرَى سَبيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإمَّا إلَى النَّار. وَمَا مِنْ صَاحِبَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ بُطِحَ لَهَا بقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهُ بأظْلاَفِهَا وَتَنْطَحُهُ بقُرُونِهَا لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءَ وَلاَ جَلْحَاءَ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ آخِرُهَا رُدَّ أوَّلُهَا حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإمَّا إلى النَّار ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾؛ معناهُ: إن عِدَّة الشُّهور التي تتعلَّقُ بها الأحكامُ من الحجِّ والعُمرة والزكاةِ والأعياد وغيرها اثنَا عشرَ شهراً على منازِل العُمرة، تارةً يكون الحجُّ والصومُ في الشِّتاء، وتارةًّ في الصيفِ على اعتبار الأهِلَّة. وقوله تعالى: ﴿ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾ يعني اللَّوحَ المحفوظَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾ إنَّما قال ذلِكَ؛ لأن اللهَ تعالى أجرَى الشمسَ والقمر في السَّماوات يوم خلَقَ السماواتِ والأرض. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾؛ واحدٌ فَرْدٌ وهو رَجَبْ وثلاثةُ سُرْدٌ متتابعةٌ، وهي ذو القعدة وذو الحجَّة والمحرَّم، سماها حُرُماً لعِظَمِ انتهاكِ حُرْمَتها، كما خُصَّ الْحَرَمُ بمثلِ ذلك، وكانت العربُ تُعظِّمُها وتحرِّمُ القتالَ فيها حتى أن الرجلَ لو لَقِيَ قاتلَ أبيهِ أو أخيه فيها لم يُهجِْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾؛ أي في أشهرِ الْحُرُمِ بالعملِ بالمعصية وتركِ الطاعة. وَقِيْلَ: باستحلال القتلِ والغَارَةِ. وَقِِيْلَ: معناهُ: ولا تجعلوا حَلاَلها حَراماً، ولا حرَامها حَلاَلاً، والذنبُ والظلم فيهن أعظمُ من الظلم فيما سواهنَّ. ويقالُ: معناه: فلا تظلِمُوا في الاثني عشرِ الشهر أنُفسَكم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ ﴾ أي ذلك الحسابُ المستقيم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ ويجوزُ أن يكون الكافَّة راجعةً إلى المسلمينَ؛ أي قاتِلُوا جميعاً، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ أي كما يُقاتِلونَكم أي جميعاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي معهم بالنُّصرة. واختلفَ العلماءُ في حُرمةِ القتالِ في الأشهُرِ الْحُرُمِ، فقالَ بعضُهم: لا يجوزُ القتال فيها والغارةُ لأن اللهَ سَمَّاها حُرُماً فيكون قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ دَليلاً على جواز القتال فيها على وجهِ الدَّفع. وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ إلى أن القتالَ فيها جائزٌ، والمرادُ بقوله: ﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ تعظيمُ انتهاكِ حُرمَتِها بالظلمِ والفساد فيها، وتعظيمُ ثواب الطاعة التي يفعلُ فيها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً ﴾ يدلُّ على أنَّ اللهَ أخرجَ هذه الأشهرَ الحرم من أن تكون حُرماً. وفي باب الجهادِ دليلاً تقديراً آخر أن أحدَ الجهاد داخلٌ تحت قوله: ﴿ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ وكان اللهُ تعالى مَيَّزَ الجهادَ من الظلمِ الذي هو إقدامٌ على النُّفوس والأموالِ، وقوله تعالى: ﴿ كَآفَّةً ﴾ منصوبٌ على الحالِ. قال قتادةُ وعطاء: (كَانَ الْقِتَالُ كَثِيراً فِي الأشْهُرِ الْحُرُمِ، ثُمَّ نُسِخَ وَأحِلَّ فِيْهِ بقَوْلِهِ: ﴿ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً ﴾ يَِعْنِي فِيْهنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ). وقال الزهريُّ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ، مِمَّا أنْزَلَ اللهُ مِنْ تَحْرِيمِ ذلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ بَرَاءَةُ، وَأحِلَّ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ). وقال سفيانُ الثوريُّ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْقِتَالِ فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ، قَالَ: (لاَ بَأْسَ بالْقِتالِ فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ؛ لأَنََّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم غَزَا هَوَازنَ وَحُنَيْياً وَثقِيفاً بالطَّائِفِ وَحَاصَرَهُمْ فِي الشَّوَّالِ وَبَعْضِ ذِي الْقِعْدَةِ، فَدَلَّ عَلَى أنَّ حُرْمَةَ الْقِتَالِ فِيْهَا مَنْسُوخٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً ﴾؛ أي إنَّما تأخيرُ الشَّهرِ الحرامِ من المحرَّم إلى صَفَرْ، واستباحةِ المحرَّم زيادةٌ في الكفرِ يغلطُ ويخطِىءُ بالنَّساء سائرُ الكفَّار، ومن قرأ (يَضَلُ) صفَر مكان المحرَّم، ويحرِّمون المحرَّم عاماً فلا يُقاتِلون فيه، ثم يقاتِلون في صفَرْ.
﴿ لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ ﴾؛ أي ليُوافِقُوا في العددِ أربعةَ أشهُرٍ، وكانوا يقُولون: هذه أربعةٌ بمنْزِلة أربعةٍ. والْمُوَاطَأَةُ الموافقةُ، وأصلُ النِّسِيءِ الحاضِرُ ومنه بيعُ النَّسِيئَةِ، ومنه أنْسَأَ اللهُ في أجلِ فُلان، ومنه الْمِنْسَأَةُ وهي العصَا يرجُو بها ويؤخِّر. قرأ قتادةُ ومجاهد وأبو عمرٍو ونافع غير وَرْشٍ وعاصم وحمزة والكسائي وخلف وابن عامر (النَّسِيءُ) بالمدِّ والهمزة وهو مصدرٌ كالسَّعِيرِ والحريقِ ونحوهما، ويجوزُ أن يكون مفعُولاً مَصرُوفاً أي فعيلٌ مثل الجريحِ والقتيل والصريعِ، تقديرهُ: إنما الشهرُ المؤخَّر. وقرأ أبو جعفرٍ ووَرْشٌ (إنَّما النَّسِيُّ) بالتشديدِ من غير همزةٍ، وروَى ذلك ابنُ كثير على معنى الْمَنْسِيِّ أي المتروكِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾[التوبة: ٦٧].
وقوله: ﴿ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، قرأ أهلُ المدينةِ وابنُ كثير وابن عامرٍ وأبو عمرٍو وأبو بكرٍ بفتح الياء وكسر الضَّاد لأنَّهم هم الضالُّون لقوله: ﴿ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً ﴾، وقرأ الحسنُ وقتادة ومجاهد ويعقوب بضمِّ الياء وكسرِ الضاد؛ أي يُضِلُّ به الذين كفَرُوا الناسَ المقتدِين بهم، وقرأ أهلُ الكوفةِ إلاَّ أبا بكر بضمِّ الياء وفتحِ الضادِ، وهي قراءةُ ابنِ مسعود لقوله: ﴿ زُيِّنَ لَهُمْ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ يُحِلُّونَهُ عَاماً ﴾ أي يُحِلُّونَ النسيءَ. وقولهُ تعالى: ﴿ لِّيُوَاطِئُواْ ﴾؛ أي ليُوافِقُوا، وقيل: ليُشَبهوا.
﴿ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ ﴾؛ أي يُحِلُّوا ما حَرَّمَهُ اللهُ من الغارةِ والقتلِ في الشَّهرِ الحرامِ، وإنما كان يفعلُ هكذا بنو كِنَانَةَ وربَّما كانوا يؤَخِّرون رَجَباً ويبدِّلونَهُ صَفَراً لتكون الشهورُ متواليةً، وقولهُ تعالى: ﴿ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ ﴾؛ أي حُسِّنَ في قُلوبهم قُبْحُ أعمالِهم من تحريمِ ما أحلَّ اللهُ، وتحليل ما حرَّم الله، قال الحسنُ: (زَيَّنَتْهَا لَهُمْ أنْفُسُهُمْ وَالشَّيَاطِينُ) ﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أي لا يُوَفِّقُهم مجازاةً لكُفرِهم. وَقِيْلَ: لا يَهدِيهم إلى الجنَّة والثواب. قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ النّاسِئُ رَجُلاً مِنْ كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ نُعَيم بْنُ ثعلبة وجنادةَ بنُ عَوْفٍ وَكَانَ يَقُومُ عَلَى النِّاسِ فيَقُولُ: ألاَ إنَّ آلِهَتَكُمْ حَرَّمَتْ عََلَيْكُمْ صَفَرَ الْعَامَ، فَيُحَرِّمُونَ فِيْهِ الدِّمَاءَ والأَمْوَالَ وَيَسْتَحِلُّونَ فِي الْمُحَرَّمِ، فَإذَا كَانَ مِنْ قَابلٍ نَادَى: ألاَ إنَّ آلِهَتَكُمْ حَرَّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحَرَّمَ الْعَامَ، فَيُحَرِّمُونَ فِيْهِ الدِّمَاءَ وَالأَمْوَالَ وَيَسْتَحِلُّونَ صَفَرَ لِيُفِيدُواْ مِنْهُ). وفي بعضِ الرِّوايات: أنه كان يقولُ قبلَ هذا النداءِ: يا أيُّها الناس أنا الذي أعابَ ولا خابَ ولا مرَدَّ لِمَا قضيتُ، فيقولُ له المشركون: لبَّيكَ ربَّنا، ثم يسألونَهُ أن يُنسِئَهم شَهراً فيقولُ: ألا إن صَفَرَ العامَ حلالٌ يريدُ به المحرَّم، وربَّما يقولُ: حرامٌ، فيحرِّمون المحرَّم صَفراً، وكان إذا قالَ الناسيءُ في المحرَّم: حلالٌ، عقَدُوا الأوتارَ وشَدُّوا الأزجةَ وأعلَوا السيوفَ وأغَارُوا على الناسِ، وإذا قالَ: حُرِّمَ، حلُّوا الأوتارَ ونزَعُوا الأزجة وأغمَدُوا السيوفَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ ﴾؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقامَ بالمدنيةِ بعد مرجعهِ من الطَّائفِ، ثم أمرَهُ اللهُ بالجهاد لغزوةِ الرُّوم وأمرَهُ بالخروجِ إلى غزوةِ تَبُوك، وذلكَ في زمانِ عُسْرَةٍ وشِدَّةٍ من الحرِّ حين طابَتْ ثمارُ أهلِ المدينة فأمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخروجِ إلى الجهادِ فكانوا يتثاقَلون من الخروجِ ويحبُّون الظِّلالَ والثمارَ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. ومعنَاها: ما لكُم إذا قيلَ لكم اخرجُوا إلى جهادِ المشركين تَثَاقَلْتُمْ إلى الأرضِ وتَكَاسَلْتُمْ واطمأنَنْتُم إلى أوطانِكم.
﴿ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ ﴾؛ استفهامٌ يعني الإنكارَ؛ أي آثرْتُمْ عملَ الدُّنيا على عملِ الآخرة، وآثرتُم الحياةَ في الدُّنيا على الحياةِ في الآخرة.
﴿ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ أي ما منفعةُ الدُّنيا في الآخرةِ وفي ما يتمتَّعُ به أولياءُ الله في الجنَّة إلا يسيرٌ لأن الدُّنيا تضمحلُّ ويفنَى أهلْها، والآخرةُ دار القَرَار.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾؛ أي إلاَّ تَخْرُجُوا مع نبيِّكم في الجهادِ يعذِّبكم عذابَ الاستئصالِ، ويستبدِلْ قوماً غيرَكم أي أطوعَ للهِ منكم.
﴿ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً ﴾؛ أي ولا تنقُصوا من مُلكِهِ شيئاً بقُعودِكم عن الجهادِ.
﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ من العذاب والإبدال.
﴿ قَدِيرٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ ﴾؛" وذلك أنَّ كفارَ مكَّة لَمَّا أرادُوا قتلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أخبرَهُ جبريلُ بذلك وأمرَهُ بالخروجِ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: " نَمْ مَكَانِي عَلَى الْفِرَاشِ " وخرجَ مع أبي بكرٍ رضي الله عنه إلى غار جبَلِ ثَورٍ - وهو جبلٌ بأسفلِ مكَّة - ومشَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أطرافِ أصَابعهِ حتى حَفِيَتْ، فلمَّا رآهُ أبو بكرٍ رضي الله عنه وجعلَ يستندُ به حتى أتَى فمَ الغار، وكان الغارُ مَقرُوناً بالْهَوَامِّ، فلما أرادَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دخولَ الغارِ قال له أبُو بكرٍ رضي الله عنه: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى أسْتَبْرِئَ الْغَارَ. فدخلَ واستبرأهُ وجعلَ يُسَوِّي الْجُحْرَةَ بثيابهِ خِشيَةَ أن يخرجَ منها شيءٌ يؤذِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فبَقِيَ جُحْرَانِ فوَضَعَ عَقِبَهُ عليهما ثم قال: إنْزِلْ يَا رَسُولَ اللهِ، فنَزلَ فكانا في الغار ليلتَهما. فدخلَ الكفِّارُ على عِليٍّ رضي الله عنه فقالوا لَهُ: يا عليُّ أين مُحَمَّدٌ؟ فقالَ: لاَ أدْري أيْنَ ذهَبَ، فطلبوهُ من الغدِ واستأجَرُوا رجُلاً يقال له كَرْزُ بن علقمةَ الجرَّاح، فَقَفَا لهما الأثرَ حتى انتهَى بهم إلى جبلِ ثَورٍ، فقالَ: انتهينا إلى هنا وهذا أثرهُ فما أدري أينَ أخذَ يَميناً أو شمالاً أو صعدَ الجبلَ، فصَعَدُوا الجبلَ يطلبونَهُ، وأعمَى اللهُ عليهم مكانَهُ فلم يهتَدُوا إليه. فقامَ رجلٌ منهم يبولُ مستقبلاً رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبَا بكرٍ بعورتهِ، فقال أبُو بكرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أرَاهُ إلاَّ قَدْ أبْصَرَنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم " لَوْ أبْصرَنَا مَا يَسْتَقْبلُنَا بعَوْرَتِهِ ". وأقبلَ شبابُ قريشٍ من كلِّ بطنٍ، معهم عِصِيُّهم وقِسيُّهم حتى رَأوا بابَ الغار، وكان صلى الله عليه وسلم مرَّ على ثُمامَةٍ وهي شجرةٌ صغيرة ضعيفة فأمرَ أبا بكرٍ أن يأخُذَها معه، فلما سارَ إلى باب الغار أمرَهُ أن يجعلَها على باب الغار، وألْهَمَ اللهُ العنكبوتَ فنسجَتْ حتى ستَرت وجهَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصاحبَهُ، وبعثَ اللهُ حمامَتين وحشِيَّتين فأقبَلتا حتى وقعتَا على باب الغار بين العنكبوتِ وبين الشجرة، فلما رأى المشركون الشجرة والحمامةَ، ونسجَ العنكبوتِ علِمُوا أنْ ليس في الغار أحدٌ، وكان أبو بكرٍ يقولُ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ أتِيْنَا وَمَا أنا إلاَّ رجُلٌ وَاحدٌ، فَإنْ قُتِلْتَ أنْتَ تَهْلَكُ هَذِهِ الأُمَّةُ فَلاَ يُعْبَدُ اللهُ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ، فقال: " لاَ تَحْزَنْ يَا أبَا بَكْرٍ إنَّ اللهَ مَعَنَا ". ثم نزلَ المشركون من الجبلِ، ولم يقدِرُوا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فمكثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالغارِ ثلاثةَ أيَّامٍ وليالِيهنَّ، وكان عبدُاللهِ بن أبي بكرٍ يأتِيهما بأخبارِ أهل مكَّة، فلما أمِنَا طلبَ " القوم " وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بالهجرة إلى المدينةِ، فاستأجرَ رجُلاً يقالُ له عبدُالله بن أُرَيقِطْ يَهدِيهم الطريقَ إلى المدينةِ فخرجَ بهما إلى المدينةِ، فسَمِعَ سُراقَةُ بن مالك بن مقسم الكِنَانِي بخرُوجهِ إلى المدينةِ، فلَبسَ لاَمَتَهُ وركِبَ فرسَهُ يتَّبعُ آثارَهم حتى أدركَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فدعَا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَاخَتْ قوائمُ فرسهِ، فقالَ: يَا مُحَمَّدُ أُدْعُ اللهَ أنْ يُطْلِقَ عَلَيَّ فَرَسِي فَأَرْدُّ عَنْكَ مَنْ أرَى مِنْ النَّاسِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ إنْ كَانَ صَادِقاً فَأطْلِقْ فَرَسَهُ " فرجعَ سُراقة وقَدِمَ أبو بكرٍ رضي الله عنه مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى أتيَا المدينة "هكذا رُويَ وفي هذا قصَّةٌ طولةٌ. ومعنى الآية: ألاَّ تنصُروا مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم في الخروجِ معه إلى تَبُوكِ فاللهُ ينصرهُ كما نصرَهُ إذ أخرجَهُ الكفارُ من مكَّة وهو ثانِيَ اثنينِ، أي لم يكن معَهُما غيرُهما، وقولهُ تعالى ﴿ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ ﴾ نُصِبَ على الحالِ؛ أي وهو أحدُ اثنين. وقولهُ تعالى: ﴿ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ ﴾؛ أرادَ به غارَ ثَوْرٍ حين خرجَا إليه، والغارُ النُّقْبُ الذي يكونُ في الجبلِ، وقولهُ تعالى: ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ﴾؛ معناهُ: إذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ: لا تحزَنْ على قََتلِي وذهاب الإسلامِ إنَّ اللهَ يحفَظُنا ويدفعُ شرَّ المشركين عنَّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ﴾؛ أي أنزلَ طُمَأنِينَةً على رسولهِ حتى سَكَنَ واطمأنَّ. ويقالُ: أنزلَ سَكِينَتَهُ على صاحبهِ أبي بكر رضي الله عنه، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان لنا سَكَناً، وقولهُ تعالى: ﴿ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ﴾؛ معناهُ: أعانَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وقَوَّاهُ يومَ بدرٍ والأحزاب وحُنين بجنودٍ لم تُعاينُوهَا وهم الملائكةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ ﴾؛ أي وجعلَ كلمةَ الشِّركِ مغلوبةً مذمومة، وجعلَ أهلَها أذِلَّةً أسْفَلِينَ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا ﴾؛ أي وجعلَ كلمةَ التوحيدِ هي الكلمةُ العالية الممدُوحَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾؛ أي مَنِيعٌ بالنِّقمة ممن عصَاهُ وما حكمَ به من أمرهِ.
قولهُ تعالى: ﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾؛ أي انفِرُوا إلى الجهادِ في سبيل اللهِ شَباباً وشُيوخاً. وَقِيْلَ: مُوسِرِينَ ومُعْسِرِينَ. وَقِيْلَ: مشَاغِيلَ وغير مشاغيل. وقِيْلَ: نُشَّاطاً وغيرَ نُشَّاطٍ، أي خفَّت عليكم الحركةُ أو ثقُلَت. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾؛ في طاعةِ الله.
﴿ ذٰلِكُمْ ﴾؛ الجهادُ.
﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾؛ من القعودِ عنه.
﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾؛ أنَّ اللهَ صادقٌ في وعدهِ ووعيده.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ ﴾؛ اسمٌ كانَ مضمرٌ تقديرهُ: لو كان المدعوُّ إليه عَرَضاً قَرِيباً؛ أي غَنِيمَةً وسَفَراً سَهلاً لاتَّبَعُوكَ؛ أي لو عَلِمُوا أنَّهم يُصِيبُونَ مَغْنَماً لخرَجُوا معكَ، نزلَ هذا فيمَن تخلَّف من غزوةِ تبوك من المنافقين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ ﴾، أي لكن بعُدَت عليهم المسافةُ إلى الشَّام.
﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا ﴾؛ في اعتذارِهم إليكم لو كان لنا سَعَةٌ في الزادِ والمال.
﴿ لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾؛ في غَزاتِكم.
﴿ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾؛ بالأيمان الكاذبةِ والقعود عن الجهادِ.
﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾؛ أنَّ لهم سَعَةً في المالِ والزادِ وإنَّهم لكَاذِبون في هذا الاعتذارِ، وَقِيْلَ: معنى قولهِ: ﴿ وَسَفَراً قَاصِداً ﴾ أي مَوضِعاً قريباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ ﴾؛ أي تجاوزَ اللهُ عنكَ يا مُحَمَّدُ لِمَ أذِنتَ لهم في القعودِ عن الجهاد حتى يظهرَ لكم الذين صدَقوا في الاعتذار.
