تفسير سورة التوبة

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن الفرس . المتوفي سنة 595 هـ
سورة براءة١
هي مدنية إلا قوله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول... ﴾ [ التوبة : ١٢٨، ١٢٩ ] آخر السورة.
ولهذه السورة أسماء، قال حذيفة ٢ تسمى سورة التوبة، وقال ابن عباس تسمى الفاضحة، وتسمى أيضا الحافرة لأنها حفرت عن قلوب المنافقين. وقال حذيفة أيضا هي سورة العذاب. وقال ابن عمر كنا ندعوها المقشقشة. وقال ابن زيد كانت تسمى ٣ المبعثرة. ويقال لها أيضا المثيرة، ويقال لها البحوث. وأول آية نزلت منها على ما قال أبو مالك الغفاري ٤ :﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ [ براءة : ٤١ ]. وقد كانت هذه السورة تعدل سورة البقرة طولا فنسخت، وكانت تدعى وسورة الأنفال القرينتين. وفيها من الأحكام والناسخ والمنسوخ مواضع ٥ أكثر العلماء على أن آخر سورة نزلت بالمدينة براءة ولذلك قل المنسوخ فيها. وروي عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلة أية الكلالة. وحكي أن أعرابيا سمعها فقال : أظن هذه من آخر ما أنزل. فقيل له لم تقول ذلك فقال أرى أشياء تنقض وعهودا تنبذ٦.
١ في (أ)، (ح): "سورة التوبة"..
٢ حذيفة: هو أبو عبد الله حذيفة بن اليمان، كان صاحب سر الرسول صلى الله عليه وسلم في المنافقين. توفي سنة ٣٦هـ/ ٦٥٦م. الأعلام ٢/ ١٨٠..
٣ "تسمى" ساقطة في غير (أ)، (ز)..
٤ أبو مالك الغفاري: هو الحكم بن عمرو بن مجدع الغفاري صحابي جليل له أحاديث في صحيح البخاري وغيره. توفي سنة ٥٠هـ/ ٦٧٠م. انظر تهذيب التهذيب لابن حجر ٢/ ٤٣٦..
٥ أوصلها ابن الفرس إلى اثنتين وأربعين آية..
٦ ذكر ذلك ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ١٢٤، ١٢٥..
قوله تعالى :﴿ براءة من الله ورسوله ﴾ الآية :
هذه الآية اقتضت تقدم عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين أن النبي صلى الله عليه وسلم نقضه، إلا أنه اختلف في سبب النقض. والجمهور على أنه ما أراده المشركون من النقض. وقال بعضهم سببه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يحج لقابل لقرب أجله وكان المشركون يطوفون بالبيت عراة، والتعري محض شرك وكفر، فاقتضى ذلك نقض العهد. وهذا باطل لأنه لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم نقض العهد لهذه العلة فإن من التمكن أن يخلي البيت ساعة طوافه ولا يمكن المشركين من الطواف فيما له استحالة كما طاف في عمرة القضاء وأخلى المشركون له البيت.
وقوله تعالى :﴿ ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا ﴾ :
يدل على أن الذين تقدم ذكرهم ووقع منهم مظاهرة أو مخاتلة خداع تقتضي نقض العهد والإخلال به. ولذلك قال :﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ﴾ الآية [ براءة : ٧ ] فإن قيل فإذا نقض العهد فلم أجلوا أربعة أشهر ؟ فالجواب أنه جاز الإمهال تلك المدة لما فيه من المصلحة من تدبر من أمهل وعاقبة أمره وعسى أن يكون ذلك داعية إلى الإسلام وإذا صح هذا فقد اتفق المفسرون لهذه الآية أن هذا التأجيل الأربعة أشهر دخل/ فيه من كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وظهر منه أو تحسس من جهته نقض وكان مدة عهده ينصدم عند انقضاء الأربعة أشهر أو قبلها. واختلف في من كان من هؤلاء عهده يتمادى بعد الأربعة أشهر. فقيل – وهو قول الجمهور – إنه داخل فيمن ضرب له الأربعة أشهر. وقيل من كان عهده يتمادى بعد الأربعة أشهر ١ فهم الذين أمر الله تعالى أن يوفى لهم ٢. والأول أصح على ظاهر الآية. وأما من كان له عهد ولم يخف منه نقض فاتفقوا على أنه لم يدخل في التأجيل وأنه كان باقيا إلى أجله إن كان أجله أطول من الأربعة أشهر لاستثناء الله تعالى إياهم فيما بعد ٣. واختلفوا فيمن لم يكن له عهد من النبي صلى الله عليه وسلم هل هو داخل في هذا التأجيل أم لا. فذهب أكثرهم – منهم الضحاك – إلى أنه لم يدخل في ذلك. وذهب بعضهم – منهم السدي – إلى أنهم دخلوا فيه٤ والأول أظهر لقوله تعالى :﴿ إلا الذين عاهدتم ﴾ [ براءة : ٤ ] فإنما ذكر من عوهد بدليل هذا أن من لم يعاهد ليس كذلك.
وقال موسى بن عقبة ٥ : كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يكف عن قتال من لم يقاتله لقوله تعالى :﴿ وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ﴾ [ النساء : ٩٠ ] ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :﴿ براءة من الله ورسوله ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم ﴾ الآيات [ براءة : ١ - ٥ ].
١ في (ح) زيادة: "وهو قول الجمهور"..
٢ في (أ)، (ز): "إليهم"..
٣ راجع المحرر الوجيز ٨/ ١٢٦، ١٢٧ وكذلك أحكام القرآن للجصاص ٤/ ٢٦٤ – ٢٦٦..
٤ قال الكيا الهراسي: ومن لم يكن له عهد أمر أن يجعل له خمسين ليلة من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم إلا حي من بني كنانة كان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر فأمر الله تعالى أن يتم عهدهم إلى مدتهم وهو معنى قوله تعالى: ﴿إلا الذين عاهدتم من المشركين...﴾ إلى قوله: ﴿فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم﴾ [براءة: ٤]. راجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ١٧٢، ١٧٣..
٥ موسى بن عقبة: هو أبو محمد موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي. عالم بالسيرة له كتاب المغازي. توفي سنة ١٤١هـ/ ٧٥٨م. انظر تهذيب التهذيب لابن حجر ١٠/ ٣٦٠..
وقوله تعالى :﴿ فسيحوا ﴾ :
معناه فقل لهم يا محمد ١ سيحوا في الأرض أي امشوا فيها آمنين هذه المدة. واختلفوا في أول هذه الأربعة الأشهر التي ذكرها الله تعالى.
فقال ابن عباس وغيره أولها شوال، وحينئذ نزلت الآية وانقضاءها عند انسلاخ الأشهر الحرم، وانقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين يوما. قالوا فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم نزول الآية وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان. وهذا قول ضعيف لأن الأجل لا يلزم إلا من يوم سمع إلا أن يكون سمعت براءة أول شوال ثم كرر إشهارها مع الأذان ٢ يوم الحج الأكبر ٣. وقال السدي وغيره بل أولها يوم الأذان وآخرها العشر من ربيع الآخر وهي الحرم استعير لها هذا الاسم لهذه الحرمة وإلا من الخاص الذي رسمه الله تعالى وألزمه فيها ٤. والقول الأول أظهر في لفظ الآية لقوله تعالى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم ﴾ [ براءة : ٥ ] فدل أن بتمام الأشهر الحرم يتم العهد. ويقول ٥ أهل القول الثاني أن المعنى في ذلك اقتلوا المشركين الذين لا عهد لهم ألبتة، فكان على هذا أجل من لا عهد له خمسين يوما ٦ وهو مذهب أبي حنيفة ٧.
١ "معناه فقل لهم يا محمد" ساقط في (أ)..
٢ "وهذا قول.... إلى: مع الأذان" ساقط في (أ)، (ز)..
٣ في (أ): "يوم الحج الأخير"..
٤ راجع المحرر الوجيز ٨/ ١٢٦..
٥ في (أ)، (ز): "يقول"..
٦ في (أ)، (ز): "خمسون ليلة"..
٧ في (أ)، (ز): "وهو قول أبي حنيفة"..
وقوله تعالى :﴿ وأذان من الله ﴾ :
أي إعلام منه. وقوله تعالى :﴿ يوم الحج الأكبر ﴾ [ براءة : ٣ ] اختلف الناس فيه فقال عمر وابنه وغيرهما ١ هو يوم عرفة، وقيل هو يوم النحر وهو قول أبي هريرة، والقولان عن علي مرويان. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوم النحر وبهذا يقول مالك. وقال سفيان بن عيينة المراد بقوله الحج الأكبر ها هنا أيام الحج كلها كما تقول يوم صفين ويوم الجمل. وقال مجاهد هي أيام منى كلها ٢. والذي تظاهر به الأحاديث أن عليا أذن بتلك الآية يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر وفي ذلك اليوم بعث معه أبو بكر من يعينه في الأذان بها كأبي هريرة وغيره، وتتبعوا أيضا أسواق العرب كذي المجاز وغيره ٣. فبسبب هذا اختلف الناس. واختلف أيضا لم وصف بالأكبر، فقيل لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون وصادف/ أيضا عيد اليهود والنصارى ٤ وقيل لأنه حج فيه أبو بكر ونبذت فيه العهود وقيل الحج الأكبر بالإضافة إلى الحج الأصغر وهو العمرة ٥. وقال الشعبي بالإضافة إلى العمرة في رمضان فإنه الحج الأصغر، وقال مجاهد الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد، وقيل الحج الأكبر يوم النحر والأصغر يوم عرفة وهو قول منذر بن سعيد ٦ قال لأن الناس كانوا يقفون يوم عرفة بعرفة إذا كانت الحمس تقف بالمزدلفة وكان الجمع يوم النحر بمنى فلذلك كانوا يسمونه الحج الأكبر وذكر بعضهم أن هذا خطأ لأنه لم يقف أحد في حجة أبي بكر بالمزدلفة ٧. وليس كما قال. وقد حكى قوم من المفسرين ٨ أن الحمس ومن تبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد افتتح مكة سنة ثمان واستعمل عليها عتاب بن أسيد ٩ ثم غزا غزوتين : حنينا والطائف ثم رجع إلى المدينة ثم خرج إلى تبوك ثم رجع في رمضان سنة تسع فأراد الحج ١٠ ولم يرد أن يحج والمشركون يحجون ويطوفون عراة فأمر أبا بكر أن يحج بالناس وأنفذه، ثم أتبعه عليا على العضباء لينادي ١١ في الناس بأربعة أشياء : ألا يحج بعد العام مشرك ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته. وفي بعض الروايات ومن كان بينه وبينه عهد فأجله أربعة أشهر يسيح فيها فإذا انقضت فإن الله بريء من المشركين ورسوله وهذه الرواية فيمن يتحسس منه نقض والأول فيمن لم يتحسس منه نقض. وذكر أن العرب قالت يومئذ نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطغى والرضا فلام بعضهم بعضا وقالوا ما تصنعون. وقد أسلمت قريش فأسلموا كلهم ولم يسح أحد. وحينئذ دخل الناس في دين الله أفواجا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر عليا أن يقرأ على الناس من أول براءة. قيل أربعين آية وقيل ثلاثين وقيل عشرين وقيل عشر آيات وقيل تسع آيات ١٢ وقيل ثمان وعشرون آية ١٣.
