تفسير سورة التوبة

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ
قال الله تعالى :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾. قال أبو بكر : البراءة هي قَطْعُ الموالاة وارتفاع العصمة وزوال الأمان. وقيل : إن معناه : هذه براءة من الله ورسوله ؛ ولذلك ارتفع. وقيل : هو ابتداء وخبره الظرف في " إلى "، فاقتضى قوله عز وجل :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ نَقْضَ العهذ الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم ورفع الأمان وإعلامَ نصب الحرب والقتال بينه وبينهم، وهو على نحو قوله تعالى :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ﴾ [ الأنفال : ٥٨ ]، فكان ما ذكر في هذه الآية من البراءة نَبْذاً إليهم ورَفْعاً للعهد. وقيل : إن ذلك كان خاصّاً فيمن أضمروا الخيانة وهَمُّوا بالعذر. وكان حكم هذا اللفظ أن يرفع العهد في حال ذكر ذلك لهم، إلا أنه لما عقبه بقوله تعالى :﴿ فَسِيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ بيَّن به أن هذه البراءة وهذا النبذ إليهم إنما هي بعد أربعة أشهر، وأن عهد ذوي العهد من هذا القبيل منهم باقٍ إلى آخر هذه المدة ؛ قال الحسن :" فمن كان منهم عَهْدُهُ أكثر من أربعة أشهر حُطَّ إليها، ومن كان منهم عهده أقلّ رُفِع إليها ". وقيل : إن هذه الأربعة الأشهر التي هي أشهر العهد أوّلها من عشرين من ذي القعدة وذو الحجة والمحرم وصفر وعشرةُ أيام من شهر ربيع الأول ؛ لأن الحج في تلك السنة التي حجَّ فيها أبو بكر وقرأ فيها عليّ بن أبي طالب سورة براءة على الناس بمكة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذي القعدة، ثم صار الحج في السنة الثانية وهي السنة التي حَجَّ فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة وهو الوقت الذي وقَّته الله تعالى للحج ؛ لأن المشركين كانوا ينسأون الشهور، فاتفق عَوْدُ الحج في السنة التي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوقت الذي فرضه الله تعالى فيه بديّاً على إبراهيم وأمره فيه بدعاء الناس إليه بقوله :﴿ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً ﴾ ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات :" ألاَ إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ "، فثبت الحج في اليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم عرفة والنحر اليوم العاشر منه ؛ فهذا قول من يقول إن الأربعة الأشهر التي جعلها للسياحة وقطع بمضيّها عصمة المشركين وعهدهم.
وقد قيل في جواز نقض العهد قبل مضيّ مدته على جهة النبذ إليهم وإعلامهم نصب الحرب وزوال الأمان وجوه، أحدها : أن يخاف غدرهم وخيانتهم، والآخر : أن يثبت غدرهم سرّاً فينبذ إليهم ظاهراً، والآخر : أن يكون في شرط العهد أن يُقِرَّهم على الأمان ما يشاء وينقضه متى يشاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر :" أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ الله "، والآخر : أن العهد المشروط إلى مدة معلومة فيه ثبوت الأمان من حربهم وقتالهم من غير علمهم وأن لا يقصدوا وهم غارون وأنه متى أعلمهم رفع الأمان من حربهم فذلك جائز لهم، وذلك معلوم في مضمون العهد، وسواء خاف غدرهم أو لم يَخَفْ أو كان في شرط العهد أن لنا نقضه متى شئنا أو لم يكن فإن لما متى رأينا ذلك حظّاً للإسلام أن ننبذ إليهم وليس ذلك بغدر منّا ولا خيانة ولا خفر للعهد ؛ لأن خفر الأمان والعهد أن يأتيهم بعد الأمان وهم غارون بأماننا، فأما متى نبذنا إليهم فقد زال الأمان وعادوا حرباً، ولا يحتاج إلى رضاهم في نبذ الأمان إليهم ؛ ولذلك قال أصحابنا إن للإمام أن يهادن العدوّ إذا لم تكن بالمسلمين قوة على قتالهم، فإن قَوِيَ المسلمون وأطاقوا قتالهم كان له أن ينبذ إليهم ويقاتلهم، وكذلك كل ما كان فيه صلاح للمسلمين فللإمام أن يفعله، وليس جواز رفع الأمان موقوفاً على خوف الغدر والخيانة من قبلهم.
وقد رُوي عن ابن عباس أن هذه الأربعة الأشهر الحرم هي رجب وذو القعدة وذو الحجة إلى آخر المحرم. وقد كانت سورة براءة نزلت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحجّ، وكان الحجُّ في تلك السنة في ذي القعدة ؛ فكأنهم على هذا القول إنما بقي عهدهم إلى آخر الأربعة الأشهر التي هي أشهر الحرم. وقد رَوَى جريرٌ عن مغيرة عن الشعبي عن المحرر بن أبي هريرة عن أبيه قال :" كنت مع عليّ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى المشركين، فكنت أنادي حتى صحل صوتي، وكان أَمَرَنا أن نقول : لا يحجَّنَّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريءٌ من المشركين ورسولَهُ ". وجائز أن تكون هذه الأربعة الأشهر من وقت ندائه وإعلامهم إياه، وجائز أن يريد بها تمام أربعة أشهر من الأشهر الحرم. وقد روى سفيان عن أبي إسحاق عن زيد بن يُثَيِّع عن عليّ :" أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه يوم الحج الأكبر أن لا يطوف أحد بالبيت عرياناً ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا يحجَّ مشرك بعد عامه هذا ومن كان بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى مدته " ؛ فجعل في حديث عليّ من له عهد عهده إلى أجله ولم يخصص أربعة أشهر من غيره، وقال في حديث أبي هريرة : فعهده إلى أربعة أشهر. وجائز أن يكون المعنيان صحيحين، وأن يكون جعل أجل بعضهم أربعة أشهر أو تمام أربعة أشهر التي هي أشهر الحرم، وجعل أَجَلَ بعضهم إلى مدته طالت المدة أو قصرت. وذِكْرُ الأربعة الأشهر في حديث أبي هريرة موافق لقوله تعالى :﴿ فَسِيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾، وذِكْرُ إثبات المدة التي أجلها في حديث عليّ موافق لقوله تعالى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ﴾، فكان أجَلُ بعضهم وهم الذين خِيفَ غدرهم وخيانتهم أربعة أشهر، وأجل من لم يخش غدرهم إلى مدته.
وقد رَوَى يونس عن أبي إسحاق قال : بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحجّ في سنة تسع، فخرج أبو بكر ونزلت براءة في نَقْضِ ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين من العهد والذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم أن لا يُصَدَّ عن البيت أَحَدٌ ولا يخاف أحدٌ في الشهر الحرام، وكان ذلك عهداً عامّاً بينه وبين أهل الشرك، وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل العرب خصائص إلى آجال مسماة، فنزلت :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾، أهل العهد العامّ من أهل الشرك من العرب، ﴿ فَسِيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ إن الله بريءٌ من المشركين بعد هذه الحجة. وقوله :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ يعني : العهد الخاصّ إلى الأجل المسمَّى، ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ ﴾ يعني الأربعة التي ضربه لهم أجلاً. وقوله :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ ﴾ من قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ؛ فلم يكن نقضها إلا هذا الحيّ من قريش وبنو الدئل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد لمن لم يكن نقضه من بني بكر إلى مدته، ﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ﴾.
وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ فَسِيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ قال :" جعل الله للذين عاهدوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاؤوا وأجّل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم خمسين ليلة، وأمره إذا انسلخ الأشهر الحرم أن يضع السيف فيمن عاهدوا ولم يدخلوا في الإسلام ونقض ما سمّى لهم من العهد والميثاق ".
قال أبو بكر : جعل ابن عباس في هذا الحديث الأربعة الأشهر التي هي أشهر العهد لمن كان له منهم عهد ؛ ولم يكن له منهم عهد جعل أجله انسلاخ المحرم وهو تمام خمسين ليلة من وقت الحج، وهو العشر من ذي الحجة، وذلك آخر وقت أشهر الحرم.
وروى ابن جريج عن مجاهد في قوله :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ : إلى أهل العهد من خزاعة ومدلج ومن كان له عهد من غيرهم، قال : ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليّاً فآذنوا أصحاب العهود أن يأمنوا أربعة أشهر، وهي الأشهر الحرم المتواليات من عشر من ذي الحجة إلى عشر يخلو من شهر ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم ؛ قال : وهي الحرم من أجل أنهم آمنوا فيها.
قال أبو بكر : فجعل مجاهد الأشهر الحرم في أشهر العهد، وذهب إلى أنها إنما سُمّيت بذلك لتحريم القتال فيها، وليست هي الأشهر التي قال الله فيها :﴿ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾، وقال :﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ﴾ [ البقرة : ٢١٧ ] ؛ لأنه لا خلاف أن هذه الأشهر هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم. والذي قاله مجاهد في ذلك محتمل.
قال السّدّيّ :﴿ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾، قال :" عشرون يبقى من ذي الحجة إلى عشر من ربيع الآخر ثم لا أمان لأحد ولا عهد إلا الإسلام أو السيف ". وحدثنا عبدالله بن إسحاق المروزي : حدثنا الحسن بن أبي ربيع الجرجاني : أخبرنا عبدالرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري في قوله :﴿ فَسِيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ قال :" نزلت في شوّال وهي أربعة أشهر : شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ". قال قتادة :" عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر، كان ذلك في العهد الذي بينهم ".
قال أبو بكر : قول قتادة موافق لقول مجاهد الذي حكيناه، وأما قول الزهري فأظنه وهماً ؛ لأن الرواة لم يختلفوا أن سورة براءة نزلت في ذي الحجة في الوقت الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج، ثم نزلت بعد خروجه سورة براءة فبعث بها مع عليّ ليقرأها على الناس بمنًى ؛ فثبت بما ذكرنا من هذه الأخبار أنه قد كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد عامّ وهو أن لا يصد أحداً منهم عن البيت ولا يخاف أحد في الشهر الحرام، فجعل الله تعالى عهدهم أربعة أشهر بقوله تعالى :﴿ فَسِيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾، وكان بينه وبين خواصَّ منهم عهود إلى آجال مسماة، وأمر بالوفاء لهم وإتمام عهودهم إلى مدتهم إذا لم يَخْشَ غدرهم وخيانتهم، وهو قوله تعالى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ﴾ ؛ وهذا يدل على أن مدتهم إما أن تكون إلى آخر الأشهر الحرم التي قد كان الله تعالى حرم القتال فيها، وجائز أن تكون مدتهم إلى آخر الأربعة الأشهر من وقت النبذ إليهم، وهو يوم النحر وآخره عشر مضين من شهر ربيع الآخر، فسمّاها الأشهر الحرم على ما ذكره مجاهد لتحريم القتال فيها، فلم يكن لأحد منهم بعد ذلك عهد وأوجب بمضيِّ هذه المدة دفع العهود كلها سواء من كان له منهم عهد خاصّ وسائر المشركين الذين عمهم عهده في ترك منعهم من البيت وحظر قتلهم في أشهر الحرم. وجائز أن يكون مرادُه انسلاخ المحرم الذي هو آخر الأشهر الحرم التي كان الله تعالى حظر القتال فيها، وقد رويناه عن ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ ورَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ ﴾. يعني : إعلام من الله ورسوله، يقال : آذنني بكذا أي أعلمني فعلمت.
واخْتُلف في يوم الحجّ الأكبر، فرُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأخبار أنه يوم عرفة. وعن عليّ وعمر وابن عباس وعطاء ومجاهد نحو ذلك، على اختلاف من الرواية فيه. ورُوي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوم النحر. وعن عليّ وابن عباس وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن أبي أوفى وإبراهيم وسعيد بن جبير على اختلاف فيه من الرواة وعن مجاهد وسفيان الثوري :" أيام الحج كلها "، وهذا شائع، كما يقال : يوم صفين، وقد كان القتال في أيام كثيرة. وروى حماد عن مجاهد أيضاً قال :" الحج الأكبر القِرَانُ والحجّ الأصغر الإفرادُ ". وقد ضعف هذا التأويل، من قِبَلِ أنه يوجب أن يكون للإفراد يوم بعينه وللقران يوم بعينه، وقد علم أن يوم القران هو يوم الإفراد للحج، فتبطل فائدة تفضيل اليوم للحج الأكبر، فكان يجب أن يكون النداء بذلك في يوم القران. وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ ﴾ لما كان يوم عرفة أو يوم النحر وكان الحج الأصغر العمرة، وجب أن يكون أيام الحج غير أيام العمر فلا تُفعل العمرة في أيام الحج. وقد رُوي عن ابن سيرين أنه قال :" إنما قال :﴿ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ ﴾ لأن أعياد المِلَلِ اجتمعت فيه، وهو العام الذي حجَّ فيه النبي صلى الله عليه وسلم ". فقيل : هذا غلط ؛ لأن الأذان بذلك كانت في السنة التي حجَّ فيها أبو بكر، ولأنه في السنة التي حجَّ فيها النبي صلى الله عليه وسلم لم يحجَّ فيها المشركون لتقدُّم النهي عن ذلك في السنة الأولى. وقال عبدالله بن شداد :" الحج الأكبر يوم النحر والحج الأصغر العمرة ". وعن ابن عباس :" العمرة هي الحجة الصغرى "، وعن عبدالله بن مسعود مثله.
قال أبو بكر : قوله :﴿ الحَجِّ الأَكْبَرِ ﴾ قد اقتضى أن يكون هناك حجٌّ أصغر، وهو العمرة، على ما رُوي عن عبدالله بن شداد وابن عباس ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" العُمْرَةُ الحَجَّةُ الصُّغْرَى ". وإذا ثبت أن اسم الحج يقع على العمرة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم للأقرع بن حابس حين سأله فقال : الحج في كل عام أو حجة واحدة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا، بَلْ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ "، وهذا يدل على نفي وجوب العمرة لنَفْي النبي الوجوب إلا في حجة واحدة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" الحَجُّ عَرَفَةُ " هذا يدل على أن يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة، ويحتمل أن يكون يوم النحر لأن فيه تمام قضاء المناسك والتفث، ويحتمل أيام مِنى على ما رُوي عن مجاهد، وخصه بالأكبر لأنه مخصوص بفعل الحج فيه دون العمرة. وقد قيل : إن يوم النحر أوْلى بأن يكون يوم الحج الأكبر من يوم عرفة ؛ لأنه اليوم الذي يجتمع فيه الحجّ لقضاء المناسك، وعرفة قد يأتيها بعضهم ليلاً وبعضهم نهاراً، وأما النداء بسورة براءة فجائز أن يكون كان يوم عرفة وجائز يوم النحر.
قال الله تعالى :﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾. روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ لست عليهم بمصيطر ﴾ [ الغاشية : ٢٢ ]، وقوله :﴿ وما أنت عليهم بجبار ﴾ [ ق : ٤٥ ]، وقوله تعالى :﴿ فاعف عنهم واصفح ﴾ [ المائدة : ١٣ ]، وقوله :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ﴾ [ الجاثية : ١٤ ]، قال :" نسخ هذا كله قوله تعالى :﴿ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ وقوله تعالى :﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ولا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ الآية ". وقال موسى بن عقبة : قد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يكفّ عمن لم يقاتله بقوله تعالى :﴿ وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ﴾ [ النساء : ٩٠ ]، ثم نسخ ذلك بقوله :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ﴾، ثم قال :﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ ﴾. قال أبو بكر : عمومه يقتضي قَتْلَ سائر المشركين من أهل الكتاب وغيرهم وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، إلا أنه تعالى خَصَّ أهل الكتاب بإقرارهم على الجزية بقوله تعالى :﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالله ولا باليَوْمِ الآخِرِ ﴾ الآية، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هَجَر. وقال في حديث علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث سَرِيَّةً قال :" إِذَا لَقِيتُمُ المُشْرِكِينَ فادْعُوهُمْ إلى الإسْلامِ فإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إلى أَدَاءِ الجِزْيَةِ فإنْ فَعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ وكُفُّوا عَنْهُمْ "، وذلك عموم في سائر المشركين، فخصصنا منه من لم يكن من مشركي العرب بالآية، وصار قوله تعالى :﴿ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ خاصّاً في مشركي العرب دون غيرهم. وقوله تعالى :﴿ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ ﴾ يدل على حبسهم بعد الأخْذِ والاستيناء بقتلهم انتظاراً لإسلامهم ؛ لأن الحصر هو الحبس. ويدل أيضاً على جواز حَصْرِ الكفار في حصونهم ومدنهم إن كان فيهم من لا يجوز قتله من النساء والصبيان وأن يلقوا بالحصار. وقوله تعالى :﴿ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ ﴾ يقتضي عمومه جواز قتلهم على سائر وجوه القتل، إلا أن السُّنَّة قد وردت بالنهي عن المُثَلَةِ وعن قتل الصَّبْرِ بالنَّبْلِ ونحوه ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أَعَفُّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الإيمانِ "، وقال :" إذا قَتَلْتُمْ فأَحْسِنُوا القِتْلَةَ ". وجائز أن يكون أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه حين قتل أهل الردّة بالإحراق والحجارة والرمي من رؤوس الجبال والتنكيس في الآبار إنما ذهب فيه إلى ظاهر الآية، وكذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أحرق قوماً مرتدّين جائز أن يكون اعتبر عموم الآية.
قوله عزّ وجلّ :﴿ فإنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ﴾. لا يخلو قوله تعالى :﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ ﴾ من أن يكون وجود هذه الأفعال منهم شرطاً في زوال القتل عنهم ويكون قبول ذلك والانقياد لأمر الله تعالى فيه هو الشرط دون وجود الفعل ؛ ومعلوم أن وجود التوبة من الشِّرْك شرط لا محالة في زوال القتل، ولا خلاف أنهم لو قبلوا أمْرَ الله في فعل الصلاة والزكاة ولم يكن الوقت وقت صلاة أنهم مسلمون وأن دماءهم محظورة، فعلمنا أن شرط زوال القتل عنهم هو قبول أوامر الله والاعتراف بلزومها دون فعل الصلاة والزكاة، ولأن إخراج الزكاة لا يلزم بنفس الإسلام إلا بعد حَوْلٍ، فغير جائز أن يكون إخراج الزكاة شرطاً في زوال القتل وكذلك فعل الصلاة ليس بشرط فيه وإنما شرطه قبول هذه الفرائض والتزامها والاعتراف بوجوبها.
فإن قيل : لما قال الله تعالى :﴿ فإِنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ ﴾ فشَرَطَ مع التوبة فِعْلَ الصلاة والزكاة، ومعلوم أن التوبة إنما هي الإقلاع عن الكفر والرجوع إلى الإيمان، فقد عقل بذكره التوبة التزام هذه الفرائض والاعتراف بها إذ لا تصح التوبة إلا به، ثم لما شرط مع التوبة الصلاة والزكاة دلَّ على أن المعنى المزيل للقتل هو اعتقاد الإيمان بشرائطه وفعل الصلاة والزكاة، فأوجب ذلك قتل تارك الصلاة والزكاة في وقت وجوبهما وإن كان معتقداً للإيمان معترفاً بلزوم شرائعه. قيل له : لو كان فعل الصلاة والزكاة من شرائط زوال القتل لما زال القتل عمن أسلم في غير وقت الصلاة وعمن لم يؤدِّ زكاته مع إسلامه، فلما اتفق الجميع على زوال القتل عمن وصفنا أمْرَهُ بعد اعتقاده للإيمان للزوم شرائعه ثبت بذلك أن فعل الصلاة والزكاة ليس من شرائط زوال القتل وأن شرطه إظهار الإيمان وقبول شرائعه، ألا ترى أن قبول الإيمان والتزام شرائعه لما كان شرطاً في ذلك لم يزل عنه القتل عند إخلاله ببعض ذلك ؟.
مطلب : فيما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالذين امتنعوا من أداء الزكاة
وقد كانت الصحابة سَبَت ذراري مانعي الزكاة وقتلت مقاتلتهم، وسموهم أهل الردة لأنهم امتنعوا من التزام الزكاة وقبول وجوبها فكانوا مرتدّين بذلك ؛ لأن من كفر بآية من القرآن فقد كفر به كله. وعلى ذلك أجرى حكمهم أبو بكر الصدّيق مع سائر الصحابة حين قاتلوهم. ويدلّ على أنهم مرتدُّون بامتناعهم من قبول فرض الزكاة ما روى معمر عن الزهري عن أنس قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدَّت العرب كافّة فقال عمر : يا أبا بكر أتريد أن تقاتل العرب كافة ! فقال أبو بكر : إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا شَهِدُوا أَنْ لا إله إِلاّ الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ مَنَعُونِي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ ". والله لو منعوني عقالاً مما كانوا يعطون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. وروى مبارك بن فضالة عن الحسن قال : لما قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّت العرب عن الإسلام إلا أهل المدينة، فنصب أبو بكر لهم الحرب فقالوا : فإذاً نشهد أن لا إله إلاّ الله ونصلّي ولا نزكي، فمشى عمر والبدريون إلى أبي بكر وقالوا : دعهم فإنهم إذا استقرّ الإسلام في قلوبهم وثبت أدّوا ! فقال : والله لو منعوني عقالاً مما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ! وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث : شهادة أن لا إله إلاّ الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال الله تعالى :﴿ فإِنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ﴾ والله لا أسأل فوقهن ولا أقصر دونهن ! فقالوا له : يا أبا بكر نحن نزكي ولا ندفعها إليك، فقال : لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضعها مواضعها ! وروى حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين مثله. وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن أبي هريرة قال : لما قُبِضَ رسولُ الله صلى لله عليه وسلم واسْتُخْلِفَ أبو بكر وارتدّ من ارتدّ من العرب، بعث أبو بكر لقتال من ارتدَّ عن الإسلام، فقال له عمر : يا أبا بكر ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلاَّ الله فإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بحَقِّهَا وحِسَابُهُمْ عَلى الله " ؟ فقال : لو منعوني عِقَالاً مما كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.
فأخبر جميع هؤلاء الرواة أن الذين ارتدّوا من العرب إنما كان رِدَّتهم من جهة امتناعهم من أداء الزكاة، وذلك عندنا على أنهم امتنعوا من أداء الزكاة على جهة الردّ لها وترك قبولها، فسُمُّوا مرتدين من أجل ذلك. وقد أخبر أبو بكر الصديق أيضاً في حديث الحسن أن يقاتلهم على ترك الأداء إليه وإن كانوا معترفين بوجوبها ؛ لأنهم قالوا بعد ذلك نزكّي ولا نؤدّيها إليك، فقال : لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وفي ذلك ضربان من الدلالة، أحدهما : أن مانع الزكاة على وَجْهِ ترك التزامها والاعتراف بوجوبها مرتدٌّ وأن مانعها من الإمام بعد الاعتراف بها يستحق القتال، فثبت أن من أدَّى صدقة مواشيه إلى الفقراء أن الإمام لا يحتسب له بها وأنه متى امتنع من دفعها إلى الإمام قاتله عليها، وكذلك قال أصحابنا في صدقات المواشي. وأما زكاة الأموال فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر قد كانوا يأخذونها كما يأخذون صدقات المواشي، فلما كان أيام عثمان خطب الناس فقال :" هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دَيْنٌ فليؤدِّه ثم ليزكِّ بقية ماله " فجعل الأداء إلى أرباب الأموال وصاروا بمنزلة الوكلاء للإمام في أدائها. وهذا الذي فعله أبو بكر في مانعي الزكاة بموافقة الصحابة إياه كان من غير خلاف منهم بعدما تبينوا صحة رأيه واجتهاده في ذلك.