﴿ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ ﴾؛ في عُذرِهم، قدَّمَ اللهُ العفوَ على العتاب حتى يسكُنَ قلبهُ صلى الله عليه وسلم، ثُم قالَ بعدَ العفوِ: ﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾، ولو أنَّ اللهَ أخبرَهُ بالذنب قبلَ أن يُخبرَهُ بالعفوِ لكان يخافُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن هَيْبَتِهِ قولهُ: ﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾؛ أي لا يستأذِنُكَ المؤمنون في القعودِ عن الجهادِ، وقوله: ﴿ أَن يُجَاهِدُواْ ﴾ معناهُ: أن لاَ يُجاهدِوا.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي عالِمٌ بالمخلِصين المطِيعين فيُميِّزَهم عن المنافقين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾؛ أي إنما يستأذِنُكَ في القعودِ عن الجهاد الذين لا يُصَدِّقون باللهِ وبيوم البعث.
﴿ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾؛ أي شكَّت واضطرَبت.
﴿ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴾؛ شَكِّهم يتخيَّرون. والرَّيبُ: الشكُّ مع اضطراب القلب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ﴾؛ أي لو أرادَ اللهُ لهم الخروجَ معك إلى العدوِّ لاتَّخَذُوا له أُهبَةً.
﴿ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ ﴾؛ أي لكن لمْ يُرِدِ اللهُ خروجَهم معك، لأنَّهم لو خرَجُوا لكان يقعُ خروجُهم على وجهِ الإضرار بالمسلمين وذلك كفرٌ ومعصية. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَثَبَّطَهُمْ ﴾؛ أي حَبَسَهم، يقالُ: ثَبَّطَهُ عن الأمرِ إذا حَبَسَهُ عنه.
﴿ وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ ﴾؛ أي اقعدُوا مع النِّساء والصبيان. ويجوز أن يكون القائلُ لَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأمر الله، ويجوزُ أن يكون قد قالَ بعضُهم لبعضٍ. وَقِيْلَ: قال لَهم الشيطانُ وَوَسْوَسَ لَهم. ثم بيَّن اللهُ أن لا منفعةَ للمسلمين في خروجِهم، بل عليهم مضرَّة لهم، فقال تعالى: ﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾؛ أي لو خرَجُوا فيكم ما زادوكم الا شَرّاً وفَسَاداً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ﴾؛ أي لأسرَعوا فيما بينِكم.
﴿ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ ﴾؛ أي يطلُبون فسادَ الرأي وعيوبَ المسلمين، ويقالُ: سارُوا فيكم بالنميمة، والإِيْضَاعُ: الإسراعُ في السَّيرِ، يقالُ: أوْضَعَ البعيرَ إيْضَاعاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾؛ أي وفِيكم قائِلون منهم ما يسمعَون منهم، ويقالُ: في عَسْكَرِكُم عيونٌ لهم ينقُلون إليهم ما يسمَعون عنكم.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ يُجازيهم على سوءِ أفعالهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ ﴾؛ أي وقد طلبَ هؤلاءِ المنافقون صدَّ أصحابك عن الدين، وردَّهم إلى الكفرِ، وتحويل الناس عنكَ قبل هذا اليومِ، كفعلِ عبدِالله بن أُبَيّ يومَ أحُد، وقولهُ تعالى: ﴿ وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأُمُورَ ﴾؛ أي اختَالُوا فيكَ وفي إبطالِ دِينِكَ بالتحويلِ عنكَ، وتشتُّتَ أمرِكَ وكلمتك من قبل غزوةِ تبوك، فقَلَّبوا لكَ الأُمور ظَهراً لبطنٍ.
﴿ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾؛ أي حقُّ الإِسلام، وأظهرَهُ الله على سائرِ الأديان.
﴿ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾؛ لذلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾؛ أي دينُ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ﴾؛" نزلَ في جَدِّ بن قيس من المنافقين، دعاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الخروجِ إلى العدوِّ وحرَّضَهُ على الجهادِ، فقالَ لِجَدِّ بن قيسٍ: " هَلْ لَكَ فِي جِلاَدِ بَنِي الأَصْفَرِ، فَتَتَّخِذَ منهم سَرَارِي وَوُصَفَاءَ " يعني الرُّوم. وكان الأصفرُ رجُلاً من الحبشةِ مَلَكَ الرُّوم، وغلبَ على ناحيةٍ منها، فتزوجتِ الحبشةُ من الرُّوم، فولَدَت لهم بنات أخَذْنَ من بياضِ الرُّوم وسوادِ الحبشة، فكُنَّ صُفْراً لُعْساً لم يُرَ مثلُهنَّ، فقال له جدُّ بن قيسٍ: ائْذَنْ لِي يا رسولَ اللهِ أنْ أُقِيمَ، ولا تَفْتِنِّي ببناتِ الأصفر، فقد عرفَ قَومِي عُجْبي بالنِّساء، وإنِّي أرَى المرأةَ تُعْجِبُني فما أملكُ نفسي حتى أضعَ يدِي على الْمُحَرَّمِ، فلما سمعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قولَهُ أعرضَ عنه وقالَ: " أذِنْتُ لَكَ " ". وقولهُ تعالى: ﴿ وَلاَ تَفْتِنِّي ﴾ أي ائْذَنْ لي في التخلُّف ولا تَفتِنِّي ببناتِ الأصفر، قال قتادةُ: (مَعْنَاهُ وَلاَ تُؤَثِّمْنِي)، وقولهُ تعالى: ﴿ أَلا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ ﴾ أي ألاَ في الإثْمِ والشِّركِ وقَعُوا بنفاقِهم ومخالفتهم أمرَكَ في تركِ الجهاد.
﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ ﴾؛ أي إنَّهم يدخلون جهنَّم لا محالةَ؛ لأن الشيءَ إذا كان مُحِيطاً بالإنسانِ فإنه لا يفوتهُ. روي" أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ؟ " قَالُوا: جَدُّ بْنُ قَيْسٍ، غَيْرَ أنَّهُ بَخِيلٌ. قَالَ: صلى الله عليه وسلم: " وَأيُّ دَاءٍ أدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟! بَلْ سَيِّدُكُمْ الْفَتَى أبْيَضُ الْجَعْدِ بشْرُ ابْنُ الْبَرَاءِ بْنُ مَعْرُورٍ "فَقَالَ فِيْهِ حسَّانُ الشِّعرَ: وقَالَ رَسُولُ اللهِ وَالْحَقُّ قَوْلُهُ   لِمَنْ قالَ مِنَّا: مَنْ تَعُدُّونَ سَيِّدَا؟فَقُلْتُ لَهُ: جَدُّ بْنُ قَيْس عَلَى الَّذِي   ببُخْلِهِ فِينَا وَإنْ كَانَ أنْكَدَافَقَالَ: وَأيُّ الدَّاءِ أدْوَى مِنَ الَّذِي   رَمَيْتُمْ بهِ لَوْ عَلَى بهِ يَدَا؟!وَسُوِّدَ بشْرُ بْنَ الْبَرَاءِ لِجُودِهِ   وَحَقٌّ لِبشْرِ بْنِ الْبَرَا أنْ يُسَوَّدَاإذَا مَا أتَاهُ الْوَفْدُ أذْهَبَ مَالَهُ   وَقَالَ: خُذُوهُ؛ إنَّنِي عَائِدٌ غَدَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ﴾؛ أي إنْ تُصِبْكَ يا مُحَمَّدُ حَسَنَةٌ من فتحٍ وغنيمة تَسُؤْهُمْ تلكَ الحسنةُ وتحزنهم يعني المنافقين.
﴿ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ ﴾؛ أي قَتْلٌ وهزيمة ونَكبَةٌ.
﴿ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ ﴾؛ أي أخَذْنَا حِذْرَنا بالتخلُّف عنهم من قبلِ هذه المصيبة.
﴿ وَيَتَوَلَّواْ ﴾؛ عنكَ.
﴿ وَّهُمْ فَرِحُونَ ﴾؛ مسرورون بما أصابَك من الشدَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا ﴾؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ للمنافقين: لن يُصِيبَنا إلاَّ ما كتبَ اللهُ علَينا في اللَّوح المحفوظ، قال الحسنُ: (مَعْنَاهُ: أنَّا لَسْنَا بمُهْمَلِينَ بَلْ جَمِيعُ مَا يُصِيبُنَا مِنْ خَيْرٍ أوْ شَرٍّ فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوحِ المْحْفُوظِ)، ويقالُ: معناهُ: قُل لن يُصِيبَنا في عاقبةِ الأمر إلاَّ ما كتبَ اللهُ لنا من الفتحِ والنُّصرة على الكفَّار، فإنْ أصابَتنا الهزيمةُ في الحالِ فإن أمورَ العبادةِ لا تجرِي إلا على تدبيرٍ قد أُحكِمَ وأُبرِمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ مَوْلاَنَا ﴾ أي وَلِيُّنَا يحفَظُنا وينصُرنا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾؛ معنى التوكُّل على اللهِ: تفويضُ الأمرِ إليه ثِقَةٍ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ ﴾؛ أي هل تنتَظِرُون بنَا إلا النصرَ على الكفَّارِ والظَّفَرَ بهم، أو القتلَ على وجهِ الشَّهادة في الدُّنيا مع ثواب الآخرة، ونحن ننتظرُ بكم أحدَ الشرَّين: إما أنْ يُصيبَكم الله بعذاب الاستئصال مِن عنده، أو بأنْ ينصُرَنا عليكم فَنَقتُلَكم بأسيافِنا، فانتظِرُوا ما قلتُ كي ننتظرَ نحن بكم عذابَ الاستئصالِ والنُّصرة عليكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ﴾؛ معناهُ: إنْ أنفَقتُم في الجهادِ طَائِعين من قِبَلِ أنفُسِكم أو مُكرَهين مخافةَ القتلِ لن يتقبَّل منكم ما أسرَرتُم من الكفرِ والنفاق، وقد يُذكر لفظ الأمرِ ويراد به الشرط الجزاءُ كما قال الشاعر: أسِيئِي بنَا أوْ أحْسِنِي لاَ مَلُومَةٌ   لَدَينَا وَلاَ مَقْلِيَّةُ إنْ تَقَلَّتِمعناهُ: إنْ أحسَنتِ بنا أو أسَأتِ فأنتِ غيرُ ملومةٍ. قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾؛ تعليلُ نفي قََبول صَدَقتِهم؛ لأن النفاقَ يحبطُ الطاعةَ، ويمنعُ من استحقاقِ الثواب.
قَوْلُهُ تََعَالَى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ﴾؛ ما مَنَعهم عن إيجاب الثواب لهم على نفَقاتِهم إلا كفرُهم باللهِ وبرسوله، ومعنى ﴿ نَفَقَاتُهُمْ ﴾ أي صدقاتُهم. قرأ حمزةُ والكسائي وخلف (يُقْبَلَ) بالياءِ لتقديم الفعل، وقرأ الباقون بالتاء. وقولهُ تعالى: ﴿ وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ ﴾؛ أي مُتثَاقِلُون لأنَّهم لا يرجون بأدائِها ثواباً ولا يخافونَ بتركِها عقاباً، والمعنى أنَّهم يُصََلُّون مُرَاءَاةً الناسِ.
﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾؛ وكذلك يُنفقون في الزكاةِ وغيرِها لأجلِ التَّسَتُّرِ بالإِسلام، لا لابتغاءِ ثواب الله. وكُسَالَى جمعُ كَسْلاَنٍ كما يقالُ سُكَارَى وسَكرَانٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ ﴾؛ أي لا تُعجِبُكَ يَا مُحَمَّدُ كثرةُ أموالهم ولا أولادِهم في الحياةِ الدُّنيا.
﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ وفي الآخرةِ، قال الحسنُ: (لاَ تَسُرُّكَ أمْوَالُهُمْ وَلاَ أوْلاَدُهُمْ، إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُشَدِّدَ عَلَيْهِمْ فِي التَّكْلِيفِ بأَنْ يَأْمُرَهُمْ بالإنْفَاقِ فِي الزَّكَاةِ وَالْغَزْو وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مَِن الْمَكَارهِ الَّتِي تُشُقُّ عَلَيْهمْ؛ لأنَّهُمْ لاَ يَرْجُونَ بذَلِكَ ثَوَاباً فِي الآخِرَةِ، وَيَكُونُونَ مُعَذَّبينَ بالإنْفَاقِ إذ كَانُوا يُنْفِقُونَها عَلَى كَرْهٍ مِنْهُمْ). وَقِيْلَ: أرادَ بقولهِ ﴿ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي ما ينالُهم من المصائب في أموالهم لا تكون كفَّارةً لذنوبهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ ﴾؛ أي تخرُجَ أنفسُهم على الكفرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُمْ كَٰفِرُونَ ﴾؛ أي في حالِ كونِهم كافِرين. والزَّهْقُ خروجُ الشيءِ بصعوبةٍ وأصلهُ الهلاكُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ ﴾؛ معناهُ: أنَّ هؤلاء المنافقين يَحلِفون للمؤمنين أنَّهم على دِينهم، يقولُ الله تعالى: ﴿ وَمَا هُم مِّنكُمْ ﴾ أي لَيسُوا على دِينكم.
﴿ وَلَـٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴾؛ أي يخافُون من المسلمين، فأظهرُوا الإسلامَ وأسَرُّوا النفاق.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾؛ معناه: لو يَجِدون حِرْزاً يَلْجَأُونَ إليه ويتحصَّنون فيه، أو غِيرَاناً في الجبالِ أو سَرَباً في الأرضِ، أو قَوماً يمكنُهم الدخولُ فيما بينهم يحفظونَهم عنكم، لصَبَوا إليهم وهم يجْمَحُونَ؛ أي يسبقون ويُسرعون إسراعاً لا يردُّ وجوهَهم بشيءٍ. يقالُ: فرسٌ جَمُوحٌ إذا ذهبَ في عَدْوهِ لم يرده اللِّجَامُ، قال عطاءُ في معنى قولهِ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً: (أيْ مَهْرَباً)، وقال ابنُ كَيسان: (قَوْماً يَأْمَنُونَ فِيهِمْ). قرأ عبدُالرحمن بنُ عوفٍ (أوْ مُغَارَاتٍ) بضمِّ الميمِ، وقولهُ تعالى: ﴿ أَوْ مُدَّخَلاً ﴾ قال الكلبيُّ: (نَفَقاً فِي الأَرْض كَنَفَقِ الْيَرْبُوعِ) وَقِيْلَ: معناهُ: موضعُ دخولٍ يدخُلون فيه. وقرأ الحسنُ (مَدْخَلاً) بفتح الميمِ وتخفيف الدال، وقرأ أُبَيُّ (مُنْدَخَلاً) بإثبات النُّون. وقولهُ تعالى: ﴿ لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ ﴾ قرأ الأشهبُ العُقَيلِيُّ (لَوَالَوْا إلَيْهِ) بالألف من الْمُوَالاَتِ؛ أي تَابَعُوا وسارَعُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ ﴾؛ أي مِن المنافقين من يَعِيبُكَ في الصَّدقات.
﴿ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا ﴾؛ الصدقةَ مقدارَ مُرادِهم.
﴿ رَضُواْ ﴾؛ بالقسمةِ.
﴿ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا ﴾؛ لا يَرضُون بالقسمةِ. نزلَتْ هذه الآيةُ في أبي الجوَّاظ وغيرهُ من اللمَّازِينَ من المنافقين، كما رُوي" أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقِسمُ الصدقاتِ فقال أبو الجوَّاظ: ما ترَون صاحِبَكم يقسمُ صدقاتِكم في رُعاة الغنمِ، فقال صلى الله عليه وسلم: " لاَ أبَا لَكَ، أمَا كَانَ مُوسَى عليه السلام رَاعِياً! أمَا كَانَ دَاوُدُ عليه السلام رَاعِياً! " فذهبَ أبو الجوَّاظ، فقالَ صلى الله عليه وسلم: " احْذَرُوا هَذَا وَأصْحَابَهُ "فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال:" كَانَ رَسُولُ اللهِ يَقْسِمُ قَسْماً إذ جَاءَهُ ابْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: " وَيْلَكَ مَنْ يَعْدِلُ إذا لَمْ أعْدِلْ؟! " فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ أضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " دَعْهُ فَإنَّ لَهُ أصْحَاباً يَحْتَقِرُ أحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِ وَصَوْمَهُ مَعَ صِيَامِهِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرَقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ ". قرأ الحسنُ ويعقوب (يَلْمُزُكَ) بضمِّ الميم، وقرأ الأعمش (يُلَمِّزُكَ) بضم الياء وتشديدِ الميم، يقالُ: لَمَزَهُ وَهَمَزَهُ إذا أعابَهُ، ورجلٌ هُمَزَةٌ لُمَزَةٌ، وقال عطاءُ: (مَعْنَى يَلْمِزُكَ أيْ يَغْتَابُكَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾؛ قرأ إيادُ بنُ لَقيط (إذَا هُمْ سَاخِطُونَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ أي لو رَضُوا ما رزقََهم اللهُ وما يُعطِيهم رسولهُ من العطيَّة والصدقةِ.
﴿ وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤْتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ ﴾؛ أي كاَفِينَا اللهُ سيُعطينا اللهُ من رزقهِ، وسيُعطينا رسولهُ مما يكون عندَهُ من السَّعة والفضلِ وَقَالُوا: ﴿ إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ ﴾؛ أي فيما عندَهُ من الثواب.
﴿ رَاغِبُونَ ﴾؛ لكانَ خَيْراً لهم وأعْوَدَ عليهم، إلا أنه حذفَ الجواب؛ لأن الحذفَ للجواب في مثل هذا الموضعِ أبلغُ من الإثبات؛ لأنَّكَ إذا حذفتَ الجواب ذهبَتْ فيه النفسُ كلَّ مذهبٍ.
قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس والحسن وجابر بن زيد والزهريُّ ومجاهد: (الْفَقِيرُ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لاَ يَسْأَلُ النَّاسَ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ). ومعنى الآية: إنَّما الصدقاتُ لهؤلاءِ المذكورين لا للمنافقين. قال ابنُ عبَّاس: (الْفُقَرَاءُ هُمْ أصْحَابُ الصُّفَّةِ، صُفَّةُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانُوا نَحْوَ أرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنَازِلُ فِي الْمَدِينَةِ وَلاَ عَشَائِرُ، فَأَوَوْا إلَى صُفَّةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ، يَلْتَمِسُونَ الرِّزْقَ بالنَّهَارِ وَيَأْوُونَ إلَيْهِ باللَّيْلِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أتَاهُمْ بهِ إذا أمْسَواْ). قالَ: (وَالْمَسَاكِينُ هُمُ الطَّوَّافُونَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ). فعلى هذا المسكين أفقرُ من الفقيرِ، ومن الدليلِ على ذلك أنَّ الله قالَ:﴿ لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾[البقرة: ٢٧٣] ثم قال:﴿ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ ﴾[البقرة: ٢٧٣]، ومعلومٌ أن الجاهلَ بحالِ الفقير لا يحسبهُ غَنيّاً إلاَّ وله ظاهرٌ جميل ويدهُ حَسَنةٌ، وقال تعالى:﴿ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾[البلد: ١٦].