١ وابن المسيب وعلي وابن عباس وعطاء ومجاهد. راجع المحرر الوجيز ٨/ ١٢٧..
٢ راجع ذلك عند الجصاص أيضا في أحكام القرآن ٤/ ٢٦٨، ٢٦٩..
٣ أورده ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ١٢٨..
٤ نسبه ابن عطية إلى الحسن بن أبي الحسن وإلى عبد الله بن الحارث راجع المحرر الوجيز ٨/ ١٢٩. ونسبه الجصاص إلى ابن سيرين راجع أحكام القرآن ٤/ ٢٦٨..
٥ نسبه ابن عطية إلى عطاء بن أبي رباح. راجع المحرر الوجيز ٨/ ١٢٩..
٦ منذر بن سعيد: هو منذر بن سعيد بن عبد الله بن عبد الرحمن البلوطي الأندلسي صاحب أحكام القرآن. توفي سنة ٣٥٥هـ/ ٩٦٦م. انظر طبقات المفسرين للداودي ٢/ ٣٣٦..
٧ وهو رأي ابن عطية فراجعه مع بقية الأقوال في المحرر الوجيز ٨/ ١٢٨..
٨ نسبه ابن عطية إلى المهدوي راجع م. س..
٩ عتاب بن أسيد: هو أبو عبد الرحمن عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس صحابي. توفي سنة ١٣هـ/ ٦٣٤م. انظر الإصابة لابن حجر ٢/ ٤٤٤..
١٠ في (ج)، (ح): "أراد أن يحج"..
١١ "العضباء" كلمة ساقطة في (ب)، وفي (ح): "ليناهي"..
١٢ نسبه ابن عطية إلى النقاش. راجع المحرر الوجيز ٨/ ١٣٠، ١٣١..
١٣ نسبه ابن عطية إلى سليمان بن موسى الشامي. راجع م. س..
وقوله تعالى :﴿ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا ﴾ :
استثني بهذه الآية من لم ينقض عهدا من المشركين وهم الذين بقي من عهدهم تسعة أشهر أي أنهم يتركون على عهدهم لا يكونون كمن نقض العهد فيضرب له أربعة أشهر. وقال قتادة هم قريش الذين عوهدوا من الحديبية، وهذا فاسد لأن قريشا كانت قد أسلمت يوم الفتح قبل أمر الله تعالى بالأذان بهذه الأشياء.
ثم قال تعالى :﴿ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾ فاختلف المفسرون على من يعود هذا الضمير ﴿ إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾ فقيل على ١ من ضرب له أربعة أشهر أي أتموا العهد الذي لهم إلى أربعة أشهر وهو قول ابن عباس. وقيل يعود على قوله :﴿ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ﴾ وهذا مبني على الاختلاف في الضمير إذا تعقب شيئين. ويحتمل أن يعود على الأبعد منهما ويحتمل أن يعود٢ على ٣ الأقرب منهما. فمنهم من يحمله على الأقرب وهو الأحسن ومنهم من يحمله على الأبعد، والأحسن في هذه الآية أن يعود على المستثنين. والذي يتحصل من الأحكام في هذه الآية أنه لا يجوز نقض عهد/ الكفار إلا بنقض ظاهر منهم أو توقع نقض أو إيهام من مدة العهد مثل أن يقول أقركم ما أقركم الله كما عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه ولا يجوز النقض بالاغتيال بل بإظهار نقض العهد إليهم.
ويؤخذ من قوله تعالى :﴿ ولم يظاهروا عليكم أحدا ﴾ أن أهل العهد من الكفار إذا ظاهروا قوما من الأعداء فهو نقض سواء ظاهروا سرا أو جهرا.
ويؤخذ من قوله تعالى :﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ أن هذه المدة غاية الآجال في استيفاء الحقوق. وقوله تعالى :﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ( ١ ) ﴾ يقتضي أن لا يبقى مشرك له عهد إلا وقد برئ الله منه بالعموم الظاهر. ولا يدخل في ٤ هذا العموم اليهود لأنه تعالى إنما برئ من عهد ٥ من كان على موادعة في الحرب وكف عن القتال وهو عهد المشركين من العرب. وأما عهد اليهود فليس كذلك لأنه إنما كان عهد قهر وغلبة وصغار فتخصص بهذا المعنى. ويجوز أن يكون لفظ المشركين مختص بغير أهل الكتاب ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية منهم.
١ في (أ)، (ز): "عن"..
٢ "منهما ويحتمل أن يعود" ساقط في (أ)، (ز)..
٣ في (أ)، (ز): "وعلى"..
٤ "في" ساقطة في (ح)..
٥ "من عهد" ساقط في (أ)..
وقوله تعالى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ :
هذه الآية هي ناسخة لكل آية مهادنة أو ما جرى مجراها من القرآن. وقد ذكر بعضهم أن آيات المهادنة والموادعة المنسوخة بهذه الآية مائة آية وأربعة عشر آية ١ وقد اختلف في هذه الأشهر على أربعة أقوال : أحدها : أنها الأشهر ٢ المعلومة : رجب الفرد والثلاثة السرد : ذو القعدة والحجة والمحرم ٣. والثاني : شوال من سنة تسع إلى المحرم من سنة عشر. والثالث : أنها أربعة أشهر من يوم النحر من سنة تسع. والرابع : أنها تمام تسعة أشهر كانت بقيت من عهدهم. فأما الأول ففاسد لأن ترك القتال فيها منسوخ بالإجماع. والثاني باطل لأن الأجل إنما يكون من يوم الإعلام والإنزال. والرابع باطل أيضا لأن الله تعالى يقول : أربعة أشهر، وهذا يقول تسعة أشهر. والثالث هو الصحيح لأنه قال :﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ فاقتضى ذلك أن تكون المدة عقب الإعلام. وقال بعض من زعم أن الأشهر المذكورة في الآية هي المعلومة ٤ التي هي ثلاثة سرد وواحد فرد إنما علق الله تعالى قتال المشركين بانقضائها لأن آخرها الذي هو المحرم كان بانقضائه تنقضي الأربعة أشهر، وهذا قول حسن. وفي الآية أخبار كثيرة بين العلماء.
وقد قال الأصم ٥ في هذه الآية : أريد بها من لا عهد له من المشركين فوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ الحرم وهو مدة ٦ خمسين يوما على ما ذكر ابن عباس ٧ واقتضت هذه الآية أيضا أن ٨ قتل ٩ المشركين بعد الأشهر المذكورة. واختلف في هذه الآية لأجل ذلك هل هي محكمة أم منسوخة. فقال قوم هي منسوخة بقوله تعالى :﴿ فإما منا بعد وإما فداء ﴾ [ محمد : ٤ ] قالوا ولا يحل قتال أسير صبرا فإما أن يمن عليه وإما أن يفادى ١٠ وهو قول الضحاك وعطاء والسدي والحسن وغيرهم. وقيل بل هي محكمة. واختلف الذين ذهبوا إلى هذا هل هي ناسخة لقوله تعالى :﴿ فإما منا بعد وإما فداء ﴾ [ محمد : ٤ ]. فذهب قوم إلى أنها ناسخة له وأنه لا يجوز في الأسير إلا أن يقتل ولا يجوز أن يمن عليه١١ بالعتق ولا أن يفادى به، وهو قول مجاهد وقتادة وغيرهما. وذهب قوم بأنها ليست بناسخة لتلك وأن الآيتين محكمتان وهو قول ابن زيد ١٢. ثم اختلف على هذا القول١٣ في ترتيب الآيتين، فقيل ١٤ آية براءة في عباد الأوثان فليس فيهم إلا القتل وآية سورة القتال في أهل الكتاب فقط ففيهم المن والفداء.
قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم ﴾ معناه وخذوهم أسرى للقتل ١٥ أو للمن أو للفداء ١٦ ثم بين ذلك قوله تعالى :﴿ فإما منا بعد وإما فداء ﴾ [ محمد : ٤ ] وقد نسب جماعة هذا التأويل إلى ابن زيد. فهذه أربعة أقوال في حكم الأسير. أحدها القتل ١٧ خاصة وقيل المن والفداء خاصة وهو قول ١٨، وقيل هو مخير في ذلك، وقيل أما ما ١٩ في عبدة٢٠ الأوثان فالقتل خاصة وأما أهل الكتاب فالمن أو الفداء ٢١. وفي المسألة قول خامس أنه لا يجوز إلا المن والفداء بالمسلمين فأما بالمال فلا يجوز لأن ذلك تقوية لهم وهو أضعف الأقوال لعموم الآية لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل الوجهين جميعا ومذهب مالك أن الإمام مخير بين خمس ٢٢ خصال : إما أن يقتل وإما أن يمن فيستعبد أو يعتق أو تعقد له٢٣ الذمة وتضرب ٢٤ عليه الجزية وإما أن يفادى. وهذان القولان ٢٥ أيضا على أن الآيتين محكمتان ٢٦. وذهب بعض المفسرين في ترتيب الآيتين إلى غير هذا وزعم أنه لم يأت عن ابن زيد أكثر من الآيتين محكمتين ٢٧ بل ذكره مكي والمهدوي ٢٨ عن ابن زيد، فقال هذا الزاعم ٢٩ قوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم ﴾ إنما هو في المشرك المحارب الذي لم يتمكن منه وليس للأسير فيها ذكر ولا حكم وإنما حكمه في الآية الأخرى وتلك الآية لا مدخل فيها لغير الأسير. وهو قول ضعيف لعموم آية السيف إذ لم يخص محاربا من غير محارب ٣٠، وآية السيف هي قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ والأظهر في الآيتين الإحكام وإليه يذهب مالك وقد قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله يوم بدر إذ قتل النضر بن الحارث ٣١ وعقبة بن أبي معيط ٣٢ صبرا وهما أسيران وفادى بقوم. واختلف في الحبشة والترك هل يقاتلون إذا أبوا من الإسلام أم لا على قولين في المذهب والمشهور عن ابن القاسم ومالك أنهم يقاتلون. وقد جاء عن غيرهما ما ظاهره أن لا يقاتلوا ٣٣ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : " اتركوا الحبشة ما تركوكم " ومن قوله : " اتركوا الرابضين ما تركوكم الحبشة والترك " ٣٤ والقول الأول أظهر لعموم قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ ولم يخص وما ذكر من الحديث محتمل فلا يعدل عن ظاهر القرآن بمحتمل. وفي قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ دليل على جواز قتلهم بأي وجه كان إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة ويجوز أن يكون أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق والحجارة والرمي من رؤوس الجبال والتنكيس في الآبار تعلق بعموم الآية، وكذلك علي رضي الله تعالى عنه حين أحرق قوما من أهل الردة تعلق أيضا بهذا العموم.
– وقوله تعالى :﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ :
لم يقنع منهم تعالى بالاعتقاد حتى يظهروا الطاعة بالجوارح وذلك أنه اشترط في تخليتهم أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة أي أن يفعلوا هذه الأشياء مع إيمانهم. وقيل معناه أن يعترفوا بهما لا أن يفعلوهما. وإذا قلنا إنه إنما أراد فعلهما فالذي تقتضيه الأصول أن الإيمان إذا حصل فقد زال الكفر وما كان بعد ذلك من صلاة وزكاة ونحوهما فإنما هي طاعات أوجبها الله تعالى فمن تركها ولم يأت بها مع الإيمان فقد عصى، وفيها عقوبات على حسب ما ورد من الشرع في ذلك. وأما أن يقال إنه كافر بتركها فبعيد في قياس الشرع وإن كانت قد وردت أخبار تدل على تكفير من ترك الصلاة، والسابق من ظاهر الآية مثل ما وردت به الأخبار ولكنه يترك الظاهر لما هو أظهر. ولأجل هذا اختلف فيمن أسلم هل يقنع منه بكلمة الشهادة مع الاعتراف بالطاعة أم لا يقنع منه بكلمة الشهادة مع الاعتراف حتى يصلي.
فمنهم من قال إنه إن نطق بكلمة الشهادة مع الاعتراف بما أظهر فذلك إعلام صحيح وإن رجع بعد ذلك فهو مرتد يقتل كما يقتل المرتد. ومنهم من قال إن صلى ولو ركعة فقد صح إسلامه وإن رجع بعد ذلك فهو مرتد وأما إن لم يصل فلا يكون مرتدا إن رجع عن إسلامه ولكنه يعاقب وهو قول ابن القاسم من أصحاب مالك والأول قول أصبغ وقاله ابن حبيب أيضا. ومتى قلنا بصحة إسلامه بالنطق بكلمتي الشهادة مع الاعتراف ثم ترك الصلاة فحكمه حكم المؤمن الأصلي بترك الصلاة وإذا لم نقل ٣٥ بصحة إسلامه بذلك حتى يصلي فهو ما لم يصل لا يحكم عليه في ترك الصلاة بحكم المؤمن الأصلي وذلك لأنه بعد لم يصح إسلامه ٣٦. وقد اختلف في المؤمن الأصلي يترك الصلاة بغير عذر مع إقراره بفرضها – لأن من لا يقر بفرضيتها فلا خلاف في كفره – فقيل هو كافر ينتظر به آخر وقت ٣٧ الصلاة ٣٨، فإن صلى وإلا قتل وكان ماله لجميع المسلمين وهو قول علي وابن عباس وغيرهما وإليه ذهب ابن حبيب. والثاني أنه ليس بكافر ولكنه يقتل على فعل٣٩ ذنب من الذنوب لا على كفر ويرثه ورثته المسلمون. وهو قول مالك والشافعي وجماعة سواهما. وقيل إنه لا يقتل بل يضرب ضربا مبرحا ويسجن حتى يتوب ويرجع ولا يقتل وهو قول ابن شهاب وغيره وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه ٤٠ والقول الأول أظهر إلى لفظ الآية، والقول الثاني في القياس والقول الثالث حجته قوله عليه الصلاة والسلام : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " ٤١. واختلفوا أيضا فيمن لا يؤدي الزكاة مع إقراره بفرضها لأنه إذا لم يقر بفرضها فهو كافر بلا خلاف. فقيل هو كافر ٤٢ وهو قول ابن حبيب، وقيل هو ليس بكافر وهو قول الجمهور، قالوا لكنه يضرب وتؤخذ منه كرها ٤٣ إلا أن يمتنع في جماعة فإنهم يقاتلون حتى تؤخذ منهم ٤٤. والقول الأول أظهر على لفظ الآية، والثاني أولى بالاتباع إذ هو الذي ذهب إليه جماعة الصحابة في قتال أهل الردة.
١ راجع الإيضاح صفحة ٢٦٧..
٢ في (أ)، (ز): "الأربعة"..
٣ نسبه الفخر الرازي إلى الزهري. راجع التفسير الكبير ١٥/ ٢٢٠..
٤ في (أ)، (ز): "الأربعة"..
٥ الأصم: هو أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم المعتزلي. صاحب المقالات في الأصول. انظر طبقات المفسرين للداودي ١/ ٢٦٩..
٦ "مدة" ساقطة في (أ)..
٧ راجع قول الأصم في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٨/ ٧٢ وفي أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ١٧٥. وراجع قول ابن عباس في تنوير المقباس ص ١٥٣..
٨ "أن" ساقط في (ج)، (د)، (هـ)، (و)، (ز)..
٩ في (أ): "قتال"..
١٠ من قوله: "فقال.... إلى: أن يفادى" ساقط في (أ)، (ز)..
١١ "عليه" ساقط في (أ)، (ز)..
١٢ راجع هذه الأقوال في الإيضاح ص ٢٦٥..
١٣ في (أ)، (ز): "التأويل"..
١٤ في غير (أ)، (ج)، (ز): "فقال"..
١٥ "للقتل" ساقطة في (ح)، أما في (أ)، (ز): "للقتال"..
١٦ في (ب)، (هـ): "وللمن وللفداء"..
١٧ في (ب)، (ج)، (ح): "للقتل"..
١٨ بياض في غير (أ)، (ز)..
١٩ "أما" ساقط في (ب)، "ما" ساقط في غير (ب)، (ح)..
٢٠ في (هـ)، (و)، (ز): "عباد"..
٢١ راجع هذه الأقوال في الإيضاح ص ٢٦٧..
٢٢ في (أ)، (ز): "خمسة"..
٢٣ في غير (أ)، (ز): "يعقد"..
٢٤ في غير (أ)، (ز): "يضرب"..
٢٥ في (أ): "وهذين القولين"..
٢٦ في (أ): "محكمتين"..
٢٧ من قوله: "وذهب.... إلى: محكمتين" ساقط في (أ)، (ب)، (هـ)، (و)، (ز)..
٢٨ المهدوي: هو أحمد بن عمار بن أبي العباس المهدوي المغربي أصله من المهدية ودخل الأندلس. له عدة مؤلفات منها التحصيل. توفي سنة ٤٤٠هـ/ ١٠٤٨م. انظر الوافي بالوفيات للصفدي ١/ ٢٥٧.
- مكي بن أبي طالب حموش بن محمد القيسي صاحب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه. توفي سنة ٤٣٧ هـ/ ١٠٤٦م. انظر طبقات المفسرين للداودي ٢/ ٣٣١..

٢٩ الزاعم: لعله ابن عطية فراجع رأيه في المحرر الوجيز ٨/ ١٣٣..
٣٠ "من غير محارب" ساقط في (ب)، (ح)..
٣١ النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة من بني عبد الدار من قريش صاحب لواء المشركين ببدر. انظر سيرة ابن هشام ٢/ ٣٥٨..
٣٢ عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد مناف. من الذين أظهروا العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم. انظر سيرة ابن هشام ٢/ ٣٠١..
٣٣ في (أ)، (ز): "لا يقاتلون"..
٣٤ الحديث ذكره النسائي في كتاب الجهاد، باب: غزوة الترك والحبشة ٦/ ٤٣. وأبو داود بغير هذا اللفظ في كتاب الملاحم، باب: في قتال الترك ٤/ ٤٨٦..
٣٥ في غير (ب)، (ج)، (ح): "لم يقل"..
٣٦ راجع أحكام التوبة في أحكام القرآن للجصاص ٤/ ٢٧٠ – ٢٧٤، وفي أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ١٧٨، وفي التفسير الكبير للرازي ١٥/ ٢٢٦، وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٢/ ١٨٧، ٣/ ٣٦٥، ٥/ ٩١، ٨/ ٧٥..
٣٧ في (أ)، (ز): "الوقت"..