ويحتج من أوجب قتل تارك الصلاة ومانع الزكاة عامداً بهذه الآية، وزعم أنها توجب قتل المشرك إلا أن يؤمن ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. وقد بينا المعنى في قوله تعالى :﴿ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ ﴾ وأن المراد قبول لزومهما والتزام فرضهما دون فعلهما. وأيضاً فليس في الآية ما ادَّعوا من الدلالة على ما ذهبوا إليه، من قِبَلِ أنها إنما أوجبت قتل المشركين، ومن تاب من الشرك ودخل في الإسلام والتزم فروضه وأقرَّ بها فهو غير مشرك باتفاق، فلم تَقْتَضِ الآية قتله إذ كان حكمها مقصوراً في إيجاب القتل على من كان مشركاً، وتارك الصلاة ومانع الزكاة ليس بمشرك.
فإن قالوا : إنما أزال القتل عنه بشرطين، أحدهما : التوبة وهي الإيمان وقبول شرائعه، والوجه الثاني : فِعْلُ الصلاة وأداء الزكاة. قيل له : إنما أوجب بديّاً قتل المشركين بقوله تعالى :﴿ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ ﴾ فمتى زالت عنهم سِمَةُ الشرك فقد وجب زوال القتل، ويحتاج في إيجابه إلى دلالة أخرى من غيره.
فإن قال : هذا يؤدّي إلى إبطال فائدة ذكر الشرطين في الآية. قيل له : ليس الأمر على ما ظننتَ ؛ وذلك لأن الله تعالى إنما جعل هذين القربين من فعل الصلاة وإيتاء الزكاة شرطاً في وجوب تخلية سبيلهم ؛ لأنه قال :﴿ فَإِنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ﴾ وذلك بعد ذكره القتل للمشركين بالحصر، فإذا زال القتل بزوال سِمَةِ الشرك فالحصر والحبس باقٍ لترك الصلاة ومنع الزكاة لأن من ترك الصلاة عامداً وأصرَّ عليه ومنع الزكاة جاز للإمام حبسه، فحينذ لا يجب تَخْلِيَتُه إلا بعد فعل الصلاة وأداء الزكاة، فانتظمت الآية حكم إيجاب قتل المشرك وحبس تارك الصلاة ومانع الزكاة بعد الإسلام حتى يفعلهما.
مطلب : يجب علينا بيان دلائل التوحيد والرسالة وتعليم أمور الدين
قوله تعالى :﴿ وإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله ﴾. قد اقتضت هذه الآية جواز أمان الحربي إذا طلب ذلك منا ليسمع دلالة صحة الإسلام ؛ لأن قوله :﴿ اسْتَجَارَكَ ﴾ معناه : استأمنك، وقوله تعالى :﴿ فَأَجِرْهُ ﴾ معناه : فأمنْه حتى يسمع كلام الله الذي فيه الدلالة على صحة التوحيد وعلى صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على أن الكافر إذا طلب منا إقامة الحجة عليه وبيان دلائل التوحيد والرسالة حتى يعتقدهما لحجة ودلالة كان علينا إقامة الحجة وبيان تويحد الله وصحة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه غير جائز لنا قتله إذا طلب ذلك منا إلا بعد بيان الدلالة وإقامة الحجة ؛ لأن الله قد أمرنا بإعطائه الأمان حتى يسمع كلام الله. وفيه الدلالة أيضاً على أن علينا تعليم كل من الْتَمَسَ منا تعريفه شيئاً من أمور الدين ؛ لأن الكافر الذي استجارنا ليسمع كلام الله إنما قصد التماس معرفة صحة الدين.
مطلب : يجب على الإمام حفظ أهل الذمة
وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾ يدلّ على أن على الإمام حفظ هذا الحربيّ المستجير وحياطته ومنع الناس من تناوله بشرّ، لقوله :﴿ فَأَجِرْهُ ﴾ وقوله :﴿ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾، وفي هذا دليل أيضاً على أن على الإمام حفظ أهل الذمة والمنع من أذيتهم والتخطي إلى ظلمهم.
وفيه الدلالة على أنه لا يجوز إقرار الحربيّ في دار الإسلام مدة طويلة، وأنه لا يترك فيها إلا بمقدار قضاء حاجته، لقوله تعالى :﴿ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾ فأمر بردّه إلى دار الحرب بعد سماعه كلام الله ؛ وكذلك قال أصحابنا : لا ينبغي للإمام أن يترك الحربي في دار الإسلام مقيماً بغير عذر ولا سبب يوجب إقامته، وأن عليه أن يتقدم إليه بالخروج إلى داره، فإن أقام بعد التقدم إليه سَنَةً في دار الإسلام صار ذميّاً ووُضِع عليه الخراج.
قوله تعالى :﴿ كَيْفَ يَكُونُ للمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ ﴾. قال أبو بكر : ابتداء السورة يذكر قطع العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين بقوله :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾، وقد قيل إن هؤلاء قد كان بينهم وبين النبي صلى عهد فغدروا وأسروا وهمّوا به، فأمر الله نبيه بالنبذ إليهم ظاهراً، وفسخ لهم في مدة أربعة أشهر بقوله :﴿ فَسِيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾. وقيل : إنه أراد العهد الذي كان بينه وبين المشركين عامة في أن لا يُمنع أحد من المشركين من دخوله مكة للحج وأن لا يقاتلوا ولا يُقتلوا في الشهر الحرام، فكان قوله :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ﴾ في أحد هذين الفريقين، ثم استثنى من هؤلاء قوماً كان بينهم وبين رسول الله عهد خاص ولم يغادروا ولم يهموا به فقال :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ﴾ ففرّق بين حكم هؤلاء الذين ثبتوا على عهدهم ولم ينقصوهم ولم يعاونوا أعداءهم عليهم وأمر بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وأمر بالنبذ إلى الأوّلين، وهم أحد فريقين من غادر قاصداً إليه أو لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد خاص في سائر أحواله بل في دخول مكة للحج والأمان في الأشهر الحرم الذي كان يأمن فيه جميع الناس. وقوله تعالى :﴿ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً ﴾ يدل على أن المعاهد متى عاون علينا عدوّاً لنا فقد نقض عهده. ثم قال تعالى :﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ ﴾ فرفع بعد انقضاء أشهر الحرم عَهْدَ كل ذي عَهْدٍ من خاصّ ومن عام، ثم قال تعالى :﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ الله وَعِنْدَ رَسُولِهِ ﴾ لأنهم غدروا ولم يستقيموا ؛ ثم استثنى منهم الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام، قال أبو إسحاق :" هم قوم من بني كِنَانَةَ "، وقال ابن عباس :" هم من قريش "، وقال مجاهد :" هم خزاعة "، فأمر المسلمين بالوفاء بعهدهم ما استقاموا لهم في الوفاء به. وجائز أن تكون مدة هؤلاء في العهد دون مضيّ أشهر الحرم، لأنه قال :﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾، وعمومه يقتضي رفع سائر العهود التي كانت بين المسلمين والكفار. وجائز أن تكون مدة عهدهم بعد انقضاء الأشهر الحرم، وكانوا مخصوصين ممن أُمروا بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، وأن ذلك إنما كان خاصّاً في قوم منهم كانوا أهل غدر وخيانة لأنه قال :﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ﴾ ولم يحصره بمدة.
قوله تعالى :﴿ فإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾، يدل على أن من أظهر لنا الإيمان وأقام الصلاة وآتى الزكاة فعلينا موالاته في الدين على ظاهر أمره مع وجود أن يكون اعتقاده في المُغَيَّبِ خلافه.
قوله تعالى :﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ ﴾ ؛ فيه دلالة على أن أهل العهد متى خالفوا شيئاً مما عُوهِدُوا عليه وطعنوا في ديننا فقد نقضوا العهد ؛ وذلك لأن نَكْثَ الأيمان يكون بمخالفة بعض المحلوف عليه إذا كانت اليمين فيه على وجه النفي، كقوله :" والله لا كلمت زيداً ولا عمراً ولا دخلت هذه الدار ولا هذه " أيهما فعل حنث ونكث يمينه ؛ ثم لما ضم إلى ذلك الطعن في الدين دل على أن أهل العهد من شروط بقاء عهدهم تركهم للطعن في ديننا وأن أهل الذمّة ممنوعون من إظهار الطعن في دين المسلمين، وهو يشهد لقول من يقول من الفقهاء إن من أظهر شَتْمَ النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة فقد نقض عهده ووجب قتله.
مطلب : في حكم من شتم النبي صلى الله عليه وسلم
وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أصحابنا :" يُعزَّر ولا يُقتل "، وهو قول الثوري. وروى ابن القاسم عن مالك فيمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى :" قُتل إلا أن يُسلم ". وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك سَبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا :" هي رَدَّة يُستتاب فإن تاب نكل وإن لم يتب قُتل " قال :" يضرب مائة ثم يترك حتى إذا هو بَرىءَ ضرب مائة " ولم يذكر فرقاً بين المسلم والذميّ. وقال الليث في المسلم يسبُّ النبي صلى الله عليه وسلم :" إنه لا يُناظر ولا يُستتاب ويُقتل مكانه وكذلك اليهودي والنصارى ". وقال الشافعي :" ويشترط على المصالحين من الكفار أن من ذكر كتاب الله أو محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا ينبغي أو زَنَى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلماً عن دينه أو قطع عليه طريقاً أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عيناً لهم فقد نقض عهده وأحلّ دمه وبرئت منه ذمة الله وذمة رسوله ". وظاهر الآية يدل على أن من أظهر سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من أهل العهد فقد نقض عهده ؛ لأنه قال تعالى :﴿ وإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ ﴾ فجعل الطعن في ديننا بمنزلة نكث الأيمان، إذ معلوم أنه لم يُرِدْ أن يجعل نكث الأيمان والطعن في الدين بمجموعهما شرطاً في نقض العهد ؛ لأنهم لو نكثوا الأيمان بقتال المسلمين ولم يُظْهِرُوا الطعن في الدين لكانوا ناقضين للعهد، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاونة قريش بني بكر على خزاعة وهم حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم نقضاً للعهد، وكانوا يفعلون ذلك سرّاً، ولم يكن منهم إظهار طعن في الدين ؛ فثبت بذلك أن معنى الآية : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر. فإذا ثبت ذلك كان من أَظْهَرَ سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من أهل العهد ناقضاً للعهد، إذْ سبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكثر الطعن في الدين، فهذا وجهٌ يحتج به القائلون بما وصفنا.
ومما يُحتجُّ به لذلك ما روى أبو يوسف عن حُصَيْن بن عبد الرحمن عن رجل عن أبي عمران أن رجلاً قال له : إني سمعت راهباً سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لو سَمِعْتُه لقتلته إنّا لم نعطهم العهد على هذا. وهو إسناد ضعيف. وجائز أن يكون قد شَرَطَ عليهم أن لا يظهروا سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى سعيد عن قتادة عن أنس أن يهوديّاً مرَّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : السام عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أَتَدْرُونَ مَا قَالَ ؟ " فَقالوا : نعم، ثم رجع فقال مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِذا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ فَقُولُوا عَلَيْكَ ". وروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت : دخل رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليكم، قالت : فَفَهِمْتُها فقلت : وعليكم السام واللعنة ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَهْلاً يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ الله يُحِبُّ الرِّفْقَ في الأَمْرِ كُلِّهِ " فقلت : يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم :" قُلْتُ عَلَيْكُمْ ". ومعلوم أن مثله لو كان من مسلم لصار به مرتدّاً مستحقّاً للقتل، ولم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وروى شعبة عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك : أن امرأة يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها فقالوا : ألا تقتلها ؟ قال :" لا "، قال : فما زلت أعرفها في سهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا خلاف بين المسلمين أن من قصد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فهو ممن ينتحل الإسلام أنه مرتدٌّ يستحق القتل، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم مبيحة لدمها بما فعلت، فكذلك إظهار سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من الذميّ مخالف لإظهار المسلم له.
وقوله :﴿ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ ﴾ رَوَى ابن عباس ومجاهد أنهم رؤساء قريش. وقال قتادة : أبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وسهيل بن عمرو، وهم الذين همُّوا بإخراجه. قال أبو بكر : ولم يختلف في أن سورة براءة نزلت بعد فتح مكة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها مع علي بن أبي طالب ليقرأها على الناس في سنة تسع وهي السنة التي حج فيها أبو بكر، وقد كان أبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة قد كانوا قُتِلُوا يوم بدر ولم يكن بقي من رؤساء قريش أحد يُظْهِرُ الكفر في وقت نزول براءة، وهذا يدل على أن رواية من روى ذلك في رؤساء قريش وهَمٌ اللهمّ إلا أن يكون المراد قوماً من قريش قد كانوا أظهروا الإسلام، وهم الطلقاء، من نحو أبي سفيان وأحزابه ممن لم يُنَقَّ قلبه من الكفر، فيكون مراد الآية هؤلاء دون أهل العهد من المشركين الذين لم يُظهروا الإسلام، وهم الذين كانوا همّوا بإخراج الرسول من مكة وبَدَرَهم بالقتال والحرب بعد الهجرة. وجائز أن يكون مراده هؤلاء الذين ذكرنا وسائر رؤساء العرب الذين كانوا معاضدين لقريش على حرب النبي صلى الله عليه وسلم وقتال المسلمين، فأمر الله تعالى بقتالهم وقتلهم إنْ هم نكثوا أيمانهم وطعنوا في دين المسلمين.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانُ لَهُمْ ﴾ معناه : لا أيمان لهم موافية موثوقاً بها. ولم يَنْفِ به وجود الأيمان منهم لأنه قد قال بديّاً :﴿ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ﴾ وعطف على ذلك أيضاً قوله :﴿ ألا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ﴾ فثبت أنه لم يرد بقوله :﴿ لا أَيْمَانَ لَهُمْ ﴾ نفي الأيمان أصلاً وإنما أراد به نفي الوفاء بها. وهذا يدل على جواز إطلاق " لا " والمراد نفي الفضل دون نفي الأصل، ولذلك نظائر موجودة في السنن وفي كلام الناس، كقوله صلى الله عليه وسلم :" لا صلاةَ لجَارِ المَسْجِدِ إلاّ في المَسْجِدِ " و " لَيْسَ بمُؤْمِنٍ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ " و " لا وُضُوءَ لمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ الله " ونحو ذلك، فأطلق الإمامة في الكفر لأن الإمام هو المقتدَى به المتَّبَعُ في الخير والشر، قال الله تعالى :﴿ وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ﴾ [ القصص : ٤١ ]، وقال في الخير :﴿ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ﴾ [ الأنبياء : ٧٣ ]، فالإمام في الخير هادٍ مُهْتَدٍ والإمام في الشرّ ضالٌّ مُضِلٌّ. وقد قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود والأيمان على أن لا يعينوا عليه أعداءه من المشركين وهمّوا بمعاونة المنافقين والكفار على إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، وأخبر أنهم بدأوا بالغدر ونكث العهد وأمر بقتالهم بقوله :﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بأَيْدِيكُمْ ﴾. وجائز أن يكون جميع ذلك مرتباً على قوله :﴿ وإن نكثوا أيمانهم بعد عهدهم ﴾، وجائز أن يكون قد كانوا نقضوا العهد بقوله :﴿ ألا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ﴾.
قوله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَم الله الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ الله ولا رَسُولِهِ ولا المؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾ فإن معناه : أم حسبتم أن تُتركوا ولم تجاهدوا ؛ لأنهم إذا جاهدوا علم الله ذلك منهم، فأطلق اسم العلم وأراد به قيامهم بفرض الجهاد حتى يعلم الله وجود ذلك منهم.
مطلب : في حجة الإجماع
وقوله :﴿ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ ولا المُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾ يقتضي لزوم اتّباع المؤمنين وترك العدول عنهم كما يلزم اتّباع النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على لزوم حجة الإجماع، وهو كقوله :﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولّى ﴾ [ النساء : ١١٥ ].
والوَلِيجَةُ المدخل، يقال : وَلَجَ إذا دَخَلَ، كأنه قال : لا يجوز أن يكون له مدخل غير مدخل المؤمنين. ويقال إن الوليجة بمعنى الدخيلة والبطانة، وهي من المداخلة والمخالطة والمؤانسة، فإن كان المعنى هذا فقد دلّ على النهي عن مخالطة غير المؤمنين ومداخلتهم وترك الاستعانة بهم في أمور الدين كما قال :﴿ لا تتخذوا بطانة من دونكم ﴾ [ آل عمران : ١١٨ ].
قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ للمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ الله ﴾. عمارة المسجد تكون بمعنيين، أحدهما : زيارته والكون فيه، والآخر : ببنائه وتجديد ما استرمَّ منه ؛ وذلك لأنه يقال : اعتمر، إذا زار، ومنه العمرة لأنها زيارة البيت، وفلان من عُمَّارِ المساجد إذا كان كثير المضيِّ إليها والكون فيها، وفلان يعمر مجلس فلان إذا أكثر غِشْيَانه له. فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد ومن بنائها وتولّي مصالحها والقيام بها لانتظام اللفظ للأمرين.
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ ﴾. فيه نهيٌ للمؤمنين عن موالاة الكفار ونصرتهم والاستنصار بهم وتفويض أمورهم إليه وإيجاب التبرّي منهم وترك تعظيمهم وإكرامهم، وسواءٌ بين الآباء والإخوان في ذلك، إلا أنه قد أمر مع ذلك بالإحسان إلى الأب الكافر وصحبته بالمعروف بقوله تعالى :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه ﴾ إلى قوله :﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطِعْهِما وصاحبهما في الدنيا معروفاً ﴾ [ العنكبوت : ٨ ]. وإنما أمر المؤمنين بذلك ليتميّزوا من المنافقين، إذ كان المنافقون يتولَّوْنَ الكفار ويُظهرون إكرامهم وتعظيمهم إذا لقوهم ويُظهرون لهم الولاية والحياطة، فجعل الله تعالى ما أمر به المؤمن في هذه الآية عَلَماً يتميز به المؤمن من المنافق، وأخبر أن من لم يفعل ذلك فهو ظالم لنفسه مستحقٌّ للعقوبة من ربه.
قوله تعالى :﴿ إنَّما المشْرِكُونَ نَجَسٌ فلا يقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾. إطلاق اسم النجس على المشرك من جهة أن الشرك الذي يعتقده يجب اجتنابه كما يجب اجتناب النجاسات والأقذار ؛ فلذلك سماهم نَجَساً. والنجاسة في الشرع تنصرف على وجهين، أحدهما : نجاسة الأعيان، والآخر : نجاسة الذنوب ؛ وكذلك الرجس والرجز ينصرف على هذين الوجهين في الشرع ؛ قال الله تعالى :﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ﴾ [ المائدة : ٩٠ ]، وقال في وصف المنافقين :﴿ سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾، فسماهم رِجْساً كما سمى المشركين نَجَساً. وقد أفاد قوله :﴿ إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ منعهم عن دخول المسجد إلاّ لعذر، إذ كان علينا تطهير المساجد من الأنجاس.
مطلب : هل يجوز دخول المشرك المسجد
وقوله تعالى :﴿ فلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾ قد تنازع معناه أهل العلم، فقال مالك والشافعي :" لا يدخل المشرك المسجد الحرام " قال مالك :" ولا غيره من المساجد إلا لحاجة، من نحو الذميّ يدخل إلى الحاكم في المسجد للخصومة ". وقال الشافعي :" يدخل كل مسجد إلا المسجد الحرام خاصة ". وقال أصحابنا :" يجوز للذمي دخول سائر المساجد " وإنما معنى الآية على أحد وجهين : إما أن يكون النهيُ خاصّاً في المشركين الذين كانوا ممنوعين من دخول مكة وسائر المساجد لأنهم لم تكن لهم ذمة وكان لا يُقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وهم مشركو العرب، أو أن يكون المراد منعهم من دخول مكة للحج ؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء يوم النحر في السنة التي حج فيها أبو بكر فيما روى الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة أن أبا بكر بعثه فيمن يؤذن يوم النحر بمِنى : أن لا يَحُجَّ بعد العام مشرك، فنبذ أبو بكر إلى الناس فلم يحج في العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشرك فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ الآية. وفي حديث عليّ حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلِّغ عنه سورة براءة نادى :" ولا يحج العام مشرك ". وفي ذلك دليل على أن المراد بقوله :﴿ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ ﴾. ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ ﴾ وإنما كانت خشية العَيْلَةِ لانقطاع تلك المواسم بمنعهم من الحج لأنهم كانوا ينتفعون بالتجارات التي كانت تكون في مواسم الحج، فدلّ ذلك على أن مراد الآية الحج. ويدل عليه اتفاق المسلمين على منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة وسائر أفعال الحج وإن لم يكن في المسجد، ولم يكن أهل الذمة ممنوعين من هذه المواضع، ثبت أن مراد الآية هو الحج دون قرب المسجد لغير الحج ؛ لأنه إذا حمل على ذلك كان عموماً في سائر المشركين وإذا حمل على دخول المسجد كان خاصّاً في ذلك دون قرب المسجد، والذي في الآية النهْيُ عن قُرْبِ المسجد، فغير جائز تخصيص المسجد به دون ما يقرب منه. وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص : أن وفد ثَقِيفٍ لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم قبة في المسجد، فقالوا : يا رسول الله قوم أنجاس ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنّه لَيْسَ عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَنْجَاسِ النَّاسِ شَيْءٌ إنّما أَنْجَاسُ النَّاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ". وروى يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب :" أن أبا سفيان كان يدخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر "، غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام لقول الله تعالى :﴿ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ ﴾.
قال أبو بكر : فأما وفد ثقيف فإنهم جاؤوا بعد فتح مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والآية نزلت في السنة التي حَجَّ فيها أبو بكر وهي سنة تسع، فأنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وأخبر أن كونهم أنجاساً لا يمنع دخولهم المسجد، وفي ذلك دلالة على أن نجاسة الكفر لا تمنع الكافر من دخول المسجد. وأما أبو سفيان فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتجديد الهدنة وذلك قبل الفتح، وكان أبو سفيان مشركاً حينئذ، والآية وإن كان نزولها بعد ذلك فإنما اقتضت النهي عن قرب المسجد الحرام ولم تَقْتَضِ المنع من دخول الكفار سائر المساجد.
فإن قيل : لا يجوز للكافر دخول الحرم إلا أن يكون عبداً أو صبيّاً أو نحو ذلك، لقوله تعالى :﴿ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ ﴾ ولِمَا روى زيد بن يُثَيِّعٍ عن عليّ رضي الله عنه أنه نادى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يدخل الحرم مشرك ". قيل له : إن صح هذا اللفظ فالمراد أن لا يدخله للحج، وقد رُوي في أخبارٍ عن علي أنه نادى أن لا يحج بعد العام مشرك، وكذلك في حديث أبي هريرة، فثبت أن المراد دخول الحرم للحج. وقد رَوَى شَرِيكٌ عن أشعث عن الحسن عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يَقْرَبِ المُشْرِكُونَ المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا إِلاّ أَنْ يَكُونَ عَبْداً أَوْ أَمَةً يَدْخُلُهُ لحَاجَة "، فأباح دخول العبد والأَمَةِ للحاجة لا للحجّ، وهذا يدل على أن الحرّ الذميّ له دخوله لحاجة، إذْ لم يفرق أحدٌ بين العبد والحر، وإنما خصّ العبد والأمة والله أعلم بالذكر لأنهما لا يدخلانه في الأغلب الأعم للحجّ. وقد حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبدالرزاق : أخبرنا ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول في قوله تعالى :﴿ إِنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ ﴾ :" إلا أن يكون عبداً أو واحداً من أهل الذمة "، فوقفه أبو الزبير على جابر، وجائز أن يكونا صحيحين فيكون جابر قد رفعه تارة وأفتى بها أخرى. ورَوَى ابن جريج عن عطاء قال :" لا يدخل المسجد مشرك " وتلا قوله تعالى :﴿ فلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾ ؛ قال عطاء :" المسجد الحرام الحرم كله ". قال ابن جريج : وقال لي عمرو بن دينار مثل ذلك.