قيل في التفسير: الذي قد لَصَقَ بالتُّراب وهو جائعٌ عارٍ ليس بينه وبين التراب شيءٌ يَقيه. وقال أبو العبَّاس ثعلب: (حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لأَعْرَابيٍّ: أفَقيرٌ أنْتَ؟ قَالَ: لاَ؛ بَلْ مِسْكِينٌ. وأنشدَ الأعرابيُّ: أمَّا الْفَقِيرُ الَّتِي كَانَتْ حُلُوبَتُهُ   وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُفَسَمَّاهُ فَقِيراً مَعَ وُجُودِ الْحُلُوبَةِ). وقال محمَّد بن مَسلمة: (الْفَقِيرُ الَّذِي لاَ مِلْكَ لَهُ) قال: (وَكُلُّ شَيْءٍ مُحْتَاجٍ إلَى شَيْءٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ)، واحتجَّ مَن قال: إن الفقيرَ أفقرُ من المسكينِ بقوله تعالى:﴿ أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ ﴾[الكهف: ٧٩] فأضافَ السفينةَ إليهم، وهذا لا دلالةَ فيه لأنه رُوي أنَّهم كانوا فيها أُجَراءَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ﴾، يعني السُّعَاةَ الذين يجلِبون الصَّدقَةَ، ويتوَلَّون قبضَها من أهِلها، يُعطون منها سواءٌ كانوا أغنياءَ أم فقراء، واختلَفُوا في قَدْر ما يُعطَون، قال الضحَّاك: (يُعْطَوْنَ الثُّمُنَ مِنَ الصَّدَقَةِ)، وقال مجاهدُ: (يَأْكُلُ الْعُمَّالُ مِنَ السَّهْمِ الثَّامِنِ)، وقال عبدُالله بن عمرِو بن العاص: (يُعْطَوْنَ عَلَى قَدْرِ عَمَالَتِهِمْ)، وقال الأعمشُ: (يُعْطَونَ بقَدْرِ أُجُور أمْثَالِهِمْ وَإنْ كَانَ أكْثَرَ مِنَ الثُّمُنِ)، وقال مالكُ وأهلُ العراقِ: (إنَّمَا ذلِكَ لِلإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ يُعْطِيهِمُ الإمَامُ قَدْرَ مَا رَأى)، وعن ابنِ عمر: (يُعْطَوْنَ بقَدْرِ عَمَلِهِمْ)، وعند الشافعيِّ: (يُعْطَوْنَ ثُمُنَ الصَّدَقَاتِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾؛ هم قومٌ كان يُعطيهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتأَلَِّفُهم على الإسلامِ، كانوا رُؤساءَ في كلِّ قبيلةٍ، منهم أبو سُفيان بن حربٍ من بني أُمَيَّة، والأقرعُ بن حَابسٍ، وعقبةُ بن حصن الفزَّاري وغيرُهما من بني عامرِ بن لُؤي، والحارثُ بن هشامِ المخزوميُّ، وسهيلُ بن عمرو الجمحيُّ من بني أسَدٍ، والعباسُ بن المرداسِ من بني سُليم، فلما توُفِّيَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جاءَ المؤلَّفة قلوبُهم إلى أبي بكرٍ وطلَبُوا منه سَهمَهم، فأمَرَهم أن يكتبُوا كِتَاباً، فجَاؤُا بالكتاب إلى عُمر رضي الله عنه ليشهدَ، فقال عمر: إيْشُ هَذَا؟ قَالُوا: سَهْمُنَا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه:﴿ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾[الكهف: ٢٩] إنَّ الإسْلاَمَ أجَلُّ أنْ يُرْسَى عَلَيْهِ. ثم أخذَ عمرُ كتابَهم ومَزَّقَهُ وقالَ: إنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ يُعطيكُمْ يَتَأَلَّفُكُمْ عَلَى الإِسْلاَمِ، فَالْيَوْمَ فَقَدْ أعَزَّ اللهُ الإسْلاَمَ، فَإنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الإسْلاَمِ وَإلاَّ فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ السَّيْفُ. فَرَجَعُوا إلَى أبي بَكْرٍ وَقَالُواْ: أنْتَ الْخَلِِيفَةُ أمْ هُوَ؟! فَقَالَ: هُوَ إنْ شَاءَ! فَبَطَلَ سَهْمُهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفِي ٱلرِّقَابِ ﴾؛ معناهُ عندَ أكثرِ الناس في فِكَاكِ الرِّقَاب وهم الْمُكَاتَبُونَ، وذهبَ مالكٌ إلى أنَّهم رقابٌ يُبتَاعُونَ من الزَّكاة ويُعتَقُونَ، فيكون ولاؤُهم لجميعِ المسلمين دون المعتِقين، قال: (وَلاَ يُعْطَى الْمُكَاتَبُ مِنَ الزَّكَاةِ وَلاَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ شَيْئاً). وقد رُوي" أنَّ رجُلاً جاءَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: عَلِّمْنِي عَمَلاً يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ؟ قَالَ: " فُكَّ الرَّقَبَةَ وَأعْتِقِ النَّسْمَةَ " قَالَ: أوَلَيْسَا سَوَاءً؟ قَالَ: " لاَ؛ فَكُّ الرَّقَبَةِ أنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا "، فاقتضَى قوله تعالى ﴿ وَفِي ٱلرِّقَابِ ﴾ المعوضة في العِتْقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْغَارِمِينَ ﴾؛ يعني الْمَدْيُونِينَ الذين لا يكون لهم فضلٌ نصاب على الدَّين؛ لأنَّ المالَ وإنْ كان في أيدِيهم فهو مستحَقُّ أيدِيهم، وقال مجاهدُ والزهري: (إنَّمَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِلْمَدْيُونِينَ إذا كَانَ الدِّيْنُ قَدْ لَحِقَهُ بغَيْرِ إسْرَافٍ وَلاَ مَعْصِيَةٍ)، وقال قتادةُ: (الْغَارِمُونَ هُمْ قَوْمٌ لَحِقَهُمْ دُيُونٌ فِي غَيْرِ تَبْذِيرٍ وَلاَ فَسَادٍ)، وعن مجاهدٍ: (أنَّ الْغَارِمَ مَنِ احْتَرَقَ بَيْتُهُ، أوْ ذهَبَ السَّيْلُ بمَالِهِ، أوْ أدَانَ عَلَى عِيَالِهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾؛ أرادَ به المجاهدِين إذا انقطَعُوا عن أزوادِهم وراحِلَتِهم، وقال أبو يوسف: (هُمُ الْفُقَرَاءُ الْغُزَاةُ)، وأما إذا كان الغازِي غنِيّاً اختلَفُوا فيه، فقال أبو حنيفةَ وأبو يوسف ومحمَّد: (لاَ يُعْطَى الْغَازِي الْغَنِيُّ)، وقال الشافعيُّ ومالك: (يُعْطَى الْغَازِي الْغَنِيُّ) وحُجَّتُهما قوله عليه السلام:" لاَ تَحِلُ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلاَّ لِخَمْسَةٍ: رَجُلٌ عَمِلَ عَلَيْهَا، وَرَجُلٌ اشْتَرَاهَا بمَالِهِ، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتُصُدِّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فأََهْدَى إلَيْهِ جَارُهُ، وَفِي سَبيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبيلِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾؛ هو المسافرُ المنقطع عن مالهِ، سُمِّي بذلك لملازمتهِ السَّبيل، كما يقالُ: ابنُ الغَنِيِّ وابنُ الفقِيرِ، قال مجاهدُ والزهري: (لاِبْنِ السَّبيلِ حَقٌّ فِي الزَّكَاةِ وَإنْ كَانَ غَنِيّاً) قال قتادةُ: (ابْنُ السَّبيلِ هُوَ الضَّيْفُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي فَرَضَ اللهُ هذه الأشياءَ فريضةً.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾؛ بمصالحِ عباده.
﴿ حَكِيمٌ ﴾؛ في أفعالهِ. والفَرْضُ في ذكرِ الأصناف في هذه الآية بيانُ أنه لا يجوزُ إخراج الصَّدقة منهم إلى غيرِهم؛ لأن الحاجةَ في جميعِ الأصناف المذكورين في هذه الآيةِ موجودةٌ، ولأن مَن عليه الزكاةُ إذا حَمَلَ الزكاةَ بنفسهِ إلى الإمامِ لم يكن لأحدٍ مِن العمَّال في ذلك نصيبٌ. وقال الشافعيُّ: (تُقْسَمُ الصَّدَقَةُ عَلَى الأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الآيَةِ، إلاَّ أنْ يُفْقََدَ صِنْفٌ فَيُقْسَمُ عَلَى الْبَاقِينَ). وَقِيْلَ: يقسمُ على أصلهِ على سبعةِ أصنافٍ؛ لأن المؤلَّفة قد سقَطُوا، قال: (وَيُعْطَى كُلٌّ مِنْهُمْ مِنَ الثَّمَانِيَةِ ثُلُثَهُ مِنْ أهْلِ كُلِّ صِنْفٍ، فَإنْ أعْطَى اثْنَيْنِ ضَمِنَ ثُلُثَ سَهْمٍ). واختلف العلماءُ في المقدارِ الذي إذا ملكَهُ رجلٌ دخلَ في حدِّ الغِنَى، وخرجَ من حدِّ الفقرِ، قال بعضُهم: إذا كان عندَ أهلهِ قوتُ يومِهم، واستدلَّ بقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:" " مَنْ سَأَلَ عَنْ ظَهْرِ غِنَى، فَإنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا ظَهْرُ الْغِنَى؟ قَالَ: " أنْ تَعْلَمَ أنَّ عِنْدَ أهْلِهِ مَا يُعَيِّشُهُمْ وَيُغَدِّيهِمْ " ". وقال بعضُهم: اذا مَلَكَ أربعين دِرْهماً أو عِدْلَها من الذَّهب، واستدلَّ بما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَعِنْدَهُ أوْقِيَّةٌ أوْ عِدْلُهَا مِنَ الذَّهَب فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافاً "، وكانت الأُوْقِيَّةُ يومئذٍ أربعِين درهماً. وقال بعضُهم: إذا مَلَكَ خَمسين درهماً أو عِدْلَهَا من الذهب لِمَا رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" " لاَ يَسْأَلُ عَبْدٌ مَسْأَلَةً وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ إلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي وَجْهِهِ كُدُوحٌ أوْ خُدُوشٌ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا غِنَاهُ؟ قَالَ: " خَمْسُونَ دِرْهَماً، أوْ عِدْلُهَا مِنَ الذَّهَب " ". والصحيحُ: أنَّ مَن مَلَكَ مِائَتي درهمٍ أو عِدْلِها من فرضٍ أو غيرهِ فاضِلاً عن ما يحتاجُ إليه مِن مسكَنٍ وخادمٍ وأتَانٍ وفَرَسٍ، لم تَحِلَّ له الصدقةُ لقولهِ عليه السلام:" إنِّي أُمِرْتُ أنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أغْنِيَائِكُمْ وَأرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ "فجعلَ الناسَ فريقين، ولا خلاف أن الذي يملِكُ مِائَتي درهمٍ يكون غنيّاً، فوجبَ أن لا يكون داخِلاً في الفُقَراء، ولو كان الاعتبارُ بالضَّرورة لكان الذي له غداءٌ دون العَشَاءِ أو عَشَاءٌ دون الغَدَاءِ لا تحلُّ له الصدقةُ، وقد رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:" لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ "والفرَسُ في الكثيرِ الأحوال يُساوي اكثرَ من أربعين دِرْهماً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ الْجَمَاعَةَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ جَلاَّسُ بْنُ سُوَيدٍ وَمَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ وَأبُو يَاسِرِ بْنِ قَيْسٍ وَسِمَاكُ بْنُ يَزيدٍ وَعُبَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ وَرُفَاعَةُ بْنُ التَّابُوتِ كَانُوا يُؤْذونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُونَ فِيْهِ مَا لاَ يَجُوزُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَفْعَلُوا فَإنَّا نَخَافُ أنْ يَبْلُغَهُ الْخَبَرُ، فَقَالَ الْجَلاَّسُ: بَلْ نَقُولُ مَا شِئْنَا ثُمَّ نَأْتِيهِ فَيُصَدِّقُنَا فِي مَا نَقُولُ، فإنَّ مُحَمَّداً أُذُنٌ سَامِعَةٌ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها: ومِنْ هؤلاء المنافقين مَن يُؤذِي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ويقولون هو صاحبُ أُذُنٍ يُصغِي إلى كلِّ أحَدٍ، ويقبلُ كلَّ ما قيلَ له. قََوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ ﴾؛ أي قِيْلَ: هو مستمعٌ بخيرٍ لا مستمعٌ بشَرٍّ، وَقِيْلَ: معناهُ: هو يستمع إلى ما هو خيرٌ لكم وهو الوحيُ. وقرأ الحسنُ: (هُوَ أذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ) كلاهُما بالتنوينِ والضمِّ، معناهُ: إنْ كان كما قُلتم فهو خيرٌ لكم يقبَلُ عُذرَكُم. وقرأ نافع: (قُلْ أُذْنٌ) بجزمِ الذال وهو لغةٌ في الأذن. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي يُصدِّقُ بما أُنزِلَ عليه، والإيمانُ باللهِ لا يعملُ إلا بالحقِّ، ويؤمِنُ للمؤمنين أي يُصدِّقُ المؤمنين في ما يُخبرونَهُ. واختلَفُوا في الـ (لام) التي للمؤمنين، فقال بعضُهم هي زائدةٌ كما في قولهِ تعالى:﴿ رَدِفَ لَكُم ﴾[النمل: ٧٢] معناهُ: ردِفكُمْ. قال بعضُهم: إنما ذُكر اللام للفَرقِ بين التصَّديقِ والإيمان، فإنه إذا قِيْلَ: ويُؤمِنُ للمؤمنين لَم يُقبل غيرُ التصديقِ، كما في قوله:﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾[يوسف: ١٧] أي بمُصَدِّقٍ، وقوله تعالى:﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ ﴾[التوبة: ٩٤] أي لن نصدِّقَكم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ ﴾؛ قرأ الحسنُ والأعمش وحمزة بالخفضِ على معنى: أُذُنُ خَيْرٍ وأذُن رحمةٍ، وقرأ الباقون: (وَرَحْمَةٌ) بالرفعِ يعني: هو رحمةٌ، جعلَ الله النبيَّ صلى الله عليه وسلم رحمةً لهم؛ لأنَّهم إنما نالُوا الإيمانَ بدُعائهِ وهدايته. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾؛ وعيدٌ مِن الله لهؤلاء المنافقين على مقَالتِهم. وقال ابنُ عبَّاس: (فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ جَاؤُا إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُونَ أنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا فَاَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ... ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾؛ ولم يقُل يرضُوهُما؛ لأنه يُكرَهُ الجمعُ بين ذكرِ اسم الله وذكرِ اسم رسولهِ في كِنَايَةٍ واحدةٍ، كما رُوي" أنَّ رَجُلاً قَامَ خَطِيباً عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " بئْسَ الْخَطِيبُ أنْتَ! هَلاَّ قُلْتَ: وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ؟ " "وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" لاَ تَقُولُوا مَا شاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلاَنٌ. وَلَكِنْ قُولُواْ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ شَاءَ فُلاَنٌ "فكَرِهَ الجمعَ بين الله وبين غيره في الذكرِ تعظيماً لله. والضميرُ في قوله ﴿ يُرْضُوهُ ﴾ إلى الواحدِ؛ لأنَّ رضَى اللهِ مُتَضَمِّنٌ رضَى رسولهِ. وقولهُ: ﴿ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾؛ إنْ كانوا مصدِّقين بقُلوبهم غيرَ مُنافِقين كما يدَّعون، فطلَبُهم رضَى اللهِ أوْلَى من طلَبهم رضَاكُم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ﴾؛ معناهُ: ألَمْ يُخبرْهُم الرسولُ صلى الله عليه وسلم أنه مَن خالفَ اللهَ ورسوله في الدِّين فيجعلُ نفسَهُ في حدٍّ، واللهَ ورسولَهُ في حدٍّ فله نارُ جهنَّم، ودخلت (أنَّ) مؤكِّدة وهي إعادة أن الأَولى؛ لأنه لما طالَ الكلامُ كانت إعادَتُها أوكَدَ. ومَن قرأ بالكسرِ فهو على الاستئنافُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ ٱلْخِزْيُ ٱلْعَظِيمُ ﴾؛ أي ذلك الهوَانُ الشديدُ الدائم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم ﴾؛ الكثيرُ من المفسِّرين على (أنَّ) اخبار مِن المنافقين أنَّهم يحذَرُون أنَّ الله نَزَّلَ عليهم سورةً تُخبرُ عن ما في قلوبهم من النِّفَاقِ والشِّركِ، فإنَّ بعض المنافقين كانوا يَعلَمُونَ نبوَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا يَكفُرُونَ عند أهلِ الشِّرك عِنَاداً وحَسَداً، وبعضُهم كانوا عندَ أنفُسِهم شَاكِّين غيرَ مُسَتبصِرِينَ، وكانوا يخافون إذا أذنَبُوا ذنباً أنْ يَنْزِلَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم من القُرآنِ ما يكشفُ عن نفاقِهم، وفي الآيةِ ما يدلُّ على هذا وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴾ أي مُظْهِرٌ ما تخافون من ظهور النِّفاقِ، وعن هذا سُمِّيت هذه السورةُ (سُورَةُ الْفَاضِحَةِ)؛ لأنَّها فضَحَتِ المنافقين، وتُسمَّى أيضاً (الْحَافِرَةُ)؛ لأنَّها حَفَرَتْ عن قلوب المنافقين. وقولهُ تعالى: ﴿ قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴾؛ تَهديدٌ وإنْ كان لفظُ الأمرِ، كما في قوله:﴿ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ﴾[فصلت: ٤٠]، وذهبَ الزجَّاجُ إلى أنَّ قولَهُ: ﴿ يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾ لفظةُ إخبارٍ ومعناهُ: الأمرُ كلُّه، كأنه قالَ: لِيحْذَرِ، وهذا كما قال:﴿ وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ﴾[البقرة: ٢٢٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ﴾؛ وذلك" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ في مَسِيرهِ رَاجِعٌ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوك، وَثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيهِ، فَجَعَلَ رَجُلاَنِ يَسْتَهْزِئَانِ برَسُولِ اللهِ وَيَقُولُونَ: إنَّ مُحَمَّداً قَالَ: نَزَلَ فِي أصْحَابنَا الَّذِينَ يَحْلِفُوا كَذا وَكَذا، وَالثَّالِثُ يَضْحَكُ مِمَّا يَقُولُونَ وَلاَ يَتَكَلَّمُ بشَيْءٍ. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام علَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَأخْبَرَهُ بمَا يَقُولُونَ، فَدَعَا عليه السلام عَمَّاراً وَقَالَ: " إنَّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ بكَذا وَكَذا، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ: إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، إنْطَلِقْ إلَيْهِمْ وَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَتَحَدَّثُونَ، وَقُلْ لَهُمْ: أحْرَقْتُمْ أحْرَقَكُمُ اللهُ " فَفَعَلَ ذلِكَ عَمَّارُ، فَجَاؤُا إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَذِرُونَ وَيَقُولُونَ: كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فِيْمَا يَخُوضُ فِيْهِ الرَّكْبُ إذا سَارَ. "فَأَنْزَلَ اللهُ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ. وعن الحسنِ وقتادةَ: (أنَّهُمْ كَانُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَقَالُوا: أيَطْمَعُ هَذا الرَّجُلُ أنْ يُفْتَحَ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ؟ هَيْهَاتَ مَا أبْعَدَهُ عَنْ ذلِكَ! فَأَطْلَعَ نَبيَّهُ عَلَى ذلِكَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ ﴾؛ منه ألِفُ استفهامٍ، معناهُ: النِّيَّةُ لهم على ما كانوا يفعلونَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ تَعْتَذِرُواْ ﴾؛ أي لا تَعتَذِرون عن مَقالَتِكم.
﴿ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾؛ أي قد أظهَرتُم الكفرَ بعد إظهارِكم الإيمانَ، فإنَّهم قطٌّ لم يكونوا مُؤمِنين، ولكن كانوا مُنافِقِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً ﴾؛ وفيه قراءَتان، هذه بالضَّمِّ على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ، والثانية: (إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبُ طَائِفَةً) بالنصب، قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: إنْ يَعْفُ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ يَضْحَكُ وَهُوَ مَخْشِيُّ بنُ حُمَيِّرٍ، يُعَذِّب الرَّجُلاَنِ اللَّذانِ كَانَا يَتَكَلَّمَان بالْهَمْزِ) ﴿ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾؛ أي كافرِين في السِّرِّ، وكلًّ معصيةٍ جُرْمٌ إلاَ أنَّه أرادَ بالْجُرْمِ هاهنا الكفرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ ﴾؛ أي بعضُهم مُضَافٌ إلى بعضهم لاجتماعِهم على الشِّرك والاستهزاءِ بالمسلمين، كما يقالُ: أنا مِن فلانٍ وفلانٌ منِّي؛ أي أمْرُنا واحدٌ وكَلِمَتُنَا واحدةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ ﴾؛ أي بالكُفرِ والمعاصي.
﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ ﴾؛ أي عن الإيمان والطاعة. وقولهُ تعالى: ﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾؛ قال الحسنُ ومجاهد: (أيْ يُمْسِكُونَهَا عَنِ النَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ)، وَقِيْلَ: عنِ الزَّكَوَاتِ المفروضةِ، وقال قتادةُ: (عَنِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾؛ أي ترَكُوا أمْرَ اللهِ وأعرَضُوا عنه حتى صارَ كالمنسيِّ عندَهم بإعراضِهم عنه، فترَكَهم اللهُ من رحمتهِ حتى صارُوا كَالْمَنْسِيِّينَ عندَهُ، وإنْ كان النِّسيانُ مما لا يجوزُ على اللهِ إلاَّ أنه قال (فَنَسِيَهُمْ) لمزاوجةِ الكلام، كما في قوله تعالى:﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ ﴾[البقرة: ١٩٤]، قال تعالى:﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾[الشورى: ٤٠]، وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾؛ أي هم المتمرِّدون في الكفرِ والفسقِ وفي كلِّ شيء، والْمُتَمَرِّدُ فيه وإنْ كان النفاقُ أعظمَ من الفسقِ.
وقولهُ تعالى: ﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾؛ في الآية جمعٌ بين المنافقين وبين الكفَّار في التسميةِ، وإنْ كان المنافقون همُ الكفار؛ لتكون الآيةُ دالَّةً على أنَّ المنافقين يلحَقُهم الوعيدُ من جِهَتَين، من جهةِ الكُفرِ والنِّفاقِ. وجهنَّم من أسماءِ النار يقول العربُ للبئرِ البعيدة القعرِ: جِهْنَامٌ، فيجوزُ أن تكون جَهَنَّمُ مأخوذةٌ من هذه اللَّفظةِ لبُعدِ قَعرِها. وقولهُ تعالى: ﴿ هِيَ حَسْبُهُمْ ﴾؛ أي كفايَتُهم على ذنوبهم؛ لأن فيها جزاءَ أعمالِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَعَنَهُمُ ٱللَّهُ ﴾؛ أي أبعَدَهم من الثواب والمدح في الدُّنيا، وعن الثواب والرحمة في الآخرةِ.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾؛ أي عذابٌ دائم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً ﴾؛ أي وعدَ اللهُ أهلَ زمانِكم على الكفرِ والنِّفاق نارَ جهنَّم، كما وعدَ الذين من قبلِكم كانوا أشدَّ منكم قوَّةً في البَدَن وأكثرَ أموالاً وأولاداً.
﴿ فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ ﴾؛ فانتفَعُوا بنصيبهم وحظِّهم في الدُّنيا، ولم ينفَعْهم ذلكَ حين نزلَ بهم عذاب الله، فكذلك أنتُم، والْخَلاَقُ هو النصيبُ من الخيرِ. وقولهُ تعالى: ﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ ﴾؛ أي فاستمتَعتُم أنتم بنصيبكم من الدُّنيا وخُضتم فيها.
﴿ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ ﴾؛ أي خُضتم في الكفرِ والاستهزاء بالمؤمنين كما خاضَ الأوَّلون. وقولهُ تعالى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾؛ أي أهلُ هذه الصِّفة حَبطَتْ أعمالُهم التي عَمِلوها على جهةِ البرِّ مثلُ الإنفاقِ في وجُوهِ الخيرِ ومثلُ صِلَةِ الرَّحمِ حَبطَتْ.
﴿ فِي ٱلدنْيَا ﴾؛ حتى لا يستحقُّوا بها الإكرامَ والتعظيمَ في الدُّنيا، وَحَبطَتْ في.
﴿ وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ ﴾؛ الذين خَسِروا أنفُسَهم وأهلِيهم يومَ القيامةِ، والْخُسْرَانُ هو ذهابُ رأسِ المال من دون أصلهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَٰهِيمَ وِأَصْحَـٰبِ مَدْيَنَ ﴾؛ معناهُ: ألَمْ يأتِ المنافقين والكفارَ خبرُ مَن قبلِهم كيف أهلكَهم اللهُ عَزَّ وَجَلَّ حين تَمرَّدُوا في الكُفرِ، واستهزَأْوا بالمؤمنين وهم قومُ نوحٍ، أهلكَهم اللهُ بالغرقِ، وعَادٌ قومُ هودٍ أهلَكَهم اللهُ بالريحِ، وثَمُودُ أهلَكَهم اللهُ بالصَّيحةِ والرَّجْفَةِ وهم قومُ صالِح، وقومُ إبراهيمَ أهلكَهم اللهُ نَمْرُودُهم بالبَعُوضِ وسائرِ قومه بالْهَدْمِ، وأصحابُ مَدْيَنَ قومٌ شُعَيبٍ أهلَكَهم اللهُ بالصَّيحَةِ وعذاب الظُّلَّةِ، ومَدْيَنُ بئْرُ مَدْيَنَ بنُ إبراهيم نُسِبَتِ القريةُ إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْمُؤْتَفِكَـٰتِ ﴾؛ أي الْمُنْقَلِبَاتُ وهي قرياتُ قومِ لُوطٍ أهلَكَهم اللهُ بالخسفِ، وقَلَبَ مَدَائِنَهُمْ عليهم. ويقالُ: أرادَ بالْمُؤْتَفِكَاتِ كلَّ مَنِ انقلبَ أمرُهم عليهم من الخيرِ إلى الشرِّ. يقالُ: الهالكُ انقلبَت عليه الدُّنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ ﴾؛ أي بالْحُجَجِ والبراهينِ.
﴿ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾؛ أي لَمَّا كذبوا الرُّسلَ وكَفَرُوا بالآيات أهلكَهم، ولم يكن ذلك ظُلماً؛ لأنَّهم أستحَقُّوا ذلك بعمَلِهم فكانوا همُ الظالمين لأنفُسِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾؛ أي بعضُهم أنصارُ بعضٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾؛ أي بالتَّوحيدِ واتِّباعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وشرائعه.
﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ ﴾؛ عن ما لا يعرفُ في شريعةٍ ولا سُنة.
﴿ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ ﴾؛ الْخَمْسَ بشَرائطِها.
﴿ وَيُؤْتُونَ ﴾؛ ويؤدُّون.
﴿ ٱلزَّكَاةَ ﴾؛ الواجبةَ في أموالهِ.
﴿ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ ﴾؛ في الفرائضِ.
﴿ وَرَسُولَهُ ﴾؛ في السُّنَنِ.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ ﴾؛ أي يُنعِمُ عليهم في الآخرةِ، والرحمةُ هي النِّعمَةُ على المحتاجِ. وعن بعضِ أهلِ الإشارة: سيرحَمُهم في خمسةِ مواضع: عند الموتِ وسكَرَاتهِ، وفي القبرِ وظُلُماتِهِ، وعند قراءةِ الكتاب وحسَرَاتِهِ، وعند الميزان وندَامَتهِ، وعند الوُقوفِ بين يَدَي اللهِ ومسؤُولاَتهِ. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ أي غالبٌ في مُلكِه وسُلطانِه، تجرِي أفعالهُ على ما توجبهُ الحكمة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾؛ أي بساتينَ تجري من تحتِ شجَرِها وغُرَفِها أنْهارُ الماءِ والعسَلِ والخمر واللَّبن.
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾؛ أي مُقِيمين دائمين فيها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾؛ أي مسَاكِنَها ظاهرةً عامِرَةً يطيبُ بها العيش، قال الحسنُ: (هِيَ مَسَاكِنُ بَنَاهَا اللهُ مِنَ الَّلآلِئ وَالْيَوَاقِيتِ الْحُمْرِ وَالزُّبُرْجَدِ الأَخْضَرِ). وقوله: ﴿ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ أي في بساتين إقامَة، قال ابنُ عبَّاس: (جَنَّاتُ عَدْنٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَالْجَنَّاتُ حولَها مُحْدِقَةٌ بهَا وَهِيَ مُعْطَاةٌ مُنْذُ خَلَقَهَا اللهُ حَتَّى يَنْزِلَهَا أهْلُهَا النَّّبيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ). وعن مجاهدٍ قال: (قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: هَلْ تَدْرُونَ مَا جَنَّاتُ عَدْنٍ؟ قُصُورٌ فِي الْجَنَّةِ مِنْ ذهَبٍ، لِكُلِّ قَصْرٍ خَمْسُمِائَةِ ألْفِ بَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ألْفاً مِنَ الْحُورِ الْعِين، لاَ يَدْخُلُهَا إلاَّ نَبيٌّ، وَهَنِيئاً لِصَاحِب هَذا الْقَبْرِ، وَأشَارَ إلَى قَبْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَدَّقَ، وَهَنِيئاً لأَبي بَكْرٍ أوْ شَهِيدٍ، وَإنِّي لَعَمْرُ الشَّهَادَةِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ﴾؛ أي رضَى الرب عنهم أكبرُ وأعظم من هذا النعيمِ كلِّه لأنَّهم إنَّما نَالُوا ذلك كله برضوانِ الله عَزَّ وَجَلَّ، والرِّضْوَانُ: إرادَةُ الخيرِ والثواب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ أي ذلك الذي ذكرتُ هو الحياةُ الوافرة، نَجَوا من النار وظَفَرُوا بالجنَّة. وعن الحسنِ في قولهِ تعالى: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ أي سرورٌ في الآخرةِ برضوان اللهِ عنهم يكون أكثرُ من سُرورِهم بهذا النَّعيم كُلِّه. وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" إذا أنْزَلَ اللهُ أهْلَ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، قَالَ: ألاَ أُعْطِيكُمْ مَا هُوَ أكْبَرُ مِنْ هَذا كُلِّهِ؟ فيَقُولُونَ: بَلَى يَا رَب وَمَا أكْبَرُ مِنْ ذلِكَ؟ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رضْوَانِي فَلاَ أسْخَطُ عَلَيْكُمْ أبَداً ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾؛ أي جاهِدِ الكفَّارَ بالسَّيفِ والمنافقين باللِّسان، واغْلُظْ على الفَريقين جميعاً.
﴿ وَمَأْوَاهُمْ ﴾؛ ومصيرُهم في الآخرةِ.
﴿ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾؛ الموضعُ الذي يَصِيرُونَ إليه، وقال الحسنُ: (مَعْنَاهُ جَاهِدِ الْكُفَّارَ بالْقِتَالِ، وَالْمُنَافِقِينَ بالْحُدُودِ، فَإنُّهُمْ كَثِيرُو التَّعَاطِي لِلأَسْبَاب الْمُوجِبَةِ لِلحُدُودِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَي وَالْجَلاَّسِ بْنِ سُوَيدٍ وَعَامِرِ ابْنِ النُّعْمَانِ وَغَيْرِهِمْ، كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلاً، خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يَوْمٍ بتَبُوكَ وَسَمَّاهُمْ رجْساً، فَقَالَ الْجَلاَّسُ: لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقّاً عَلَى إخْوَانِنَا فَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَسَمِعَهُ عَامِرُ بْنُ قَيْسِ، فَقَالَ: أجَلْ وَاللهِ إنَّ مُحَمَّداً لَصَادِقٌ وَلأَنْتُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ. فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ أخْبَرَهُ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ بِمَا قَالَ الْجَلاَّسُ، فَقَالَ الْجَلاَّسُ: يَكْذِبُ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ! فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ أنْ يَحْلِفَانِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَلَفَا جَمِيعاً، فَرَفَعَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أنْزِلْ عَلَى نَبيِّكَ وَبَيِّنِ الصَّادِقَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " آمِينَ " فََأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةِ). ومعناها: يحلِفان المنافقون باللهِ ما تكلَّموا بكَلِمةِ الكُفرِ ولقد تكلَّموا بها وأظهَرُوا الكفرَ بعدَ إظهارِهم الإسلامَ. وَقِيْلَ: كفَرُوا بقولِهم ذلك بعدَ ما كانوا أسلَمُوا على زَعمِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ ﴾؛ أي قصَدُوا إلى ما لم يَصِلوا إلى ذلك، والْهَمُّ بالشَّيءِ في اللُّغَة: مقاربته دون الوقُوعِ فيه، قِيْلَ: إنَّهم كانوا هَمُّوا بقتلِ الذي أنكرَ عليهم قولَهم. وَقِيْلَ: معنى الآية: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرجَ إلى غزوةِ بَني الْمُصْطَلِقِ، وقد جَمَعُوا له ليُقاتِلوا، فالتَقَوا على مائِهم فهزَمَهم اللهُ وسَبَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبناءَهم ونساءَهم ورجعَ، فلما نَزَلَ مَنْزِلاً في الطريقِ اختصمَ رجلٌ من أصحاب عبدِالله بن أبَيٍّ ورجلٌ من المخلصِينَ غَفَّاري يقالُ له جَهْجَاهُ، فلطمَ الغفاريُّ صاحبَ عبدِاللهِ بن أُبَي، فغضبَ عبدُالله وقالَ: مَا صَحِبْنَا مُحَمَّداً إلاَّ لِتُلْطَمَ، ثم نظرَ إلى أصحابهِ قال: لقد أمرتُكم أن تكفُّوا طعامَكم عن هذا الرجلِ ومَن معه حتى يتفرَّقوا فلم يفعلوا، واللهِ لئن رجَعنا إلى المدينةِ ليُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فقال الغفاريُّ: أتَقُولُ مِثْلَ هَذا؟! وَاللهِ لَئِنْ شِئْتُ لأَلْطُمَنَّكَ، قال عبدُاللهِ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ! فقال زيدُ بن أرقم وكان غُلاماً حديثَ السنِّ: يَا عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّ رَسُولِهِ، أتَقُولُ هَذا؟! وَاللهِ لأُبَلِّغَنَّ رسُولَ اللهِ مَا قُلْتَ. ثم انطلقَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأعلمَهُ وعنده عمرُ رضي الله عنه، فقال عمرُ: يَا رَسُولَ اللهِ مُرْ عَبَّادَ بْنَ قَشٍّ فَيَقْتُلَهُ، فَقَالَ: " يَا عُمَرُ إذاً يُحَدِّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أصْحَابَهُ " فبلغَ عبدَالله بن أُبَي ما قالَ زيدُ بن أرقم، فمشَى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومعه أشرافُ الأنصار يصَدِّقونه ويكذِّبون زيداً ويقولون: يُخْشَى أنْ يَكُونَ زيْدٌ قَدْ وَهِمَ، وكان أبنُ أُبَيٍّ يحلفُ باللهِ ما قالَ ذلك، فقالَ أُسَيْدُ: يَا رَسُولَ اللهِ ارْفِقْ بعَبْدِاللهِ، فَوَاللهِ لَقَدْ جَاءَ اللهُ تَعَالَى بكَ وَإنَّ قَوْمَهُ لَيُتَوِّجُونَهُ، فَهُوَ يَرَى أنَّكَ سَلَبْتَهُ مُلْكاً عَظِيماً. فَسَاءَ رَسُولَ اللهِ يَوْمَهُ ذلِكَ حَتَّى أمْسَى، وَلَيْلَتَهُ حَتَّى أصْبَحَ وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِ ابْنِ أُبَيٍّ ﴿ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ ﴾ وَنَزَلَ ﴿ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾.
وقولهُ تعالى: ﴿ وَمَا نَقَمُوۤاْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ﴾؛ معناهُ: وما طَعَنُوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ إلاَّ أنْ أغنَاهم اللهُ من فضلهِ وأغناهم رسولهُ، وذلك أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه سلم قَدِمَ إلى المدينةِ وكان أهلُها من شدَّة العيشِ لا يركبون الخيلَ، ولا يحوزُونَ الغنيمةَ، فلما قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ استغنَوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ ﴾؛ أي إنْ يتُوبوا من النِّفاق يكن خيراً لَهم في الدُّنيا والآخرة.
﴿ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ ﴾ وإنْ يُعرِضوا عن التوبةِ يُعذِبْهمُ اللهُ في الدنيا بالقتلِ، ويقالُ بإظهارِ حالهم في الآخرةِ بالنارِ.