٣٨ "الصلاة" ساقطة في (أ)، (ز)..
٣٩ "فعل" ساقطة في غير (ج)، (ح)..
٤٠ راجع مختلف هذه الأقوال أيضا في أحكام القرآن للجصاص ٨/ ٢٨١، وفي أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ١٨٧، وفي الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٧٤..
٤١ الحديث رواه البخاري عن ابن عمر. كتاب الإيمان، باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة فخلوا سبيلهم ٢/ ١١، ١٢، ورواه مسلم عن أبي هريرة وعن عمر. كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ١/ ٣٨..
٤٢ فقيل هو كافر: بياض في (ب)..
٤٣ كرها: بياض في (ب)..
٤٤ راجع هذه الأقوال في أحكام القرآن للجصاص ٤/ ٢٨١، وفي أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ١٨٧، وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٨/ ٧٤..
قوله تعالى :﴿ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ﴾ إلى قوله :﴿ فاستقيموا لهم ﴾ :
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بعد أن أمر بقتال المشركين أن يكون متى طلب منه مشرك عهدا ليسمع القرآن ويرى حال المسلمين فأما أن يسلم أو أن ينكص على عقبيه أن يعطيه ما سأل من العهد وهي الإجارة. ثم أمر بتبليغه إلى مأمنه إذا لم يرض الإسلام وأراد الرجوع إلى مأمنه. وقد اختلف العلماء هل هذا الحكم الذي اقتضته الآية محكم أو منسوخ لا يجوز أن يفعل مع المشرك. فذهب جماعة إلى أنه محكم وأن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم من الأئمة ١ بل ٢ من المجاهدين حكم ٣ في ذلك ولا يحل للمجاهدين أن يقتلوا الكافر مع طلبه ذلك وأنها سنة قائمة إلى يوم القيامة، وهو قول الحسن ومجاهد. وقال قوم هو محكم ولكنها كانت في هذه الأربعة أشهر التي ضربت لهم أجلا ولم يعد إلى غير ذلك الوقت. وإذا قلنا بالقول الأول فلا يحل أن يخلوا المجاهدين من عالم يقوم بالمناظرة وإقامة الأدلة لأنه لا يؤمن أن يكون في الكفار من يطلب ذلك، والأمر في هذه الآية على الوجوب بخلاف الإجارة بغير الغرض المذكور في الآية. وذهب جماعة إلى أن هذا منسوخ بقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ براءة : ٥ ] وإلى هذا ذهب الضحاك والسدي ٤.
– وقوله تعالى :﴿ حتى يسمع كلام الله ﴾ :
يعني القرآن.
وقوله تعالى :﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ﴾ تنبيه بأنه إنما أمر بإجارتهم على الوجه المذكور لأنهم لا يدرون ما يدعوهم إليه المسلمون فينبغي أن يعلموا بذلك وحينئذ يقاتلون إن لم يقبلوا لأنه يعلم بذلك أنهم معاقدون، وفي هذه إشارة إلى الدعوة وقد مر الكلام عليها.
١ في (د) زيادة: "قال"..
٢ "من الأئمة بل" ساقط في (أ)، (هـ)، (ز)..
٣ في (هـ): "حكمه" وهي ساقطة في (أ)، (ز)..
٤ راجع هذه الأقوال في المحرر الوجيز ٨/ ١٣٥، وفي الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٧٦..
وقوله تعالى :﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ﴾ الآية :
هو استفهام على وجه التعجب والاستبعاد، أي كيف يكون عهد عند الله وعند ١ رسوله لقوم نقضوا العهد، لكن الذين لم ينقضوا فلهم عهدهم وهم الذين عوهدوا عند المسجد الحرام. واختلف في المعنى بهذا، فقيل قريش ٢ وقيل بنو خزيمة بن الديل ٣ وقيل قبائل بني بكر لما دخلوا وقت الحديبية في الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش فلم يكن نقض إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد لمن لم يكن نقض ٤. وقيل المعنى بذلك بخزاعة ٥. وقول من زعم أنهم خزاعة أو قريش مردود لأن قريشا وخزاعة قد كانوا أسلموا عام الفتح فلم يأت يوم الأذان إلا وهم مسلمون، والأذان بعد الفتح بسنة، قاله الطبري.
١ "وعند" ساقط في (أ)، (هـ)، (و)، (ز)..
٢ نسبه ابن عطية إلى ابن عباس فراجعه في المحرر الوجيز ٨/ ١٣٥..
٣ نسبه ابن عطية إلى السدي فراجعه في م. س. ، ن. ص..
٤ نسبه ابن عطية إلى ابن إسحاق فراجعه في المحرر الوجيز ٨/ ١٣٥..
٥ نسبه ابن عطية إلى مجاهد فراجعه في م. س. ، ن. ص..
قوله تعالى :﴿ اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ﴾ :
الآية نزلت في الطائفة من الكفار التي وصفها الله تعالى بما ذكر لما أعرضت عن آيات الله وقد أمكنها التمسك بها واختارت الكفر الذي كان في أيديها، وهذه الآية وإن كانت نزلت لما ذكرناه ففيها إشارة إلى تعظيم القرآن وأنه لا يجوز أن يبذل فيه ثمن قليل. واختلف في تعليم القرآن على أجر هل يجوز أم لا. فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجوز ومن حجتهم قوله تعالى :﴿ اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ﴾ وكل ما جعل عوضا من آيات الله فهو قليل. وما جاء عن أبي هريرة قال : قلت يا رسول الله ما تقول في المعلمين ؟ قال : " درهمهم حرام ونومهم سحت وكلامهم رياء " ١. وما جاء من أن عبادة بن الصامت علم رجلا من أهل الصفة سورة من القرآن فأهدى إليه قوسا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن سرك أن يطوقك الله تعالى طوقا من نار فاقبله " ٢. وأجاز مالك والشافعي وغيرهم أخذ الأجرة على تعليم القرآن ومن حجتهم أن يقصروا الآية فيما نزلت فيه وما جاء من حديث المتزوج بالقرآن ٣. واختلف أيضا في التزوج ٤ بتعليم القرآن أو سورة منه فأجازه الشافعي ولم يجزه أبو حنيفة ولا مالك في المشهور عنه.
ومن حجة من لم يجزه ٥ ظاهر الآية ولكنه يشبه النكاح بالمجهول. ومن حجة من أجازه حديث المتزوج المشهور. واختلف أيضا في أخذ الأجر في الصلاة فلم يجزه أبو حنيفة وأصحابه وأجازه الشافعي واختلف فيه قول مالك، ومن حجة من لم يجزه أيضا الآية لأنه من نوع بيع آيات الله بثمن.
١ وذكر السيوطي في اللآلئ أن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التعليم والأذان بالأجرة. انظر كتاب العلم ١/ ٢٠٦..
٢ الحديث رواه أحمد عن عبادة بن الصامت في مسنده ٥/ ٣١٥..
٣ والحديث فيه طول، آخره قول الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أراد أن يتزوج: "ماذا معك من القرآن؟" قال: معي سورة كذا وسورة كذا. فقال: "تقرؤهن عن ظهر قلب". قال: نعم. قال: "اذهب فقد ملكتكما بما معك من القرآن"، وفي حديث آخر: قال: "انطلق فقد زوجتكما فعلمها من القرآن". رواه مسلم، كتاب النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن ٤/ ١٤٣..
٤ في (ح): "التزول"..
٥ في (أ)، (ب)، (و)، (ز): "من لا يجيزه"..
وقوله تعالى :﴿ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ( ١٢ ) ﴾ :
اختلف في الذمي يطعن في الشريعة بأن يكذب النبي صلى الله عليه وسلم أو يسبه أو نحو ذلك. فقيل يقتل جملة من غير تفصيل وهو قول الشافعي، وقيل إذا كفر وأعلن بما هو معهود من معتقده وكفره أدب على الإعلان وترك، وإذا كفر بما ليس بمعهود في كفره كالسب ونحوه قتل. وقيل لا يقتل جملة من غير تفصيل وحكى ذلك عن أبي حنيفة قال لأن ما هم عليه من الشرك أعظم. وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتله، وبقتل كعب بن الأشرف ١ وكان معاهدا ٢. والذين ذهبوا إلى أنه يقتل اختلفوا هل تقبل له توبة أم لا، ففيه عن مالك روايتان. وكذلك اختلف إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم هل يقبلها أم لا على قولين منصوصين في المذهب، والأظهر في هذا كله أن تقبل توبته لقوله تعالى في هذه الآية :﴿ فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ﴾ ٣ وقوله تعالى :﴿ فقاتلوا أئمة الكفر ﴾ أن المقدم على نكث العهد والطعن في الدين صار رأسا في الكفر فهو من أئمة الكفر على هذا التأويل ؟ وظاهر الآية يقتضي توقف قتاله عن النكث والطعن وكل واحد منهما يبيح ذلك على انفراده. فالمعنى إن نكثوا أيمانهم حل قتالهم وإن لم ينكثوا وطعنوا في الدين مع الوفاء بالعهد حل قتالهم، وهذا التأويل ينبني عليه القول بالقتل.
١ كعب بن الأشرف: شاعر جاهلي من طي، وأمه من يهود بني النضير كان يحرض اليهود على المسلمين بعد بدر. قتله محمد بن مسلمة سنة ٣ هـ/ ٦٢٥ م. انظر المنجد في اللغة والأعلام صفحة ٥٩٠..
٢ راجع نحو ذلك في المحرر الوجيز ٨/ ١٤٠، ١٤١، وفي أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ١٨٣، وفي الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٨٢، ٨٣..