قال أبو بكر : والحرم كله يُعَبَّرُ عنه بالمسجد، إذ كانت حرمته متعلقة بالمسجد، وقال الله تعالى :﴿ والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ﴾ [ الحج : ٢٥ ] والحرم كله مراد به، وكذلك قوله تعالى :﴿ ثم محلها إلى البيت العتيق ﴾ [ الحج : ٣٣ ] قد أُرِيدَ به الحرمُ كلّه لأنه في أي الحرم نحر البُدْنَ أجزأه، فجائز على هذا أن يكون المراد بقوله تعالى :﴿ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ ﴾ الحرم كله للحجّ، إذْ كان أكثر أفعال المناسك متعلقاً بالحرم والحرم كله في حكم المسجد لما وصفنا، فعبّر عن الحرم بالمسجد وعبر عن الحجّ بالحرم. ويدل على أن المراد بالمسجد ههنا الحرم قوله تعالى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ﴾ ومعلوم أن ذلك كان بالحديبية وهي على شفير الحرم ؛ وذكر المِسْوَرُ بن مخرمة ومروان بن الحكم أن بعضها من الحلّ وبعضها من الحرم. فأطلق الله تعالى عليها أنها عند المسجد الحرام وإنما هي عند الحرم. وإطلاقه تعالى اسم النّجَسِ على المشركين يقتضي اجتنابهم وتَرْكَ مخالطتهم، إذْ كنا مأمورين باجتناب الأنجاس. وقوله تعالى :﴿ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾ فإن قتادة ذكر أن المراد العام الذي حجَّ فيه أبو بكر الصديق فتلا عليٌّ سورة براءة، وهو لتسع مضين من الهجرة، وكان بعده حجة الوداع سنة عشرة.
قوله تعالى :﴿ وإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ ﴾ ؛ فإن العَيْلَةَ الفقرُ، يقال : عال يعيل إذا افتقر ؛ قال الشاعر :
* وَمَا يَدْري الفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ * وما يَدْري الغَنيُّ مَتَى يَعِيلُ *
وقال مجاهد وقتادة :" كانوا خافوا انقطاع المتاجر بمنع المشركين، فأخبر الله تعالى أنه يغنيهم من فضله " فقيل : إنه أراد الجزية المأخوذة من المشركين، وقيل : أراد الإخبار بإبقاء المتاجر من جهة المسلمين ؛ لأنه كان عالماً أن العرب وأهل بلدان العجم سيُسْلِمُون ويحجون فيستغنون بما ينالون من منافع متاجرهم عن حضور المشركين، وهو نظير قوله تعالى :﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ﴾ [ المائدة : ٩٧ ] الآية، فأخبر تعالى عما في حج البيت والهَدْي والقلائد من منافع الناس ومصالحهم في دنياهم ودينهم، وأخبر في قوله :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ ﴾ عما ينالون من الغنى بحجّ المسلمين وإن كانوا قليلين في وقت نزول الآية. وإنما علق الغِنَى بالمشيئة لمعنيين كل واحد منهما جائز أن يكون مراداً، أحدهما : أنه لما كان منهم من يموت ولا يبلغ هذا الغنى الموعود به علّقه بشرط المشيئة، والثاني : لينقطع الآمال إلى الله في إصلاح أمور الدنيا والدين، كما قال الله تعالى :﴿ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ﴾ [ الفتح : ٢٧ ].

باب أخذ الجزية من أهل الكتاب


قال الله عز وجل :﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ولا باليَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾. أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر مع إظهارهم الإيمان بالنشور والبعث ؛ وذلك يحتمل وجوهاً، أحدها : أن يكون مراده لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي يجري حكم الله فيه من تخليد أهل الكتاب في النار وتخليد المؤمنين في الجنة، فلما كانوا غير مؤمنين بذلك أطلق القول فيهم بأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر ومراده حكم يوم الآخر وقضاؤه فيه، كما تقوله : أهل الكتاب غير مؤمنين بالنبي، والمراد بنبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل فيه إنه أطلق ذلك فيهم على طريق الذمّ لأنهم بمنزلة من لا يقربه في عظم الجرم، كما أنهم بمنزلة المشركين في عبادة الله تعالى بكفرهم الذي اعتقدوه. وقيل أيضاً : لما كان إقرارهم عن غير معرفة لم يكن ذلك إيماناً وأكثرهم بهذه الصفة. وقوله تعالى :﴿ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ ﴾ فإن دين الحق هو الإسلام، وقال الله تعالى :﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ [ آل عمران : ١٩ ] وهو التسليم لأمر الله وما جاءت به رسله والانقياد له والعمل به. والدين ينصرف على وجوه : منها الطاعة، ومنها القهر، ومنها الجزاء ؛ قال الأعشى :
* هُوَ دَانَ الرَّبَابَ اذْكَرِهُوَا الدِّي * ن دِرَاكاً بغَزْوَةٍ وصِيَالِ *
يعني : قَهَرَ الرباب إذ كرهوا طاعته وأبوا الانقياد له. وقوله تعالى :﴿ مالك يوم الدين ﴾ [ الفاتحة : ٤ ] قيل إنه يوم الجزاء، ومنه : كما تدين تُدان.
مطلب : في تفسير دين الحق
ودين اليهود والنصارى غير دين الحق ؛ لأنهم غير منقادين لأمر الله ولا طائعين له لجحودهم نبوَّة نبينا صلى الله عليه وسلم. فإن قيل : فهم يدينون بدين التوراة والإنجيل ويعترفون به منقادين له. قيل له : في التوراة والإنجيل ذِكْرُ نبينا وأمْرُنا بالإيمان واتّباع شرائعه، وهم غير عاملين بذلك بل تاركون له، فهم غير متبعين دين الحق. وأيضاً فإن شريعة التوراة والإنجيل قد نُسخت والعملُ بها بعد النسخ ضلالٌ فليس هو إذاً دين الحق. وأيضاً فهم قد غيّروا المعاني وحرَّفوها عن مواضعها وأزالوها إلى ما تهواه أنفسهم دون ما أوجبته عليهم كتب الله تعالى، فهم غير دائنين دين الحق.
مطلب : أهل الكتاب هم اليهود والنصارى
قوله تعالى :﴿ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ ﴾، فإن أهل الكتاب من الكفار هم اليهود والنصارى لقوله تعالى :﴿ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ﴾ [ الأنعام : ١٥٦ ]، فلو كان المجوس أو غيرهم من أهل الشرك من أهل الكتاب لكانوا ثلاثَ طوائف، وقد اقتضت الآية أن أهل الكتاب طائفتان ؛ وقد بيّناه فيما سلف.
مطلب : في الصابئين وفي بعض فرق النصارى
وتقدم الكلام أيضاً في حكم الصابئين وهل هم أهل الكتاب أم لا ؛ وهم فريقان : أحدهما بنواحي كَسْكَرَ والبطائح، وهم فيما بلغنا صِنْفٌ من النصارى وإن كانوا مخالفين لهم في كثير من دياناتهم ؛ لأن النصارى فرق كثيرة منهم المرقونية والآريوسية والمارونية، والفرق الثلاث من النسطورية والملكية واليعقوبية يبرؤون منهم ويحرمونهم، وهم ينتمون إلى يحيى بن زكريا وشيث وينتحلون كتباً يزعُمُون أنها كتب الله التي أنزلها على شِيثَ بن آدم ويحيى بن زكريا، والنصارى تسميهم يوحنَّاسِيَّة ؛ فهذه الفرقة يجعلها أبو حنيفة رحمه الله من أهل الكتاب ويبيح أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم. وفرقة أخرى قد تسمَّتْ بالصابئين، وهم الحرَّانيون الذين بناحية حَرَّانَ، وهم عَبَدَةُ الأوثان ولا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ولا ينتحلون شيئاً من كتب الله، فهؤلاء ليسوا أهل الكتاب. ولا خلاف أن هذه النحلة لا تُؤكل ذبائحهم ولا تُنكح نساؤهم، فمذهب أبي حنيفة في جعله الصابئين من أهل الكتاب محمول على مراده الفرقة الأولى. وأما أبو يوسف ومحمد فقالا :" إن الصابئين ليسوا أهل الكتاب " ولم يفصلوا بين الفريقين. وقد رُوي في ذلك اختلافٌ بين التابعين. وروى هشيم أخبرنا مطرف قال : كنا عند الحكم بن عيينة، فحدّثه رجل عن الحسن البصري أنه كان يقول في الصابئين : هم بمنزلة المجوس، فقال الحسن : أليس قد كنت أخبرتكم بذلك ؟ وروى عباد بن العوام عن الحجّاج عن القاسم بن أبي بزّة عن مجاهد قال :" الصابئون قوم من المشركين بين اليهود والنصارى ليس لهم كتاب "، وكذلك قول الأوزاعي ومالك بن أنس. وروى يزيد بن هارون عن حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد أنه سئل عن الصابئين : أمن أهل الكتاب هم وطعامهم ونساؤهم حلّ للمسلمين ؟ فقال : نعم. وأما المجوس فليسوا أهل كتاب، بدلالة الآية ولما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ " وفي ذلك دلالة على أنهم ليسوا أهل كتاب.
وقد اختلف أهل العلم فيمن تؤخذ منهم الجزية من الكفار بعد اتفاقهم على جواز إقرار اليهود والنصارى بالجزية، فقال أصحابنا :" لا يُقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف وتُقبل من أهل الكتاب من العرب ومن سائر كفار العجم الجزية ". وذكر ابن القاسم عن مالك :" أنه تقبل من الجميع الجزية إلا من مشركي العرب " وقال مالك في الزنج ونحوهم :" إذا سُبُوا يُجبرون على الإسلام ". ورُوي عن مجاهد أنه قال :" يقاتَلُ أهلُ الكتاب على الجزية وأهل الأوثان على الصلاة "، ويحتمل أن يريد به أهل الأوثان من العرب. وقال الثوري :" العرب لا يُسْبَوْن وهوازن سُبُوا ثم تركهم النبي صلى الله عليه وسلم ". وقال الشافعي :" لا تُقبل الجزية إلا من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً ".
قال أبو بكر : قوله تعالى :﴿ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ يقتضي قَتْلَ سائر المشركين، فمن الناس من يقول : إن عمومه مقصور على عبدة الأوثان دون أهل الكتاب والمجوس ؛ لأن الله تعالى قد فرق في اللفظ بين المشركين وبين أهل الكتاب والمجوس بقوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا ﴾ [ الحج : ١٧ ] فعطف بالمشركين على هذه الأصناف، فدلّ ذلك على أن إطلاق هذا اللفظ يختص بعَبَدَةِ الأوثان وإن كان الجميع من النصارى والمجوس والصابئين مشركين ؛ وذلك لأن النصارى قد أشركت بعبادة الله عبادةَ المسيح والمجوسُ مشركون من حيث جعلوا لله ندّاً مغالباً، والصابئون فريقان، أحدهما عبدة الأوثان والآخر لا يعبدون الأوثان ولكنهم مشركون في وجوه أخر، إلا أن إطلاق لفظ المشرك يتناول عَبَدَةَ الأوثان، فلم يوجب قوله تعالى :﴿ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ ﴾ إلاّ قتل عبدة الأوثان دون غيرهم. وقال آخرون : لما كان معنى الشرك موجوداً في مقالات هذه الفرق من النصارى والمجوس والصابئين قد انتظمهم اللفظ، ولولا ورود آية التخصيص في أهل الكتاب خُصُّوا من الجملة ومن عداهم محمولون على حكم الآية عرباً كانوا أو عجماً.
ولم يختلفوا في جواز إقرار المجوس بالجزية، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أخبار، ورَوَى سفيان بن عيينة عن عمرو أنه سمع مجالداً يقول :" لم يكن عمر بن الخطاب يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هَجَرَ ". وروى مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر ذكر المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم، فقال عبدالرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ ". وروى يحيى بن آدم عن المسعودي عن قتادة عن أبي مجلز قال :" كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر أنه من استقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، ومن أحبَّ ذلك من المجوس فهو آمِنٌ ومن أبَى فعليه الجزية ". وروى قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد :" أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس البحرين يدعوهم إلى الإسلام، فمن أسلم منهم قُبل منه، ومن أبَى ضُربت عليه الجزية، ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة ". وروى الطحاوي عن بكار بن قتيبة قال : حدثنا عبدالرحمن بن عمران : حدثنا عوف قال :" كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن أرطاة : أما بعد فاسأل الحسن ما منع مَنْ قِبَلِنَا من الأئمة أن يَحُولُوا بين المجوس وبين ما يجمعون من النساء اللاتي لا يجمعهن أحد غيرهم ؟ فسأله، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل من مجوس البحرين الجزية وأقرّهم على مجوسيتهم وعَامِلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ على البحرين العلاء بن الحضرمي، وفعله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان ". وروى معمر عن الزهري :" أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل الأوثان على الجزية إلا من كان منهم من العرب ". وروى الزهري عن سعيد بن المسيب :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هَجَرَ، وأن عمر بن الخطاب أخذها من مجوس السواد، وأن عثمان أخذها من بَرْبَرَ ".
وفي هذه الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من المجوس، وفي بعضها أنه أخذها من عَبَدَةِ الأوثان من غير العرب، ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء في جواز أخذ الجزية من المجوس ؛ وقد نقلت الأمة أخْذَ عمر بن الخطاب الجزية من مجوس السواد، فمن الناس من يقول إنما أخذها لأن المجوس أهل كتاب ويحتجُّ في ذلك بما روى سفيان بن عيينة عن أبي سعيد عن نصر بن عاصم عن عليّ أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان أخذوا الجزية من المجوس، وقال عليّ :" أنا أعلم الناس بهم كانوا أهل كتاب يقرؤونه وأهل علم يدرسونه فنزع ذلك من صدورهم "، وقد ذكرنا فيما تقدم من الدلالة على أنهم ليسوا أهل كتاب من جهة الكتاب والسنة. وأما ما رُوي عن عليّ في ذلك أنهم كانوا أهل كتاب، فإنه إن صحت الرواية فإن المراد أن أسلافهم كانوا أهل كتاب لإخباره بأن ذلك نُزِعَ من صدورهم، فإذاً ليسوا أهل كتاب في هذا الكتاب. ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب ما رُوي في حديث الحسن بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مجوس البحرين :" إِنَّ مَنْ أَبَى مِنْهُمُ الإِسْلاَمَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الجِزْيَةُ ولا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ ولا تُنْكَحُ لَهُمُ امْرَأَةٌ "، ولو كانوا أهل كتاب لجاز أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم ؛ لأن الله تعالى قد أباح ذلك من أهل الكتاب. ولما ثبت أخْذُ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس وليسوا أهل كتاب ثبت جواز أخْذِها من سائر الكفار أهل كتاب كانوا أو غير أهل كتاب إلا عبدة الأوثان من العرب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وبقوله تعالى :﴿ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾، وهذا في عبدة الأوثان من العرب. ويدل على جواز أخْذ الجزية من سائر المشركين سوى مشركي العرب حديثُ علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أ
قوله تعالى :﴿ وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ﴾ قيل إنه أراد فرقة من اليهود قالت ذلك ؛ والدليل على ذلك أن اليهود قد سمعت ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم تنكره، وهو كقول القائل : الخوارج ترى الاستعراض وقَتْلَ الأطفال، والمراد فرقة منهم لا جميعهم ؛ وكقولك : جاءني بنو تميم، والمراد بعضهم. قال ابن عباس :" قال ذلك جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ذلك، وهم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصّيّف، فأنزل الله تعالى هذه الآية "، وليس في اليهود من يقول ذلك الآن فيما نعلم وإنما كانت فرقة منهم قالت ذلك فانقرضت.
قوله تعالى :﴿ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ﴾ يعني يشابهونهم، ومنه امرأة ضَهْيَاءَ للتي لا تحيض ؛ لأنها أشبهت الرجال من هذا الوجه. فساوى المشركين الذين جعلوا الأصنام شركاء لله سبحانه وتعالى لأن هؤلاء جعلوا المسيح وعُزَيْراً اللذين هما خلقان لله ولدين له وشريكين، كما جعل أولئك الأصنام المخلوقة شركاء لله تعالى. قال ابن عباس :﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ﴾ يعني به عبدة الأوثان الذين عبدوا اللات والعُزَّى ومَنَاةَ الثالثة الأخرى. وقيل إنهم يضاهئونهم لأن أولئك قالوا : الملائكة بنات الله، وقال هؤلاء : عزير ومسيح ابنا الله. وقيل : يضاهئونهم في تقليد أسلافهم.
وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بأَفْوَاهِهِمْ ﴾ يعني أنه لا يرجع إلى معنى صحيح ولا حقيقة له ولا محصول أكثر من وجوده في أفواههم.
وقوله :﴿ قاتَلَهُمُ الله ﴾ قال ابن عباس :" لعنهم الله ". وقيل : إن معناه قتلهم الله، كقولهم عافاه الله أي أعفاه الله من السوء. وقيل : إنه جعل كالقاتل لغيره في عداوة الله عز وجل.
قوله تعالى :﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ ؛ قيل : إن الحَبْرَ العالم الذي صناعته تحبير المعاني بحسن البيان عنها، يقال فيه حَبْرٌ وحَبِيرٌ ؛ والراهب الخاشي الذي يظهر عليه لباس الخشية، يقال : راهب ورهبان، وقد صار مستعملاً في متنسكي النصارى. وقوله :﴿ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ ﴾ قيل فيه وجهان، أحدهما : أنهم كانوا إذا حرموا عليهم شيئاً حرموه وإذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه. ورُوي في حديث عديّ بن حاتم لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال : فتلا النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ﴾ قال : قلت يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم !‍ قال :" أَلَيْسَ كَانُوا إذا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئاً حَرَّمُوهُ وَإذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئاً أَحَلُّوهُ ؟ " قال : قلت : نعم، قال :" فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ ". ولما كان التحليل والتحريم لا يجوز إلا من جهة العالم بالمصالح ثم قلّدوا هؤلاء أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم وقبلوه منهم وتركوا أمر الله تعالى فيما حرم وحلّل، صاروا متخذين لهم أرباباً، إذ نَزّلوهم في قبول ذلك منهم منزلة الأرباب. وقيل : إن معناه أنهم عظموهم كتعظيم الرب لأنهم يسجدون لهم إذا رأوهم، وهذا الضرب من التعظيم لا يستحقه غير الله تعالى، فلما فعلوا ذلك فهم كانوا متخذين لهم أرباباً.
قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾. فيه بشارة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بنصرهم وإظهار دينهم على سائر الأديان، وهو إعلاؤه بالحجة والغلبة وقهر أمته لسائر الأمم ؛ وقد وجد مخبره على ما أخبر به بظهور أمته وعلوّها على سائر الأمم المخالفة لدين الإسلام. وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أن القرآن كلام الله ومن عنده ؛ وذلك لأن مثله لا يتفق للمتخرِّصين والكذّابين مع كثرة ما في القرآن من الأخبار عن الغيوب، إذ لا يعلم الغيب إلا الله، فهو إذاً كلامه وخبره، ولا ينزل الله كلامه إلا على رسوله.
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ ﴾. أكل المال بالباطل هو تملكه من الجهة المحظورة ؛ ورُوي عن الحسن أنهم كانوا يأخذون الرَّشَى في الحكم. وذكر الأكل والمراد سائر وجوه المنافع والتصرف، إذْ كان أعظم منافعه الأكل والشرب. وهو كقوله تعالى :﴿ لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بِالبَاطِلِ ﴾ [ النساء : ٢٩ ] والمراد سائر وجوه المنافع، وكقوله تعالى :﴿ ولا تَأْكُلُوا أموالهم ﴾ [ النساء : ٢ ] و ﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ﴾ [ النساء : ١٠ ].
مطلب : في زكاة الذهب والفضة
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ الله ﴾ الآية ؛ يقتضي ظاهره إيجاب إنفاق جميع المال ؛ لأن الوعيد لاحق بترك إنفاق الجميع لقوله :﴿ ولا يُنْفِقُونَها ﴾ ولم يقل ولا ينفقون منها. فإن قيل : لو كان المراد الجميع لقال : ولا ينفقونهما. قيل له : لأن الكلام رجع إلى مدلول عليه، كأنه قال : ولا ينفقون الكنوز، والآخران يُكْتَفَى بأحدهما عن الآخر للإيجاز كقوله تعالى :﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها ﴾ [ الجمعة : ١١ ]، قال الشاعر :
* نَحْنُ بما عِنْدَنَا وأَنْتَ بما * عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ *
والمعنى : راضون. والدليل على أنه راجع إليهما جميعاً أنه لو رجع إلى أحدهما دون الآخر لبقي أحدهما عارياً من خبره فيكون كلاماً منقطعاً لا معنى له ؛ إذْ كان قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ﴾ مفتقراً إلى خبر، ألا ترى أنه لا يجوز الاقتصار عليه ؟.
وقد رُوي في معنى ظاهر الآية أخبار ؛ روى موسى بن عبيدة قال : حدثني عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" في الإبل صَدَقَتُها مِنْ جَمْعٍ دِينَاراً أَوْ دِرْهَماً أو تِبْراً أوْ فِضَّةً لا يُعِدُّهُ لغَرِيمٌ، ولا يُنْفِقُهُ في سَبِيلِ الله فهي كي يُكْوَى بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ "، قال : قلت : انظر ما يجيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذه الأموال قد فشت في الناس ! فقال : أما تقرأ القرآن :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ﴾ الآية. فاقتضى ظاهره أن في الإبل صدقتها لا جميعها وهي الصدقة المفروضة، وفي الذهب والفضة إخراج جميعهما ؛ وكذلك كان مذهب أبي ذر رحمة الله عليه أنه لا يجوز ادّخار الذهب والفضة. وروى محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً يَمُرُّ عَليَّ ثَلاثَةٌ وعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إلاّ أنْ لا أَجِدَ أَحَداً يَقْبَلُهُ مِنِّي صَدَقَةً إِلاّ أَنْ أَرْصُدَهُ لدَيْنٍ عَلَيَّ ". فذكر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحب ذلك لنفسه واختار إنفاقه ولم يذكر وعيد تارك إنفاقه. وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة قال : توفي رجل من أهل الصُّفَّةِ فوُجِدَ معه دينار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كَيَّةٌ ". وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه أخذ الدينار من غير حلّه أو منعه من حقه، أو سأله غيره بإظهار الفاقة مع غناه عنه، كما روي عنه صلى الله عليه وسلم :" مَنْ سَأَلَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فإنّما يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ " فقلنا : وما غناه يا رسول الله ؟ قال :" أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ "، وكان ذلك في وقت شدة الحاجة وضيق العيش ووجوب المؤاساة من بعضهم لبعض. وقد رُوي عن عمر بن عبدالعزيز أنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ].