﴿ وَمَا لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾؛ أي وما لَهم في الأرضِ مِن حافظٍ يحفَظُهم، ولا دافعٍ يدفعُ عنهم عذابَ اللهِ، قال ابنُ عبَّاس: (فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ الْجَلاَسُ بْنُ سُوَيدٍ: يَا رَسُولَ اللهِ أسْمَعُ اللهَ قَدْ عَرَضَ عَلَيَّ التَّوْبَةَ، صَدَقَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ فِيْمَا قَالَ لَكَ، وأَنَا اسْتَغْفِرُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأتُوبُ إلَيْهِ. فَقَبلَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ * فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ عَاهَدَ اللهَ وَهُوَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، كَانَ لَهُ مَالٌ بالشَّامِ فَأَبْطَئَ عَلَيْهِ، فَجَهِدَ لِذلِكَ جُهْداً شَدِيداً، فَحَلَفَ باللهِ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ يَعْنِي الْمَالَ الَّذِي لَهُ بالشَّامِ لَنَصَّدَّقَنَّ مِنْهُ، وَلَنَصِلَنَّ الرَّحِمَ وَلَنُؤَدِّيَنَّ مِنْ حَقِّ اللهِ، وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الْمُقِيمِينَ لِفَرَائِضِ اللهِ، فآتَاهُ اللهُ الْمَالَ الَّذِي كَانَ لَهُ بالشَّامِ، فَبَخِلَ بمَا وَعَدَ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ). وعن أبي أمامة الباهلي:" أنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ أُدْعُ اللهَ أنْ يَرْزُقَنِي مَالاً، فَقَلَ لَهُ: " وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ! قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لاَ تُطِيقُهُ " ثُمَّ رَجَعَ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أُدْعُ اللهَ أنْ يَرْزُقَنِي مَالاً: فَقَالَ: " وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ! أمَا تَرْضَى أنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلَ نَبيَّ اللهِ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه لَوْ سَأَلْتَ اللهَ أنْ يُسَيِّلَ عَلَى الْجِبَالِ ذهَباً وَفِضَّةَ لَسَالَتْ، يَا رَسُولَ اللهِ أُدْعُ اللهَ أنْ يَرْزُقَنِي مَالاً: فَوَاللهِ لَئِنْ آتَانِي اللهُ مَالاً لأُوتِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " اللُّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالاً " ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَاتَّخَذَ غَنَماً فنَمَتْ حَتَّى ضَاقَتْ بهَا أزِقَّةُ الْمَدِينَةِ فَتَنَحَّى بهَا، وَكَانَ يَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ مَعَ رسُولِ اللهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهَا، ثُمَّ نَمَتْ حَتَّى تعَذرَتْ بهَا مَرَامِي الْمَدِينَةِ فَتَنَحَّى بهَا، وَكَانَ يَشْهَدُ الْجُمَعَ مَعَ رَسُولِ اللهِ، ثمَّ يَخْرُجُ إلَيْهَا، ثُمَّ نَمَتْ فَتَرَكَ الْجُمَعَ وَالْجَمَاعَاتِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ﴾ اسْتَعْمَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلَيْنِ عَلَى الصَّدَقَاتِ، رَجُلاً مِنَ الأنْصَار وَرَجُلاً مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَكَتَبَ لَهُمَا الصَّدَقَةَ وأَسْنَانَهَا وَأمَرَهُما أنْ يَأْخُذا مِنَ النَّاسِ، فَأَتَيَا ثَعْلَبَةَ، قَالَ لَهُمَا: خُذا مِنَ النَّاسِ فَإذا فَرَغْتُمَا فَمُرَّا عَلَيَّ، فَفَعلاَ فَقَالَ: مَا هَذهِ إلاَّ أخْذُ الْجِزْيَةِ! فَانْطَلَقَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَةَ. فَرَكِبَ عُمَرُ رَاحِلَتَهُ، وَمَضَى إلَى ثَعْلَبَةَ، وَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ! هَلَكْتَ قَدْ أنْزَلَ اللهُ فِيكَ كَذا وَكَذا، فَأَقْبَلَ ثَعْلَبَةُ يَبْكِي وَيَحْثُوا التُّرَابَ عَلَى رَأسِهِ وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ صَدَقَتِي، فَلَمْ يَقْبَلِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَتَهُ حَتّى قُبضَ، ثُمَّ أتَى إلَى أبي بَكْرٍ رضي الله عنه فَلَمْ يَقْبَلْ صَدَقَتَهُ، ثُمَّ أتَى عُمَرَ رضي الله عنه فَلَمْ يَقْبَلْ صَدَقَتَهُ، فَمَاتَ فِي خِلاَفَةِ عُثْمَانَ وَلَمْ يَقْبَلَ مِنْهُ عُثْمَانُ صَدَقَتَهُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾؛ أي أعقَبَهم ببخلُهم نفاقاً في قلوبهم إلى يومِ جَزَاءِ البُخلِ. وَقِِيْلَ: معناهُ: فجازَاهم ببُخلهِم نِفَاقاً في قُلوبهم بما أخلَفُوا اللهَ؛ أي بإخلافِهم بما وَعَدُوا من التصدُّق وكذِبهم فيما قالوا. وقال الحسنُ: (مَعْنَاهُ: أوْرَثَهُمْ اللهُ النِّفَاقَ فِي قُلُوبهِمْ بأَنْ حَرَمَهُمُ التَّوْبَةَ كَمَا حَرَمَ إبْلِيسَ). قالوا: وإنَّما أرادَ اللهُ بهذا بأنَّ اللهَ تعالى دلَّنا على أنه لا يتوبُ، كما دلَّنا حالُ إبليس لأنه لا يتوبٌ؛ لأن اللهَ سَلَبَ عنه قدرةَ التوبةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ﴾ معناهُ على قول الحسنِ وقتادة: (إلَى يَوْمِ يَلْقَونَ اللهَ) أي يلقَون اليومَ الذي لا يملكُ فيه الحكمَ والضرَّ والنفعَ إلا اللهَ، وفي هذه الآيةِ دلالةٌ على أن مَن نَذرَ نذراً فيه قربةٌ يجوز أن يقولَ: إنْ رزقَني اللهُ ألفَ درهمٍ فعليَّ أنْ أتصدَّقَ بخمسمائةٍ لَزِمَهُ الوفاءُ به، وفيها دلالةُ جواز تعليق النذر بالشَّرط نحوَ أن يقولَ: إنْ قَدِمَ فلانٌ فلِلَّهِ علَيَّ صيامٌ وصدقة، وإن ملَكتُ عَبْداً، أو هذا العبدَ فعلَيَّ أنْ أعتِقَهُ، وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإنْ صَلَّى وَصَامَ: مَنْ إذا حَدَّثَ كَذبَ، وَإذا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإذا عَاهَدَ غَدَرَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ ﴾؛ ألم يعلم المنافقون أنَّ اللهَ يعلمُ ما يُسِرُّونَ من الكفرِ، وما يُناجُونَ فيه فيما بينهم، وأنَّ الله عالِمٌ بكلِّ شيء خفِيٍّ على العبادِ، وهذا استفهامٌ بمعنى التوبيخِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس:" وَذلِكَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ ذاتَ يَوْمٍ حِينَ أرَادَ الْخُرُوجَ إلَى غَزْوَةِ َتَبُوكٍ يَحُثُّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَقَالَ: " اجْمَعُوا صَدَقَاتِكُمْ " فَجَاءَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه بأَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " أكْثَرْتَ! هَلْ تَرَكْتَ لأَهْلِكَ شَيْئاً؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ لِي ثَمَانِيةُ آلاَفٍ، فَأَمْسَكْتُ أرْبَعَةً لِنَفْسِي وَعِيَالِي وَهَذِهِ أرْبَعَةُ آلاَفٍ لأُقْرِضَهَا رَبي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم " بَارَكَ اللهُ لكَ فِيمَا أمْسَكْتَ وَفِيمَا أعْطَيْتَ " فَبَارَكَ لَهُ حَتَّى بَلَغَ مَالَهُ حِينَ مَاتَ "، وَطَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ فِي مَرَضِهِ وَصَالَحُوهَا عَنْ رُبُعِ ثَمَنِهَا عَلَى ثَمَانِينَ ألْفاً. وَبَعْدَهُ جَاءَ عُمَرُ رضي الله عنه بنَحْوٍ مِنْ ذلِكَ، وَجَاءَ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَصَدَقَتُهُ، وَجَاء عَاصِمُ ابْنُ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيُّ بسَبْعَينَ وسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَجَاءَ أبُو عَقِيلٍ بصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَيْلَتِي كُلُّهَا أجُرُّ بالْحَرِيرِ حَتَّى أصَبْتَ ثُلُثَ صَاعَيْنِ، أمَّا أحَدُهُمَا فأَمْسَكْتُهُ لِعِيَالِي، وَأمَّا الآخَرُ فَأُقْرِضُهُ رَبي، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَشُدَّهُ فِي الصَّدَقَةِ. فَطَعَنَ فِيهِمْ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُواْ: وَاللهِ مَا جَاءَ هَؤُلاءِ بصَدَقَاتِهِمْ إلاَّ ريَاءً وَسُمْعَةً، وقَالُوا فِي أبي عَقِيلٍ: إنَّهُ جَاءَ لِيُذكِّرَ بنَفْسِهِ وَيُعطَى مِنَ الصَّدَقَةِ أكْثَرَ مِمَّا جَاءَ بهِ، وَإنَّ اللهَ أغْنَى عنْ صَاعِ أبي عَقِيلٍ، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَة. ومعنَاها: الذين يُعِيبُونَ الْمُطَّوِّعِينَ من المؤمنين في الصَّدقاتِ وهم المنافقون عَابُوا عمرَ وعثمانَ وعبدَالرحمن بن عوف رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ﴾ أي ويُعيبون على الذين لا يَجِدون إلاَّ جُهدَهم؛ أي طاقَتَهم من الصَّدقاتِ، عابُوا الْمُكْثِرَ بالرِّياءِ، والْمُقِلَّ بالإِقْلالِ. والْجُهْدُ بالضمِّ والنصب لُغتان بمعنى واحد، ويقالُ: الْجَهْدُ بالنصب المشقَّة، والْجُهْدُ بالضمِّ الطاقةُ، وَقِيْلَ: الْجَهدُ بالعملِ والْجُهد في القوَّةِ، قرأ عطاءُ والأعرج (جَهْدَهُمْ) وهما لُغتان مثل الوُجْدِ والوَجدِ، فالضمُّ لغةُ أهلِ الحجاز، والفتح لغة أهلُ نَجْدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ﴾؛ أي يستهزؤن بهم.
﴿ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ ﴾؛ أي يُجازيهم جزاءَ سخرتِهم؛ ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، أي وجيعٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ﴾؛ وذلك لَمَّا نزلت هذه الآيةُ التي قبلَ هذه أتَى المنافقون إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَغْفِرْ لَنَا، فَكَانَ عليه السلام يَسْتَغْفِرُُ لِقَوْمٍ مِنْهُمْ عَلَى ظَاهِرِ إسْلاَمِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ بنِفَاقِهِمْ، وَكَانَ إذا مَاتَ أحَدٌ مِنْهُمْ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ الدُّعَاءَ وَالاسْتِغْفَارَ لِمَيِّتِهمْ، فَكَانَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ عَلَى أنَّهُمْ مُسْلِمُون، فَأَعْلَمَهُ اللهُ بأنَّهُم مُنَافِقُونَ، وَأَخْبَرَ أنَّ اسْتِغْفَارَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ يَنْفَعُهُمْ، فذلك قولهُ: ﴿ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ وهذه اللفظةُ لفظةُ الأمرِ، ومعناهُ الخبر؛ أي إنْ شِئْتَ استغفرتَ لهم، وإنْ شئتَ لا تستغفِرْ، فإنَّكَ إنِ استغفرتَ لهم سبعين مرَّة لن يغفرَ اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾؛ في بيان العلَّة التي لأجلِها لا ينفعُهم استغفار الرسولِ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾؛ أي لا يوفِّقُهم ولا يرشدهم إلى جنَّتهِ وثوابهِ وكرامته، وأما تخصيصُ (سَبْعِينَ مَرَّةً) بالذكرِ فهو لتأكيدِ نفي المغفرةِ بهذا؛ لأن الشيءَ إذا بُولِغَ في وصفهِ أكِّدَ بالسَّبع والسبعين، وهذه كما يقولُ القائل: لو سألتَني حاجتَكَ سبعين مرَّةً لم أقضِها، لا يريدُ أنه إذا أزادَ على السَّبعين قضَى حاجَتَهُ، ورُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لَوْ عَلِمْتُ أنِّي لَوْ زدْتُ عَلَى السَّبْعِين لَغُفِرَ لَهُمْ لَزِدْتُ عَلَيْهَا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي فرحَ المخلَّفون عن غزوةِ تبوك بقعُودِهم لمخالفةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل بقعودِهم عن الجهاد بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقرأ عمرُو بن ميمون (خَلْفَ رَسُولِ اللهِ) والمخَلَّفُ ما يتركُ الإنسان خَلْفَهُ، والمتخلِّفُ الذي يتأخَّرُ بنفسه، والخلافُ قد يكون بمعنى المخالَفةِ؛ وقد يكون بمعنَى خلَف، كما في قولهِ تعالى:﴿ وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾[الاسراء: ٧٦]، ويقرأ خلافَك على المعنَيين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي كَرِهُوا أن يقاتِلُوا المشرِكين مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بأموالِهم وأنفُسِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ ﴾؛ أي قالَ بعضُهم: لا تخرجُوا فإن الحرَّ شديدٌ والسفرَ بعيدٌ، وكانوا يُدعَون إلى غزوةِ تبوك في وقتِ نُضْجِ الرُّطَب وهو أشدُّ ما يكون من الحرِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً ﴾؛ أي قُلْ لَهم نارُ جهنَّم التي استحقُّوها بتركِ الخروج الى الجهاد أشدُّ حَرّاً من هذا الحرِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾؛ أي لو كانوا يفقَهُون أوامرَ اللهِ ووعدَهُ ووعيدَه.
قْوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ أي فليضحَكُوا قليلاً لأنَّ ذلك لا يَبْقى ولْيَبْكُوا كَثيراً في الآخرةِ في النار، وهذا اللفظُ أمْرٌ، ومعناهُ الخبر. وَقِيْلَ: تقديرهُ: فليضحَكُوا قليلاً فيبكون كثيراً، قال أبو موسى الأشعري: (إنَّ أهْلَ النَّار لَيَبْكُونَ الدُّمُوعَ فِي النَّارِ حَتَّى لَوْ جَرِيَتِ السُّفُنُ فِي دُمُوعِهِمْ لَجَرَتْ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَيَبْكُونَ الدَّمَ بَعْدَ الدُّمُوعِ). قال ابنُ عبَّاس: (إنَّ أهْلَ النِّفَاقِ لَيَبْكُونَ فِي النَّار عُمْرَ الدُّنْيَا، فَلاَ يَرِقُّ لَهُمْ دَمْعٌ وَلاَ يَكْتَحِلُونَ بنَوْمٍ)، قال صلى الله عليه وسلم:" يُرْسِلُ اللهُ الْبُكَاءَ عَلَى أهْلِ النَّار فَيَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ، ثُمَّ يَبْكُونَ الدَّمَ حَـتَّى يُرَى وُجُوهَهُمْ كَهَيْئَةِ الأُخْدُودِ "، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً ".
قْولُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً ﴾؛ معناهُ: إنْ رجَعَك اللهُ من تبوك، إلى طائفةٍ من المنافقين بالمدينة فاستأذنُوكَ للخروجِ معك إلى غزوةٍ أُخرى فقل: لن تَخرجُوا معي أبداً إلى الجهادِ، ولن تقاتِلُوا معي عدُوّاً.
﴿ إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾؛ أي في غزوةِ تبوك.
﴿ فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَالِفِينَ ﴾؛ أي مع النِّساءِ والصبيان، هذا قولُ الحسنِ. والْخَالِفُ الذي يبقَى بعد الشَّاخِصِ، وَقِيْلَ: هو الذي يبقَى لنقصٍ يكون فيه. وعن ابنِ عبَّاس أن معنى الْخَالِفين: (الْمُتَخَلِّفِينَ بغَيْرِ عُذْرٍ)، وَقِيْلَ: إنَّ هذا مأخوذٌ من قولِهم خَلَفَ اللَّبَنُ إذا فَسَدَ، والخالِفُ الفاسدُ، وقيل الخالِفون خُسَّاسُ الناس وأدنياؤهم، ويقال فلان خَالَفَهُ أهلهُ إذا كان دونَهم، وَقِيْلَ: مع الخالِفين أي أهلِ الفساد من قولِهم يَنْبذُ خَالِفٌ أي فاسدٌ، وخلَفَ اللبنُ خُلُوفاً إذا حَمِضَ مِن طُولِ وضعهِ في السقاءِ، وخَلَفَ فمُ الصَّائمِ إذا تغيَّرت رائحتهُ. وقرأ مالكُ بن دينار (مَعَ الْخَلِفِينَ) بغيرِ ألف، وقال الفرَّاء: يقالُ عبدٌ خَالِفٌ وصاحبٌ خَالِفٌ إذا كان مُخَالفاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ﴾؛ أي لا تُصَلِّ على أحدٍ ماتَ من المنافقين أبداً، ولا تَقُمْ على قبرِ أحدٍ منهم لتدفِنَهُ وتدعو له.
﴿ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾؛ وجحدوا بالله ورسوله بقلوبهم، وماتوا على الكفرِ والنفاق، وقال ابنُ عبَّاس:" لَمَّا مَرِضَ عَبْدُاللهِ بْنُ أبي سَلُولٍ بَعَثَ إلَى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَأْتِيَهُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ طَلَبَ مِنْهُ أنْ يُصَلِّيَ عَلَْيْهِ إذا مَاتَ، وَأنْ يَقُومَ عَلَى قَبْرِهِ، وَأنْ يُكَفِّنَهُ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ، فَقَبلَ مِنْهُ النَّبِيُّّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا مَاتَ عَبْدُاللهِ انْطَلَقَ ابْنُهُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَاهُ إلَى جِنَازَةِ أبيهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا اسْمُكَ؟ " قَالَ: الْحَبَّابُ بْنُ عَبْدِاللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أنْتَ عَبْدُاللهِ بْنُ عَبْدِاللهِ، إنَّ الْحَبَّابَ هُوَ الشَّيْطَانُ ". ثُمَّ انْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ، فَلَمَّا قَامَ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ أتُصَلِّي عَلَى عَدُوِّ اللهِ الْقَائِلِ يَوْمَ كَذا وَكَذا؟! فَقَالَ: " دَعْنِي يَا عُمَرُ " فَعَادَ عُمَرُ لِمَقَالَتِهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " دَعْنِي يَا عُمَرُ " فَعَادَ لِمَقَالَتِهِ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: " قَدْ خُيِّرْتُ فِي ذلِكَ، وَلَوْ عَلِمْتُ أنِّي إذا اسْتَغْفَرْتُ لَهُ أكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً غُفِرَ لَهُ لَفَعَلْتُ " وَقَالَ: " تَأَخَّرَ عَنِّي يَا عُمَرُ " قَالَ عُمَرُ: فَعَجِبْتُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ ﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ﴾ "يعني بعدَ ما صلَّيتَ على عبدِاللهِ بن أُبَي. ورُوي" أنَّ عَبْدِاللهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بَعَثَ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ أحَدَ ثَوْبَيْهِ يُكَفَّنُ فِيْهِ، فَبَعَثَ إلَيْهِ بأَحَدِهِمَا، فَقَالَ: مَا أُريدُ إلاَّ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ مِنْ ثِيَابِكَ، فَوَجَّهَ إلَيْهِ بذلِكَ، فَقيلَ لَهُ في ذلِكَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ قَمِيصِي لَنْ يُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً، وَعَسَى أنْ يُسْلِمَ بسَبَب هَذا الْقَمِيصِ خَلْقٌ كَثيرٌ " "فَأْسْلَمَ ألفٌ من الخوارجِ! لَمَّا رأوْهُ يطلبُ الاستشفاعَ بثوب رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قال ابنُ عبَّاس: (اللهُ أعْلَمُ أيُّ صَلاَةٍ كَانَتْ تِلْكَ وَمَا خَادَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنْسَاناً قَطُّ)، وقال مقاتلُ: (إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أرَادَ أنْ لاَ يُصَلِّيَ عَلَى عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ، جَاءَ إلَيْهِ ابْنُهُ فَقَالَ: أنْشُدُكَ باللهِ أنْ لاَ تُشَمِّتْ بيَ الأَعْدَاءَ، وَكَانَ ابْنُهُ مُؤْمِناً حَقّاً فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَانْصَرَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرَادَ أنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَأَخَذَ جِبْرِيلُ بثَوْبهِ، فَقَالَ: ﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾؛ أي ماتُوا على الكفرِ والنفاق، فلمَّا نزلت هذه الآيةُ ما صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعدَها على منافقٍ ولا قامَ على قبرهِ حتى قُبضَ،" وكلَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ما فعل بعبدِاللهِ بن أُبَي، فقال: " وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي وَصَلاَتِي مِنَ اللهِ، واللهِ إنِّي كُنْتُ أرْجُو أنْ يُسْلِمَ بهِ ألْفٌ مِنْ قَوْمِهِ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ ﴾؛ أي لا تعجبْكَ كثرةُ أموالهم وأولادِهم في الدُّنيا، إنما يريدُ الله أن يعذِّبَهم بها، ويخرجَ أرواحَهم بصعوبةٍ.
﴿ وَهُمْ كَٰفِرُونَ ﴾؛ هذا على التقديمِ والتأخير في الآيةِ على ما تقدُّم ذكرهِ، فأما التأويلُ على نَظْمِ الآية، فمعناهُ: إنما يريدُ الله أن يعذِّبَهم بها في الدُّنيا بالتشديدِ عليهم في التكليف بالإنفاقِ والأمرِ بالجهاد. فإنْ قِيْلَ: لِمَ أعادَ قولَهُ ﴿ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَـٰدُهُمْ ﴾؟ قِيْلَ: فيه قولان: أحدُهما بشدَّة التحذيرِ عن الاغترارِ بالأموال والأولاد، والثاني: أنه أرادَ بالأول قَوْماً من المنافقين، وأرادَ بالثاني قوماً آخَرين منهم، كما يقالُ: لا تعجِبْك أموالُ زيدٍ وأولادهُ، ولا تعجبك أموالُ عمرٍو وأولادهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ ﴾؛ أي إذا أُنزلت من القرآن قِطْعَةٌ مشتملةٌ على آياتٍ أحاطَت بها أن آمِنُوا باللهِ أي صدِّقوا وداومُوا على الإيمان وجاهِدُوا الكفارَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم استأذنكَ في القعودِ عن الجهاد ذوُو السَّعةِ والغِنَى منهم.
﴿ وَقَالُواْ ذَرْنَا ﴾؛ دَعْنا وَاذنْ لنا.
﴿ نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ ﴾؛ عن الجهادِ. والطَّوْلُ في الحقيقة هو الْفَضْلُ الذي يتمكَّن به من مُطاوَلةِ الأعداءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ ﴾؛ أي رَضِيَ المنافقون بأنْ يكونوا في تخلُّفِهم عن الجهادِ مع النساءِ المتخلِّفات في الحيِّ بعد غزوةِ أزواجهنَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾؛ يعني الطبعُ في اللغة جعلُ الشيءِ كالطَّابعِ نحو طَبْعِ الدِّينار والدرهم، ويجوز أنْ يكون الطبعُ على القلب علامةً يَقْفِلُ اللهُ بها قلبَ الكافرِ المعاند ليعلمَ من يطَّلعُ عليه من الملائكةِ أنه لا يجتهدُ في طلب الحقِّ، فهُم لا يفقهون أوامرَ اللهِ ونواهيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾؛ لكن الرسولُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم والذين آمَنُوا معه، وهم أهلُ اليقين من الصحابةِ، جاهَدُوا بأموالهم وأنفسِهم على ضدِّ ما فَعَلَ المنافقون. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ ﴾؛ يجوزُ أن يكون معناه: أولئكَ لهم الحسَناتُ المقبولات، فإن الخيرات منافعُ تسكنُ النفس إليها، ويجوز أن يكون معناهُ: الزَّوجاتُ الحسنات في الجنَّة، كما قال اللهُ فيهن﴿ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾[الرحمن: ٧٠] واحدةُ الخيرات خَيْرَةٌ، وهي الفاضلةُ في كلِّ شيء، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾؛ أي الظَّافرون بالْمُرادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾؛ أي أعدَّ اللهُ لهم في الجنَّة بساتين تجرِي من تحتِها وشجرِها ومساكنها الأنهارُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾؛ أي مُقيمين دائمين فيها لا يَموتون ولا يُخرَجون منها.