٣ نسبه القرطبي إلى مالك والليث وأحمد وإسحاق ومحمد بن سلمة وعلي فراجعه في الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٨٢..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ :
اختلف في وصف الله تعالى لهم ١ بالنجس لم هو. فقال قتادة وغيره لأنهم ٢ جنب إذ غسلهم ٣ من الجنابة ليس بغسل. وقال ابن عباس وغيره بل معنى ٤ الشرك ٥ الذي نجسهم ٦ كنجاسة الخمر ٧. ومن أهل العلم من صار إلى الحكم بنجاستهم حقيقة حتى ينجسوا الماء بملاقاتهم له ٨. وقال آخرون لم يرد الله تعالى نجاستهم لكن جعلهم كالنجاسة في المنع ٩ من قرب ١٠ المسجد كالمنع في ذلك من النجاسات، فالمراد بذلك التشبيه ١١ واختلف في إيجاب الغسل على المشرك إذا أسلم، فالجمهور ١٢ من أهل ١٣ المذهب على إيجاب الغسل عليه وهذا القول مبني على قول من يرى أن المشرك إنما وصفه الله تعالى بالنجاسة لجنابته. وذهب ابن عبد الحكم إلى ١٤ أنه لا يجب عليه الغسل وهذا مبني على أن وصفه بالنجاسة إنما هو ١٥ لمعنى الشرك لا لمعنى الجنابة وروي أيضا عن مالك وابن القاسم مثله ١٦.
واختلف فيمن صافح مشركا هل يتوضأ أم لا ؟ فذهب الحسن إلى أنه يتوضأ – يريد والله تعالى أعلم الوضوء اللغوي – والجمهور على أن ذلك لا يلزم إلا أن تتعلق به نجاسة. وكان الحسن لما وصفهم الله تعالى بالنجاسة حملهم على النجاسة وإن لم تظهر منهم. واختلف في المشركين من هم، فقيل الوثنيون خاصة ١٧، وقيل هم الوثنيون وغيرهم من أهل الكتاب ومن الكفار ١٨. قال بعضهم وإنما سمي أهل الكتاب مشركين وإن لم يشركوا لأن من كفر بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقد نسب ما لا يكون إلا من الله تعالى إلى غير الله تعالى فأشرك معه غيره. وفائدة الخلاف في هذا تتبين في صفة ١٩ مناكحهم ٢٠ وذبائحهم وغير ذلك. واختلف هل هذه الآية ناسخة ٢١ لما كان صلى الله عليه وسلم صالح به المشركين أن لا يمنع من البيت أحد أم لا على قولين ٢٢.
وقد اختلف في دخول أهل الكتاب وغير أهل الكتاب من الكفار المساجد. فذهب مالك رحمه الله تعالى إلى أنه يمنعون من دخول ٢٣ المسجد الحرام وغيره من المساجد، فحمل المشركين على العموم في الكتابيين وغيرهم أو على غير أهل الكتاب، وقاس عليهم أهل الكتاب وقاس على المسجد الحرام سواه. وتأول الآية التي قبل هذه :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ﴾، وقوله تعالى :﴿ إنما يعمر مساجد الله ﴾، وبمثل هذا كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله واحتج في كتابه بهذه الآية. ويؤكد هذا القول قوله تعالى :﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ﴾ [ النور : ٣٦ ]، وقوله تعالى :﴿ ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ﴾ [ الحج : ٣٢ ] وذهب الشافعي إلى أن الكفار كلهم يمنعون من دخول المسجد الحرام خاصة ولا يمنعون من سواه، فحمل المشركين على العموم أو على ٢٤ الخصوص وقاس ولم يقس على المسجد الحرام سواه ولا تأول الآية التي قبل هذه الآية فأجاز ٢٥ دخول أهل الكتاب وغيرهم فيما عدا المسجد الحرام.
ومن حجته أيضا ربط ثمامة بن أثال في المسجد. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يدخل المشركون الذين ليسوا بأهل كتاب في المسجد الحرام خاصة فقصر المشركين في الآية على من ليس له كتاب كعبدة الأوثان ولم يقس على المسجد الحرام سواه فأباح دخول أهل الكتاب في المسجد الحرام وغيره ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد. وذهب جابر بن عبد الله ٢٦ وقتادة إلى أنه لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا لمسلم فقصر المشركين على ما عدا هذين النوعين ولا يعلم لهما دليل على هذا ٢٧. وذهب قوم إلى أنه لا يمنع من دخول المسجد الحرام ولا غيره مشرك كتابيا كان أو غير كتابي ونسبه بعضهم إلى أبي حنيفة وقال الحجة عليه قوله تعالى :﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾ [ براءة : ٢٨ ]، قال : وإن قال أبو حنيفة معناه لا يقربوه للطواف خاصة والحجة أنه يحمل على ظاهره، وظاهره العموم حتى يدل دليل على التخصيص.
واختلف في المشركين هل يدخلون الحرم أم لا. فالجمهور على أنهم لا يمنعون لأن الله تعالى إنما قصر النهي عن المسجد الحرام خاصة فغاية هذا أن يقاس عليه سائر المساجد. وذهب عطاء إلى ٢٨ أنهم يمنعون ٢٩ من دخوله وقال وصف الله تعالى المسجد بالحرام في منع القرب يقتضي منعه من جميع الحرم ٣٠. وقوله تعالى :﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾ مقتضاه الأمر للمسلمين لمنعهم من قرب المسجد الحرام. وقوله تعالى :﴿ بعد عامهم هذا ﴾ يريد عام حج أبي بكر وكان عام تسعة من الهجرة. وقوله :﴿ وإن خفتم عيلة ﴾ معناه أن المسلمين لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارة خافوا على أنفسهم من العيلة – وهي الفقر – فوعدهم الله تعالى بأنه يغنيهم من فضله ٣١. قال الضحاك يفتح عليهم باب أخذ ٣٢ الجزية من أهل الذمة بقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ وقال عكرمة أغناهم بإدرار المطر عليهم ٣٣.
١ "لهم" ساقطة في (ح)..
٢ في غير (ج): "لأنه"..
٣ في غير (ج): "أن غسله"..
٤ في (ج)، (ح): "معناه"..
٥ في (أ)، زيادة: "هو"..
٦ في غير (ج): "نجسه"..
٧ راجع نحو ذلك في المحرر الوجيز ٨/ ١٥٦، ١٥٧، وفي الجامع لأحكام القرآن ٨/ ١٠٣..
٨ قال الحسن البصري: من صافح مشركا فليتوضأ – راجع ذلك في المحرر الوجيز ٨/ ١٥٧..
٩ في (أ): "في المعنى"..
١٠ في (أ): "في قرب"..
١١ راجع هذا الرأي في أحكام القرآن للجصاص ٤/ ٢٧٨..
١٢ في (ب)، (ح): "فالمشهور"..
١٣ "أهل" ساقطة في (أ)..
١٤ "إلى" ساقط في (ب)، (ح)، (د)، (هـ)، (و)..
١٥ "لجنابته.... إلى: إنما هو" ساقط في (ب)، (د)، (هـ)..
١٦ راجع هذا الرأي في المحرر الوجيز ٨/ ١٥٧..
١٧ نسبه ابن عطية إلى أبي حنيفة. راجع المحرر الوجيز ٨/ ١٥٧..
١٨ نسبه ابن عطية إلى مالك، راجع م. س. ، ن. ص..
١٩ "في صفة" ساقط في (ب)، (هـ)..
٢٠ في (ز): "مناكحتهم"..
٢١ "ناسخة" ساقطة في (ح)..
٢٢ راجع الإيضاح صفحة ٢٧٠..
٢٣ "من دخول" ساقط في (أ)..
٢٤ "على" ساقط في (ب)، (ح)..
٢٥ في (هـ): "فجوز"..
٢٦ جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي، من علماء الصحابة ومن المكثرين من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم روى له البخاري ومسلم ألفا وخمسمائة وأربعين حديثا. توفي سنة ٧٨هـ/ ٦٩٧م. انظر الأعلام ٢/ ٩٢، الإصابة ١/ ٢١٣..
٢٧ "على هذا" ساقط في (أ)، (ز)..
٢٨ من قوله: "على أنهم... إلى: وذهب عطاء إلى" ساقط في (أ)، (ز)..
٢٩ في (أ)، (ز): "لا يمنعون"، والصواب ما أثبتناه..
٣٠ راجع الإيضاح ٢٧٠..
٣١ في (ح) زيادة: "الله"..
٣٢ "أخذ" كلمة ساقطة في (ب)، (ج)، (ح)..
٣٣ راجع التفسير الكبير ١٦/ ٢٦، والمحرر الوجيز ٨/ ١٥٨..
قوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ﴾ إلى قوله سبحانه :﴿ وهم صاغرون ﴾ :
هذه الآية تقتضي أن يقاتل أهل الكتاب حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية. وعند نزولها نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهاد الروم وسار إلى تبوك ١. وقد اختلف فيها هل هي ناسخة أم لا. فقال قوم هي ناسخة لما في القرار من الترك لقتال المشركين، وقال بعضهم هي ناسخة لقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ ٢ لأن هذه الآية اقتضت ٣ أن يقتلوا ولا تؤخذ منهم جزية، وهذه الأخرى ٤ اقتضت أن يقاتلوا ٥ إلا أن يؤدوا ٦ الجزية.
وذهب جماعة إلى أنها ليست بناسخة وأنها مبينة. واختلف في كيفية تبيينها، فقيل إن قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ أراد به من ليس من أهل الكتاب، وأراد في هذه الآية أهل الكتاب وقيل قوله تعالى ٧ :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ عام للصنفين وللأحوال إلا أنه خصص من ذلك العموم بآية الجزية من أدى الجزية خاصة وهو أحسن ما يقال في ذلك ٨. وقوله تعالى :﴿ الذين لا يؤمنون بالله ﴾ هم أهل الكتاب كما فسره تعالى بعد ذلك، وأهل الكتاب معترفون بالإيمان بالله تعالى فيحتمل هذا الإيمان ثلاثة تأويلات : أحدها : أنهم لا يؤمنون بكتاب الله وهو كما فسر تعالى بعد ذلك. والثاني : أنهم لا يؤمنون برسوله محمد صلى الله عليه وسلم لأن تصديق الرسل إيمان بالرسل. والثالث : أن منهم من يقول في الله تعالى ثالث ثلاثة وعزير ابن الله فلذلك نفى عنهم الإيمان.