قال أبو بكر : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنقل المستفيض إيجابه في مائتي درهم خمسة دراهم وفي عشرين ديناراً نصف دينار، كما أوجب فرائض المواشي ولم يوجب الكلّ، فلو كان إخراج الكل واجباً من الذهب والفضة لما كان للتقدير وجه. وأيضاً فقد كان في الصحابة قوم ذَوُو يسار ظاهرٍ وأموالٍ جمّةٍ، مثل عثمان وعبدالرّحمن بن عوف، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منهم فلم يأمرهم بإخراج الجميع، فثبت أن إخراج جميع الذهب والفضة غير واجب، وأن المفروض إخراجه هو الزكاة إلا أن تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء نحو الجائع المضطر والعاري المضطر أو ميت ليس له من يكفنه أو يواريه. وقد روى شريك عن أبي حمزة عن عامر عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" في المَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ "، وتلا قوله تعالى :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ الله ﴾ يحتمل أن يريد به : ولا ينفقون منها، فحذف " مِنْ " وهو يريدها، وقد بينه بقوله :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ]، فأمر بأخذ بعض المال لا جميعه، وليس في ذلك ما يوجب نسخ الأول إذ جائز أن يكون مراده : ولا ينفقون منها.
وأما الكنز فهو في اللغة كَبْسُ الشيء بعضُه على بعضٍ، قال الهُذَلِيّ :
* لا دَرَّ دَرِّي إنْ أَطْعَمْتُ نَازِلَكُمْ * قَرْفَ الحَيِّ وعِنْدِي البُرُّ مَكْنُوزُ *
ويقال : كنزت التمر إذا كبسته في القَوْصَرة، وهو في الشرع لما لم يؤدَّ زكاته. ورُوي عن عمر وابن عباس وابن عمر والحسن وعامر والسدي قالوا :" ما لم يؤدَّ زكاته فهو كنز "، فمنهم من قال : وإن كان ظاهراً، " وما أدّي زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً "، ومعلوم أن أسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفاً، فثبت أن الكنز اسم لما لم يؤدَّ زكاته المفروضة، وإذا كان كذلك كان تقدير قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ﴾ : الذين لا يؤدّون زكاة الذهب والفضة ﴿ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا ﴾ يعني الزكاة في سبيل الله، فلم تقتضِ الآية إلا وجوب الزكاة فحسب.
وقد حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة : حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي : حدثنا أبي : حدثنا غيلان عن جعفر بن إياس عن مجاهد عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ﴾ كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر : أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال : يا نبي الله، إنه كَبُرَ على أصحابك هذه الآية‍ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ الله لم يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إلا ليَطِيبَ ما بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ وإِنّما فَرَضَ المَوَارِيثَ لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكُمْ "، قال : فكبّر عمر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا أُخْبِرُكُمْ بخَيْرِ مَا يَكْنِزُ المَرْءُ ؟ المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، إِذَا نَظَرَ إِلَيْها سَرَّتْهُ، وإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وإِذَا غَابَ عَنْها حَفِظَتْهُ "، فأخبر في هذا الحديث أن المراد إنفاق بعض المال لا جميعه، وأن قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ﴾ المراد به منع الزكاة. وروى ابن لهيعة قال : حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ الحَقَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْكَ ". فأخبر في هذا الحديث أيضاً أن الحق الواجب في المال هو الزكاة. وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ كَنْزِهِ إِلا جِيءَ بهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وبكَنْزِهِ، فيُحْمَى بها جَنْبُهُ وجَبِينُهُ حَتّى يَحْكُمَ الله بَيْنَ عِبَادِهِ "، فأخبر في هذا الحديث أن الحق الواجب في الكنز هو الزكاة دون غيره وأنه لا يجب جميعه ؛ وقوله :" فيُحْمَى بها جَنْبُه وجَبْهَتُه " يدل على أنه أراد معنى قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ﴾ إلى قوله :﴿ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾ يعني : لم تؤدّوا زكاته. وحدثنا عبدالباقي : حدثنا بشر بن موسى : حدثنا عبدالله بن صالح : حدثنا عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ الَّذِي لا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ يُمَثَّلُ له شُجَاعٌ أَقْرَعُ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يَلْزَمُهُ أَوْ يُطَوَّقَهُ فَيَقُولُ أَنا كَنْزُكَ أَنَا كَنْزُكَ ". فأخبر أن المال الذي لا تؤدَّى زكاته هو الكنز. ولما ثبت بما وصفنا أن قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ الله ﴾ مراده منع الزكاة، أوجب عمومه إيجاب الزكاة في سائر الذهب والفضة، إذْ كان الله إنما علّق الحكم فيهما بالاسم فاقتضى إيجاب الزكاة فيهما بوجود الاسم دون الصنعة، فمن كان عنده ذهب مَصُوغٌ أو مضروب أو تِبْرٌ أو فضة كذلك فعليه زكاته بعموم اللفظ ؛ ويدل أيضاً على وجوب ضم الذهب إلى الفضة لإيجابه الحق فيهما مجموعين في قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ الله ﴾.
مطلب : في زكاة الحلي
وقد اختلف الفقهاء في زكاة الحليّ، فأوجب أصحابُنا فيه الزكاة ؛ ورُوي مثله عن عمر وابن مسعود، رواه سفيان الثوري عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود. ورُوي عن جابر وابن عمر وعائشة :" لا زكاة في الحليّ "، وهو قول مالك والشافعي. ورُوي عن أنس بن مالك :" أن الحليّ تزكَّى مرة واحدة، ولا تزكَّى بعد ذلك ". وقد ذكرنا وجه دلالة الآية على وجوبها في الحليِّ لشمول الاسم له. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار في إيجاب زكاة الحليّ، منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأتين في أيديهما سواران من ذهب فقال :" أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا ؟ " قال : لا، قال :" أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ الله بِهِمَا يَوْمَ القِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟ " فأوجب الزكاة في السوار. وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عيسى قال : حدثنا عتَّاب عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة قالت : كنت ألبس أوْضاحاً من ذهب فقلت : يا رسول الله أكنز هو ؟ فقال :" ما بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بكَنْزٍ ". وقد حوى هذا الخبر معنيين، أحدهما : وجوب زكاة الحليّ، والآخر : أن الكنز ما لم تؤدَّ زكاته. وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن إدريس الرازي : حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق : حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره عن عبدالله بن شداد بن الهاد أنه قال : دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يديّ فَتَخَاتٍ من وَرِقٍ، فقال :" مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟ " فقالت : صنعتهنَّ أتزين لك يا رسول الله ! قال :" أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ ؟ " قالت : لا، أو ما شاء الله، قال :" هو
قوله تعالى :﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْراً ﴾ إلى قوله :﴿ حُرُمٌ ﴾. لما قال تعالى في مواضع أُخَر :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ [ البقرة : ١٩٧ ] وقال :﴿ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحجّ ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ]، فعلّق بالشهور كثيراً من مصالح الدنيا والدين، وبيَّن في هذه الآية هذه الشهور، وإنما تُجْرَى على منهاج واحد لا يقدَّم المؤخر منها ولا يؤخر المقدم ؛ وقال :﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله ﴾، وذلك يحتمل وجهين، أحدهما : أن الله وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة، وهو معنى قوله :﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله ﴾ وحُكْمُها باقٍ على ما كانت عليه لم يُزِلْها عن ترتيبها تغييرُ المشركين لأسمائها وتقديم المؤخَّر وتأخير المقدَّم في الأسماء منها، وذَكَرَ ذلك لنا لنتبع أمر الله فيها ونَرْفُضَ ما كان عليه أمر الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليها ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ما رواه ابن عمر وأبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بالعقبة :" يا أيُّها النَّاسُ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ " قال ابن عمر :" فَهُوَ اليَوْمَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ " وقال أبو بكرة :" قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ، وإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْراً مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو القِعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بين جُمَادَى وشَعْبَانَ، وإِنَّ النَّسِيءَ زِيَادَةٌ في الكُفْرِ " الآية. قال ابن عمر : وذلك أنهم كانوا يجعلون صَفَرَ عاماً حراماً وعاماً حلالاً، ويجعلون المحرم عاماً حلالاً وعاماً حراماً، وكان النسيء من الشيطان، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الزمان يعني زمان الشهور قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وأن كل شهر قد عاد إلى الموضع الذي وضعه الله به على ترتيبه ونظامه.
مطلب : قد اجتهد محمد بن موسى المنجم في كشف حقيقة قول النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الزمان قد استدار كهيئته " الخ، ثماني سنين
وقد ذكر لي بعض أولاد بني المنجم أن جدَّه وهو أحسب محمد بن موسى المنجم الذي ينتمون إليه حسب شهور الأهِلّة منذ ابتداء خلق الله السموات والأرض فوجدها قد عادت في موقع الشمس والقمر إلى الوقت الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد عاد إليه يوم النحر من حجة الوداع ؛ لأن خطبته هذه كانت بمنى يوم النحر عند العقبة ؛ وأنه حسب ذلك في ثماني سنين فكان ذلك اليوم العاشر من ذي الحجة على ما كان عليه يوم ابتداء الشهور والشمس والقمر في ذلك اليوم في الموضع الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد عاد الزمان إليه مع النسيء بالذي قد كان أهل الجاهلية ينسأون وتغيير أسماء الشهور، ولذلك لم تكن السنة التي حجَّ فيها أبو بكر الصديق هي الوقت الذي وضع الحجّ فيه.
وإنما قال :" رجب مضر بين جمادى وشعبان " دون رمضان الذي يسميه رَبِيعةُ رَجَبَ.
وأما الوجه الآخر في معنى قوله :﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْراً في كِتَابِ الله ﴾ فهو أن الله قسم الزمان اثني عشر قسماً، فجعل نزول الشمس في كل برج من البروج الاثني عشر قسماً منها، فيكون قطْعُها للفَلَكِ في ثلاثمائة وخسمة وستين يوماً وربع يوم، فيجيء نصيب كل قسم منها بالأيام ثلاثين يوماً وكسر ؛ وقسم الأزمنة أيضاً على مسير القمر، فصار القمر يقطع الفلك في تسعة وعشرين يوماً ونصف يوم. وجعل السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوماً وربع يوم، فكان قَطْعُ الشمس للبرج مقارباً لقطع القمر للفلك كله، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ الشمس والقمر بحسبان ﴾ [ الرحمن : ٥ ]، وقال تعالى :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمَحَوْنَا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ﴾ [ الإسراء : ١٢ ] ؛ فلما كانت السنة مقسومةً على نزول الشمس في البروج الاثني عشر وكان شهورها اثني عشر، واختلفت السنة الشمسية والقمرية في البروج الاثني عشر وكانت شهورها اثني عشر، واختلفت السنة الشمسية والقمرية في الكسر الذي بينهما وهو أحد عشر يوماً بالتقريب، وكانت شهور القمر ثلاثين وتسعة وعشرين فيما يتعلق بها من أحكام الشرع ولم يكن لنصف اليوم الذي هو زيادة على تسعة وعشرين يوماً حكمٌ، فكان ذلك هو القسمة التي قسم الله تعالى عليها السنة في ابتداء وضع الخلق. ثم غيرت الأمم العادلة عن كثير من شرائع الأنبياء هذا الترتيب، فكانت شهور الروم بعضها ثمانية وعشرين وبعضها ثمانية وعشرين ونصفاً وبعضها واحداً وثلاثين ؛ وذلك على خلاف ما أمر الله تعالى من اعتبار الشهور في الأحكام التي تتعلق بها. ثم كانت الفرس شهورُها ثلاثين إلا شهراً واحداً، وهو " بادماه " فإن خمسة وثلاثون، ثم كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهراً كاملاً فتصير السنة ثلاثة عشر. أخبر الله تعالى أن عدة شهور السنة اثنا عشر شهراً لا زيادة فيها ولا نقصان، وهي الشهور القمرية التي إما أن تكون تسعة وعشرين وإما أن تكون ثلاثين ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :" الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ والشَّهْرُ ثَلاثُونَ " وقال :" صُومُوا لرُؤْيَتِهِ وأَفْطِرُوا لرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلاثِينَ "، فجعل الشهر برؤية الهلال، فإن اشتبه لغمام أو قترة فثلاثون ؛ فأعلمنا الله بقوله :﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْراً في كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأَرْضَ ﴾ يعني أن عدة شهور السنة اثنا عشر شهراً لا زيادة عليها، وأبطل به الكبيسة التي كانت تكبسها الفرس فتجعلها ثلاثة عشر شهراً في بعض السنة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن انقضاء الشهور برؤية الهلال، فتارة تسعة وعشرون وتارة ثلاثون ؛ فأعلمنا الله في هذه الآية أنه كذلك وضع الشهور والسنين في ابتداء الخلق. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عَوْدَ الزمان إلى ما كان عليه وأبطل به ما غيّره المشركون من ترتيب الشهور ونظامها وما زاد به في السنين والشهور، وأن الأمر قد استقر على ما وضعه الله تعالى في الأصل لما علم تبارك وتعالى من تعلُّق مصالح الناس في عباداتهم وشرائعهم بكون الشهر والسنين على هذا الوجه، فيكون الصوم تارةً في الربيع وتارةً في الصيف وأخرى في الخريف وأخرى في الشتاء، وكذلك الحج ؛ لعلمه بالمصلحة في ذلك. وقد رُوي في الخبر أن صوم النصارى كان كذلك، فلما رأوه يدور في بعض السنين إلى الصيف اجتمعوا إلى أن نقلوه إلى زمان الربيع وزادوا في العدد وتركوا ما تُعُبِّدُوا به من اعتبار شهور القمر مطلقةً على ما يتفق من وقوعها في الأزمان ؛ وهذا ونحوه مما ذمّهم الله تعالى به وأخبر أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله في اتّباعهم أوامرهم واعتقادهم وجوبها دون أوامر الله تعالى، فضلّوا وأضلّوا.
وقوله تعالى :﴿ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ وهي التي بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، والعرب تقول : ثلاثة سرد وواحد فرد. وإنما سماها حُرُماً لمعنيين، أحدهما : تحريم القتال فيها ؛ وقد كان أهل الجاهلية أيضاً يعتقدون تحريم القتال فيها، وقال الله تعالى :﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ﴾. والثاني : تعظيم انتهاك المحارم فيها بأشدّ من تعظيمه في غيرها، وتعظيم الطاعات فيها أيضاً. وإنما فعل الله تعالى ذلك لما فيه من المصلحة في ترك الظلم فيها لِعَظم منزلتها في حكم الله والمبادرة إلى الطاعات من الاعتمار والصلاة والصوم وغيرها، كما فرض صلاة الجمعة في يوم بعينه وصوم رمضان في وقت معين، وجعل بعض الأماكن في حكم الطاعات ومواقعة المحظورات أعْظَمَ من حرمة غيره نحو بيت الله الحرام ومسجد المدينة، فيكون تَرْكُ الظلم والقبائح في هذه الشهور والمواضع داعياً إلى تركها في غيره، ويصير فعل الطاعات والمواظبة عليها في هذه الشهور وهذه المواضع الشريفة داعياً إلى فعل أمثالها في غيرها للمرور والاعتياد وما يصحب الله العبد من توفيقه عند إقباله إلى طاعته وما يلحق العبد من الخذلان عند إكبابه على المعاصي واشتهاره وأنْسِهِ بها، فكان في تعظيم بعض الشهور وبعض الأماكن أعظم المصالح في الاستدعاء إلى الطاعات وترك القبائح ؛ ولأن الأشياء تجرُّ إلى أشكالها وتُبَاعِدُ من أضدادها، فالاستكثار من الطاعة يدعو إلى أمثالها والاستكثار من المعصية يدعو إلى أمثالها.
قوله تعالى :﴿ فلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾. الضمير في قوله :﴿ فِيهِنَّ ﴾ عند ابن عباس راجعٌ إلى الشهور. وقال قتادة : هو عائد إلى الأربعة الحرم.
وقوله :﴿ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً ﴾، يحتمل وجهين، أحدهما : الأمر بقتال سائر أصناف أهل الشِّرْكِ إلا من اعتصم منهم بالذمة وأداء الجزية على ما بينه في غير هذه الآية. والآخر : الأمر بأن نقاتلهم مجتمعين متعاضدين غير متفرقين. ولما احتمل الوجهين كان عليهما إذْ ليسا متنافيين، فتضمن ذلك الأمر بالقتال لجميع المشركين وأن يكونوا مجتمعين متعاضدين على القتال.
وقوله :﴿ كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾ ؛ يعني أن جماعتهم يرون ذلك فيكم ويعتقدونه. ويحتمل : كما يقاتلونكم مجتمعين. وهذه الآية في معنى قوله :﴿ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ متضمنة لرفع العهود والذمم التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وفيها زيادة معنى وهو الأمر بأن نكون مجتمعين في حال قتالنا إياهم.
قوله تعالى :﴿ إِنَّما النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ ﴾ : فالنَّسِيءُ التأخير، ومنه البيع بنسيئة، وأنسأْتُ البيع أخّرته، و ﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ] أي نؤخرها، ونسئت المرأة إذا حبلت لتأخر حيضها، ونسأت الناقة إذا دفعتها في السير لأنك زَجَرْتَها عن التأخر، والمِنْسَأَةُ العصا التي يُنْسَأُ بها الأذى ويُزجر ويُساق بها فيمنع من التأخر. ومراد الله تعالى ذكره النسيء في هذا الموضع ما كانت العرب تفعله من تأخير الشهور، فكان يقع الحج في غير وقته واعتقاد حرمة الشهور في غير زمانه، فقال ابن عباس :" كانوا يجعلون المحرم صَفَراً "، وقال ابن أبي نجيح وغيره :" كانت قريش تُدْخِلُ في كل ستة أشهر أياماً يوافقون ذا الحجة في كل ثلاث عشرة سنة، فوفّق الله تعالى لرسوله في حجته استدارة زمانهم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، فاستقام الإسلام على عدد الشهور ووقف الحج على ذي الحجة ". وقال ابن إسحاق :" كان ملك من العرب يقال له القَلَمَّس واسمه حذيفة أوّلَ من أنسأ النَّسِيءَ، أنْسَأ المحرم فكان يحلّه عاماً ويحرمه عاماً، فكان إذا حرمه كانت ثلاث حرمات متواليات وهي العدة التي حرم الله في عهد إبراهيم صلوات الله عليه، فإذا أحلّه دخل مكانه صفر في المحرم لتواطىء العدة، يقول : قد أكملت الأربعة كما كانت لأني لم أحلّ شهراً إلا قد حرمت مكانه شهراً، فحجَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقد عاد المحرم إلى ما كان عليه في الأصل، فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْراً ﴾، فأخبر الله أن النسيء الذي كانوا يفعلونه كفر ؛ لأن الزيادة في الكفر لا تكون إلا كفراً، لاستحلالهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحلّ الله، فكان القوم كفاراً باعتقادهم الشرك ثم ازدادوا كفراً بالنسيء ".

باب فَرْضِ النفير والجهاد


قال الله تعالى :﴿ يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ ﴾، إلى قوله :﴿ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾. اقتضى ظاهرُ الآية وُجُوبَ النفير على من لم يستنفر ؛ وقال في آية بعدها :﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقًالاً ﴾. فأوجب النفير مطلقاً غير مقيَّدٍ بشرط الاستنفار، فاقتضى ظاهره وجوب الجهاد على كل مستطيع له.
وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا أبو اليمان وحجَّاج، كلاهما عن جرير بن عثمان عن عبدالرّحمن بن ميسرة وابن أبي بلال عن أبي راشد الحبراني، أنه وَافَى المقداد بن الأسود وهو يجهز، قال : فقلت : يا أبا الأسود قد أعذر الله إليك، أو قال : قد عذرك الله، يعني في القعود عن الغزو ؛ فقال : أتت علينا سورة براءة :﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾. قال أبو عبيد : وحدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن سيرين : أن أبا أيوب شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم يتخلّف عن غزاة المسلمين إلا عاماً واحداً، فإنه استعمل على الجيش رجل شاب، ثم قال بعد ذلك : وما عليَّ من اسْتُعْمِلَ عليّ ! فكان يقول : قال الله :﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً. وبإسناده قال أبو عبيد : حدثنا يزيد عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس بن مالك : أن أبا طلحة قرأ هذه الآية :﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ قال : ما أرى الله إلا يستنفرنا شباناً وشيوخاً، جهزوني ! فجهزناه، فركب البحر ومات في غَزَاتِهِ تلك، فما وجدنا له جزيرة ندفنه فيها أو قال : يدفنونه فيها إلا بعد سابعه. قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في هذه الآية قال : قالوا فينا الثقيل وذو الحاجة والصنعة والمنتشر عليه أمره ! قال الله تعالى :﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾.
فتأول هؤلاء هذه الآية على فَرْضِ النفير ابتداءً وإن لم يستنفروا، والآية الأولى يقتضي ظاهرها وجوب فرض النفير إذا اسْتُنْفِرُوا، وقد ذكر في تأويله وجوه، أحدها : أن ذلك كان في غزوة تَبُوكَ لما ندب إليه النبي صلى الله عليه وسلم الناس إليها فكان النفير مع رسول الله فرضاً على من استنفر، وهو مثل قوله :﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ﴾ [ التوبة : ١٢٠ ]، قالوا : وليس كذلك حكم النفير مع غيره.
وقيل : إن هذه الآية منسوخة. حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن محمد المروزي قال : حدثنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال :﴿ إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾، و ﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ﴾ [ التوبة : ١٢٠ ]، نسختها الآية التي تليها :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾ [ التوبة : ١٢٢ ]. وقال آخرون : ليس في واحدة منهما نسخ وحكمهما ثابت في حالين، فمتى لم يقاوم أهل الثغور العدوّ واستنفروا ففُرِضَ على الناس النفير إليهم حتى يستحيوا الثغور، وإن استغني عنهم باكتفائهم بمن هناك سواء استنفروا أو لم يستنفروا ؛ ومتى قام الذين في وجه العدو بفرض الجهاد واستغنوا بأنفسهم عمن وراءهم فليس على من وراءهم فرض الجهاد إلا أن يشاء من شاء منهم الخروج للقتال فيكون فاعلاً للفرض وإن كان معذوراً في القعود بديّاً لأن الجهاد فرض على الكفاية ومتى قام به بعضهم سقط عن الباقين. وقد حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة :" لا هِجْرَةَ ولَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وإِنِ اسْتنْفرْتُمْ فانْفِرُوا "، فأمر بالنفير عند الاستنفار، وهو موافق لظاهر قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إلَى الأَرْضِ ﴾، وهو محمول على ما ذكرنا من الاستنفار للحاجة إليهم لأن أهل الثغور متى اكتفوا بأنفسهم ولم تكن لهم حاجة إلى غيرهم فليس يكادون يستنفرون، ولكن لو استنفرهم الإمام مع كفاية من في وجه العدو من أهل الثغور وجيوش المسلمين لأنه يريد أن يغزو أهل الحرب ويطأ ديارهم فعلى من استنفر من المسلمين أن ينفروا.