﴿ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾؛ أي هو النجاةُ الوافرة، فازُوا بالجنَّة ونعيمِها، ونَجَوا من النارِ وجَحيمِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ﴾؛ قرأ ابنُ عبَّاس والضحاك ومجاهد: (الْمُعْذرُونَ) بالتخفيفِ وهم الذين اعتذرُوا؛ أي جاؤا بالعُذْرِ، وأمَرَهم رسولُ الله بالتخلُّف بعُذرِهم وهم من المخلَّفين، وَقِيْلَ: الْمُعْذرُونَ بالتخفيفِ المبالِغُون في العُذرِ، كان صلى الله عليه وسلم يقول:" لَعَنَ اللهُ الْمُعَذِّرُونَ "بالتشديدِ يعني الذين يقبلون في التخلُّف بلا علَّة يُوهِمُونَ أنَّ لهم عذراً، ولا عُذرَ لهم، والتعذيرُ التقصيرُ في الشيءِ مع طلب العُذر. وأما القراءةُ المشهورة (الْمُعَذِّرُونَ) بالتشديد فمعناها ما تقدَّم يعني الْمُقَصِّرِينَ، قال الفرَّاءُ: (أصْلُهُ الْمُعْتَذِرُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذالِ وَثُقِّلَتْ حَرَكَةُ التَّاءِ إلىَ الْعَيْنِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾؛ قرأ العامَّة (كَذبُوا) مخففاً يعني المنافقين قعدَت طائفةٌ منهم من دونِ أنْ يعتذروا، وقرأ أُبَي والحسن: (كَذبُوا) بالتشديد، وقوله تعالى: ﴿ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾؛ يجوز أن تكون الفائدةُ في دخولِ (مِنْ) بيانُ أنَّ منهم مَن يسلَمُ، ومنهم من يموتُ على كُفرهِ ونفاقهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾؛ أي ليس على الْمَرْضَى والشُّيوخ الكبار، ولا على المرضَى الذين لا يقدِرون على الخروج إلى الجهادِ، ولا على الذين لا يكون عندَهم نفقةٌ يُنفِقونَها في الجهادِ وهم الفقراءُ، ليس عليهم مَأْثَمٌ في القعودِ عن ذلك إذا كان قعودُهم على وجهِ النُّصْحِ للهِ ورسوله، وهو إنْ سَعَوا في إصلاحِ ذات البَين وما يرجعُ على الجهادِ، ولا يكون قعودُهم للتثريب على المسلمين وإفسادِ شيءٍ من أمرِهم. والنُّصْحُ: إخراجُ الغِشِّ عن العملِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ﴾؛ أي ما على الْمُطِيعِينَ الموحِّدِين من سبيلٍ في العقاب.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ ﴾؛ لذُنوبهم.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾؛ إذ أرْخَصَ لهم في القعودِ بالعُذرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ﴾؛ أي وليس على الذين إذا ما أتَوكَ لَتحمِلَهم إلى الجهادِ بالنَّفقةِ.
﴿ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ﴾؛ فهؤلاءِ ليس عليهم حرجٌ في القعودِ عن الجهاد، قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِه الآيَةُ فِي سَالِمِ بْنِ عُمَيرِ وَعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ وَعَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَعُبَيْدِاللهِ ابْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَصَخْرِ بْنِ سَلَمَةَ الَّذِي كَانَ وَقَعَ عَلَى امْرَأتِهِ فِي رَمَضَانَ، فَأَمَرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُكَفِّرَ، وَنَفَرٌ مِنْ بَنِي مُزَيْنَةَ مِنْ أهْلِ الحَاجَةَ، أتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُواْ: يَا نَبِيَّ اللهِ قَدْ نُدِبْنَا لِلْخُرُوجِ مَعَكَ، فَاحْمِلْنَا لِنَغْزُوا مَعَكَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: [لاَ أجِدُ مَا أحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ] فَتَوَلَّوا وَهُمْ يَبْكُونَ) فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ ﴾؛ وقال الحسنُ: (نَزَلَتْ فِي أبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ ﴾ معناهُ: إنَّما السبيلُ في العقاب على الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ في القُعودِ عنكَ وهم أغنياءُ.
﴿ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ ﴾؛ أي مع النِّساءِ.
﴿ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ﴾؛ مُجَازَاةً لهم على فِعلِهم.
﴿ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أوامرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قولهُ: ﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾؛ أي يَعْتَذِرُ المنافقون إليكم إذا انصرَفتُم إليهم من هذهِ الحرب في قعُودِهم على الجهاد.
﴿ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ ﴾؛ فإنه بصير بكم وهو اللهُ تعالى.
﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ ﴾؛ لن نُصَدِّقَكُمْ.
﴿ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾؛ قد أخبرنا الله من أسرَاركم أنه ليس لكم عذرٌ.
﴿ وَسَيَرَى ٱللَّهُ ﴾؛ أي يُظهِرُ.
﴿ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ ﴾؛ في الآخرةِ.
﴿ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم ﴾؛ ما غابَ عن العبادِ، وما عَمِلَهُ العبادُ فيَجزِيَكم.
﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؛ من الخيرِ والشرِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ ﴾؛ أي سيحلفُ المنافقون باللهِ في ما يعتذِرُون إليكم إذا رجعتُم إليهم لتُعرِضَوا عنهم.
﴿ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ ﴾؛ فلا تُعاقِبُوهم على جهةِ الْهَوَانِ لَهم.
﴿ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾؛ أي هم النَّتَنُ الذي يجبُ الاجتناب عنه فاجتنِبُوهم.
﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾؛ ومصيرُهم جهنَّمُ.
﴿ جَزَآءً ﴾؛ لهم على فعلِهم ﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ﴾؛ أي يحلِفُون لكم في الاعتذار لتَرضَوا عنهم أنتُم من دونِ أنْ يطلبُوا رضَى اللهِ.
﴿ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ﴾ فإن أنتَ رضيتَ يا مُحَمَّدُ والمؤمنون بحلفِهم الكاذب.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾؛ أي عن الخارجِين عن طاعةِ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً ﴾؛ أرادَ بالأعراب أسَداً وغَطَفَانَ، بيَّن اللهُ أنَّهم في كفرِهم ونفاقِهم أشدُّ من مُنافِقي أهلِ المدينة. وَقِيْلَ: معناهُ: أهلُ البَدْوِ أشدُّ كُفراً ونفاقاً من أهلِ الحضَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾؛ أي أحرَى وأولَى ألاّ يعلَمُوا حدودَ ما أنزلَ اللهُ على رسولهِ؛ لأنَّهم أبعدُ من سماعِ التَّنْزِيلِ وإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قِيْلَ: إن مَن بَعُدَ من الأمصار ونَأَى من حضرةِ العُلماءِ كان أجهلَ بالأحكامِ والسُّنن ممن جالسَهم ويسمعُ منهم، ولهذا لا إمامةَ لأعرابيٍّ في الصلاةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ ﴾ معناه: ومِنْ الأعراب من يتَّخذُ ما ينفقُ في الجهاد يحسبهُ غَرماً، ولا يحتسبُ فيه الأجرَ ولا يرجو الثوابَ به، إما ينفقُ خَوْفاً أو رياءً، وينتظرُ بكم الموتَ والهلاك، ودوائرَ الزَّمانِ وصُرُوفَهُ، يعني أنَّهم ينتظرون أنْ ينقلبَ الزمانُ عليكم بمَوتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وظهورِ المشركين، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ ﴾؛ أي عاقبةُ السَّوْءِ والهلاكِ، وإنما ينتظرُون بكم ما نَزَلَ بهم، والسَّوءُ بفتح السِّين المصدرُ، وبالضَّمِّ الاسمُ، وقولهُ تعالىَ: ﴿ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾؛ ظاهرُ المراد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾؛ معناهُ: من الأعراب من يصدِّقُ بالله واليوم الآخر في السرِّ والعلانية، قِيْلَ: إنَّ المرادَ من هذه الآية أسْلَمَ وغَفَّار. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ أي يتخذُ نفقتَهُ في الجهادِ تقرُّباً إلى اللهِ تعالى في طلب المنْزلةِ عنده والثواب، وقوله تعالى: ﴿ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ ﴾ أي يطلبُ بذلك دعاءَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بالمغفرةِ وصلاحِ الدُّنيا والآخرة، كما يطلبُ المنْزلةَ عندَ اللهِ تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ ﴾؛ هذه كلمةُ تنبيهٍ؛ أي سيقرِّبُهم الله بهذا الإنفاقِ إذا فعلوهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾؛ أي في حَسَنَتِهِ وثوابهِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾؛ لذُنوب العبادِ.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾؛ لِمَن تابَ وأطاعَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾؛ أرادَ بالسَّابقِينَ الذين سَبَقوا إلى الإيمان، وهم الذين صَلَّوا إلى القِبلَتَين وشَهِدُوا بَدْراً، وقال الشعبيُّ: (هُمْ الَّذِينَ بَايَعُوا بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ بالْحُدَيْبيَةِ)، وَقِيْلَ: همُ الذين أنفَقُوا قبلَ الهجرةِ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ ﴾[الحديد: ١٠].
وإنَّما مَدَحَ السابقين لأن السابقَ إمامٌ للتالي، وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱلأَنْصَارِ ﴾ عطفٌ على المهاجرين، وقرأ بعضُهم (وَالأنْصَارُ) بالرفعِ عطفاً على السَّابقين، وعن عمر رضي الله عنه: (وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) بغيرِ الواو، وسمِعَ رجُلاً قرأ (وَالَّذِينَ) بالواوِ فقالَ: مَنْ أقْرَأكَ هَذِهِ الآيَةَ؟ قَالَ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: لاَ تُفَارقْنِي حَتَّى أذهَبَ بكَ إلَيْهِ، فَلَمَّا أتَاهُ قَالَ لَهُ: يَا أُبَيُّ أقْرَأتَهُ هَذِهِ الآيَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ عُمَرُ رضي لله عنه: كُنْتُ أظُنُّ أنَّا ارْتَفَعْنَا رفْعَةً لاَ يَبْلُغُهَا أحَدٌ بَعْدَهَا، فَقَالَ أُبَيُّ: تَصْدِيقُ هَذِهِ الآيَةِ أوَّلُ سُورَةِ الْجُمُعَةِ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ﴾[الآية: ٣] وَأوْسَطُ سُورَةِ الْحَشْرِ﴿ وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ ﴾[الآية: ١٠].
وقوله تعالى: ﴿ بِإحْسَانٍ ﴾ والإحسانُ هو فعلُ الحسَنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾؛ أي رَضِيَ اللهُ عنهم بإحسانِهم، ورَضُوا عنه بالثَّواب والكرامةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾؛ في هذا الموضعِ بغير (مِنْ) إلا ابنَ كثير فانه يقرأ (مِنْ تَحْتِهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ ﴾؛ أي ومِن حولِ مَدينَتِكم من الأعراب مُنافقون، قِيْلَ: إنَّهم مُزَينَةُ وجُهَيْنَةُ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ ﴾؛ أي ومِن أهلِ مَدينتكم مُنافقون. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ ﴾ أي أقاموا وثَبَتُوا على النفاقِ.
﴿ لاَ تَعْلَمُهُمْ ﴾؛ يا مُحَمَّدُ بأعيانِهم.
﴿ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ﴾؛ ونعلمُ نِفَاقَهم.
﴿ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ﴾؛ أرادَ العذابَ الأول الفَضِيحَةَ والإخراجَ من المسجدِ، والعذابَ الثاني عذابَ القبرِ. رُوي" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ خَطِيباً يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: " يَا فُلاَنُ أُخْرُجْ فَإنَّكَ مُنَافِقٌ، يَا فُلاَنُ أُخْرُجْ فَإنَّكَ مُنَافِقٌ " فَأخْرَجَهُمْ بأسْمَائِهِمْ. وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه لَمْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ لِحَاجَةٍ لَهُ، فَلَقِيَهُمْ وَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاخَْتَبَأَ عَنْهُمْ اسْتِحْيَاءً؛ لأنَّهُ لَمْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ، وَظَنَّ النَّاسُ قَدِ انْصَرَفُواْ، وَاخْتَبَؤُا هُمْ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَظَنُّوا أنْ قَدْ عَلِمَ بأَمْرِهِمْ. فَدَخَلَ عُمَرُ الْمَسْجِدَ وإذَا هُوَ بالنَّاسِ لَمْ يُصَلُّوا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا عُمَرُ قَدْ فَضَحَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ ". وقال الحسنُ: (أرَادَ بالْعَذاب الأَوَّلِ السَّبْيَ وَالْقَتْلَ، وَبالثَّانِي عَذابَ الْقَبْرِ)، وقولهُ تعالى: ﴿ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾؛ أرادَ به عذابَ جهنَّم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ﴾؛ أي في المدينة قَومٌ آخَرون أقَرُّوا بذنوبهم، خَلطوا عَملاً صالحاً بعملٍ سيِّء؛ أي تخلَّفوا عن الغزو ثم تابوا، ويقال: خرَجُوا إلى الجهادِ مرَّةً وتخلَّفوا مرة، فجمَعُوا بين العملِ الصالح والعمل السيِّء، كما يقالُ: خَلَطَ الدنانيرَ والدراهمَ؛ أي جمعَها، وخلطَ الماء واللَّبنَ؛ أي أحدَهما بالآخرِ. وقولهُ تعالى: ﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾؛ أي يتجاوزَ عنهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾؛ لِمَا سلفَ من ذُنوبهم ﴿ رَّحِيمٌ ﴾؛ بهم إذ قََبلَ توبتَهم. وإنما ذكرَ لفظ (عَسَى)؛ ليكون الإنسانُ بين الطمعِ والإشفاق، فيكون أبعدَ من الاتِّكالِ والإهمالِ. قال ابنُ عبَّاس:" نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي لُبَابَةَ بْنِ الْمُنْذِر وأوْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَوَدِيعَةَ ابْنِ حُذامٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانُوا عَشْرَةَ أنْفُسٍ، تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَا أنْزَلَ الله عِنِ الْمُتَخَلّفِينَ نَدِمُوا عَلَى صَنِيعِهِمْ، فَرَبَطَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أنْفُسَهُمْ عَلَى سَوَاري الْمَسْجِدِ، وَأقْسَمُواْ أنْ لاَ يَحُلُّوا أنْفُسَهُمْ حَتَّى يَكُونَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم الَّذي يَحُلُّهُمْ، وَكَانُوا لاَ يَخْرُجُونَ إلاَّ لِحَاجَةٍ لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا. وَكَانُواْ عَلَى ذلِكَ حَتَّى قَدِمَ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَأُخْبرَ بأَمْرِهِم، فَقَالَ: صلى الله عليه وسلم: " وَأنَا لاَ أحُلُّهُمْ حَتَّى أؤْمَرَ بهِمْ " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَعَرَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ (عَسَى) مِنَ اللهِ وَاجِبةٌ، وَأمَرَ بحَلِّهِمْ وَانْطَلَقُواْ إلَيْهِ، وَقَالُواْ: هَذِهِ أمْوَالُنَا الَّتِي خَلَّفَتْنَا عَنْكَ، فَخُذْهَا فَتَصَدَّقْ بهَا عَنَّا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَا أُمِرْتُ فِيْهَا بشَيْءٍ "فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾؛ ظاهرُ الآية يقتضي رجوعَ الكنايةِ في قولهِ: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ أي المذكُورين، وقيلَ: وهمُ الذين اعترَفُوا بذنوبهم، إلاَّ أنَّ كُلَّ حُكمٍ حَكَمَ اللهُ ورسولهُ في شخصٍ مِن عبادهِ، فذلك الحكمُ لازمٌ في سائرِ الأشخاصِ، إلاَّ ما قامَ دليلٌ التخصيصِ به. وَقِيْلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ ابتداءٌ ذُكِرَ لجميعِ المسلمين لدلالةِ الحال على ذلك وإنْ لم يتقدَّم ذكرُ المسلمين كقوله تعَالى:﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ ﴾[القدر: ١] يعني القُرْآنَ. ومعنى الآية: تُطهِّرُهم عن الذنوب وتُزَكِّيهم بها؛ أي تُصلِحُ أعمالَهم. وَقِيْلَ: معناهُ: تُطهِّرُهم أنتَ بها من دَنَسِ الذُّنوب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾؛ أي استغفِرْ لهم وَادْعُ لَهم.
﴿ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ ﴾؛ أي إنَّ دعاءَكَ واستغفارَكَ طمأنينةٌ.
﴿ لَّهُمْ ﴾؛ في أنَّ الله يقبَّلُ توبتَهم.
﴿ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ ﴾؛ بمقالتِهم.
﴿ عَلِيمٌ ﴾؛ بنِيَّاتِهِمْ وثوابهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ ﴾؛ استفهامٌ بمعنى التَّنبيهِ، وقبولُ التوبةِ إيجابُ الثواب عليها، وقولهُ تعالى ﴿ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ ﴾ أرادَ به أخذُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والأئِمَّةِ بعدَهُ؛ لأن أخذهم لا يكون إلاَّ بأمرِ اللهِ، وكأنَّ اللهَ هو الآخذُ.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ﴾؛ أي المتجاوزُ عن مَن تابَ.
﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾؛ عن مَن ماتَ على التوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾؛ أي اعملُوا عملَ مَن يعلمُ أنَّ اللهَ يرى عملَهُ ويتجاوزُ به، ظاهرُ المعنى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ معناهُ: مِنْ أهلِ المدينة قومٌ آخرون مُرْجُونَ لأمرِ الله إمَّا يُعذِّبُهم بتخلُّفِهم عن الجهادِ، وإمَّا يتجاوزُ عنهم بتوبَتِهم عن الذنوب.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾؛ بهم ﴿ حَكِيمٌ ﴾ يحكمُ في أمرِهم ما يشاءُ. و(إمَّا) في الكلامِ بوقوع أحدِ الشَّيئين، واللهُ تعالى عالِمٌ بما يصيرُ إليه أمرُهم، إلاّ أنَّ هؤلاء العبادَ خُوطِبُوا بما يتفَاهَمُون فيما بينهم ليكون أمرُهم عندَكم على هذا، أي على الخوفِ. قال ابنُ عبَّاس:" نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الثَّلاَثِة الَّذِينَ خُلِّفُوا وَهُمْ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعُمَرِّيُ، وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، وَهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ تَخَلَّفُواْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: أنَا أفْرَهُ أهْلِ الْمَدِينَةِ جَمَلاً فَمَتَى مَا شِئْتُ لَحِقْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأقَامَ حَتَّى مَضَتْ عَلَيْهِمْ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ ثُمَّ آيَسَ أنْ يَلْحَقَهُمْ وَنَدِمَ عَلَى صَنِيعِهِ، وَأقَامَ صَاحِبَاهُ مَعَهُ، وَنَدِمَا لَكِنْ لَمْ يَفْعَلاَ مَا فَعَلَهُ أبُو لُبَابَةَ وَأوْسُ وَوَدِيعَةُ. فَفَقَدَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، وَنَهَى النَّاسَ عَنْ أنْ يُجَالِسُوهُمْ أوْ يُوَاكِلُوهُمْ أوْ يُشَارِبُوهُمْ، وَأرْسَلَ إلَيْهِمْ أنِ اعْتَزِلُوا نِسَاءَكُمْ، وَأرْسَلَ إلَى أهْلِيهِنَّ، فَجَاءَتِ امْرَأةُ هِلاَلٍ فَقَالَتْ: إنَّ هِلاَلاً شَيْخٌ كَبيرٌ وَإنْ لَمْ آتِهِ بطَعَامٍ هَلَكَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " وَإيَّاكِ أنْ يَقْرَبَكِ " قَالَ كَعْبٌ: فَمَرَرْتُ عَلَى أبي قَتَادَةَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ، وَكَلَّمْتُهُ فَأَبَى أنْ يُكَلِّمَنِي، فَاسْتَعْبَرْتُ وَقُلْتُ: أمَا وَاللهِ إنَّكَ لَتَعْلَمُ أنِّي أحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. فَمَضَى عَلَى هَذا خَمْسُونَ يَوْماً، فَلَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بَما رَحُبَتْ أنْزَلَ اللهُ ﴿ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ﴾ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس:" وَذلِكَ أنَّ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَالُواْ فِيْمَا بَيْنَهُمْ: تَعَالَوا نَبْنِي مَسْجِداً يَكُونُ مُتَحَدَّثَنَا وَمَجْمَعَ رَأينَا بأَنْ تَأْتُوا إلَى رَسُولِ اللهِ وَتَسْتَأْذِنُوهُ أنْ نَبْنِي مَسْجِداً لِذوي الْعِلَِّةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ. فَأَذِنَ لَهُمْ فَبَنَوا مَسْجِداً، وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ فِي ذلِكَ الْمَسْجِدِ مَجْمَعُ بْنُ الْحَارِثَةِ، وَكَانَ قَارئاً لِلْقُرْآنِ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها: والذين اتَّخَذُوا مسجداً للضِّرارِ والكُفرِ والتفريقِ بين المؤمنين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ﴾ أي وانتِصاراً لِمَن حاربَ اللهَ ورسولَهُ، وهو أبو عامرِ الراهب كان حارَبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبلَ بناءِ هذا المسجدِ، ومضَى إلى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ يستعينُ به على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ، فسماهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسِقاً، قال: " لاَ تُسَمُّوهُ الرَّاهِبَ "، وَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَاتَ كَافِراً بقِنِسْرِينَ مَوْضِعٌ بالشَّامِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾؛ معناهُ: ليحلفَ المنافقون أنَّا لم نُرِدْ ببناءِ هذا المسجدِ إلا الخيرَ، وهم كَذبَةٌ في حلفِهم لقولهِ تعالى: ﴿ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾؛ ما بَنَوْهُ للخيرِ. روي" أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِراً أقْبَلَ إلَيْهِ أبُو عَامِرٍ هَذا الْمَذْكُورُ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذا الَّذِي جِئْتَ بهِ؟ قَالَ: " الْحَنِيفِيَّةُ دِينُ إبْرَاهيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ " قَالَ أبُو عَامِرٍ: وَأنَا عَلَيْهَا، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " فَإنَّكَ لَسْتَ عَلَيْهَا " قَالَ: بَلَى؛ وَلَكِنَّكَ أدْخَلْتَ فِي الْحَنِيفِيَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَا فَعَلْتُ ذلِكَ، وَلَكِنْ جِئْتُ بهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً " فَقَالَ أبُو عَامِرٍ: أمَاتَ اللهُ الْكَاذِبَ مِنَّا طَرِيداً وَحِيداً غَرِيباً، فقال صلى الله عليه وسلم: " آمِينَ " فَسَمَّاهُ أبُو عَامرِ الفَاسِقِ. فَلَمْ يَزَلْ أبُو عَامِرٍ كَذِلَك إلَى أنْ هُزِمَتْ هَوَازِنُ، فَخَرَجَ هَارِباً إلَى الشَّامِ فَأَرْسَلَ إلَى الْمُنَافِقِينَ أنِ اسْتَعِدُّوا بمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَسِلاَحٍ وَابْنُوا لِي مَسْجِداً، فَإنِّي ذاهِبٌ إلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، وَآتٍ بجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ وَأخْرِجُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابَهُ. فَبَنَوا مَسْجِداً إلَى جَنْبِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اثْنَى عَشَرَ رَجُلاً. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْهُ أتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَجَهِّزٌ إلَى تَبُوكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِداً لِذوِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، وَإنَّا نُحِبُّ أنْ تَأْتِيَهُ فَتُصَلِّيَ لَنَا فِيْهِ وَتَدْعُوَ لَنَا بالْبَرَكَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا لأتَيْنَاكُمْ إنْ شَاءَ اللهُ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيْهِ ". فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَبُوكٍ أتَوْهُ فَسَأَلُوهُ إتْيَانَ مَسْجِدِهِمْ، فَدَعَا بقَمِيصِهِ لِيَلْبَسَهُ وَيَأتِيَهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَأعْلَمَهُ اللهُ تَعَالَى بخَبَرِهِمْ وَمَا هَمُّوا بهِ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَالِكَ بْنَ الدَّهْشَمِ وَمَعَنَ بْنَ عَدِيٍّ وَعَامِرَ بْنَ السَّكَنِ وَالْوَحْشِيَّ قَاتِلَ حَمْزَةَ، وَقَالَ لَهُمْ: " انْطَلِقُوا إلَى هَذا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أهْلُهُ فاهْدُمُوهُ وَحَرِّقُوهُ " فَخَرَجُواْ سِرَاعاً، فَأَخَذُوا سَعْفاً مِنَ النَّخْلِ، وَأشْعَلُواْ فِيْهِ النَّار وَهَدَمُوهُ، وَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُتَّخَذ كِنَاسَةً يُلْقَى فِيْهِ الْقِمَامَةُ وَالْجِيَفُ، وَمَاتَ أبُو عَامِرٍ بالشَّامِ وَحِيداً غَرِيباً. "وقال عكرمةُ: (سَأَلَ عُمَرُ رضي الله عنه رَجُلاً مِنْهمْ: مَاذا أعَنْتَ فِي هَذا الْمَسْجِدِ، قَالَ: أعَنْتُ فِيْهِ بسَارِيَةٍ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أسْرِ بهَا فِي عُنُقِكَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ). ورُوي: (أنَّ بَنِي عمرِو بن عوفٍ بَنَوا مَسجِداً وَسَألُوا عُمَرَ رضي الله عنه أنْ يصَلِّي بهِمُ الْجَمَاعَةَ مُجْمَعُ بْنُ الحارثة فَقَالَ: لاَ؛ وَلاَ نِعْمَةَ عَيْنٍ، ألَيْسَ بإمَامِ مَسْجِدِ الضِّرَار، فَقَالَ لَهُ مُجْمَعُ: يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ، فَوَاللهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ فِيْهِ وَإنِّي لاَ أعْلَمُ ما أضْمَرُواْ عَلَيْهِ، وَلَوْ عَلِمْتُ مَا صَلَّيْتُ مَعَهُمْ، وَكُنْتُ غُلاَماً وَهُمْ شُيُوخٌ لاَ يَقْرَءُونَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئاً، فَصَلَّيْتُ بهِمْ وَلاَ أعْلَمُ مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَعَذرَهُ عُمَرُ رضي الله عنه وَصَدَّقَهُ، وَأمَرَهُ بالصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ). قَرأ أهلُ المدينة والشامِ الذين اتَّخذوا بغير (واو) وكذلك هو في مصَاحفِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ﴾؛ أي لا تُصَلِّ في مسجدِ هؤلاء المنافقين أبداً.
﴿ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ﴾؛ يعني مسجدَ قُباء أُسِّسَ لوجهِ الله منذ أوَّلِ يوم بُنِيَ، ويقال: هو مسجدُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحقُّ أن تصلِّي فيه، ولا يمتنعُ أن يكون المرادُ المسجدِ الذي أُسِّسَ على التَّقوَى كِلاَ المسجدَين، مسجدُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومسجد قُبَاءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾؛ في مسجدِ قُبَاءٍ رجالٌ يُحِبُّونَ أن يتطهَّرُوا. قال الحسنُ: (مَعْنَاهُ يَتَطَهَّرُونَ مِنَ الذُّنُوب بالتَّوْبَةِ). والمشهورُ أن المرادَ بالتطهيرِ في هذه الآيةِ الاستنجاءُ بالماء كما رُوي:" أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ببَاب قِبَاءٍ وَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ إنَّ اللهَ عَزَّوَجَلَّ قَدْ أحسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْكُمْ فِي طُهُورِكُمْ، فَبمَ تَطَّهَّرُونَ؟ " قَالُوا: إنَّا نُتْبعُ الأَحْجَارَ بالْمَاءِ؛ أي نستجمرُ بالحجرِ ثم نستنجي بالماءِ، فقرأ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الآيةَ، وسَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم الاستنجاءَ بالماءِ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ ﴾؛ أي أثنَى على المطَّهَّرين من الذُّنوب، والمتطهِّرين بالماءِ من الأدناسِ.
قَوْلُهُ تعَالَى: ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ﴾؛ الألِفُ في أوَّلِ الآية ألِفُ استفهامٍ دخلَتْ في الكلامِ للإِنكار، وقولهُ تعالى ﴿ جُرُفٍ هَارٍ ﴾ أي على طَرَفِ الْهُوَّةِ، وقوله ﴿ هَارٍ ﴾ ساقِطٍ، وأصلهُ هَايرٍ، إلا أنه حذفَ الياء. والْجُرُفِ: ما تَمُرُّ به السيولُ من الأوديةِ فتسيرُ جانبَهُ وتنثرهُ، ولو وقفَ الإنسانُ عليه لسقطَ وانْهَارَ، وشَفَا الشَّيءِ حَرْفُهُ وهو مقصورٌ يكتبُ بالألفِ وتَثْنِيَتُهُ شِفْوَان. قرأ نافعُ وأهل الشام بضمِّ الهمزةِ والنون على غيرِ تسمية الفاعلِ، وقرأ الباقون بفتحِهما. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ ﴾، قرأ ابنُ عمر (تَقْوًى) منوَّن، وقوله تعالى ﴿ جُرُفٍ ﴾ قرأ ابنُ عامر وحمزةُ وأبو بكر وخلَف بالتخفيفِ، وقرأ الباقون بالتَّثقيلِ وهما لُغتان، وهي البَرُّ التي لم تُمطَرْ، وقال أبو عُبيد: (بَنَى الْهُوَّةَ وَالرَّمْلَ) والشيءُ الرَّخْوُ وما يجرفهُ السيَّلُ في الأودِيَةِ، والهايرُ الساقطُ الذي يتداعَى بعضه على إثْرِ بعضٍ كما يتهاوَى الرملُ، والشيء الرَّخْوُ، وفي مُصحف أُبَيّ (فَانْهَارَتْ بهِ قَوَاعِدُهُ فِي نَار جَهَنَّمَ). قال قتادةُ: (ذكِرَ لَنَا أنَّهُ حُفِرَتْ بُقْعَةٌ مِنْهَا فَرُؤيَ الدُّخَّانُ يَخْرُجُ مِنْهَا)، وقال جابرُ بن عبدِالله: (رَأيْتُ الدُّخَّانَ يَخْرُجُ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَار). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾؛ أي انْهَارَ الْجُرُفُ بالبناءِ؛ أي هارَ به؛ أي كما أنَّ مَن بنَى على جانب نَهْرٍ صفة ما ذكرنا انْهَارَ بناؤهُ في النَّهْرِ، فكذلك بناءُ أهلِ النِّفاق مسجد الشِّقاق كبناءٍ على جُرُفِ جهنَّم يتهوَّرُ بأهلهِ فيها. وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ أي لا يوفِّقُهم ولا يَهدِيهم الى جنَّتهِ وثوابهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ﴾؛ أي لا يزالُ بنيانُهم مسجدَ الضرار حيرةً متردِّدة في قلوبهم، ويقال شَكّاً واضطِرَاباً، يعني أن شَكَّهم لا يزالُ وإن زيلَ ذلك البناءُ، بل يبقى ذلك في قلوبهم حتى خابَ أمَلُهم، اشتدَّ أسَفُهم بأنْ بعثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عامر بن قيس وَوَحشياً مولَى مُقَطَّمِ بن عدِيٍّ فخرَّباهُ وهدَماهُ، ثم أمرَ الأنصارَ بإلقاءِ الجِيَفِ والعَذْرَاتِ الكِنَاسَاتِ فيه، إذ لم يُبْنَ لله تعالى، فبَقِيَ ذلك حسرةً وندامة في قلوب المنافقين حتى تقطَّع قلوبُهم؛ أي حتى يموتَ على ذلك. ويقالُ: معناهُ: لا يزالون شاكِّين حين يموتُوا، فإذا ماتُوا صاروا إلى اليقينِ حيث لا ينفعُهم اليقين قال السديُّ: (مَعْنَاهُ: لاَ يَزَالُ هَدْمُ بُنْيَانِهِمْ الَّذِي بَنَوْهُ ريبَةً فِي قُلُوبهِمْ؛ أيْ حَزَازَةً وَغَيْظاً فِي قُلُوبهِمْ؛ أيْ أنْ تَصَدَّعَ قُلُوبُهُمْ فَيَمُوتُوا). وقرأ الحسنُ ويعقوب أي (إنْ) مخفَّفاً على الغايةِ، يدلُّ عليه تفسيرِ الضحَّاك وقتادة، ولا يزالون في شَكٍّ منه إلى أن يَموتُوا فيستيقِنوا ويتبيَّنوا، قرأ شيبةُ وابن عامر وحمزة وحفص (تَقَطَّعَ) بفتح التاءِ وتشديد الطاءِ المعنى تتقطعُ، ثم حُذفت إحدَى التائَين، وقرأ ابنُ كثير ومجاهد ونافعٌ وعاصم وأبو عمر والكسائي (تُقَطَّعَ) بضم التاء وتشديد الطاء على غيرِ تسمية الفاعل، وقرأ يعقوب (تُقْطَعَ) بضم التاء خفيفة الطاء من القطعِ. وروي عن ابنِ كثير بفتحِ التاء خفيفة، (قُلُوبَهُمْ) نصباً أي بفعلِ ذلك أنتَ بهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾؛ أي عليمٌ بأعمالِكم، حكيمٌ في ما حَكَمَ من هدمِ مسجدهم وأظهرَ نفاقَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ ﴾؛ معناهُ: إنَّ اللهَ طلبَ المؤمنين أن يعدُّوا أنفسَهم وأموالَهم ويخرجوا إلى الجهادِ في سبيل الله ليُثيبهم الجنةَ على ذلك. فإن قِيْلَ: كيف يصحُّ شراءُ الجنَّة على ذلكَ وهي مملوكةٌ لله تعالى؟ وكيف يشترِي أحدٌ ملكه يملكهُ؟ قِيْلَ: إنما ذكر هذا على وجهِ التلطُّف للمؤمنين في تأكيدِ الجزاء كما قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾[البقرة: ٢٤٥] فذكرَ الصدقةَ بلفظِ القَرْضِ للتحريضِِ على ذلك والترغيب فيه، إذِ القرضُ يوجب ردَّ المفلسِ لا محالةَ، وكأن اللهُ عَامَلَ عبادَهُ معاملةَ مَنْ هو غيرُ مالكٍ، وعن جعفر الصَّادق أنه كان يقولُ: (يَا ابْنَ آدَمَ اعْرِفْ قَدْرَ نَفْسِكَ، فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَرَّفَكَ قَدْرَكَ وَلَمْ يَرْضَ أنْ يَكُونَ لَكَ ثَمَنٌ غَيْرُ الْجَنَّةِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ﴾؛ فيه بيانُ عرضِ الذي لأجلهِ اشترَاهُم، وهو أن يُقاتِلوا العدوَّ في طاعةِ الله، ومعناهُ: فيَقْتُلُونَ المشركين، ويقتلهم المشركون، وعلى هذا أكثرُ القرَّاء، حمزةُ والكسائي (فَيُقْتُلُونَ) بالرفعِ، (وَيَقْتُلُونَ) بالنصب، واختارَ الحسنُ هذه القراءةَ لأنه إذا قُرئ هكذا كان تسليمُ النفسِ إلى الشِّراء أقربُ، وإنما يستحقُّ البائعُ تسليمَ الثمن إليه تسليمَ المبيع. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ﴾؛ نُصِبَ على المصدرِ؛ أي أوجبَ اللهُ لهم الجنَّةَ ووعدَهم وعدَ حقٍّ منه لَهم، وإنَّما قال (حَقّاً) للفصلِ بين الوعدِ الذي حجرهُ على وجهِ الجزاء لهم على العملِ، وبين الوعدِ ينجزهُ للتصديقِ على وجه التفضِيل لا الجزاءِ لهم على العملِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ ﴾؛ أي أوجبَ اللهُ الجنةَ للمؤمنين في جميعِ كتُبهِ التي أنزَلَها اللهُ على أنبيائهِ عليهمُ السلام، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي ليس أحدٌ أوْفَى من اللهِ في وعدهِ وشَرطِه، وعَدَكم وعداً ولا يخلفُ لوعدهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ﴾؛ أي ببيعكُم أنفسَكم من اللهِ، فإنه لا يشرِي أرفعُ من اللهِ سبحانَهُ، ولا ثمنَ أعلى من الجنَّة. وَقِيْلَ: إنَّ هذا أُنزل في الذين بايَعُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيعةَ الرضوانِ تحتَ الشجرةِ، ثم صارَ عامّاً في كلِّ مَنْ يعملُ مثلَ عَملِهم. قال محمَّد بن كعب:" لَمَّا بَايَعَتِ الأنْصَارُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ بمَكَّةَ وَهُمْ سَبْعُونَ نَقِيباً، قَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرِطْ لِرَبكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتُ، فَقَالَ: " اشْتَرِطُ لِرَبي أنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بهِ شَيْئاً، وَأشْتَرِطُ لِنَفْسِي أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ عَنْهُ أنْفُسَكُمْ وَأمَوالَكُمْ " قَالُوا: وَإذا فَعَلْنَا ذلِكَ فَمَا لَنَا؟ قَالَ: " الْجَنَّةُ "، قَالَ: رَبحَ الْبَيْعُ لاَ نُقِيلُ وَلاَ نَسْتَقِيلُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ ﴾ ثُمَّ هَدَاهُمْ اللهُ بقَوْلِهِ ﴿ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ﴾ ". قال الحسنُ: (اسْمَعُواْ إلَى بَيْعَةٍ رابحَةٍ بَايَعَ اللهُ بهَا كُلَّ مُؤْمِنٍ، وَاللهِ مَا عَلَى الأَرْضِ مُؤْمِنٌ إلاَّ وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْبَيْعَةِ). قال:" وَمَرَّ أعْرَابيٌّ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالَ: كَلاَمُ مَنْ هَذا؟ فَقَالَ: " كَلاَمُ اللهِ تَعَالَى " وقَالَ: بَيْعٌ وَاثِقٌ مُرْبحٌ لاَ نُقِيلُهُ وَلاَ نَسْتَقِيلهُ، فَخَرَجَ إلَى الْعَدُوِّ فَاسْتُشْهِدَ "وأنشدَ الأصمعيُّ لجعفرَ رضي الله عنه: أثامِنُ بالنَّفْسِ النَّفِيسَةِ رَبَّهَا   وَلَيْسَ لَهَا فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ ثَمَنْبهَا تُشْتَرَى الْجَنَّاتُ إنْ أنَا بعْتُهَا   بشَيْءٍ سِوَاهَا إنَّ ذلِكُمْ غُبْنْلَئِنْ ذهَبَتْ نَفْسِي بدُنْيَا أصَبْتُهَا   لََقَدْ ذهَبَتِ نَفْسِي وَقَدْ ذهَبَ الثَّمَنْوكان جعفرُ الصادق يقول: (أيَا مَنْ لَيسَتْ لَهُمْ عَنْهُ إنَّهُ لَيْسَ لأَبْدَانِكُمْ بثَمَنٍ إلاَّ الْجَنَّةُ، فَلاَ تَبيعُوهَا إلاَّ بهَا). وأنشدَ أبو علي الكوفي: مَنْ يَشْتَرِي قُبَّةً فِي عَدْنٍ عَالِيَةً   فِي ظِلِّ طُوبَى رَفِيعَاتٌ مَبَانِيهَادَلاَّلُهَا الْمُصْطَفَى وَاللهُ بَائِعُهَا   مِمَّنْ أرَادَ وَجِبْرِيلُ مُنَادِيهَاقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾؛ أي النجاةُ العظيمة والثوابُ الوافر؛ لأنَّها نَيْلُ الجنَّة الباقيةِ بالنفسِ الفانية.
وقولهُ تعالى: ﴿ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ﴾؛ في الآيةِ قَولان: أحدُهما: أن قوله ﴿ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ﴾ رُفِعَ بالابتداء، كأنهُ قال: التائبون العابدون... إلى آخر الآيةِ لَهم الجنةُ أيضاً؛ أي مَن قعدَ عن الجهادِ غيرَ مُؤَازِرِ ولا قاصدٍ تركه، وهو على هذه الصِّفة في هذهِ الآية فله الجنَّة. والقولُ الثاني: أنّ قولَهُ ﴿ ٱلتَّائِبُونَ ﴾ يدلُّ على المقاتِلين، كأنه قال: المقاتِلُون التائبون العابدون، ويجوزُ أنْ يكون قولهُ: ﴿ ٱلتَّائِبُونَ ﴾ رفعاً على المدحِ، أي هم التائبون من الشِّرك والذُّنوب، المطيعون للهِ ﴿ ٱلْحَامِدُونَ ﴾ الذين يحمَدون اللهَ تعالى على كلِّ حالٍ.