وقوله تعالى :﴿ ولا باليوم الآخر ﴾ فيه أيضا تأويلان : أحدهما : لا يخافون وعيد اليوم الآخر وإن كانوا مقرين بالثواب والعقاب. والثاني : أنهم يكذبون ما وصفه الله تعالى من أنواع العذاب.
وقوله تعالى :﴿ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ﴾ فيه تأويلان : أحدهما : ما أمر الله تعالى بنسخه من شرائعهم. والثاني : ما أحله لهم وحرمه عليهم.
وقوله تعالى :﴿ ولا يدينون دين الحق ﴾ فيه أيضا تأويلان : أحدهما : ما في التوراة والإنجيل من اتباع الرسول ٩ وهذا قول الكلبي. والثاني : الدخول في دين الإسلام وهو قول الجمهور.
وقوله تعالى :﴿ من الذين أوتوا الكتاب ﴾ فيه تأويلان أيضا : أحدهما : من أبناء الذين أوتوا الكتاب. والثاني : أنهم من الذين بينهم الكتاب لأنهم في اتباعه كإتيانه.
وقوله تعالى :﴿ حتى يعطوا الجزية ﴾ فيه تأويلان أيضا : أحدهما : حتى يدفعوا الجزية، والثاني : حتى يضمنوها. وفي الجزية تأويلان أيضا أحدهما أنها من الأسماء المجملة، والثاني أنها من الأسماء العامة. والجزية تؤخذ من الكفار وسميت بذلك لأنها جزاء على الكفر. وقيل هي مشتقة من الاجتزاء الذي بمعنى الكفاية، أي أنها تكفي من يوضع ذلك فيه من المسلمين أو تجزئ عن الكافرين عصمتهم.
وقوله تعالى :﴿ عن يد ﴾ فيه ست تأويلات : أحدها : عن غنى وقدرة. والثاني : أن يعتقدوا أن لهم في أخذها منهم يدا عليهم. والثالث : أن يريد سوق الذمي لها بيده لا مع الرسول ليكون ذلك إذلالا له. والرابع : أن يريد عن قوة منكم عليهم وقهر. والخامس : أن يريد أن ينفذوها ولا يؤخروها كما تقول بعثه يدا بيد. والسادس : أن يريد عن استسلام منهم وانقياد.
وقوله تعالى :﴿ وهم صاغرون ﴾ فيه ثلاث تأويلات : أحدها : إذلالا مستكينون، والثاني : أن تجري عليهم أحكام الإسلام، والثالث :- وجاء هذا عن عكرمة – أن يكون قابضها جالسا والدافع من أهل الذمة قائما ١٠. وهذه الآية تعطي بدليل الخطاب ترك أخذ الجزية من غير أهل الكتاب، وقد اختلف في ذلك، فقيل تؤخذ من جميعهم ١١ وحكي عن مالك قريب منه. وقيل تؤخذ من جميعهم غير مشركي قريش ١٢ وهو ١٣ المروي عن مالك. وقيل تؤخذ من جميعهم ما عدا مشركي العرب، وهو قول أبي حنيفة وإليه ذهب ابن حبيب وابن وهب. وقيل تؤخذ الجزية مما عدا أهل الكتاب وهو قول الشافعي وإليه ذهب ابن الماجشون ١٤. فمن ذهب إلى قول الشافعي هذا احتج بدليل خطاب الآية وبه احتج الشافعي. والحجة عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأمراء السرايا : " إذا لقيتم العدو فادعوهم إلى الإسلام فإن أجابوا وإلا فالجزية فإن أعطوا وإلا فقاتلوهم " ١٥. ولم يخص مشركا دون مشرك فرفع هذا الحديث دليل خطاب الآية وخبر الآحاد إذا عارض دليل خطاب الآية فمن أهل العلم من يقدم الحديث ومنهم من يقدم دليل الخطاب. وقد توهم أن هذه الآية في جميع الكفار وأنهم أصناف، منهم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وهؤلاء غير أهل الكتاب وذلك قوله تعالى :﴿ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ﴾ من صفة غير أهل الكتاب أيضا وقوله تعالى :﴿ ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ﴾ هو وصف أهل الكتاب. وذكروا أن ظاهر هذا يقتضي أخذ الجزية من أصناف الكفار إلا ما قام دليل ١٦ الإجماع عليه في حق مشركي العرب. قال بعضهم وهذا القول باطل وإنما هي صفات كلها لصنف واحد وهم أهل الكتاب ولو كان على ما توهموا لكان والذين لا يدينون دين الحق فإن قيل حذف الذين وبقي المعنى على ما كان عليه قيل لهم هذا لا يجوز لما فيه من حذف الموصول وبقاء الصلة. واختلف في المجوس هل تؤخذ منهم جزية أم لا، فمن ذهب إلى أنهم أهل كتاب – وهو يروى عن علي رضي الله تعالى عنه وهو أحد قولي الشافعي – فيرى أخذ الجزية منهم بنص القرآن، ويروى أنه بعث فيهم نبي يقال له زرادشت ١٧. ومن لم يرهم أهل كتاب فجمهورهم يقول تؤخذ منهم الجزية لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ١٨ فيوجب أخذ الجزية منهم بالسنة ويراها قاضية على دليل خطاب الآية. ومنهم من لا يرى أخذ الجزية منهم ويقدم دليل الخطاب على ما جاء من السنة أو يتأول السنة، وقد ذكره اللخمي ١٩ عن ابن الماجشون وقال لا تؤخذ الجزية من مجوس العرب وتقبل من غير مجوس العرب وإليه ذهب ابن وهب قال ٢٠ وقد قبلها النبي صلى الله عليه وسلم من مجوس هجر ولم يقبلها من غيرهم ٢١.
وقد حكى بعضهم ٢٢ الإجماع في أن المجوس تقبل منهم الجزية، وليس بصحيح لما قدمناه. واختلف في الكتابيين من العرب هل تؤخذ ٢٣ منهم جزية جملة أيضا، وعند الشعبي أنهم إن كانوا قد دانوا بذلك الدين بعد نزول القرآن فلا تقبل منهم جزية وإن كانوا ٢٤ قد دانوا به قبل نزول القرآن فتقبل منهم الجزية، وحجتنا قوله تعالى :﴿ من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية ﴾ فعم. فأما أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى باتفاق فلا خلاف في جواز أخذ الجزية ٢٥ منهم لنص هذه الآية. وأما هل يلزمنا أخذها منهم والكف عنهم إذا بذلوها لنا أم لا فرأيت لبعض أشياخ الأندلس وحكاه عن أشياخه أن ذلك ليس بلازم لنا ٢٦ وأن الإمام مخير في ذلك، قال والذي يدل على ذلك ما رواه أبو هريرة ٢٧ وهو قوله عليه الصلاة والسلام : " يوشك أن ينزل فيكم عيسى ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد " ٢٨ وموضع الدليل من الحديث قوله عليه الصلاة والسلام : " ويضع الجزية "، إذ أجمعوا أن معناه أنه لا يقبل أي لا يقبل إلا الإسلام والسيف. وعيسى عليه السلام ليس ينزل بشرعه القديم ولا بشرع جديد وإنما ينزل بتنفيذ شرع نبينا صلى الله عليه وسلم، فلو كان قبول الجزية في شرعنا حقا علينا لما أبى عليه السلام من قبول الجزية إذا بذلت له على شروطها ٢٩ ولكنها حق لنا فلذلك لم يقبلها عليه السلام واستمر القتال على القتال حتى يدخل الناس في الإسلام. والذي عندي ٣٠ أن هذا باطل. وقد حكى جماعة من أشياخنا الإجماع على وجوب قبول الجزية منهم على شروطها المعلومة، وأما استدلاله بالحديث فضعيف لأنه وإن كان عيسى عليه السلام إنما ينزل بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمن شريعته أن لا يقبل عيسى الجزية من اليهود ولذلك قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ذلك فتجب علينا نحن أن نقبل الجزية بشريعته عليه الصلاة والسلام ويجب على عيسى عليه السلام أن لا يقبلها بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم أيضا مع أن هذا الحديث حديث آحاد ودليل القرآن أقوى منه.
وقوله تعالى :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ هذا هو ٣١ الدليل على قبول الجزية لأن دليل خطابه فإذا أعطوا الجزية فكفوا عنهم ونحو ذلك.
ودليل مثال هذا الخطاب قد قال به أكثر المنكرين لدليل الخطاب، وأصر على إنكار القول به أصحاب أبي حنيفة وبعض المنكرين للمفهوم، وقالوا هذا نطق بما قبل الغاية وسكوت عما بعد الغاية فيبقى على ما كان قبل النطق، وتردد فيه القاضي ٣٢ وقال قد كنا نظرنا في كتب إبطال حكم الغاية فيبقى على ما كان قبل النطق ٣٣ والقول بها أصح عندنا. فمن قال بدليل خطاب هذه الآية فحسبه ذلك حجة في وجوب ٣٤ قبول الجزية والكف عند ذلك وبعد ذلك يستظهر بالحديث ومن لم يقل به فاستناده في وجوب قبول الجزية ٣٥ الأحاديث التي تكاد أن تخرج عن الحصر في أمره صلى الله عليه وسلم سراياه بقبول الجزية إذا بذلت أم كيف أن الإجماع صحيح في ذلك ٣٦. واختلف هل يترك أهل الكفر مع أهل الإسلام في موضع واحد وإن أدوا الجزية ولأهل الإسلام قوة على إجلائهم والاستغناء عنهم كان لهم عقد صلح أم لا. فذهب جماعة إلى أنهم يتركون في جميع البلاد جزيرة العرب كانت أو غيرها وهو مذهب أبي حنيفة. وذهب بعضهم إلى أنهم يجلون ٣٧ من جميع البلاد التي للمسلمين. وذهب قوم إلى أنهم يجلون من جزيرة العرب خاصة وهو قول الشافعي قال٣٨ ولا يمنعون من الاجتياز بها مسافرين ولا يقيمون أكثر من ثلاثة أيام. وأما مكة وحرمها فلا يدخلونها لا مقيمين ولا مجتازين، وإن دفن بها ذمي ينبش قبره. وفي وجوب نبشه قولان. وقيل بل يجلون من كل البلاد ٣٩ التي اختطها المسلمون ولم تكن لأهل الكتاب فزل عليهم المسلمون ٤٠ وهو قول يحيى بن آدم ٤١.