وهذا هو موضع الخلاف بين الفقهاء في فرض الجهاد، فحُكي عن ابن شبرمة والثوري في آخرين أن الجهاد تطوع وليس بفرض، وقالوا :﴿ كتب عليكم القتال ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ] ليس على الوجوب بل على الندب، كقوله تعالى :﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين ﴾ [ البقرة : ١٨٠ ]. وقد رُوي فيه عن ابن عمر نحو ذلك، وإن كان مختلفاً في صحة الرواية عنه، وهو ما حدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا علي بن معبد عن أبي المليح الرقّي عن ميمون بن مهران قال : كنت عند ابن عمر، فجاء رجل إلى عبدالله بن عمرو بن العاص فسأله عن الفرائض وابن عمر جالس حيث يسمع كلامه، فقال :" الفرائض شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام رمضان والجهاد في سبيل الله "، قال : فكأن ابن عمر غضب من ذلك، ثم قال :" الفرائض شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت وصيام رمضان " قال : وتَرَكَ الجهاد. ورُوي عن عطاء وعمرو بن دينار نحوه، حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أواجبٌ الغزو على الناس ؟ فقال هو وعمرو بن دينار ماعَلِمْنَاه. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك وسائر فقهاء الأمصار :" إن الجهاد فرض إلى يوم القيامة، إلا أنه فرض على الكفاية إذا قام به بعضهم كان الباقون في سَعَةٍ من تركه ". وقد ذكر أبو عبيد أن سفيان الثوري كان يقول :" ليس بفرض ولكن لا يسع الناس أن يُجْمِعُوا على تركه ويُجْزي فيه بعضهم على بعض "، فإن كان هذا قول سفيان فإن مذهبه أنه فرض على الكفاية، وهو موافق لمذهب أصحابنا الذي ذكرناه. ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدوّ ولم تكن فيهم مقاومة لهم فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم أن الفرض على كافّة الأمة أن ينفر إليهم من يكفُّ عاديتهم عن المسلمين. وهذا لا خلاف فيه بين الأمة، إذْ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذراريهم، ولكن موضع الخلاف بينهم أنه متى كان بإزاء العدوّ مقاومين له ولا يخافون غلبة العدو عليهم هل يجوز للمسلمين ترك جهادهم حتى يسلموا أو يؤدّوا الجزية ؟ فكان من قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار وابن شبرمة أنه جائز للإمام والمسلمين أن لا يغزوهم وأن يقعدوا عنهم، وقال آخرون :" على الإمام والمسلمين أن يغزوهم أبداً حتى يسلموا أو يؤدّوا الجزية "، وهو مذهب أصحابنا ومن ذَكَرْنا من السلف المقداد بن الأسود وأبو طلحة في آخرين من الصحابة والتابعين. وقال حذيفة بن اليمان :" الإسلام ثمانية أسهم " وذكر سهماً منها الجهاد. وحدثنا جعفر بن محمد : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : قال معمر : كان مكحول يستقبل القبلة ثم يحلف عشر أيمان أن الغزو واجب، ثم يقول : إن شئتم زدتكم. وحدثنا جعفر قال : حدثنا جعفر : حدثنا أبو عبيد : حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث أو غيره عن ابن شهاب قال :" كتب الله الجهاد على الناس غَزَوْا أو قعدوا، فمن قعد فهو عدة إن استُعين به أعان وإن استُنْفِر نفر وإن استغنى عنه قعد "، وهذا مثل قول من يراه فرضاً على الكفاية. وجائز أن يكون قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار في أن الجهاد ليس بفرض يعنون به أنه ليس فرضه متعيناً على كل أحد كالصلاة والصوم وأنه فرض على الكفاية.
والآيات الموجبة لفرض الجهاد كثيرة، فمنها قوله تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ] فاقتضى ذلك وجوب قتالهم حتى يجيبوا إلى الإسلام، وقال :﴿ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ ﴾ الآية، وقال :﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالله وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ الآية، وقال :﴿ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ﴾ [ محمد : ٣٥ ]، وقال :﴿ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾، و ﴿ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾، وقال :﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وجَاهِدُوا بأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ الله ﴾، وقال :﴿ إلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾، وقال :﴿ فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً ﴾ [ النساء : ٧١ ]، وقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ﴾ [ الصف : ١٠ و ١١ ]، فأخبر أن النجاة من عذابه إنما هي بالإيمان بالله ورسوله وبالجهاد في سبيله بالنفس والمال ؛ فتضمنت الآية الدلالة على فرض الجهاد من وجهين، أحدهما : أنه قَرَنَهُ إلى فرض الإيمان، والآخر : الإخبار بأن النجاة من عذاب الله به وبالإيمان والعذاب لا يستحق إلا بترك الواجبات، وقال :﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ] ومعناه : فرض، كقوله :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ [ البقرة : ١٨٣ ].
فإن قيل هو كقوله :﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين ﴾ [ البقرة : ١٨٠ ] وإنما هي نَدْبٌ ليست بفرض. قيل له : قد كانت الوصية واجبة بهذه الآية وذلك قبل فرض الله المواريث، ثم نسخت بعد الميراث، ومع ذلك فإن في حكم اللفظ الإيجاب إلا أن تقوم دلالة للندب، ولم تقم الدلالة في الجهاد أنه ندب.
قال أبو بكر : فأكّد الله تعالى فرض الجهاد على سائر المكلفين بهذه الآية وبغيرها على حسب الإمكان، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلَّف إلا نفسك وحرض المؤمنين ﴾ [ النساء : ٨٤ ] فأوجب عليه فرض الجهاد من وجهين، أحدهما : بنفسه ومباشرة القتال وحضوره، والآخر : بالتحريض والحثّ والبيان، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له مال فلم يذكر فيما فرضه عليه إنفاق المال، وقال لغيره :﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وجَاهِدُوا بأَمْوَالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ ﴾ فألزم من كان من أهل القتال وله مال فرض الجهاد بنفسه وماله، ثم قال في آية أخرى :{ وَجَاءَ المُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا الله وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُ
قوله تعالى :﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وجَاهِدُوا بأَمْوَالِكُمْ ﴾ الآية. رُوي عن الحسن ومجاهد والضحاك :" شُبّاناً وشيوخاً ". وعن أبي صالح :" أغنياء وفقراء ". وعن الحسن :" مشاغيل وغير مشاغيل ". وعن ابن عباس وقتادة :" نُشَّاطاً وغير نُشّاط ". وعن ابن عمر :" ركباناً ومشاة ". وقيل :" ذا صنعة وغير ذي صنعة ". قال أبو بكر : كل هذه الوجوه يحتمله اللفظ، فالواجب أن يعمّها، إذ لم تقم دلالة التخصيص.
وقوله :﴿ وَجَاهِدُوا بأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ الله ﴾ فأوجب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعاً، فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال فعليه الجهاد بماله بأن يعطيه غيره فيغزو به، كما أن له قوة وجَلَدٌ وأمكنه الجهاد بنفسه كان عليه الجهاد بنفسه وإن لم يكن ذا مال ويسار بعد أن يجد ما يبلغه، ومن قَوِيَ على القتال وله مال فعليه الجهاد بالنفس والمال، ومن كان عاجزاً بنفسه مُعْدَماً فعليه الجهاد بالنصح لله ولرسوله بقوله :﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى المَرْضَى وَلا عَلَى الّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لله وَرَسُولِهِ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾، مع أنه لا خير في ترك الجهاد قيل فيه وجهان، أحدهما : خير من تركه إلى المباح في الحال التي لا يتعين عليه فرض الجهاد، والآخر : أن الخير فيه لا في تركه.
وقوله :﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، قيل فيه : إن كنتم تعلمون الخير في الجملة فاعلموا أن هذا خير، وقيل : إن كنتم تعلمون صدق الله فيما وعد به من ثوابه وجنته.
قوله تعالى :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾ الآية. لما أكذبهم الله في قوله :﴿ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾ دلّ على أنهم كانوا مستطيعين ولم يخرجوا. وهذا يدلّ على بطلان مذهب الجبر في أن المكلَّفين غير مستطيعين لما كُلِّفوا في حال التكليف قبل وقوع الفعل منهم ؛ لأن الله تعالى قد أكذبهم في نفيهم الاستطاعة عن أنفسهم قبل الخروج. وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أخبر أنهم سيحلفون، فجاؤوا فحلفوا كما أخبر أنه سيكون منهم.
قوله تعالى :﴿ عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ﴾. العفو ينصرف على وجوه، أحدها : التسهيل والتوسعة، كقوله صلى الله عليه وسلم :" أَوَّلُ الوَقْتِ رِضْوَانُ الله وآخِرُهُ عَفْوُ الله ". والعفو الترك، كقوله صلى الله عليه وسلم :" أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى "، والعفو الكثرة، كقوله تعالى :﴿ حتى عَفَوْا ﴾ [ الأعراف : ٩٥ ] يعني : كثروا، وأعفيت فلاناً من كذا وكذا إذا سهلت له تركه ؛ والعفو الصفح عن الذنب، وهو إعفاؤه من تَبِعَتِهِ وترك العقاب عليه، وهو مثل الغفران في هذا الموضع ؛ وجائز أن يكون أصله التسهيل، فإذا عفا عن ذنبه فلم يَسْتَقْصِ عليه وسهَّل عليه الأمر، وكذلك سائر الوجوه التي تنصرف عليها هذه الكلمة يجوز أن يكون أصلها الترك والتوسعة. ومن الناس من يقول : إنه قد كان من النبي صلى الله عليه وسلم ذنب صغير في إذنه لهم ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ إذ لا يجوز أن تقول لم فعلت ما جعلت لك فعله ؟ كما لا يجوز أن تقول لم فعلت ما أمرتك بفعله ؟ قالوا : فغير جائز إطلاق العفو عما قد جعل له فعله، كما لا يجوز أن يعفو عنه ما أمره به. وقيل : إنه جائز أن لا تكون منه معصية في الإذن لهم لا صغيرة ولا كبيرة، وإنما عاتبه بأن قال : لم فعلت ما جعلت لك فعله مما غيره أوْلى منه ؟ إذ جائز أن يكون مخيّراً بين فعلين وأحدهما أوْلى من الآخر، قال الله تعالى :﴿ فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن ﴾ [ النور : ٦٠ ]، فأباح الأمرين وجعل أحدهما أوْلى. وقد روى شعبة عن قتادة في قوله :﴿ عفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ :" كانت كما تسمعون، ثم أنزل الله في سورة النور :﴿ وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ﴾ إلى قوله :﴿ فأذن لمن شئت منهم ﴾ [ النور : ٦٢ ]، فجعله الله تعالى رخصة في ذلك ". ورَوَى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله ﴾ إلى قوله :﴿ يَتَرَدَّدُونَ ﴾ ! " هذا بعينه للمنافقين حين استأذنوه للقعود عن الجهاد من غير عذر، وعذر الله المؤمنين فقال :﴿ وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ﴾ ". وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قوله :﴿ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله ﴾ قال :" نسخها قوله :﴿ وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ﴾ إلى قوله :﴿ فأذن لمن شئت منهم ﴾ [ النور : ٦٢ ]، فجعل الله تعالى رسوله بأعلى النظرين ".
قال أبو بكر : جائز أن يكون قوله تعالى :﴿ عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ في قوم من المنافقين لحقتهم تهمة، فكان يمكن النبي صلى الله عليه وسلم استبراء أمرهم بترك الإذن لهم، فيظهر نفاقهم إذا لم يخرجوا بعد الأمر بالخروج، ويكون ذلك حكماً ثابتاً في أولئك. ويدل عليه قوله :﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ ﴾، ويكون قوله :﴿ وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ﴾ [ النور : ٦٢ ] وقوله :﴿ فأذن لمن شئت منهم ﴾ [ النور : ٦٢ ] في المؤمنين الذين لو لم يأذن لهم لم يذهبوا، فلا تكون إحدى الآيتين ناسخة للأخرى.
قوله تعالى :﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالله وَاليَوْمِ الآخِرِ ﴾ إلى قوله :﴿ بأَمْوَالِهِمْ ﴾ الآية. يعني : لا يستأذنك المؤمنون في التخلف عن الجهاد لأن لا يجاهدوا ؛ وأضمر " لا " في قوله :﴿ أَنْ يُجَاهِدُوا ﴾ لدلالة الكلام عليه، وهذا يدل على أن الاستئذان في التخلف كان محظوراً عليهم، ويدل على صحة تأويل قوله :﴿ عَفَا الله عَنْكَ ﴾ على أنه عَفْوٌ عن ذنب وإن كان صغيراً. ورُوي عن الحسن في قوله :﴿ أَنْ يُجَاهِدُوا ﴾ أنه على تقدير كراهة أن يجاهدوا ؛ وهو يؤول إلى المعنى الأول لأن إضمار " لا " فيه وإضمار الكراهة سواء. وهذه الآية أيضاً تدل على وجوب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعاً، لأنه قال تعالى :﴿ أَنْ يُجَاهِدُوا بأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾، فذمّهم على الاستئذان في ترك الجهاد بهما.
مطلب : في الجهاد بالمال
والجهاد بالمال يكون على وجهين، أحدهما : إنفاق المال في إعداد الكُراع والسلاح والآلة والراحلة والزاد وما جرى مجراه مما يحتاج إليه لنفسه. والثاني : إنفاق المال على غيره مما يجاهد ومعونته بالزاد والعدة ونحوها.
مطلب : في الجهاد بالنفس
والجهاد بالنفس على ضروب : منها الخروج بنفسه ومباشرة القتال، ومنها بيان ما افترض الله من الجهاد وذكر الثواب الجزيل لمن قام به والعقاب لمن قعد عنه، ومنها التحريض والأمر، ومنها الإخبار بعورات العدو وما يعلمه من مكايد الحرب وسداد الرأي وإرشاد المسلمين إلى الأوْلى والأصلح في أمر الحروب، كما قال الخباب بن المنذر حين نزل النبي صلى الله عليه وسلم ببدر فقال : يا رسول الله أهذا رأي رأيتَهُ أم وحي ؟ فقال :" بَلْ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ " قال : فإني أرى أن تنزل على الماء وتجعله خلف ظهرك وتعور الآبار التي في ناحية العدو، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ؛ ونحو ذلك من كل قول يقوِّي أمر المسلمين ويوهن أمر العدو.
مطلب : في جهاد العلم
فإن قيل : فأي الجهادين أفضل أجهاد النفس والمال أم جهاد العلم ؟ قيل له : الجهاد بالسيف مبنيّ على جهاد العلم وفرع عليه ؛ لأنه غير جائز أن يعدوا في جهاد السيف وما يوجبه العلم، فجهاد العلم أصل وجهاد النفس فرع، والأصل أوْلى بالتفضيل من الفرع.
مطلب في أن تعلم العلم أفضل أم الجهاد
فإن قيل : تعلم العلم أفضل أم جهاد المشركين ؟ قيل له : إذا خيف مَعَرَّة العدو وإقدامهم على المسلمين ولم يكن بإزائه من يدفعه فقد تعيَّن فرض الجهاد على كل أحد، فالاشتغال في هذه الحال بالجهاد أفضل من تعلم العلم ؛ لأن ضرر العدو إذا وقع بالمسلمين لم يمكن تلافيه وتعلُّم العلم ممكن في سائر الأحوال، ولأن تعلم العلم فرض على الكفاية لا على كل أحد في خاصة نفسه، ومتى لم يكن بإزاء العدو من يدفعه عن المسلمين فقد تعيَّن فرض الجهاد على كل أحد، وما كان فرضاً معيناً على الإنسان غير موسع عليه في التأخير فهو أوْلى من الفرض الذي قام به غيره وسقط عنه بعينه، وذلك مثل الاشتغال بصلاة الظهر في آخر وقتها هو أوْلى من تعلُّم عِلْمِ الدين في تلك الحال إذْ كان الفرض قد تعين عليه في هذا الوقت، فإن قام بفرض الجهاد من فيه كفاية وغنى فقد عاد فرض الجهاد إلى حكم الكفاية كتعلم العلم ؛ إلا أن الاشتغال بالعلم في هذه الحال أوْلى وأفضل من الجهاد لما قدمنا من علوّ مرتبة العلم على مرتبة الجهاد، فإن ثبات الجهاد بثبات العلم وإنه فرع له ومبنيّ عليه.
مطلب : يجوز الجهاد وإن كان أمير الجيش فاسقاً
فإن قيل : هل يجوز الجهاد مع الفساق ؟ قيل له : إن كل أحد من المجاهدين فإنما يقوم بفرض نفسه، فجائز له أن يجاهد الكفار وإن كان أمير الجيش وجنوده فساقاً. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يغزون بعد الخلفاء الأربعة مع الأمراء الفساق، وغزا أبو أيوب الأنصاري مع يزيد اللعين، وقد ذكرنا حديث أبي أيوب أنه لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا عاماً واحداً فإنه استعمل على الجيش رجل شاب ثم قال بعد ذلك : وما عليَّ من استعمل عليَّ ؟ فكان يقول : قال الله تعالى :﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً. فدل على أن الجهاد واجب مع الفساق كوجوبه مع العدول، وسائر الآي الموجبة لفرض الجهاد لم يفرق بين فعله مع الفساق ومع العدول الصالحين. وأيضاً فإن الفُسّاق إذا جاهدوا فهم مطيعون في ذلك كما هم مطيعون لله في الصلاة والصيام وغير ذلك من شرائع الإسلام. وأيضاً فإن الجهاد ضَرْبٌ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو رأينا فاسقاً يأمر بمعروف ويَنْهَى عن منكر كان علينا معاونته على ذلك، فكذلك الجهاد، فالله تعالى لم يخصّ بفرض الجهاد العدول دون الفساق ؛ فإذا كان الفرض عليهم واحداً لم يختلف حكم الجهاد مع العدول ومع الفساق.
مطلب : في وجوب الاستعداد للجهاد
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ﴾ العدة ما يُعِدُّه الإنسان ويهيئه لما يفعله في المستقبل، وهو نظير الأهْبة ؛ وهذا يدل على وجوب الاستعداد للجهاد قبل وقت وقوعه، وهو كقوله :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ].
وقوله تعالى :﴿ وَلَكِنْ كَرِهَ الله انْبِعَاثَهُمْ ﴾، يعني خروجهم ؛ لأن خروجهم كان يقع على وجه الفساد وتخذيل المسلمين وتخويفهم من العدو والتضريب بينهم، والخروجُ على هذا الوجه معصية وكفر، فكرهه الله تعالى وثبَّطهم عنه إذْ كان معصية والله لا يحب الفساد.
وقوله تعالى :﴿ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ ﴾، أي مع النساء والصبيان. وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : اقعدوا مع القاعدين، وجائز أن يكون قاله بعضهم لبعض.
قوله تعالى :﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾ الآية. فيه بيان وجه خروجهم لو خرجوا وإخبارٌ أن المصلحة للمسلمين كانت في تخلفهم، وهذا يدلّ على أن معاتبة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ أن الله علم أنه لو لم يأذن لهم لم يخرجوا أيضاً فيظهر للمسلمين كذبهم ونفاقهم ؛ وقد أخبر الله تعالى أن خروجهم لو خرجوا على هذا الوجه كان يكون معصية وفساداً على المؤمنين. وقوله :﴿ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾، والخَبَالُ الاضطراب في الرأي، فأخبر الله تعالى أنهم لو خرجوا لَسَعَوْا بين المؤمنين في التضريب وإفساد القلوب والتخذيل عن العدو، فكان ذلك يوجب اضطراب أرائهم.
فإن قال قائل : لم قال :﴿ مَا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً ﴾ ولم يكونوا على خِبال يُزاد فيه ؟ قيل له : يحتمل وجهين، أحدهما : أنه استثناء منقطع، تقديره : ما زادوكم قوة لكن طلبوا لكم الخبال. والآخر : أنه يحتمل أن يكون قومٌ منهم قد كانوا على خَبَالٍ في الرأي لما يعرض في النفوس من التلوّن إلى أن استقر على الصواب، فيقوِّيه هؤلاء حتى يصير خبالاً معدولاً به عن صواب الرأي.
قوله تعالى :﴿ وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ ﴾. قال الحسن :" ولأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات بينكم ". وقوله تعالى :﴿ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ ﴾ فإن الفتنة ههنا المحنة باختلاف الكلمة والفرقة، ويجوز أن يريد به الكفر ؛ لأنه يسمَّى بهذا الاسم لقوله تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ]، وقوله :﴿ والفتنة أشد من القتل ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ].
وقوله :﴿ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾، قال الحسن ومجاهد :" عُيُونٌ منهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم ". وقال قتادة وإبن إسحاق :" قابِلُون منهم عند سماع قولهم ".
قوله تعالى :﴿ لَقَدِ ابْتَغُوا الفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ﴾، يعني طلبوا الفتنة، وهي ههنا الاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة.
وقوله تعالى :﴿ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ ﴾، يعني به تصريف الأمور وتقليبها ظهراً لبطن طلباً لوجه الحيلة والمكيدة في إطفاء نوره وإبطال أمره، فأبَى الله تعالى إلا إظهار دينه وإعزاز نبيه وعَصَمَهُ من كيدهم وحيلهم.
قوله تعالى :﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ﴾. قال ابن عباس ومجاهد :" نزلت في الجدّ بن قيس قال ائذن لي ولا تفتني ببنات بني الأصفر فإني مستهتر بالنساء ؛ وكان ذلك حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزاة تَبُوكَ " وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة :" لا تؤثمني بالعصيان في المخالفة التي توجب الفرقة ".
قوله تعالى :﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا ﴾. رُوي عن الحسن :" كل ما يصيبنا من خير وشر فهو مما كتبه الله في اللوح المحفوظ فليس على ما يتوهمه الكفار من إهمالنا من غير أن يرجع أمرنا إلى تدبير ربنا ". وقيل :" لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلا ما كتب الله لنا من النصر الذي وَعَدَنا ".
قوله تعالى :﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ﴾ صيغته صيغة الأمر والمراد البيان عن التمكين من الطاعة والمعصية، كقوله :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ [ الكهف : ٢٩ ]. وقيل : معناه الخبر الذي يدخل فيه " إنْ " للجزاء، كما قال كُثَيِّر :
* أسِيئي بنا أوْ أَحْسِني لا مَلُومَة * لَدَيْنَا ولا مَقْلِيَّة إِنْ تَقَلَّت *
ومعناه : إن أحسنتِ أو أسأت لم تُلامي.
قوله تعالى :﴿ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُريدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا في الحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾. قيل فيه ثلاثة أوجه : قال ابن عباس وقتادة :" فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة "، فكان ذلك عندهما على تقديم الكلام وتأخيره. وقال الحسن :" ليعذبهم في الزكاة بالإنفاق في سبيل الله ". وقال آخرون :" يعذبهم بها بالمصائب ". وقيل :" قد يكون صفة الكفار بالسبي وغنيمة الأموال ". وهذه " اللام " التي في قوله ﴿ لِيُعَذِّبَهُمْ ﴾ هي لام العاقبة، كقوله تعالى :﴿ ليكون لهم عدوّاً وحزناً ﴾ [ القصص : ٨ ].
قوله تعالى :﴿ وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ ﴾. الحَلِف تأكيد الخبر بذكر المعظَّم على منهاج الله وبالله والحروف الموضوعة للقسم، وكذلك القسم واليمين، إلا أن الحَلْفَ من إضافة الخبر إلى المعظَّم ؛ وقوله :﴿ وَيَحْلِفُونَ بالله ﴾ إخبارٌ عنهم باليمين بالله، وجائز أن يكون أراد الخبر عن المستقبل في أنهم سيحلفون بالله. وقول القائل : أحلف بالله، هو يمين بمنزلته لو حذف ذكر الحلف وقال بالله ؛ لأنه بمنزلة قوله :" أنا حالف بالله " إلا أن يريد به العدة فلا يكون يميناً، فهو ينصرف على المعنى، والظاهر منه إيقاع الحلف بهذا القول كقولك " أنا أعتقد الإسلام " ويحتمل العدة. وأما قوله :" بالله " فهو إيقاعٌ لليمين وإن كان فيه إضمار " أحْلِفُ بالله " أو " قد حلفتُ بالله ". وقيل : إنما حذف ذكر الحلف ليدل على وقوع الحلف ويزول احتمال العدة كما حذف في " والله لأفعلنّ " ليدل أن القائل حالف لا واعِدٌ.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ ﴾ معناه في الإيمان والطاعة والدين والملة، فأكذبهم الله تعالى. والإضافة منهم جائزة إذا كان على دينهم كما قال :﴿ وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ و ﴿ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾، فنسب بعضهم إلى بعض لاتفاقهم في الدين والملة.