﴿ ٱلسَّائِحُونَ ﴾ الصَّائِمُونَ. كما رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" سِيَِاحَةُ أُمَّتِي الصَّوْمُ "وإنما سُمي الصَّائم سَائحاً تشبيهاً بالسائحِ في الأرض؛ لأن السائحَ ممنوعٌ من الشَّهوات، فكذلك الصائمُ. قال الحسنُ: (أرَادَ السَّائِحينَ صَوَّامِي شَهْرِ رَمَضَانَ)، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى عليه وسلم:" السَّائِحُونَ الصَّائِمُونَ "وسُئل سعيدُ بن جبير عن السائحين فقالَ: (هُمُ الصَّائِمُونَ)، وقال الشاعرُ: بَرّاً يُصَلِّي لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ   يَظَلُّ كَثِيرَ الذِّكْرِ للهِ سَائِحاًأي صائماً. وقال الحسنُ أيضاً: (السَّائِحُونَ الَّذِينَ يَصُومُونَ عَنِ الْحَلاَلِ وأَمْسَكُواْ عَنِ الْحَرَامِ، وَهَاهُنَا وَاللهِ أقْوَامٌ رَأيْنَاهُمْ يَصُومُونَ عَنِ الْحَلاَلِ، وَلاَ يُمْسِكُونَ عَنِ الْحَرَامِ، وَاللهُ سَاخِطٌ عَلَيْهِمْ)، وقال عطاءُ: (السَّائِحُونَ هُمُ الْغُزَاةُ وَالْمُجَاهِدُونَ). وسئل عكرمةُ عن قولِه تعالى: ﴿ ٱلسَّائِحُونَ ﴾ فقال: (طَلَبَة الْعِلْمِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ﴾ أي الذين يؤَدُّون ما فرضَ اللهُ عليهم من الرُّكوع والسجودِ المفروضة، وقولهُ تعالى: ﴿ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ أي الآمِرون بالإيمانِ والنَّاهون عن الشِّرك. وَقِيْلَ: معناهُ: الآمِرُون بكلِّ معروفٍ، والناهون عن كلِّ منكرٍ. وإنما ذُكر الناهون بالواو وبخلاف ما سبقَ؛ لأن النهيَ عن المنكرِ لا يكادُ يُذْكَرُ إلا وهو مقرونٌ بالأمرِ بالمعروف، فدخلَ الواوُ ليدُلَّ على المقارنةِ. والمعروفُ: هو السُّنة، والمنكرُ: هو البدْعَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ ﴾؛ عُطِفَ على ما تقدَّم. وَقِِيْلَ: المرادُ بهم جميعُ المذكورين من أوَّل الآيةِ إلى هذا الموضع، وهذه الصِّفة من أتَمَّ ما يكون من المبالغةِ في وصفِ العباد بطاعتهِ لله، والقيامِ بأوامره والانتهاءِ عن زواجرهِ؛ لأن اللهَ تعالى بيَّن حدودَهُ في الأمرِ والنهي وفي ما نَدَبَ إليه فرغَّب فيه أو خيَّر فيه، وبيَّن ما هو الأَولى في مجرَى طاعةِ الله تعالى، فإذا قامَ العبدُ بفرائضِ الله وانتهَى إلى ما أرادَ الله منه كان من الحافظِين لحدودِ الله، كما رُوي عن خلفِ بن أيُّوب: أنَّهُ أمَرَ امْرَأَتَهُ أنْ تُمْسِكَ إرْضَاعَ وَلَدِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ وَقَالَ: قَدْ تَمَّتْ لَهُ سَنَتَانِ، قِيْلَ لَهُ: لَوْ تَرَكْتَهَا حَتَّى تُرْضِعَهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، قَالَ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي بشِّرهُم بالجنةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ ﴾؛ قال ابنُ عبَِّاس:" وَذلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ عَنْ أبَوَيْهِ أيُّهُمَا أحْدَثُ عَهْداً بهِ؟ فَقِيلَ: أُمُّكَ، فَقَالَ: " هَلْ تَعْلَمُونَ مَوْضِعَ قَبْرِهَا؟ لَعَلِّي آتِيهِ فَأَسْتَغْفِرُ لَهَا، فَإنَّ إبْرَاهِيمَ عليه السلام اسْتَغْفَرَ لأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ " فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَنَحْنُ أيْضاً نَسْتَغْفِرُ لآبَائِنَا وَأهْلِينَا. فَانْطَلَقَ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أتَى الْقَبْرَ، فَإذا هُوَ بجِبْرِيلَ عليه السلام عِنْدَ الْقَبْرِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صَدْر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأ عَلَيهْ هَذِهِ الآيَةَ ". قال أبُو هريرةَ رضي الله عنه: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:" اسْتَأْذنْتُ رَبي أنْ أسْتَغْفِرَ لِوَالدَيَّ فَلَمْ يَأْذنْ لِي، وَاسْتَأْذنْتُ أنْ أزُورَ قَبْرَهُمَا فَأَذِنَ لِي "ومعنى الآيةِ: ما ينبغِي وما يجوزُ للنبيِّ والذين آمَنُوا أن يطلبُوا المغفرةَ للمشركين، ولو دعَتهُم رِقَّةُ القرابةِ إلى الاستغفار لَهم: ﴿ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ ﴾؛ أي من بعدِ ما ظهرَ أنَّهم أصحابُ النار بأنَّهم ماتُوا على الكفرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ ﴾؛ أي ما كان استغفارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عن موعدةٍ وعَدَها أبوهُ له أن يُسْلِمَ.
﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ﴾؛ لإبراهيمَ.
﴿ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ ﴾؛ بأنْ لم يُؤمِنْ حتى ماتَ على الكفرِ.
﴿ تَبَرَّأَ مِنْهُ ﴾؛ أي مِن أبيهِ ومن دِينه. ويقالُ: إنما هذه الموعدةُ إنما كانت مِن إبراهيمَ لأبيهِ، فإنه كان قالَ لأستغفِرَنَّ لكَ ما دمتَ حيًا، ولم يكن اللهُ تعالى أعلمَ إبراهيم أنه لا يغفرُ للمشركين، يدلُّ عليه قراءةُ الحسنِ (إلاَّ مِنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾؛ الأوَّاهُ: التَّوَّابُ. قال ابنُ مسعود (هُوَ الدَّعَّاءُ)، وقال الحسنُ وقتادة: (هُوَ الرَّحيمُ الرَّفِيقُ)، ويقالُ: هو المؤمنُ بلُغَة الحبشةِ، إلا مَن قال إنه لا يجوزُ أن يكون في القرآنِ شيءٌ غير عربيٍّ، قال: هذا موافقٌ من العربيةِ بلُغة الحبشة. وَقِيْلَ: الأوَّاهُ الفقيهُ، وقال كعبُ: (هُوَ الَّذِي إذا ذكرِتْ عِنْدَهُ النَّارُ قَالَ: آهٍ)، وَقِيْلَ: هو المتأوِّهُ شَفَقاً وفَرَقاً، المتضَرِّعُ نَفْساً ولُزوماً للطاعةِ، وأما الحليمُ فهو الذي لا يعجِّلُ بعقوبةِ الجاهل.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا أنْزَلَ الْفَرَائِضَ وَعَمِلَ بهَا النَّاسُ، ثُمَّ أنْزَِلَ بَعْدَ ذلِكَ مَا نَسَخَهَا وَقَدْ مَاتَ نَاسٌ وَهُمْ يَعْمَلُونَ بالأَمْرِ الأَوَّلِ مِثْلَ الصَّلاَةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَشُرْب الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذلِكَ، وَمَاتَ بَعْضُ الْمُؤْمِنينَ وَهُمْ عَلَى الْقِبْلَةِ الأُوْلَى، فَذَكَرَ الْمُؤْمِنُونَ ذلِكَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأََنْزَلَ هَذِهِ الآيَةِ). ومعناها: وما كان اللهُ ليُضِلَّ عملَ قومٍ ويُنْزِلَ قوماً مَنْزِلَةَ الضَّلالِ بعدَ إذ هدَاهُم للإيمانِ حتى يُبَيِّنَ لهم ما يتَّقون من المعاصِي، ويقال: حتى يُبَيِّنَ الناسخَ من المنسوخ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ من النَّاسخِ والمنسوخ، وبكل ما فيه مصلحةُ الخلقِ.
﴿ عَلِيمٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ ﴾؛ وذلك أنَّ الله لَمَّا أمرَ المسلمين بقتالِ المشركين كافَّة، وكان في المشركين ملوكٌ لا يطمعُ المسلمون بهم لشوكَتِهم وعزِّهم، أخبرَ اللهُ تعالى أن للهِ ملكَ السَّماوات والأرضِ، يُحيي من يشاءُ ويُميت من يشاء.
﴿ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ ﴾؛ يُوالِيكم.
﴿ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾؛ ينصرُكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ ﴾؛ معناه: وقد تجاوزَ اللهُ من تولَّى النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذْنَهُ للمنافقين بالتخلُّف، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾[التوبة: ٤٣]، وتجاوزَ عن ذُنوب المهاجرين والأنصار. وَقِيْلَ: أراد بذلك قوماً منهم تخلَّفُوا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم خرَجُوا فأدركوهُ في الطريقِ. وقولهُ تعالى: ﴿ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ ﴾ صفةُ مدحٍ لأصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم باتِّباعِهم إياهُ في وقت الشِّدةِ في غزوة تبوك، وكانت بهم العُسْرَةُ في النفقةِ والرُّكوب والحرِّ والخوف، وكانت الدابةُ الواحدة بين جماعةٍ يتعقَّبون عليها، وكانت التمرةُ تُشَقُّ بالنِّصف فيأكلُها الرجُلان كل واحدٍ نصفها، وربما كانت جماعةٌ يَمُصُّونَ تمرةً واحدة، ويشربون عليها، وربما كانوا يَنْحَرُونَ الإبلَ فيشربون من ماءِ كرُوشِها في الحرِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ﴾؛ أي مِن بعد ما كادَ تَمِيلُ قلوبُ طائفةٍ منهم عن الخروجِ والجهاد، ويقال من بعدِ ما كادوا يرجِعون عن غزوتِهم من الشدَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ أي ثم خفَّفَ عنهم ما أخلفهم عن الحرب حتى كادُوا يعقلون عن أنفُسِهم، وهذا كقوله تعالى:﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ ﴾.
. [المزمل: ٢٠] إلى أن قالَ:﴿ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾[المزمل: ٢٠] أي خفَّفَ عنكم، وكقوله:﴿ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾[البقرة: ١٨٧] أي خفَّف عنكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ ﴾؛ أي تابَ على الثلاثةِ، وهم كعبُ بن مالك، ومُرَارَةُ بن الربيع، وهلالُ بن أُميَّة الذين خُلِّفوا عن قبول توبتِهم.
﴿ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾؛ منعَ سِعَتَها بامتناعِ الناس من مكالمتهم.
﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ﴾؛ أي قلوبهم حين كتبَ قيصرُ إلى كعبِ ابن مالك: بَلَغَنِي أنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، فَالْحَقْ بنَا فَإنَّ لَكَ عِنْدَنَا مَنْزِلٌ وَكَرَامَةٌ، فَقَالَ كَعْبُ: (مِنْ خَطِيئَتِي أنْ يَطْمَعَ فِيَّ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ الْكُفْرِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ﴾؛ أي عَلِموا وأيقَنُوا ألاَّ مَفَرَّ من عذاب الله إلا إليه بالتوبةِ، وقولهُ تعالى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ﴾؛ أي قَبلَ توبتَهم.
﴿ لِيَتُوبُوۤاْ ﴾؛ أي ليرجِعُوا عن مثلِ صنيعهم. ويقالُ: ليتوبَ الناسُ من بعدِهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ﴾؛ أي المتجاوزُ عن ذنوب المؤمنين.
﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾؛ بعبادهِ التَّائبين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾ أي يا أيُّها الذين آمَنوا اخشَوا اللهَ ولا تعصوهُ، وكونوا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومع الذين صدَقت نيَّاتُهم، واستقامَتْ قلوبُهم وأعمالُهم في الشدَّة والرَّخاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي ما جازَ لأهلِ المدينةِ ومَن حولَهم من الأعراب أن يتخلَّفوا عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الجهادِ، وهذا نَهيٌ وردَ بلفظِ النَّفيِ.
﴿ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ﴾؛ أي لا ينبغِي أن يكونوا بأنفُسِهم آثرَ وأشفقَ عن نفسِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، بل عليهم أن يجعَلُوا أنفُسَهم وقايةً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا أوجبَ له من الحقُوقِ عليهم بدعائهِ لهم إلى الإيمانِ حتى اهتدَوا به ونَجَوا من النارِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي ذلك الزجرُ بأنَّهم في التخلُّف عن الجهاد، لا يصيبُهم عطشٌ ولا تعب في أبدانِهم، ولا شدَّةُ مجاعةٍ في طاعة اللهِ، ولا يجاوِزُون مكاناً فيظهرون فيه من سهلٍ أو جبل مجاوزتَهم ذلك المكان، فإنَّ الإنسان يُغِيظُهُ أن يطأَ أرضَهُ غيرهُ. قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي لا يُبْطِلُ ثوابَ مَن أحسنَ عملاً من جهادٍ وغيره.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً ﴾؛ أي لا يُنفقون في الجهادِ نفقةً صَغُرَتْ أو كَبُرتْ.
﴿ وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً ﴾؛ من الأوديةِ في طلب الكفَّار.
﴿ إِلاَّ كُتِبَ ﴾؛ ذلكَ.
﴿ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ ﴾؛ مِن أعمالهم التي.
﴿ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾؛ في الدُّنيا.
قَوْلُهَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعُيُوب وَبَيانِ نِفَاقِهِمْ، قَالَ الْمُؤمِنُونَ: وَاللهِ لاَ نَتَخَلَّفُ عَنْ غَزْوَةٍ يَغْزُوهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ سَرِيَّةٍ أبَداً، فَلَمَّا أمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذلِكَ بالسَّرَايَا إلَى الْغَزْوِ، وَنَفَرَ الْمُؤْمِنُونَ جَمِيعاً وَتَرَكُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالْمَدِينَةِ، أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذلِكَ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها: أنه ليس للمؤمنينَ أن ينفِرُوا كافَّة ويَخْلِفُوا رسولَ الله وحدَهُ ليس عنده أحدٌ من المسلمين يتعلَّمُ منه الحلالَ والحرامَ والشرائعَ والأحكام.
﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ ﴾؛ أي فهَلاَّ خَرَجَ مِن كلِّ جماعةٍ طائفةٌ إلى الجهادِ، وتبقى طائفةٌ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ ليسمعَ الذين تخلَّفُوا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم الوحيُ، إذا رجعت السَّرايا علَّمُوهم ما عَلِموا فيستَوُون جميعاً في العلمِ في معرفة الناسخِ والمنسوخ. قََوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾؛ أي لُينذِرَ الذين تخلَّفوا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قومَهم الذين نَفَروا إذا رجَعُوا إليهم من غُزاتِهم، ويخبرُوهم بما نزلَ بعدَهم من القرآنِ، لكي يحذرُوا كلُّهم فلا يعملون شيئاً بخلافِ ما أنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾؛ أي قاتِلُوا الأدنَى فالأدنَى من عدوِّكم مثل بني قريظةَ والنضير وخيبر؛ أي ابدَأوا بمَن حولَكم، ثم قاتِلُوا سائرَ الكفَّار، لأن الاشتغالَ بقتالِ مَن بعدَهم من المشركين مع تركِ قتالِ مَن قَرُبَ لا يُؤْمَنُ معه هجومُ مَن قَرُبَ على ذرَاري المسلمين ونسائِهم وبلادهم إذَا خَلَتْ مِن المجاهدين، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ أي ليكن منكم قولٌ غليظ وشدَّة عليهم في الوعدِ؛ كَيْلاَ يطمعَ فيكم أحدٌ من أهلِ الكفر.
﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾؛ في النصرِ على عدوِّهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً ﴾؛ معناهُ: إذا ما أُنزلت سورةٌ من القرآنِ، فمِنَ المنافقين مَن يقولُ: إيُّكم زادتهُ هذه السُّورة إيماناً؟! إنَّما كان بعضُهم يقولُ لبعضٍ على جهة الْهُزْءِ. ويقالُ: كانوا يقولون للمستضعَفين من المسلمين: أيُّكم زادتهُ هذه الآية يقيناً وبصيرةً؟ يقولُ الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾؛ وهم المخلِصُون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم زادَتْهم تصديقاً مع تصديقِهم.
﴿ وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾؛ أي يفرَحُون بكلِّ ما يَنْزِلُ من القرآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ ﴾؛ معناهُ: وأما الذين في قلوبهم شَكٌّ ونفاق فزادَتْهم السورةُ شَكّاً إلى شَكِّهم وكفراً إلى كُفرِهم، لأنَّهم كلما كَفَرُوا بسورةٍ ازدادوا كُفراً، والمؤمنون كلَّما صدَّقوا بسورةٍ ازدادوا تصديقاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾؛ إذ هم لشَكِّهم فيما أنزلَهُ اللهُ من السورةِ إلى أن ماتُوا على الكفرِ. وإنما سَمَّى اللهُ النفاقَ مرَضاً؛ لأن الحيرةَ في القلب مرضُ في القلب، كما أن الوجعَ في البدنِ مرضُ في البدنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾؛ معناه: أوَلاَ يرَى المنافقون أنَّهم يخسَرُون بالدُّعاء إلى الجهادِ في كلِّ عامٍ مرَّة أو مرَّتَين، ويقال: يهلَكون بهَتْكِ أسرَارهم، ثم يُظْهِرُ اللهُ من سوء نِيَّاتِهم وخُبْثِ سرائرهم. ويقالُ: كانوا ينقضون عهدَهم في السَّنة مرةً أو مرتين فيُعاقَبون، ثم لا يتُوبُون عن نفاقِهم ولا يذكرون بما صنعَ اللهُ بهم بنقضِهم العهدَ. وقرأ حمزةُ ويعقوب: (أوََلاَ تَرَوْنَ) بالتاء خطاباً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ﴾؛ إذا نزلت سورةٌ فيها عيبُ المنافقين فخاطَبَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعرَّض لهم في خُطبتهِ، نظرَ بعضُ المنافقين إلى بعضٍ.
﴿ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾؛ من المخلِصين إذا هو قائمٌ فخرجَ من المسجدِ، فإذا كان لا يراهُ أحدٌ خرجَ من المسجدِ وانصرفَ، وإن علِمُوا أنَّ أحداً يرَاهُم قاموا وثَبَتُوا مكانَهم حتى يفرغَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من خطبتهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ ﴾؛ أي انصرَفُوا عن الإيمانِ والعملِ بترك ما يستمعون، ويقال: انصرَفُوا عن المكان الذي سَمِعُوا فيه.
﴿ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم ﴾؛ باللطف الذي يُحْدِثُهُ للمؤمنين. قَوْلُهُ تَعَاَلَى: ﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾؛ أي ذلك الصرفُ بأنَّهم قومٌ لا يفقَهون ما يريدُ الله بخطابهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾؛ هذا خطابٌ لأهلِ مكَّة، والمعنى: لقد جاءَكم رسولٌ من أهلِ نَسَبكم ولسانكم، شريفُ النَّسَب تعرفونَهُ وتفهمون كلامَهُ. وإنما قالَ ذلك؛ لأنه أقربُ إلى الأُلفَةِ. وَقِيْلَ: إن هذا خطابٌ لجميعِ الناس، معناه: جاءَكُم آدمِيٌّ مثلُكم، وهذا أوكدُ للحجَّة عليكم؛ لأنَّكم تفهمون عن مَن هو من جنسِكم. وقرأ ابنُ عبَّاس والزهري (مِنْ أنْفَسِكُمْ) بفتحِ الفاء؛ أي من أشرَفِكم وأفضَلِكم، مِن قولِكَ: شيءٌ ذو نَفَسٍ، وقال: كان مِن أعلاكُم نسَباً، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ أي شديدٌ عليه عَنْتُكُمْ وإثْمُكم، العَنَتُ: الضيِّقُ والمشقَّةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي حريصٌ على إيمانكِم وهُداكم أنْ تُؤمِنُوا فتَنجُوا من العذاب وتفوزُوا بالجنَّة والثواب، والحِرْصُ: شدَّةُ الطَّلَب للشيء مع الاجتهادِ فيه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ كلامٌ مستأنفٌ: أي وهو شديدُ الرحمةِ لجميع المؤمنين، رفيقٌ لِمَن اتَّبعَهُ على دينهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ ﴾؛ أي فإنْ أعرَضُوا عنكَ وعن الإيمان بكَ، فقُلِ اللهُ تعالى حَسْبي لا إلهَ إلاَّ هوَ؛ أي لا ناصرَ ولا مُعِينَ غيرهُ.
﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ أي بهِ ثِقَتِي، وإليه فوَّضتُ أمرِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ ﴾ أي خالِقُ السَّريرِ العظيمِ الذي هو أعظمُ مِن السَّماواتِ والأرض، وإنَّما خُصَّ العرشُ بذلك؛ لأنه إذا كان ربُّ العرشِ العظيمِ مع عَظَمَتِهِ، كان ربُّ ما دونَهُ في العِظَمِ. وَقِيْلَ: إنما خصَّ العرش؛ تشريفاً للعرشِ وتعظيماً لشأنهِ. وقرئ في الشواذ (الْعَظِيمُ) بالرفعِ على نَعْتِ الرب.
Icon