فأما القول الأول فحجته دليل خطاب الآية لأنه يقتضي الكف عنه بأداء الجزية، وفي الكف عنه أن لا يجلوا. وتأولوا ما جاء من الأحاديث ما يخالف ذلك. وحجة القول الثاني – وإليه ذهب الطبري – ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عند موته : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " ٤٢ ولم يقر دينين بأرض العرب. وقال ليهود خيبر " أقركم ما أقركم الله "، وكان شطر القضاء فيهم. قال عمر فينا نحن في المسجد وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " انطلقوا بنا إلى يهود " فخرج حتى جئنا بيت المدارس فقال : " أسلموا تسلموا واعلموا أن الأرض لله ولرسوله وأني أريد أن أجليكم من هذه الأرض فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه وإلا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله " ٤٣. قال الطبري : وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم جزيرة العرب بالذكر لأن الإسلام لم يكن يومئذ ظهر في غيرها ظهور قهر، فكل بلد ظهر فيه الإسلام وجب أن يصنع فيه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب. قال الطبري : ينبغي أن يؤجلوا في الخروج ثلاثة أيام بلياليها كالذي فعل الأئمة الأبرار عمر وغيره. وقد حكي أن منادي علي كان ينادي كل يوم : لا يثبتن بالكوفة يهودي ولا نصراني ولا مجوسي ألحقوا بالحيرة. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تصلح قبلتان في أرض " ٤٤. فهذا حد
١ في (ج)، (ح): "الروم"..
٢ من قوله: "أم لا فقال قوم... إلى: وجدتموهم" ساقط في (ح)، (و). وفي الإيضاح هي ناسخة لقوله تعالى: ﴿وقاتلوا المشركين﴾ ص٢٧١..
٣ في (أ): "لأنه يقتضي"..
٤ في (أ): (ز): "وهذه الآية"..
٥ في (أ)، (ز): "أن يقتلوا"..
٦ في (أ): "إلا أن يعطوا"..
٧ من قوله: "فاقتلوا المشركين.... إلى: وقيل قوله تعالى" ساقط في (أ)..
٨ راجع هذه الأقوال في الإيضاح ص ٢٧٠، ٢٧١، وفي المحرر الوجيز ٨/ ١٥٩..
٩ في (ج)، (ح)، (هـ): "الرسل"..
١٠ نسبه القرطبي إلى سعيد بن المسيب أيضا. راجع الجامع لأحكام القرآن ٨/ ١١٥..
١١ نسبه القرطبي إلى الأوزاعي. قال: وقال الأوزاعي: تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب. راجع م. س. ٨/ ١١٠، ١١١..
١٢ نسبه القرطبي إلى ابن الجهم وعلل ذلك بأنه إكرام لهم عن الذلة والصغار لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. راجع م. س. ، ن، ص..
١٣ في (ح)، (د): "وهذا"..
١٤ راجع مختلف هذه الأقوال في أحكام القرآن للجصاص، باب: أخذ الجزية من أهل الكتاب ٤/ ٢٨١، وفي المحرر الوجيز ٨/ ١٦٠..
١٥ أخرجه مسلم. كتاب الجهاد، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث. ٢/ ١٣٥٧..
١٦ في (أ)، (ز): "إلا ما قد دل"..
١٧ "زرادشت" كلمة ساقطة في (ب). وزرادشت هو ابن يورشب الذي ظهر في زمان كشتاسب بن لهراسب الملك. وكان دينه عبادة الله والكفر بالشيطان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الخبائث. راجع الملل والنحل للشهرستاني ١/ ٢٣٦..
١٨ الحديث رواه مالك عن جعفر عن أبيه في الموطأ، كتاب الزكاة، باب: جزية المجوس ١/ ١٨٣..
١٩ اللخمي/ هو أبو الحسن علي بن محمد المعروف باللخمي. توفي سنة ٤٩٩هـ/ ١١٠٥م. راجع الديباج ص ٢٠٣..
٢٠ "قال" ساقطة في غير (أ)، (ز)..
٢١ راجع التفسير الكبير ١٦/ ٣١، أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ١٨٦، أحكام القرآن للجصاص ٤/ ٢٨١، ٢٨٢، المحرر الوجيز ٨/ ١٦٠..
٢٢ حكى ذلك ابن عطية عن ابن المنذر في المحرر الوجيز ٨/ ١٥٩..
٢٣ في (أ)، (ز): "هل تقبل"..
٢٤ قوله: "قد دانوا... إلى: وإن كانوا" ساقط في (ح)..
٢٥ قوله: "فعم... إلى: الجزية" ساقط في (أ)، (ز)..
٢٦ قوله: "أم لا... إلى: بلازم لنا" ساقط في (ح)..
٢٧ أبو هريرة: هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي. اختلف في اسمه واسم أبيه، وهو من المكثرين من رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. توفي سنة ٥٨هـ/٦٧٧ م. انظر الإصابة ٦/ ٢٨٨..
٢٨ الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة، كتاب الإيمان، باب: نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ١/ ٩٣..
٢٩ في (أ)، (ز): "شرطها"..
٣٠ في (ح): "والذي عني"..
٣١ "هو" ساقط في (أ)..
٣٢ لعله القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد المعروف بالباقلاني. انظر ترجمته ص ٥٨..
٣٣ "فيبقى على ما كان قبل النطق" ساقط في غير (ح)..
٣٤ "وجوب" كلمة ساقطة في (أ)، (ز)..
٣٥ من قوله: "والكف عند ذلك... إلى: قبول الجزية" ساقط في (أ)، (ز)..
٣٦ من هذه الأحاديث ما رواه مالك عن ابن شهاب قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين... الموطأ، كتاب الزكاة ١/ ١٨٣..
٣٧ في غير (هـ)، (ج): "يخلون"..
٣٨ في (ح): "قالوا"..
٣٩ في غير (و)، (ز) زيادة: "ولكن من البلاد"..
٤٠ في (ح): "الإسلام"..
٤١ يحيى بن آدم أبو زكرياء الكوفي، أحد الثقات الحفاظ العلماء صاحب كتاب الخراج. توفي سنة ٢٠٣هـ/ ٨٢٠ م. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ١١/ ١٧٥..
٤٢ الحديث أخرجه البخاري عن ابن عباس، كتاب الجزية، باب: إخراج اليهود من جزيرة العرب. ٤/٦٥، ٦٦. وكذلك أخرجه مسلم عن ابن عباس، كتاب الوصية، باب: ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصى فيه ٥/ ٧٥..
٤٣ الحديث أخرجه مسلم برواية أبي هريرة، كتاب الجهاد والسير، باب: إجلاء اليهود من الحجاز ٥/ ١٥٩..
٤٤ الحديث أخرجه الترمذي عن ابن عباس، كتاب الزكاة، باب: ما جاء ليس على المسلمين جزية ٣/ ٢٧..
قوله تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾ :
اختلف في هذه الآية هل يعني بها الكفار أو المسلمون أو كلاهما فذهب قوم إلى أنها في أهل الكتاب لأنها مذكورة بعد قوله تعالى :﴿ إن كثيرا من الأحبار والرهبان ﴾ الآية. وذهب قوم١ إلى أنها في كل كافر. وذهب قوم ٢ إلى أنها في المسلمين أو في المسلمين والكفار. واختلفوا بعد ذلك في حق المسلم هل هي منسوخة أو محكمة ؟ فذهب عمر بن عبد العزيز إلى أنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ [ براءة : ١٠٣ ] فأتى فرض الزكاة على هذا كله فصار حكم الآية على هذا القول : أي لا تكنزوا مالا، أي لا تجمعوه وأنفقوه في سبيل الله فنسخ بالآية المذكورة ٣. وذهب الأكثر إلى أنه محكم، واختلفوا في تأويله فقال كثير منهم هو المال الذي تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض وأما المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز كما قال صلى الله عليه وسلم : " كل ما أديت زكاته فليس بكنز " ٤ فالمراد بالنفقة على القول الزكاة، وهو قول ابن عباس وابن عمر ٥. وقال علي بن أبي طالب : عشرة آلاف درهم فما دونها نفقة وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته. وقال أبو ذر وغيره : ما فضل من مال الرجل على حال نفقته فهو كنز. وهذان القولان يقتضيان ٦ الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط، والآية على قول من قالها محكمة وعلى قول عمر بن عبد العزيز منسوخة. واتفق أئمة الفتوى على قول ابن عمر وابن عباس واحتج الطبري بذلك. فقال : الدليل على أن كل ما أديت زكاته فليس بكنز إيجاب الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في خمس إواق ربع عشرها فإذا كان هذا فرض الله تعالى فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ الوفاء إذا أديت زكاته فليس بكنز ولا يحرم على صاحبه اكتنازه، لأنه لم يتوعد الله عليه بالعقاب وإنما توعد الله تعالى بالعقاب على كل ما لم يؤد زكاته، وليس في القرآن بيان ذلك القدر من الذهب والفضة الذي إذا جمع بعضه إلى بعض استحق جميعه الوعيد إذا لم يؤد حق الله تعالى منه. فأما يؤخذ بوقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذه الآية على القول بأنها في الزكاة المفروضة فرض زكاة الذهب ٧ قال بعضهم ولم يأت من النبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الذهب ما جاء عنه في زكاة الفضة، ولكن جاء فرض زكاة الذهب في هذه الآية إذ لم يأت في الخبر لكن جاء عنه عليه الصلاة والسلام ألفاظ تعم الذهب والورق مثل قوله : " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه – يعني شدقيه – ثم يقول له أنا كنزك " ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ ولا يحسبن الذين يبخلون ﴾ ٨ الآية [ آل عمران : ١٨٠ ].