قوله تعالى :﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ في الصَّدَقَاتِ ﴾. قال الحسن :" يعيبك ". وقيل : اللَّمْزُ العَيْبُ سرّاً والهمزة العِيبُ بكسر العين. وقال قتادة :" يطعن عليك ". ويقال : إن هؤلاء كانوا قوماً منافقين أرادوا أن يعطيهم رسول الله من الصدقات ولم يكن جائزاً أن يعطيهم منها لأنهم ليسوا من أهلها، فطعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات وقالوا يُؤْثِرُ بها أقرباءه وأهل مودَّته ؛ ويدل عليه قوله تعالى :﴿ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطُوا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾، وأخبر أنه لا حظّ لهؤلاء في الصدقات وإنما هي للفقراء والمساكين ومن ذكر.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولِهِ ﴾ فيه ضمير جواب " لو " تقديره : ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله لكان خيراً لهم أو أعود عليهم، وحَذْفُ الجواب في مثله أبلغ لأنه لتأكيد الخبر به استغني عن ذكره مع أن النفس تذهب إلى كل نوع منه والذكر يقصره على المذكور منه دون غيره. وفيه إخبار على أن الرضا بفعل الله يوجب المزيد من الخير جزاء للراضي على فعله.
مطلب : في بيان معنى الفقير والمسكين
قوله تعالى :﴿ إِنَّما الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ ﴾ الآية. قال الزهري :" الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل ". ورَوَى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في حدّ الفقير والمسكين مثل هذا ؛ وهذا يدل على أنه رأى المسكين أضعف حالاً وأبلغ في جهد الفقر والعُدْمِ من الفقير. ورُوي عن ابن عباس والحسن وجابر بن زيد والزهري ومجاهد قالوا :" الفقير المتعفف الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل " ؛ فكان قول أبي حنيفة موافقاً لقول هؤلاء السلف. ويدل على هذا قوله تعالى :﴿ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً ﴾ [ البقرة : ٢٧٣ ] فسمّاهم فقراء ووصفهم بالتعفف وتَرْكِ المسألة. ورُوي عن قتادة قال :" الفقير ذو الزَّمَانَةِ من أهل الحاجة، والمسكين الصحيح منهم ". وقيل : إن الفقير هو المسكين إلا أنه ذكر بالصفتين لتأكيد أمره في استحقاق الصدقة. وكان شيخنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول :" المسكين هو الذي لا شيء له والفقير هو الذي له أدنى بُلْغَة "، ويحكى ذلك عن أبي العباس ثعلب، قال : وقال أبو العباس : حُكي عن بعضهم أنه قال : قلت لأعرابي : أفقير أنت ؟ قال : لا بل مسكين ؛ وأنشد عن ابن الأعرابي :
* أمّا الفَقِيرُ الّذي كانَتْ حَلُوبَتُهُ * وِفْقَ العِيَالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ *
فسماه فقيراً مع وجود الحَلُوبَةِ. قال : وحكى محمد بن سلام الجمحي عن يونس النحوي أنه قال :" الفقير يكون له بعض ما يغنيه والمسكين الذي لا شيء له ".
قال أبو بكر : قوله تعالى :﴿ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ﴾ [ البقرة : ٢٧٣ ] يدل على أن الفقير قد يملك بعض ما يُغنيه لأنه لا يحسّه الجاهل بحاله غنيّاً إلا وله ظاهر جميل وبَزَّةٌ حسنة، فدل على أن ملكه لبعض ما يغنيه لا يسلبه صفة الفقر. وكان أبو الحسن يستدلّ على ما قال في صفة المسكين بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إِنَّ المِسْكِينَ لَيْسَ بالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ والأَكْلَةُ والأَكْلَتَانِ وَلَكِنِ المسْكِينُ الّذي لا يَجِدُ ما يُغْنِيهِ "، قال : فلما نَفَى المبالغة في المسكنة عمن ترده التمرة والتمرتان وأثبتها لمن لا يجد ذلك وسمّاه مسكيناً، دلّ ذلك على أن المسكين أضعف حالاً من الفقير. قال : ويدل عليه قوله تعالى :﴿ أو مسكيناً ذا متربة ﴾ [ البلد : ١٦ ] ؛ رُوي في التفسير أنه الذي قد لزق بالتراب وهو جائع عارٍ لا يواريه عن التراب شيء، فدل ذلك على أن المسكين في غاية الحاجة والعدم.
فإن قيل : قال الله تعالى :﴿ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ﴾ [ الكهف : ٧٩ ] فأثبت لهم ملك السفينة وسماهم مساكين. قيل له : قد رُوي أنهم كانوا أُجراء فيها وأنهم لم يكونوا مُلاّكاً لها، وإنما نسبها إليهم بالتصرف والكون فيها، كما قال الله تعالى :﴿ لا تَدخلوا بيوت النبي ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ] وقال في موضع آخر :﴿ وقرن في بيوتكن ﴾ [ الأحزاب : ٣٣ ]، فأضاف البيوت تارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتارة إلى أزواجه، ومعلوم أنها لم تَخْلُ من أن تكون ملكاً له أو لهن ؛ لأنه لا يجوز أن تكون لهن وله في حال واحدة، لاستحالة كونها ملكاً لكل واحد منهم على حِدَةٍ، فثبت أن الإضافة إنما صحت لأجل التصرف والسكنى، كما يقال :" هذا منزل فلان " وإن كان ساكناً فيه غير مالك له، و " هذا مسجد فلان " ولا يراد به الملك ؛ وكذلك قوله :﴿ أما السفينة فكانت لمساكين ﴾ [ الكهف : ٧٩ ] هو على هذا المعنى.
ويقال إن الفقير إنما سُمّي بذلك لأنه مِنْ ذوي الحاجة بمنزلة من قد كُسِرَتْ فَقَارُهُ، يقال منه : فقر الرجل فَقْراً وأفقره الله إفقاراً وتَفَاقَرَ تَفَاقُراً، والمسكين الذي قد أسكنته الحاجة. ورُوي عن إبراهيم النخعي والضحاك في الفرق بين الفقير والمسكين. " أن الفقراء المهاجرون والمساكين من غير المهاجرين "، كأنهما ذهباً إلى قوله تعالى :﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ﴾ [ الحشر : ٨ ]. وروى سعيد عن قتادة قال :" الفقير الذي به زَمَانَةٌ وهو فقير إلى بعض جسده وبه حاجة، والمسكين المحتاج الذي لا زَمَانَةَ به ". وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب قال :" ليس المسكين بالذي لا مال له ولكن المسكين الذي لا يصيب المكسب ". وهذا الذي قدّمنا يدل على أن الفقير أحسنُ حالاً من المسكين وأن المسكين أضعف حالاً منه. وقد رَوَى أبو يوسف عن أبي حنيفة فيمن قال ثلث مالي للفقراء والمساكين ولفلان ؛ أن لفلان الثلث والثلثان للفقراء والمساكين ؛ فهذا موافق لما رُوي عنه في الفَرْقِ بين الفقير والمسكين وأنهما صنفان. ورُوي عن أبي يوسف في هذه المسألة : أن نصف الثلث لفلان ونصفه للفقراء والمساكين ؛ فهذا يدلّ على أنه جعل الفقراء والمساكين صنفاً واحداً.
وقوله تعالى :﴿ وَالعَامِلِينَ عَلَيْها ﴾، فإنهم السُّعَاةُ لجباية الصدقة ؛ رُوي عن عبدالله بن عمر أنهم يُعْطَوْنَ بقدر عمالتهم ؛ وعن عمر بن عبدالعزيز مثله. ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء أنهم لا يعطون الثمن وأنهم يستحقون منها بقدر عملهم. وهذا يدل على بطلان قول من أوجب قسمة الصدقات على ثمانية، ويدل أيضاً على أن أخْذَ الصدقات إلى الإمام وأنه لا يجزي أن يُعْطَى ربُّ الماشية صَدَقَتها الفقراء، فإن فعل أخذها الإمام ثانياً ولم يحتسب له بما أدَّى ؛ وذلك لأنه لو جاز لأرباب الأموال أداؤها إلى الفقراء لما احتيج إلى عامل لجبايتها فيضرّ بالفقراء والمساكين، فدل ذلك على أن أخْذَها إلى الإمام وأنه لا يجوز له إعطاؤها الفقراء.
مطلب : في المؤلفة القلوب
قوله تعالى :﴿ وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾، فإنهم كانوا قوماً يَتَأَلّفون على الإسلام بما يُعْطَوْنَ من الصدقات، وكانوا يتألفون بجهات ثلاث : إحداها للكفار لدفع معرَّتهم وكفّ أذيتهم عن المسلمين والاستعانة بهم على غيرهم من المشركين، والثانية : لاستمالة قلوبهم وقلوب غيرهم من الكفار إلى الدخول في الإسلام ولئلا يمنعوا من أسلم من قومهم من الثبات على الإسلام ونحو ذلك من الأمور، والثالثة : إعطاء قوم من المسلمين حديثي العهد بالكفر لئلا يرجعوا إلى الكفر. وقد روى الثوري عن أبيه عن أبي نعيم عن أبي سعيد الخدري قال : بعث علي بن أبي طالب بذهبة في أديم مقروظ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين زيد الخير والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة، فغضبت قريش والأنصار وقالوا : يعطي صناديد أهل نجد ! قال :" إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ ". وروى ابن أبي ذئب عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ العَطَاءَ وغَيْرُهُ أَحَبُّ إليَّ مِنْهُ وما أَفْعَلُ ذَلِكَ إِلاّ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ الله في نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى وَجْهِهِ ". وروى عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري قال : أخبرني أنس بن مالك أن ناساً من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله أموال هَوَازِنَ وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل كلّ رجل منهم، فذكر حديثاً فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِني لأُعْطِي رِجَالاً حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلّفُهُمْ أُصَانِعُهُمْ أَفَلا تَرْضَونَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالأَمْوَالِ وتَرْجِعُونَ برسُولِ الله إلى رِحَالِكُمْ ؟ " وهذا يدل على أنه قد كان يتألف بما يعطي قوماً من المسلمين حديثي عهد بالإسلام لئلا يرجعوا كفاراً. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال :" أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأَبْغَضُ الناس إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحَبُّ الخلق إليَّ ". وروى محمود بن لَبِيدٍ عن أبي سعيد الخدري قال : لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بحنين وقسم للمتألّفين من قريش وفي سائر العرب ما قسم، وجد هذا الحيُّ من الأنصار في أنفسهم، وذكر الحديث، وقال فيه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم :" أَوَجَدْتُمْ في أَنْفُسِكُمْ يا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ في لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بها أَقْوَاماً لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إلى ما قَسَمَ الله لَكُمْ مِنَ الإسْلامِ ! " ففي هذا الحديث أنه تألّفهم ليُسْلِموا، وفي الأول :" إني لأعطي رجالاً حديثي عَهْدٍ بكُفْرٍ "، فدلّ على أنه قد كان يتألف بذلك المسلمين والكفار جميعاً.
وقد اختلف في المؤلفة قلوبهم، فقال أصحابنا :" إنما كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام في حال قلّة عدد المسلمين وكثرة عدوّهم وقد أعزّ الله الإسلام وأهْلَه واستُغْني بهم عن تألّف الكفار، فإن احتاجوا إلى ذلك فإنما ذلك لتركهم الجهاد، ومتى اجتمعوا وتعاضدوا لم يحتاجوا إلى تألُّفِ غيرهم بمال يعطونه من أموال المسلمين ". وقد رُوي نحو قول أصحابنا عن جماعة من السلف ؛ روى عبدالرّحمن بن محمد المحاربي عن حجاج بن دينار عن ابن سيرين عن عبيدة قال :" جاء عُيَيْنَة بن حَصْن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا : يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سَبْخَة ليس فيها كلأ ولا منفعة فإن رأيت أن تعطيناها ! فأقطعها إياهما وكتب لهما عليها كتاباً وأشهد، وليس في القوم عمر، فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تَفَل فيه فمحاه، فتذمرا وقالا مقالة سيئة، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألّفكما والإسلامُ يومئذ قليل، وإنّ الله قد أغْنَى الإسلام، اذهبا فاجْهَدَا جهدكما لا يرعى الله عليكما إن رعيتما ! ". قال أبو بكر رحمه الله : فتَرْكُ أبي بكر الصديق رضي الله عنه النكير على عمر فيما فعله بعد إمضائه الحكم يدلّ على أنه عرف مذهب عمر فيه حين نبّهه عليه، وأن سهم المؤلفة قلوبهم كان مقصوراً على الحال التي كان عليها أهل الإسلام من قلة العدد وكثرة عدد الكفار، وأنه لم يَرَ الاجتهاد سَائغاً في ذلك لأنه لو سوَّغ الاجتهاد فيه لما أجاز فسخ الحكم الذي أمضاه، فلما أجاز له ذلك دلّ على أنه عرف بتنبيه عمر إياه على ذلك امتناع جواز الاجتهاد في مثله.
وروى إسرائيل عن جابر عن أبي جعفر قال :" ليس اليوم مؤلفة قلوبهم ". وروى إسرائيل أيضاً عن جابر بن عامر في المؤلفة قلوبهم قال :" كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اسْتُخْلِفَ أبو بكر انقطع الرِّشَا ". وروى ابن أبي زائدة عن مبارك عن الحسن قال :" ليس مؤلفة قلوبهم، كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وروى معقل بن عبيدالله قال :" سألت الزهري عن المؤلفة قلوبهم، قال : من أسلم من يهودي أو نصراني، قلت : وإن كان غنيّاً ؟ قال : وإن كان غنيّاً ".
قوله تعالى :﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾، فإن أهل العلم يختلفون فيه، فقال إبراهيم النخعي والشعبي وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين :" لا يجزي أن تُعْتَقَ من الزكاة رقبةٌ "، وهو قول أصحابنا والشافعي. و
قوله تعالى :﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ للمُؤْمِنِينَ ﴾. قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك :" يقولون هو صاحب أذن يصغي إلى كل أحد ". وقيل : إن أصله من أذَنَ يأْذنُ إذا سمع، قال الشاعر :
* في سَمَاعٍ يَأْذِنُ الشَّيْخُ له * وحَدِيثٍ مِثْلِ مَاذِيٍّ مُشَار *
ومعناه : أذن صلاح لكم لا أذن شرّ. وقوله :﴿ يُؤْمِنُ للمُؤْمِنِينَ ﴾ قال ابن عباس :" يصدق المؤمنين "، ودخول " اللام " ههنا كدخوله في قوله :﴿ قل عسى أن يكون ردف لكم ﴾ [ النمل : ٧٢ ] ومعناه : رَدِفَكُم. وقيل : إنما أدخلت " اللام " للفرق بين إيمان التصديق وإيمان الأمان، فإذا قيل :" ويؤمن للمؤمنين " لم يعقل به غير التصديق، وهو كقوله تعالى :﴿ قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم ﴾ [ التوبة : ٩٤ ] أي لن نصدقكم، وكقوله :﴿ وما أنت بمؤمن لنا ﴾ [ يوسف : ١٧ ]. ومن الناس من يحتجّ بذلك في قبول خبر الواحد لإخبار الله تعالى عن نبيه أنه يصدق المؤمنين فيما يخبرونه به ؛ وهذا لعمري يدل على قبوله في أخبار المعاملات فأما أخبار الديانات وأحكم الشرع فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إلى أن يسمعها من أحد إذْ كان الجميع عنه يأخذون وبه يقتدون فيها.
قوله تعالى :﴿ وَالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾. قيل إنه إنما رد ضمير الواحد في قوله :﴿ يرضوه ﴾ ؛ لأن رضا الله ينتظم رضا الرسول ؛ إذْ كل ما رضي اللهُ فقد رضيه لرسوله، فترك ذكر ضمير الرسول لدلالة الحال عليه. وقيل : إن اسم الله تعالى لا يُجمع مع اسم غيره في الكناية تعظيماً بإفراد الذكر، وقد رُوي أن رجلاً خطب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يَعْصِهِمَا فقد غوي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" قُمْ فَبِئْسَ الخَطِيبُ أَنْتَ " فأنكر الجمع بين اسم الله وبين اسمه في الكناية. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن جمع اسم غير الله إلى اسمه بحرف الجمع، فقال :" لا تَقُولُوا إِنْ شَاءَ الله وشَاءَ فُلانٌ ولَكِنْ قُولُوا إِنْ شَاءَ الله ثُمَّ شَاءَ فُلانٌ ".
قوله تعالى :﴿ يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ﴾. قال الحسن ومجاهد :" كانوا يحذرون "، فحملاه على معنى الإخبار عنهم بأنهم يحذرون. وقال غيرهما :" صورته صورة الخبر ومعناه الأمر تقديره : ليحذر المنافقون ".
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ﴾ إخبار من الله بإخراج إضمار السوء وإظهاره وهَتْكِ صاحبه بما يَخْذِلُه الله به ويفضحه، وذلك إخبار عن المنافقين وتحذيرٌ لغيرهم من سائر مضمري السوء وكاتميه، وهو في معنى قوله :﴿ والله مخرج ما كنتم تكتمون ﴾ [ البقرة : ٧٢ ].
قوله تعالى :﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ﴾ إلى قوله :﴿ إِنْ نَعْفُ ﴾ فيه الدلالة على أن اللاعب والجادّ سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه لأن هؤلاء المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوه لعباً، فأخبر الله عن كفرهم باللعب بذلك. ورُوي عن الحسن وقتادة أنهم قالوا في غزوة تبوك : أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها ؟ هيهات هيهات ! فأطلع الله نبيه على ذلك، فأخبر أن هذا القول كفر منهم على أي وجه قالوه من جدّ أو هزل، فدل ذلك على استواء حكم الجادّ والهازل في إظهار كلمة الكفر، ودل أيضاً على أن الاستهزاء بآيات الله وبشيء من شرائع دينه كفر من فاعله.
قوله تعالى :﴿ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ أضاف بعضهم إلى بعض باجتماعهم على النفاق، فهم متشاكلون متشابهون في تعاضدهم على النفاق والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف كما يضاف بعض الشيء إليه لمشاكلته للجملة.
قوله تعالى :﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾ ؛ فإنه رُوي عن الحسن ومجاهد :" عن الإنفاق في سبيل الله ". وقال قتادة :" عن كل خير ". وقال غيره :" عن الجهاد في سبيل الله ". وجائز أن يكونوا قبضوا أيديهم عن جيمع ذلك، فيكون المراد جميع ما احتمله اللفظ منه.
وقوله :﴿ نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ ﴾، فإن معناه أنهم تركوا أمره والقيام بطاعته حتى صار ذلك عندهم بمنزلة المنسيّ، إذ لم يستعملوا منه شيئاً كما لا يعمل بالمنسيّ. وقوله :﴿ فَنَسِيَهُمْ ﴾ معناه أنه تركهم من رحمته، وسماه باسم الذنب لمقابلته لأنه عقوبة وجزاء على الفعل، وهو مجاز كقولهم : الجزاء بالجزاء، وقوله :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] ونحو ذلك.
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾. رَوَى عبدالله بن مسعود قال :" جاهدهم بيدك فإن لم تستطع فبلسانك وقلبك فإن لم تستطع فاكفهرَّ في وجوههم ". وقال ابن عباس :" جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان ". وقال الحسن وقتادة :" جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بإقامة الحدود، وكانوا أكثر من يصيب الحدود ".
قوله تعالى :﴿ يَحْلِفُونَ باللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ﴾. فيه إخبار عن كفار المنافقين ؛ وكلمة الكفر كل كلمة فيها جَحْدٌ لنعمة الله أو بلغت منزلتها في العظم. وكانوا يطعنون في النبوة والإسلام. ويقال إن القاتل لكلمة الكفر الجلاس بن سويد بن الصامت قال : إن كان ما جاء به محمد حقّاً لنحن شرٌّ من الحمير ! ثم حلف بالله ما قال ؛ رُوي ذلك عن مجاهد وعروة وابن إسحاق. وقال قتادة :" نزلت في عبدالله بن أبيّ ابن سَلُولَ حين قال :﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ﴾ [ المنافقون : ٨ ] ". وقال الحسن :" كان جماعة من المنافقين قالوا ذلك ". وفيما قص الله علينا من شأن المنافقين وإخباره عنهم باعتقاد الكفر وقوله ثم تبقيته إياهم واستحياؤهم لما كانوا يُظْهِرُون للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الإسلام دلالةٌ على قبول توبة الزنديق المسرِّ للكفر والمظهر للإيمان.
قوله تعالى :﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ﴾ إلى آخر الآيتين ؛ فيه الدلالة على أن من نذر نذراً فيه قربة لزمه الوفاء ؛ لأن العهد هو النذر والإيجاب نحو قوله : إن رزقني الله ألف درهم فعليَّ أن أتصدق منها بخمسمائة، ونحو ذلك. فانتظمت هذه الآية أحكاماً، منها : أن من نذر نذراً لزمه الوفاء بنفس المنذور لقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ ﴾، فعنّفهم على تَرْكِ الوفاء بالمنذور بعينه ؛ وهذا يدلّ على بطلان قول من أوجب في شيء بعينه كفارة يمين وأبطل إيجاب إخراج المنذور بعينه ؛ ويدل أيضاً على جواز تعليق النذر بشرط مثل أن يقول : إن قدم فلان فللّه عليَّ صدقة أو صيام ؛ ويدل أيضاً على أن النذر المضاف إلى الملك إيجاب في الملك وإن لم يكن الملك موجوداً في الحال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا نَذْرَ فيما لا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ "، وجعله الله تعالى نذراً في الملك وألزمه الوفاء به، فثبت بذلك أن النذر في غير ملك أن يقول : لله عليَّ أن أتصدق بثوب زيد، أو نحوه ؛ وهو يدل على أن من قال لأجنبية : إن تزوجتك فأنت طالق، أنه مطلق في نكاح لا قبل النكاح، كما كان المضيف للنذر إلى الملك ناذراً في الملك. ونظير ذلك في إيجاب نفس المنذور على موجبه قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ﴾ [ الصف : ٢ و ٣ ]، فاقتضى ذلك فعل المقول بعينه، وإخراجُ كفارة يمين ليس هو المقول بعينه ؛ ونحوه قوله تعالى :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ﴾ [ النحل : ٩١ ] والوفاءُ بالعهد إنما هو فعل المعهود بعينه لا غير، وقوله :﴿ وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ﴾ [ البقرة : ٤٠ ]، وقوله :﴿ يوفون بالنذر ﴾ [ الحديد : ٢٧ ]، فمدحهم على فعل المنذور بعينه. ومن نظائره قوله تعالى :﴿ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ﴾ [ الحديد : ٢٧ ]، والابتداعُ قد يكون بالقول وبالفعل، فاقتضى ذلك إيجابَ كل ما ابتدعه الإنسان من قربة قولاً أو فعلاً لذمّ الله تعالى تارك ما ابتدع من القربة. وقد رُوي نحو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في النذر، وهو قوله :" مَنْ نَذَرَ نَذْراً وسَمّاهُ فَعَلَيْهِ الوَفَاءُ بِهِ ومَنْ نَذَرَ نَذْراً ولم يُسَمِّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ".
قوله تعالى :﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً في قُلُوبِهِمْ ﴾. قال الحسن :" بخلهم بما نذروه أعقبهم النِّفاق ". وقال مجاهد :" أعقبهم الله ذلك بحرمان التوبة كما حرم إبليس ". ومعناه نَصْبُ الدلالة على أنه لا يتوب أبداً ذمّاً له على ما كسبته يده.
قوله :﴿ إِلَى يَوْمٍ يَلْقَوْنَهُ ﴾، قيل فيه :" يلقون جزاء بخلهم "، ومن ذهب إلى أن الله أعقبهم رَدَّ الضمير إلى اسم الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ ﴾. فيه إخبارٌ بأن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم لا يوجب لهم المغفرة، ثم قال :﴿ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ ﴾ ذَكَر السبعين على وجه المبالغة في اليأس من المغفرة. وقد رُوي في بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال :" لأَزِيدَنَّ على السَّبْعِينَ " وهذا خطأ من راويه ؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنهم كفروا بالله ورسوله، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليسأل الله مغفرة الكفار مع علمه بأنه لا يغفر لهم، وإنما الرواية الصحيحة فيه ما رُوي أنه قال :" لَوْ عَلِمْتُ أَنّي لو زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُمْ لَزِدْتُ عَلَيْهَا "، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير علم منه بنفاقهم، فكانوا إذا مات الميت منهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء والاستغفار له فكان يستغفر لهم على أنهم مسلمون، فأعلمه الله تعالى أنهم ماتوا منافقين وأخبر مع ذلك أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم لا ينفعهم.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ﴾ ؛ فيه الدلالة على معانٍ، أحدها : فِعْل الصلاة على موتى المسلمين وحَظْرها على موتى الكفار. ويدل أيضاً على القيام على القبر إلى أن يدفن، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يفعله. وقد رَوَى وكيع عن قيس بن مسلم عن عمير بن سعد :" أن عليّاً قام على قبر حتى دُفِن ". وروى سفيان الثوري عن أبي قيس قال :" شهدت علقمة قام على قبر حتى دفن ". وروى جرير بن حازم عن عبدالله بن عبيد بن عمير :" أن ابن الزبير كان إذا مات له ميت لم يزل قائماً حتى ندفنه ". فهذا يدل على أن السنّة لمن حضر عند القبر أن يقوم عليه حتى يُدفن. ومن الناس من يستدل بذلك على جواز الصلاة على القبر، وجعل قوله :﴿ وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ﴾ قيام الصلاة على القبر ؛ وهذا خطأ من التأويل لأنه تعالى قال :﴿ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ﴾ فنهى عن القيام على القبر كَنَهْيِهِ عن الصلاة على الميت عطفاً عليه، فغير جائز أن يكون المعطوف هو المعطوف عليه بعينه. وأيضاً فإن القيام ليس هو عبارة عن الصلاة، وإنما يريد هذا القائل أن يجعله كناية عنها، وغير جائز أن تذكر الصلاة بصريح اسمها ثم يعطف عليها القيام فيجعله كناية عنها، فثبت بذلك أن القيام على القبر غير الصلاة. وأيضاً روى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما توفي عبدالله بن أبيّ جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هذا أبي يا رسول الله قد وضعناه على شفير قبره فقم فصلِّ عليه ! فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثبتُ معه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام الناس خلفه تحولت وقمت في صدره وقلت : يا رسول الله على عبدالله بن أبيّ عدو الله القائل يوم كذا كذا وكذا ! أعد أيامه الخبيثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لتَدَعْني يا عُمَرُ إِنَّ الله خَيَّرَنِي فاخْتَرْتُ، فقال :﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ الآية، فوالله لو أعْلَمُ يا عُمَرُ أني لو زِدْتُ على سَبْعِينَ مَرَّةً أَنْ يَغْفِرَ لَهُ لَزِدْتُ "، ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم معه وقام على قبره حتى دُفن، ثم لم يلبث إلا قليلاً حتى أنزل الله :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ﴾، فوالله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد من المنافقين ولا قام على قبره بعده. فذكر عمر في هذا الحديث الصلاة والقيام على القبر جميعاً، فدلّ على ما وصفنا. ورُوي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على عبدالله بن أبيّ، فأخذ جبريل بثوبه فقال :" لا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ".
قوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ ولا عَلَى المَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لله وَرَسُولِهِ ﴾ ؛ هذا عطف على ما تقدم من ذكر الجهاد في قوله :﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾، ثم عطف عليه قوله :﴿ وَجَاءَ المُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ﴾، فذمّهم على الاستيذان في التخلف عن الجهاد من غير عذر. ثم ذكر المعذورين من المؤمنين، فذكر الضعفاء وهم الذين يضعفون عن الجهاد بأنفسهم لزَمَانَةٍ أو عَمًى أو سنٍّ أو ضعف في الجسم، وذكر المرضى وهم الذين بهم أعلال مانعة من النهوض والخروج للقتال، وعَذَرَ الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون، وكان عُذْرُ هؤلاء ومَدْحُهم بشريطة النصح لله ورسوله ؛ لأن من تخلف منهم وهو غير ناصح لله ورسوله بل يريد التضريب والسعي في إفساد قلوب من بالمدينة لكان مذموماً مستحقّاً للعقاب. ومن النُّصْحِ لله تعالى حَثُّ المسلمين على الجهاد وترغيبهم فيه والسعي فيه إصلاح ذات بينهم ونحوه مما يعود بالنفع على الدين، ويكون مع ذلك مخلصاً لعمله من الغشِّ ؛ لأن ذلك هو النصح، ومنه التوبة النصوح.
قوله تعالى :﴿ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ﴾، عمومٌ في أن كل من كان محسناً في شيء فلا سبيل عليه فيه. ويحْتَجُّ به في مسائل مما قد اخْتُلف فيه، نحو ما استعار ثوباً ليصلي فيه أو دابةً ليحج عليها فتهلك، فلا سبيل عليه في تضمينه لأنه محسن، وقد نفى الله تعالى السبيل عليه نفياً عامّاً، ونظائر ذلك مما يختلف في وجوب الضمان عليه بعد حصول صفة الإحسان له، فيحتج به نَافُو الضمان. ويحتجّ مخالفنا في إسقاط ضمان الجمل الصؤول إذا قتله من خشي أن يقتله بأنه محسن في قتله للجمل، وقال الله تعالى :﴿ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ ونظائره كثيرة.
قوله تعالى :﴿ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾ ؛ هو كقوله :﴿ إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ ؛ لأن الرِّجْسَ يعبَّر به عن النَّجَس، ويقال : رِجْسٌ نِجْسٌ على الاتباع ؛ وهذا يدل على وجوب مجانبة الكفار وترك موالاتهم ومخالطتهم وإيناسهم وتقويتهم.
قوله تعالى :﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنّ الله لا يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقِينَ ﴾ يدل على أن الحلف على الاعتذار ممن كان متهماً لا يوجب الرضا عنه وقبول عذره ؛ لأن الآية قد اقتضت النهي عن الرضا عن هؤلاء مع أيمانهم. وقال في هذه الآية :﴿ يَحْلِفُونَ ﴾ ولم يقل " بالله "، وقال في الآية الأولى :﴿ سَيَحْلِفُونَ بالله ﴾ فذكر اسم الله في الحَلْفِ في الأولى واقتصر في الآية الثانية على ذكر الحلف، فدل على أنهما سواء. وقال في موضع آخر :﴿ ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ﴾ [ المجادلة : ١٤ ]، وكذلك قال الله تعالى في القسم، فقال في موضع :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ﴾ [ الأنعام : ١٠٩ ] وقال في موضع آخر :﴿ إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ﴾ [ القلم : ١٧ ]، فاكتفى بذكر الحلف عن ذكر اسم الله تعالى ؛ وفي هذا دليل على أنه لا فرق بين قول القائل " احلف " وبين قوله " احلف بالله " وكذلك قوله :" أقسم " و " أقسم بالله ".
قوله تعالى :﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ الله عَلَى رَسُولِهِ ﴾. أطلق هذا الخبر عن الأعراب ومراده الأعمّ الأكثر منهم، وهم الذين كانوا يواطنون المنافقين على الكفر والنِّفاق، وأخبر أنهم أجْدَرُ أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ؛ وذلك لقلة سماعهم للقرآن ومجالستهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فهم أجهل من المنافقين الذين كانوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم قد كانوا يسمعون القرآن والأحكام، فكان الأعراب أجْهَلَ بحدود الشرائع من أولئك، وكذلك هم الآن في الجهل بالأحكم والسنن وفي سائر الأعصار وإن كانوا مسلمين ؛ لأن من بَعُدَ من الأمصار ونَاءَ عن حضرة العلماء كان أجهل بالأحكام والسنن ممن جالسهم وسمع منهم ؛ ولذلك كره أصحابنا إمامة الأعرابيّ في الصلاة. ويدل على أن إطلاق اسم الكفر والنفاق على الأعراب خاصٌّ في بعضهم دون بعض قوله تعالى في نسق التلاوة :﴿ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بالله وَاليَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ الله وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ﴾ الآية ؛ قال ابن عباس والحسن :" صلوات الرسول استغفار لهم ". وقال قتادة :" دعاؤه لهم بالخير والبركة ".
قوله تعالى :﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ﴾، فيه الدلالة على تفضيل السابق إلى الخير على التالي ؛ لأنه داع إليه يسبقه والتالي تابع له فهو إمام له وله مثل أجره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بها إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، ومَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ "، وكذلك السابق إلى الشرّ أسوأ حالاً من التابع له ؛ لأنه في معنى من سَنّهُ. وقال الله تعالى :﴿ وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ] يعني أثقال من اقْتَدى بهم في الشر، وقال الله تعالى :﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ﴾ [ المائدة : ٣٢ ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَا مِنْ قَتِيلٍ ظُلْماً إِلاّ وعَلَى ابْنِ آدَمَ القَاتِلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهِ لأنّه أوّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ ".
وقد اخْتُلِفَ فيمن نزلت الآية، فرُوي عن أبي موسى وسعيد بن المسيب وابن سيرين وقتادة :" أنها نزلت في الذين صلّوا إلى القِبْلَتَيْنِ ". وقال الشعبي :" فيمن بايع بيعة الرضوان ". وقال غيرهم :" فيمن أسلم قبل الهجرة ".
قوله تعالى :﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ﴾ الآية، إلى قوله :﴿ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ﴾. قال الحسن وقتادة :" في الدنيا وفي القبر " ﴿ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ " وهو عذاب جهنم ". وقال ابن عباس :" في الدنيا بالفضيحة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجالاً منهم بأعيانهم، والأخرى في القبر ". وقال مجاهد :" بالقتل والسَّبْي والجوع ".
قوله تعالى :﴿ وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾. والاعتراف الإقرارُ بالشيء عن معرفة ؛ لأن الإقرار مِنْ قَرَّ الشيء إذا ثبت، والاعترافُ مِنَ المعرفة ؛ وإنما ذكر الاعتراف بالخطيئة عند التوبة لأن تذكّر قبح الذنب أدْعَى إلى إخلاص التوبة منه وأبْعَدُ من حال من يُدْعَى إلى التوبة ممن لا يدري ما هو ولا يعرف موقعه من الضرر، فأصحُّ ما يكون من التوبة أن تقع مع الاعتراف بالذنب ؛ ولذلك حكى الله تعالى عن آدم وحواء عند توبتهما :﴿ ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ﴾ [ الأعراف : ٢٣ ].
وإنما قال :﴿ عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ ليكونوا بين الطمع والإشفاق فيكونوا أبْعَدَ من الاتّكال والإهمال ؛ وقال الحسن :" عسى " من الله واجبٌ. وفي هذه الآية دلالة على أن المذنب لا يجوز له اليأس من التوبة، وإنما يَعْرُضُ ما دام يعمل مع الشرّ خيرٌ لقوله تعالى :﴿ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً ﴾ وأنه متى كان للمذنب رجوع إلى الله في فعل الخير وإن كان مقيماً على الذنب أنه مرجوُّ الصلاح مأمونُ خير العاقبة ؛ وقال الله تعالى :﴿ ولا تيأسوا من رَوْحِ الله إنه لا ييأس من رَوْحِ الله إلا القوم الكافرون ﴾ [ يوسف : ٨٧ ]، فالعبد وإن عظمت ذنوبه فغير جائز له الانصراف عن الخير يائساً من قبول توبته ؛ لأن التوبة مقبولة ما بقي في حال التكليف، فأما من عظمت ذنوبه وكثرت مظالمه وموبقاته فأعرض عن فعل الخير والرجوع إلى الله تعالى يائساً من قبول توبته فإنه يوشك أن يكون ممن قال الله عز وجل :﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ [ المطففين : ١٤ ].
مطلب : في محاورة الحسن بن علي رضي الله عنهما مع حبيب بن مسلمة الفهري من أصحاب معاوية.
وروي أن الحسن بن علي قال لحبيب بن مسلمة الفهري وكان من أصحاب معاوية : رُبَّ مسير لك في غير طاعة الله ! فقال : أما مسيري إلى أبيك فلا ؛ فقال الحسن : بلى، ولكنك اتّبعت معاوية على عَرَضٍ من الدنيا يسير والله لئن قام بك معاوية في دنياك قد قعد بك في دينك ولو كنتَ إذْ فعلتَ شرّاً قلت خيراً كنت ممن قال الله :﴿ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ ولكنك أنت ممن قال الله :﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ [ المطففين : ١٤ ].
وهذه الآية نزلت في نفر تخلّفوا عن تَبُوكَ، قال ابن عباس : كانوا عشرة فيهم أبو لبابة بن عبدالمنذر، فربط سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد إلى أن نزلت توبتهم.
وقيل : كانوا سبعة فيهم أبو لبابة.
قوله تعالى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾. ظاهره رجوع الكناية إلى المذكورين قبله وهم الذين اعترفوا بذنوبهم ؛ لأن الكناية لا تستغني عن مظهر مذكور قد تقدم ذكره في الخطاب، فهذا هو ظاهر الكلام ومقتضى اللفظ. وجائز أن يريد به جميع المؤمنين وتكون الكناية عنهم جميعاً لدلالة الحال عليه، كقوله تعالى :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾ [ القدر : ١ ] يعني القرآن، وقوله :﴿ ما ترك على ظهرها من دابة ﴾ [ فاطر : ٤٥ ] وهو يعني الأرض، وقوله :﴿ حتى توارت بالحجاب ﴾ [ ص : ٣٢ ] يعني الشمس، فكنى عن هذه الأمور من غير ذكرها مظهرة في الخطاب لدلالة الحال عليها ؛ كذلك قوله :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ يحتمل أن يريد به أموال المؤمنين، وقوله :﴿ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ يدل على ذلك ؛ فإن كانت الكناية عن المذكورين في الخطاب من المعترفين بذنوبهم فإن دلالته ظاهرة على وجوب الأخْذِ من سائر المسلمين، لاستواء الجميع في أحكام الدين إلا ما خصّه الدليلُ ؛ وذلك لأن كل حكم حكم الله ورسوله به في شخص أو على شخص من عباده أو غيرها فذلك الحكم لازم في سائر الأشخاص إلا ما قام دليل التخصيص فيه. وقوله تعالى :﴿ تُطَهِّرُهُمْ ﴾ يعني إزالة نجس الذنوب بما يعطي من الصدقة ؛ وذلك لأنه لما أطلق اسم النجس على الكفر تشبيهاً له بنجاسة الأعيان أطلق في مقابلته وإزالته اسم التطهير كتطهير نجاسة الأعيان بإزالتها، وكذلك حكم الذنوب في إطلاق اسم النجس عليها، وأطلق اسم التطهير على إزالتها بفعل ما يوجب تكفيرها، فأطلق اسم التطهير عليهم بما يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم من صدقاتهم ومعناه أنهم يستحقون ذلك بأدائها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لو لم يكن إلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الأخذ لما استحقوا التطهير، لأن ذلك ثواب لهم على طاعتهم وإعطائهم الصدقة وهم لا يستحقون التطهير ولا يصيرون أزكياء بفعل غيرهم، فعلمنا أن في مضمونه إعطاء هؤلاء الصدقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك صاروا بها أزكياء متطهرين.
وقد اختلف في مراد الآية هل هي الزكاة المفروضة أو هي كفارة من الذنوب التي أصابوها، فرُوي عن الحسن أنها ليست بالزكاة المفروضة وإنما هي كفارة الذنوب التي أصابوها، وقال غيره :" هي الزكاة المفروضة ". والصحيح أنها الزكوات المفروضات إذْ لم يثبت أن هؤلاء القوم أوجب الله عليهم صدقة دون سائر الناس سوى زكوات الأموال، وإذا لم يثبت بذلك خبرٌ فالظاهر أنهم وسائر الناس سواء في الأحكام والعبادات وأنهم غير مخصوصين بها دون غيرهم من الناس ؛ ولأنه إذا كان مقتضى الآية وجوب هذه الصدقة على سائر الناس لتساوى الناس في الأحكام إلا مَنْ خَصَّه دليل فالواجب أن تكون هذه الصدقة واجبة على جميع الناس غير مخصوص بها قوم دون قوم، وإذا ثبت ذلك كانت هي الزكاة المفروضة إذْ ليس في أموال سائر الناس حَقٌّ سوى الصدقات المفروضة. وقوله :﴿ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ لا دَلالة فيه على أنها صدقة مكفرة للذنوب غير الزكاة المفروضة ؛ لأن الزكاة المفروضة أيضاً تطهر وتزكي مؤديها، وسائرُ الناس من المكلَّفين محتاجون إلى ما يطهرهم ويزكيهم.
وقوله :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ عموم في سائر أصناف الأموال ومُقْتَضٍ لأخْذِ البعض منها، إذ كانت من مقتضى التبعيض وقد دخلت على عموم الأموال فاقتضت إيجاب الأخذ من سائر أصناف الأموال بعضها. ومن الناس من يقول إنه متى أخذ من صنف واحد فقد قضى عهدة الآية ؛ والصحيح عندنا هو الأول، وكذلك كان يقول شيخنا أبو الحسن الكرخي.
قال أبو بكر : وقد ذكر الله تعالى إيجاب فرض الزكاة في مواضع من كتابه بلفظ مجمل مفتقر إلى البيان في المأخوذ والمأخوذ منه ومقادير الوجب والموجب فيه ووقته وما يستحقه وما ينصرف فيه، فكان لفظ الزكاة مجملاً في هذه الوجوه كلها، وقال تعالى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ فكان الإجمال في لفظ الصدقة دون لفظ الأموال لأن الأموال اسم عموم في مسمياته، إلا أنه قد ثبت أن المراد خاصٌّ في بعض الأموال دون جميعها والوجوب في وقت من الزمان دون سائره، ونظيره قوله تعالى :﴿ في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ﴾ [ المعارج : ٢٤ و ٢٥ ]، وكان مراد الله تعالى في جميع ذلك موكولاً إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ [ الحشر : ٧ ]. حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثني محمد بن عبدالله الأنصاري قال : حدثنا صرد بن أبي المنازل قال : سمعت حبيباً المالكي قال : قال رجل لعمران بن حصين : يا أبا نجيد إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلاً في القرآن ! فغضب عمران وقال للرجل : أوجدتم في كل أربعين درهماً درهماً ومن كل كذا وكذا شاة شاة ومن كذا وكذا بعيراً كذا وكذا، أوجدتم هذا في القرآن ؟ قال : لا، قال : فعمن أخذتم هذا ؟ أخذتموه عنا وأخذناه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ؛ وذكر أشياء نحو هذا. فمما نص الله تعالى عليه من أصناف الأموال التي تجب فيها الزكاة الذهب والفضة بقوله :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ فنصّ على وجوب الحق فيهما بأخص أسمائهما تأكيداً وتبييناً. ومما نص عليه زكاة الزرع والثمار في قوله :﴿ وهو الذي أنشأ جنات معروشات ﴾ إلى قوله :﴿ كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ]، فالأموال التي تجب فيها الزكاة الذهب والفضة وعروض التجارة والإبل والبقر والغنم السائمة والزرع والثمر على اختلاف من الفقهاء في بعض ذلك، وقد ذكر بعض صدقة الزرع والثمر في سورة الأنعام.
وأما المقدار فإن نصاب الوَرِقِ مائتا درهم ونصاب الذهب عشرون ديناراً، وقد رُوي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الإبل فإن نصابها خمس منها، ونصاب الغنم أربعون شاة، ونصاب البقر ثلاثون. وأما المقدار الواجب ففي الذهب والفضة وعروض التجارة ربع العشر إذا بلغ النصاب، وفي خمس من الإبل شاة، وفي أربعين شاةٍ شاةٌ، وفي ثلاثين بقر تبيعٌ. وقد اختلف في صدقة الخيل، وسنذكره بعد هذا إن شاء الله. وأما الوقت فهو حَوْلُ الحَوْلِ على المال مع كمال النصاب في ابتداء الحول وآخره. وأما من تجب عليه فهو أن يكون المالك حرّاً بالغاً عاقلاً مسلماً صحيح الملك لا دين عليه يحيط بماله أو بما لا يفضل عنه مائتا درهم. حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبي قال : قرأت على مالك بن أنس عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، ولَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، ولَيْسَ فيما دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سليمان بن داود المهري قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني جرير بن حازم عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" فإذا كانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَم وَحَالَ عَلَيْها الحَوْلُ ففيها خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، ولَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ في الذَّهَبِ حَتّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِيناراً فإذا كانت لَكَ عِشْرُونَ دِينَاراً وحَالَ عَلَيْهَا الحَوْلُ ففيها نِصْفُ دِينَارٍ، ولَيْسَ في مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ ".
وهذا الخبر في الحول وإن كان من أخبار الآحاد فإن الفقهاء قد تلقّته بالقبول واستعملوه، فصار في حَيِّزِ المتواتر الموجب للعلم، وقد رُوي عن ابن عباس في رجل ملك نصاباً :" أنه يزكيه حين يستفيده " وقال أبو بكر وعلي وعمر وابن عمر وعائشة :" لا زكاة فيه حتى يَحُولَ عليه الحَوْلُ ". ولما اتفقوا على أنه لا زكاة عليه بعد الأداء حتى يحول عليه الحول علمنا أن وجوب الزكاة لم يتعلق بالمال دون الحول وأنه بهما جميعاً يجب، وقد استعمل ابن عباس خبر الحول بعد الأداء، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينه قبل الأداء وبعده بل نفى إيجاب الزكاة في سائر الأموال نفياً عاماً إلا بعد حَوْلِ الحول، فوجب استعماله في كل نصاب قبل الأداء وبعده. ومع ذلك يحتمل أن لا يكون ابن عباس أراد إيجاب الأداء بوجود ملك النصاب، وأنه أراد جواز تعجيل الزكاة ؛ لأنه ليس في الخبر ذكر الوجوب.
واخْتُلِفَ فيما زاد على المائتين من الوَرِقِ، فرُوي عن عليّ وابن عمر فيما زاد على المائتين بحسابه، وهو قول أبي يوسف ومحمد ومالك والشافعي. ورُوي عن عمر أنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعين درهماً، وهو قول أبي حنيفة. ويحتج من اعتبر الزيادة أربعين بما رَوَى عبدالرّحمن بن غنم عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم :" وَلَيْسَ فيما زَادَ عَلَى المِائَتي الدِّرْهَم شَيءٌ حَتّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً " وحديث عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم :" هَاتُوا زَكَاةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً دِرْهَماً وَلَيْسَ فيما دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ " فوجب استعمال قوله :" في كل أربعين درهماً درهم " على أنه جعله مقدار الواجب فيه، كقوله صلى الله عليه وسلم :" وإذا كَثُرَتِ الغَنَمُ ففي كُلِّ مائَةِ شَاةٍ شَاةٌ ". ويدل عليه من جهة النظر أن هذا مال له نصاب في الأصل فوجب أن يكون له عفو بعد النصاب كالسوائم، ولا يلزم أبا حنيفة ذلك في زكاة الثمار لأنه لا نصاب له في الأصل عنده، وأبو يوسف ومحمد لما كان عندهما أن لزكاة الثمار نصاباً في الأصل ثم لم يجب اعتبار مقدار بعده بل الواجب في القليل والكثير كذلك الدراهم والدنانير ؛ ولو سلّم لهما ذلك كان قياسه على السوائم أوْلى منه على الثمار، لأن السوائم يتكرر وجوب الحق فيها بتكرر السنين وما تخرج الأرض لا يجب فيه الحق إلا مرة واحدة، ومرور الأحوال لا يوجب تكرار وجوب الحق فيه.
فإن قيل : فواجب أن يكون ما يتكرر وجوب الحق فيه أوْلى بوجوبه في قليل ما زاد على النصاب وكثيره مما لا يتكرر وجوب الحق فيه. قيل له : هذا منتقض بالسوائم ؛ لأن الحق يتكرر وجوبه فيها ولم يمنع ذلك اعتبار العفو بعد النصاب، ومما يدل على أن قياسه على السوائم أْوْلى من قياسه على ما تخرجه الأرض أن الدين لا يسقط العشر وكذلك موت ربّ الأرض ويسقط زكاة الدراهم والسوائم، فكان قياسها عليها أوْلى منه على ما تخرجه الأرض.
واختلف فيما زاد من البقر على أربعين، فقال أبو حنيفة :" فيما زاد بحسابه ". وقال أبو يوسف ومحمد :" لا شيء فيه حتى يبلغ ستين "، ورَوَى أسد بن عمر عن أبي حنيفة مثل قولهما. وقال ابن أبي ليلى ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي كقول أبي يوسف ومحمد. ويحتج لأبي حنيفة بقوله تعالى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ وذلك عموم في سائر الأموال، لا سيّما وقد اتفق الجميع على أن هذا المال داخل في حكم الآية مراد بها، فوجب في القليل
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً ﴾ الآية. رُوي عن جماعة من السلف أنهم كانوا اثني عشر رجلاً من الأوس والخزرج قد سُمّوا استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في بناء مسجد لليلة الشاتية والمطر والحر، ولم يكن ذلك قصدهم وإنما كان مرادهم التفريق بين المؤمنين وأن يتحزّبوا فيصلِّي حزبٌ في مسجد وحزبٌ في مسجد آخر لتختلف الكلمة وتبطل الألفة والحال الجامعة، وأرادوا به أيضاً ليكفروا فيه بالطعن على النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام، فيتفاوضون فيما بينهم من غير خوف من المسلمين لأنهم كانوا يخلون فيه فلا يخالطهم فيه غيرهم.
قوله تعالى :﴿ وإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد : أراد به أبا عامر الفاسق، وكان يقال له أبو عامر الراهب قبلُ، وكان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم عناداً وحسداً لذهاب رياسته التي كانت في الأوس قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقال المنافقين : سيأتي قيصر وآتيكم بجند فأخرج به محمداً وأصحابه ؛ فبنوا المسجد إرصاداً له، يعني مترقبين له. وقد دلت هذه الآية على ترتيب الفعل في الحُسْنِ أو القُبْحِ بالإرادة، وأن الإرادة هي التي تعلق الفعل بالمعاني التي تدعو الحكمة إلى تعليقه به أو تزجر عنها ؛ لأنهم لو أرادوا ببنائه إقامة الصلوات فيه لكان طاعة لله عز وجل، ولما أرادوا به ما أخبر الله تعالى به عنهم من قصدهم وإرادتهم كانوا مذمومين كفاراً.
قوله تعالى :﴿ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ﴾ فيه الدلالة على أن المسجد المبنيّ لضرار المؤمنين والمعاصي لا يجوز القيام فيه وأنه يجب هدمه ؛ لأن الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن القيام في هذا المسجد المبنيّ على الضرار والفساد وحرم على أهله قيام النبي صلى الله عليه وسلم فيه إهانةً لهم واستخفافاً بهم، على خلاف المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى. وهذا يدل على أن بعض الأماكن قد يكون أوْلى بفعل الصلاة فيه من بعض وأن الصلاة قد تكون منهية عنها في بعضها، ويدل على فضيلة الصلاة في المسجد بحسب ما بني عليه في الأصل، ويدل على فضيلتها في المسجد السابق لغيره لقوله :﴿ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ﴾ وهو معنى قوله تعالى :﴿ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ﴾ لأن معناه أن القيام في هذا المسجد لو كان من الحق الذي يجوز لكان هذا المسجد الذي أُسس على التقوى أحق بالقيام فيه من غيره ؛ وذلك أن مسجد الضرار لم يكن مما يجوز القيام فيه لنهي الله تعالى نبيه عن ذلك، فلو لم يكن المعنى ما ذكرنا لكان تقديره : لَمَسْجِدٌ أسس على التقوى أحق أن تقوم فيه من مسجد لا يجوز القيام فيه، ويكون بمنزلة قوله فِعْلُ الفرض أصْلَحُ من تركه، وهذا قد يسوغ، إلاّ أن المعنى الأول هو وجه الكلام.
وقد اختلف في المسجد الذي أُسس على التقوى ما هو، فرُوي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب أنه مسجد المدينة. ورُوي عن أبيّ بن كعب وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" هُوَ مَسْجِدِي هَذَا ". ورُوي عن ابن عباس والحسن وعطية أنه مسجد قباء.
قوله تعالى :﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَالله يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ﴾ فيه دلالة على أن فضيلة أهل المسجد فضيلة للمسجد وللصلاة فيه. وقوله :﴿ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ﴾ رُوي عن الحسن قال :" يتطهرون من الذنوب "، وقيل فيه : التطهر بالماء ؛ حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا معاوية بن هشام عن يونس بن الحارث عن إبراهيم بن أبي ميمونة عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" نَزَلَتْ هذه الآيةُ في أَهْلِ قَباء ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ﴾ " قال :" كانُوا يَسْتَنْجُونَ بالمَاءِ فَنَزَلَتْ فيهم هَذِهِ الآية ". وقد حوى هذا الخبر معنيين، أحدهما : أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، والثاني : أن الاستنجاء بالماء أفضل منه بالأحجار. وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالاستنجاء بالأحجار قولاً وفعلاً، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استنجى بالماء.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾. أطلق الشِّرَى فيه على طريق المجاز ؛ لأن المشتري في الحقيقة هو الذي يشتري ما لا يملك والله تعالى مالك أنفسنا وأموالنا، ولكنه كقوله تعالى :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] فسماه شِرًى كما سمَّى الصدقة قَرْضاً لضمان الثواب فيهما به، فأجرى لفظه مجرى ما يملكه المعامل فيه استدعاء إليه وترغيباً فيه.
قوله تعالى :﴿ السَّائِحُونَ ﴾ قيل إنهم الصائمون ؛ رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" سِيَاحَةُ أُمَّتي الصَّوْمُ ". ورُوي عن عبدالله بن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد أنه الصوم.
وقوله تعالى :﴿ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله ﴾ هو أتم ما يكون من المبالغة في الوصف بطاعة الله والقيام بأوامره والانتهاء عن زواجره، وذلك لأن الله تعالى حدوداً في أوامره وزواجره وما نَدَبَ إليه ورغّب فيه أو أباحه وما خيّر فيه وما هو الأوْلى في تحرّي موافقة أمر الله، وكل هذه حدود الله، فوصف تعالى هؤلاء القوم بهذا الوصف، من كان كذلك فقد أدَّى جميع فرائضه وقام بسائر ما أراده منه. وقد بين في الآية التي قبلها المرادين بها، وهم الصحابة الذين بايعوه تحت الشجرة وهي بيعة الرضوان، بقوله تعالى :﴿ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ﴾، ثم عطف عليه :﴿ التَّائِبُونَ ﴾ فقد بينت هذه الآية منزلة هؤلاء رضي الله عنهم من الدين والإسلام ومحلّهم عند الله تعالى. ولا يجوز أن يكون في وصف العبيد بالقيام بطاعة الله كلامٌ أبلغ ولا أفخم من قوله تعالى :﴿ وَالحَافِظُونَ لحُدُودِ الله ﴾.
قوله تعالى :﴿ لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَةِ ﴾. والعسرة هي شدة الأمر وضيقه وصعوبته، وكان ذلك في غزوة تبوك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في شدة الحرّ وقلةٍ من الماء والزاد والظَّهْرِ، فحضَّ الذين اتبعوه في ساعة العسرة بذكر التوبة لعظم منزلة الاتّباع في مثلها وجزيل الثواب الذي يستحق بها لما لحقهم من المشقة مع الصبر عليها وحسن البصيرة واليقين منهم في تلك الحال، إذْ لم تغيرهم عنها صعوبة الأمر وشدة الزمان. وأخبر تعالى عن فريق منهم بمقاربة ميل القلب عن الحق بقوله :﴿ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ﴾، والزيغ هو ميل القلب عن الحق، فقارب ذلك فريق منهم ولما فعلوا ولم يؤاخذهم الله به وقَبِلَ توبتهم. وبمثل الحال التي فضّل بها متبعيه في حال العسرة على غيرهم فضّل بها المهاجرين على الأنصار، وبمثلها فضل السابقين على الناس لما لحقهم من المشقة ولما ظهر منهم من شدة البصيرة وصحة اليقين بالاتّباع في حال قلة عدد المؤمنين واستعلاء أمر الكفار وما كان يلحقه من قِبَلِهِمْ من الأَذَى والتعذيب.
قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الثَلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ﴾، قال ابن عباس وجابر ومجاهد وقتادة :" هم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع "، قال مجاهد :" خُلّفوا عن التوبة "، وقال قتادة :" خُلّفوا عن غزوة تبوك ". وقد كان هؤلاء الثلاثة تخلّفوا عن غزوة تبوك فيمن تخلّف وكانوا صحيحي الإسلام، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تَبُوكَ جاء المنافقون فاعتذروا وحلفوا بالباطل، وهم الذين أخبر الله عنهم ﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم ﴾، وقال :﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لا يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقِينَ ﴾ فأمر تعالى بالإعراض عنهم ونهى عن الرضا عنهم، إذْ كانوا كاذبين في اعتذارهم مظهرين لغير ما يُبطنون. وأما الثلاثة فإنهم كانوا مسلمين صدقوا عن أنفسهم وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنّا تخلّفنا من غير عذر، وأظهروا التوبة والندم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِنَّكُمْ قَدْ صَدَقْتُمْ عَنْ أَنْفُسِكُمْ فامْضُوا حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُنْزِلُ الله تعالى فِيكُمْ "، فأنزل الله في أمرهم التشديد عليهم وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يكلمهم وأن يأمر المسلمين أن لا يكلموهم، فأقاموا على ذلك نحو خمسين ليلة، ولم يكن ذلك على معنى ردّ توبتهم لأنهم قد كانوا مأمورين بالتوبة، وغير جائز في الحكمة أن لا تقبل توبة من يتوب في وقت التوبة إذا فعلها على الوجه المأمور به ؛ ولكنه تعالى أراد تشديد المحنة عليهم في تأخير إنزال توبتهم ونَهْي الناس عن كلامهم، وأراد به استصلاحهم واستصلاح غيرهم من المسلمين لئلا يعودوا ولا غيرهم من المسلمين إلى مثله لعلم الله فيهم بموضع الاستصلاح ؛ وأما المنافقون الذين اعتذروا فلم يكن فيهم موضع استصلاح بذلك فلذلك أمر بالإعراض عنهم، فثبت بذلك أن أمْرَ الناس بتَرْكِ كلامهم وتأخير إنزال توبتهم لم يكن عقوبة وإنما كان محنة وتشديداً في أمر التكليف والتعبُّد، وهو مثل ما تقوله في إيجاب الحد الواجب على التائب مما قارب أنه ليس بعقوبة وإنما هو محنة وتعبّد، وإن كان الحد الواجب بالفعل بدياً كان يكون عقوبة لو أقيم عليه قبل التوبة.
قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ يعني مع سعتها ﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ﴾ يعني ضاقت صدورهم بالهمّ الذي حصل فيها من تأخير نزول توبتهم ومن تَرْكِ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كلامهم ومعاملتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم.
قوله تعالى :﴿ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ﴾ يعني أنهم أيقنوا أن لا مخلص لهم ولا معتصم في طلب الفرج مما هم فيه إلا إلى الله وأنه لا يملك ذلك غيره ولا يجوز لهم أن يطلبوا ذلك إلا من قِبَلِ العبادة له والرغبة إليه، فحينئذ أنزل الله تعالى على نبيه قبول توبتهم، وكذلك عادة الله تعالى فيمن انقطع إليه وعلم أن لا كاشف لهمه غيره أنه سينجيه ويكشف عنه غمّه، وكذلك حكى جلّ وعلا عن لوط عليه السلام في قوله :﴿ ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب ﴾ [ هود : ٧٧ ] إلى أن قال :﴿ لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ﴾ [ هود : ٨٠ ]، فتبرأ من الحَوْلِ والقوة من قِبَلِ نفسه ومن قِبَلِ المخلوقين وعلم أنه لا يقدر على كشف ما هو فيه إلا الله تعالى، حينئذ جاءه الفرج فقالوا :﴿ إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ﴾ [ هود : ٨١ ]، وقال تعالى :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ﴾ [ الطلاق : ٢ ]، ومن يَنْوِ الانقطاع إليه وقطع العلائق دونه ؛ فمتى صار العبد بهذه المنزلة فقد جعل الله له مخرجاً لعلمه بأنه لا ينفكّ من إحدى منزلتين : إما أن يخلصه مما هو فيه وينجيه كما حكي عن الأنبياء عند بلواهم مثل قول أيوب :﴿ إني مسني الشيطان بنصب وعذاب ﴾ [ ص : ٤١ ] فالتجأ إلى الله في الخلاص مما كان يوسوس إليه الشيطان بأنه لو كان له عند الله منزلة لما ابتلاه بما ابتلاه به، ولم يكن صلوات الله عليه قابلاً لوساوسه إلا أنه كان يشغل خاطره وفكره عن التفكر فيما هو أوْلى به، فقال الله له عند ذلك :﴿ اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ﴾ [ ص : ٤٢ ] ؛ فكذلك كل من اتّقى الله بأن التجأ إليه وعلم أنه القادر على كشف ضره دون المخلوقين كان على إحدى الحسنيين من فرج عاجل أو سكون قلب إلى وعد الله وثوابه الذي هو خير له من الدنيا وما فيها.
قوله تعالى ﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا ﴾ يعني والله أعلم تاب على هؤلاء الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيه صلى الله عليه وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله تعالى قابل توبتهم.
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾. رَوَى ابن مسعود قال :" يعني لازم الصدق، ولا تعدل عنه إذ ليس في الكذب رخصة ". وقال نافع والضحاك :" مع النبيين والصديقين بالعمل الصالح في الدنيا ". وقال تعالى في سورة البقرة :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ]، إلى قوله :﴿ أولئك الذين صدقوا ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ]، وهذه صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار ؛ ثم قال في هذه الآية :﴿ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ فدلّ على لزوم اتّباعهم والاقتداء بهم لإخباره بأن من فعل ما ذكر في الآية فهم الذين صدقوا، وقال في هذه الآية :﴿ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ فدل على قيام الحجة علينا بإجماعهم وأنه غير جائز لنا مخالفتهم لأمر الله إيانا باتباعهم.
وقوله تعالى :﴿ لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَةِ ﴾ فيه مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار وإخبار بصحة بواطن ضمائرهم وطهارتهم ؛ لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم ورضي أفعالهم. وهذا نصٌّ في ردّ قول الطاعنين عليهم والناسبين بهم إلى غير ما نسبهم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر رضي الله عنهم.
قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ الله ﴾، قد بينت هذه الآية وجوب الخروج على أهل المدينة مع رسول الله في غزواته إلا المعذورين ومن أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود ؛ ولذلك ذم المنافقين الذين كانوا يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود في الآيات المتقدمة.
وقوله :﴿ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ أي يطلبون المنفعة بتوقية أنفسهم دون نفسه، بل كان الفرض عليهم أن يقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم. وقد كان من المهاجرين والأنصار من فعل ذلك وبذل نفسه للقتل ليقي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى :﴿ وَلا يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً ﴾ ؛ فيه الدلالة على أن وَطءَ ديارهم بمنزلة النَّيْلِ منهم، وهو قتلهم أو أخذ أموالهم أو إخراجهم عن ديارهم، هذا كله نيل منهم ؛ وقد سَوَّى بين وطء موضع يغيظ الكفار وبين النيل منهم، فدل ذلك على أن وطء ديارهم وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم هو بمنزلة نيل الغنيمة والقتل والأسر، وفي ذلك دليل على أن الاعتبار فيما يستحقه الفارس والراجل من سهامهما بدخول أرض الحرب لانحيازه الغنيمة والقتال، إذْ كان الدخول بمنزلة حيازة الغنائم وقتلهم وأسرهم. ونظيره في الدلالة على ما ذكرنا قوله تعالى :﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ [ الحشر : ٦ ]، فاقتضى ذلك اعتبار إيجاف الخيل والركاب في دار الحرب، ولذلك قال علي رضي الله عنه :" ما وُطىء قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا ".
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ﴾. رُوي عن ابن عباس أنه نسخ قوله :﴿ فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً ﴾ [ النساء : ٧١ ] وقوله :﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾، فقال تعالى : ما كان لهم أن ينفروا في السرايا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وحده، ولكن تبقى بقية لتنفقّه ثم تنذر النافرة إذا رجعوا إليهم. وقال الحسن :" لتتفقه الطائفة النافرة ثم تنذر إذا رجعت إلى قومها المتخلفة " ؛ وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية لأنه قال تعالى :﴿ فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ﴾، فظاهر الكلام يقتضي أن تكون الطائفة النافرة هي التي تنفقه وتنذر قومها إذا رجعت إليهم. وعلى التأويل الأول الفرقة التي نفرت منها الطائفة هي التي تنفقه وتنذر الطائفة إذا رجعت إليها ؛ وهو بعيد من وجهين، أحدهما : أن حكم العطف أن يتعلق بما يليه دون ما يتقدمه، فوجب على هذا أن يكون قوله :﴿ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا ﴾ أن تكون الطائفة هي التي تتفقه وتنذر، ولا يكون معناه من كل فرقة تتفقه في الدين تنفر منهم طائفة ؛ لأنه يقتضي إزالة ترتيب الكلام عن ظاهره وإثبات التقديم والتأخير فيه. والوجه الثاني : أن قوله :﴿ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ﴾ الطائفة أوْلى منه بالفرقة النافرة منها الطائفة ؛ وذلك لأن نفر الطائفة للتفقه معنى مفهوم يقع النفر من أجله، والفرقة التي منها الطائفة ليس تفقّهها لأجل خروج الطائفة منها، لأنها إنما تتفقَّه بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم حضرته لا لأن الطائفة نفرت منها، فحَمْلُ الكلام على ذلك يبطل فائدة قوله تعالى :﴿ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ﴾، فثبت أن التي تتفقه هي الطائفة النافرة من الفرقة المقيمة في بلدها وتنذر قومها إذا رجعت إليها.
وفي هذه الآية دلالة على وجوب طلب العلم وأنه مع ذلك فرض على الكفاية، لما تضمنت من الأمر بنفر الطائفة من الفرقة للتفقه، وأمر الباقين بالقعود لقوله :﴿ وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ﴾. وقد روى زياد بن ميمون عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ "، وهذا عندنا ينصرف على معنيين، أحدهما : طلب العلم فيما يبتلى به الإنسان من أمور دينه فعليه أن يتعلمه، مثل من لا يعرف حدود الصلاة وفروضها وحضور وقتها فعليه أن يتعلمها، ومثل من ملك مائتي درهم فعليه أن يتعلم ما يجب عليه فيها، وكذلك الصوم والحج وسائر الفروض. والمعنى الآخر : أنه فَرْضٌ على كل مسلم، إلا أنه على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. وفيه دلالة على لزوم خبر الواحد في أمور الديانات التي لا تلزم الكافة ولا تعم الحاجة إليها ؛ وذلك لأن الطائفة لما كانت مأمورة بالإنذار انتظم فحواه الدلالة عليه من وجهين، أحدهما : أن الإنذار يقتضي فعل المأمور به وإلا لم يكن إنذاراً. والثاني : أمره إيانا بالحذر عند إنذار الطائفة ؛ لأن قوله تعالى :﴿ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ معناه : ليحذورا، وذلك يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد لأن الطائفة اسم يقع على الواحد. وقد رُوي في تأويل قوله تعالى :﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ﴾ [ النور : ٢ ] أنه أراد واحداً، وقال تعالى :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ﴾ [ الحجرات : ٩ ] ولا خلاف أن الاثنين إذا اقتتلا كانا مرادين بحكم الآية ؛ ولأن الطائفة في اللغة كقولك البعض والقطعة من الشيء، وذلك موجود في الواحد، فكان قوله :﴿ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ﴾ بمنزلته لو قال بعضها أو شيء منها، فدلالة الآية ظاهرة في وجوب قبول الخبر المقصّر عن إيجاب العلم. وإن كان التأويل ما رُوِيَ عن ابن عباس أن الطائفة النافرة إنما تنفر من المدينة والتي تتفقّه إنما هي القاعدة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فدلالتها أيضاً قائمة في لزوم قبول خبر الواحد ؛ لأن النافرة إذا رجعت أنذرتها التي لم تنفر وأخبرتها بما نزل من الأحكام. وهي تدلّ أيضاً على لزوم قبول خبر الواحد بالمدينة مع كَوْنِ النبي صلى الله عليه وسلم بها، لإيجابها الحذر على السامعين بنذارة القاعدين.
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾، خصّ الأمر بالقتال للذين يَلُونهم من الكفار، وقال في أول السورة ﴿ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ وقال في موضع آخر :﴿ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً ﴾ فأوجب قتال جميع الكفار، ولكنه خصَّ بالذكر الذين يَلُونَنا من الكفار إذْ كان معلوماً أنه لا يمكننا قتال جميع الكفار في وقت واحد وأن الممكن منه هو قتال طائفة فكان من قرب منهم أوْلى بالقتال ممن بعد ؛ لأن الاشتغال بقتال من بَعُدَ منهم مع ترك قتال من قَرُبَ لا يؤمن معه هَجْمُ من قرب على ذراري المسلمين ونسائهم وبلادهم إذا خلت من المجاهدين، فلذلك أمر بقتال من قرب قبل قتال من بعد. وأيضاً لا يصح تكليف قتال الأبعد، إذْ لا حَد للأبعد يبتدأ منه القتال كما للأقرب. وأيضاً فغير ممكن الوصول إلى قتال الأبعد إلا بعد قتال من قَرُبَ وقَهْرِهم وإذلالهم ؛ فهذه الوجوه كلها تقتضي تخصيص الأمر بقتال الأقرب.
وقوله تعالى :﴿ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ فيه أمْرٌ بالغِلْظَةِ على الكفار الذين أمرنا بقتالهم في القول والمناظرة والرسالة، إذ كان ذلك يوقع المهابة لنا في صدورهم والرعب في قلوبهم ويستشعرون منا به شدة الاستبصار في الدين والجدّ في قتال المشركين، ومتى أظهروا لهم اللين في القول المحاورة استجرؤوا عليهم وطمعوا فيهم، فهذا حَدُّ ما أمر الله به المؤمنين من السيرة في عدوهم.
Icon