وإنما جاء عنه نصا زكاة الرقة مثل قوله : " في الرقة ربع العشر وليس فيما دون خمسة إواق من الورق صدقة " ٩ وإنما لم يأت عنه صلى الله عليه وسلم قدر زكاة الذهب مخصوصا. فاختلف العلماء بحسب ذلك في الذي أوجب الله تعالى إخراج الزكاة فيه من الذهب بالآية فاعتبرت طائفة في ذلك عشرين مثقالا وذلك أنه كان صرف الدينار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم، والخمس الأواقي التي أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيها ربع العشر وزنها مائتا درهم، والمائتا درهم صرف عشرين مثقالا، فكما وجب في الخمس الأواقي ربع عشرها كذلك وجب في العشرين مثقالا التي هي عدلها ربع عشرها، ثم لم يراعوا بعد ذلك زاد الصرف أو نقص، واعتبرت طائفة ذلك أيضا إلا أنهم قالوا ننظر قيمة الذهب في كل وقت. فإن كانت قيمة مائة درهم وجبت فيه الزكاة كان الذهب أكثر من عشرين أو أقل، وإن لم تكن قيمته أقل من مائتي درهم فلا زكاة فيه كان الذهب أكثر من عشرين١٠ أو أقل وهو قول عطاء وطاووس والزهري. وذهب الحسن إلى أنه ليس فيما دون أربعين دينارا صدقة، وهو قول شاذ. فهذه ثلاثة أقوال في تفسير النفقة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية على القول بأن المراد بها الزكاة وهو الصحيح، أصحها القول بأن النصاب عشرون ١١. وقد جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث منصوص ١٢. وذكر الباجي ١٣ في قول عمر رضي الله تعالى عنه في الرقة إذا بلغت خمس إواق ربع العشر أن الرقة اسم للورق والذهب. قال بعض أصحابنا وذكر قول بعضهم أيضا الرقة اسم للورق، وهو أظهر. فهذا القول في نصاب الذهب. وأما نصاب الفضة التي أوجب الله تعالى فيها الزكاة أيضا فمائتا درهما بلا خلاف لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من النصوص. وقد تتوزع فيمن نزلت فيه الآية.
قال زيد بن وهب مررت ١٤ بالربذة فإذا أبو ذر. فقلت ما أنزلك منزل هذا ؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية ١٥ في هذه الآية :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ﴾ قال معاوية : نزلت في أهل الكتاب وقلت : نزلت فينا وفيهم ١٦ فكان بيني وبينه في ذلك تنازع فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن ١٧ أقدم المدينة. فقدمتها فكبر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان فقال : إن شئت تنحيت وكنت قريبا. فلذلك أنزلني هذا المنزل ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت ١٨.
١ نسبه ابن عطية إلى معاوية فراجعه في المحرر الوجيز ٨/ ١٧٠..
٢ نسبه ابن عطية إلى أبي ذر فراجعه في: م. س. ، ن. ص..
٣ وكذلك روي عن ابن شهاب. راجع الإيضاح: ص ٢٧٢، ٢٧٣..
٤ الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك ١/ ٣٩٠..
٥ نسبه ابن عطية إلى ابن عمر وإلى عكرمة والشعبي والسدي ومالك. راجع المحرر الوجيز ٨/ ١٧١..
٦ "يقتضيان" ساقطة في (أ)، (ز)..
٧ راجع جامع البيان ١٤/ ٥٦٠..
٨ الحديث رواه البخاري عن أبي هريرة، كتاب الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة ٢/ ٢١٠، ٢١١..
٩ الحديث أخرجه مالك عن أبي سعيد الخدري في الموطأ، كتاب الزكاة ١/ ١٦٣..
١٠ "من عشرين" ساقط في (ح)، (د)..
١١ في (أ)، (ز): "دينارا"..
١٢ قال الباجي: وهذا كما قال إن نصاب الذهب عشرون دينارا... ودليلنا من جهة السنة ما روى عاصم بن ضمرة والحرث الأعور عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فإذا كانت لك مائتا درهما ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء – يعني في الذهب – حتى يكون لك عشرون دينارا...." راجع المنتقى للباجي، كتاب الزكاة، باب: أخذ الإمام الزكاة من المزكي ٢/ ٩٥.
.

١٣ الباجي هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد القاضي المالكي، شارح الموطأ. توفي سنة ٤٧٤هـ/ ١٠٨١م. انظر وفيات الأعيان ٢/ ٤٠٨..
١٤ "مررت" ساقطة في (ح)..
١٥ معاوية: هو معاوية بن أبي سفيان بن أمية القرشي، مؤسس الدولة الأموية في الشام. أحد دهاة العرب. توفي سنة ٦٠ هـ/ ٦٨٠م. انظر أسد الغابة لابن الأثير ٤/ ٣..
١٦ "وفيهم" ساقطة في (ح)..
١٧ "أن" ساقط في (ح)..
١٨ راجع أسباب النزول للواحدي ص ١٨٣، ١٨٤..
قوله تعالى :﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ إلى قوله :﴿ سوء أعمالهم ﴾ :
قوله تعالى :﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ﴾ قد كان ١ يحتمل أن يريد بهن السنة الشمسية أو القمرية لكن قوله تعالى :﴿ منها أربعة حرم ﴾ خلصت لأن يقال إنما أراد شهور السنة القمرية وهي العربية لأن العرب هي التي كانت تعتقد حرمة هذه الأشهر الأربعة الحرم : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وتقدم طرف من هذا الكلام على هذه الثلاثة. واختلف لم أخبر الله تعالى أن عدة الشهور عند الله اثني عشر شهرا ؟ فقيل تخفيفا لأمرها وليس عدد الحرم منها. وقيل إنما أخبر الله تعالى بذلك ٢ لأن العرب قد كانت تجيء سنتهم من ثلاثة عشر شهرا وذلك إن كان يحل لهم المحرم ويحرم لهم صفر وذلك من فعل النساة يستقبلون سنتهم من صفر ويسمونه المحرم ثم يسمون سائر الشهور كذلك بغير أسماءها فكانت السنة تأتيهم على الحقيقة من ثلاثة عشر شهرا أولها المحرم المحلل وهذا قول مجاهد وغيره فلذلك قال تعالى :﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ﴾ الآية وقوله تعالى :﴿ فلا تظلموا فيهن أنفسكم ﴾ : اختلف في الضمير في فيهن هل يعود على الأقرب إليه وهي الأربعة أشهر أم على الأبعد منه وهي الإثني عشر شهرا ؟ فإذا عادت على الأبعد فالمعنى لا تظلموا أنفسكم في الدهر كله فيكون هذا محكما بلا خلاف. وإذا قلنا إنه يعود على الأربعة أشهر الحرم فهل هو محكم أم لا ؟ فيه قولان : أحدهما أنه محكم. والذين قالوا هذا اختلفوا في المعنى.
فقيل المعنى إنه نهى عن الظلم في هذه الأشهر تشريفا لها بالتخصيص بالذكر وإن كان منهي عنه في كل زمان وهو قول قتادة. وقيل معنى فيهن : بسببهن ومن أجلهن في أن يحلوا أحرمها ويعدلوها بالأحرمة له وهو قول الحسن ٣. والثاني أنه منسوخ، قال من زعم ذلك : المعنى لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال ثم نسخ بفرض القتال ٤. ومما يعضد هذا القول ما حكى الطبري من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرم القتال في هذه الأشهر لما أمر الله تعالى في ذلك حتى نزلت براءة. وقوله تعالى :﴿ وقاتلوا المشركين ﴾ معناه جميعا. واختلف في هذا هل هو منسوخ أيضا أم لا ؟ فقيل هو منسوخ لأن الفرض بهذه الآية قد كان توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك بعد وجعل فرض كفاية. وقيل بل هو محكم ولا يقتضي فرض الجهاد على الأعيان ولم يعلم ذلك في شرع النبي صلى الله عليه وسلم قط وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة، ثم قيدها بقوله تعالى :﴿ كما يقاتلونكم كافة ﴾. فبحسب قتالهم لنا وإجماعهم علينا يكون فرض اجتماعنا بهم وقتالهم ٥.
١ "قد كان" ساقط في (أ)، (ز)..
٢ من قوله: "فقيل... إلى: بذلك" ساقط في (أ)، (و)، (ز)..
٣ راجع المحرر الوجيز ٨/ ١٧٧..
٤ نسب ابن عطية هذا القول إلى المهدوي. راجع م. س. ، ن. ص. ونسبه القرطبي إلى قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري. راجع الجامع لأحكام القرآن ٨/ ١٣٤..
٥ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ١٧٢..
وقوله تعالى :﴿ إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به.... ﴾.
كانت العرب كلها تحج البيت وتعظم الشهور الحرم الأربعة التي حرمها إبراهيم١ عليه السلام وكانوا يحجون في ذي الحجة حتى حدث النسيء بسبب أنهم كانوا لا يقاتلون في شهر حرام. ولما احتاجوا ٢ للقتال فيه أحلوا الشهر الحرام وحرموا الحلال ليواطئوا ٣ عدة٤ الشهور الحرم فكان أول من فعل ذلك قد أحل المحرم وحرم صفر. وحج النبي صلى الله عليه وسلم – وقد عاد المحرم إلى ما كان عليه من التحريم – فأنزل الله تعالى :﴿ إن عدة الشهور عند الله.... ﴾ الآية. وأخبر أن النسيء كفر وأن الأشهر الحرم أربعة : ثلاثة منها متوالية، وأن صفر لا يقام مقام المحرم، ورفع ما كانوا يفعلونه بهذه الآية. واختلف فيمن فعله من العرب أولا. فقيل القلمس : وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن كنانة، ثم ابنه عباد ثم أمية بن قلع ثم ابن عوف بن أمية ثم أبو ثمامة جنادة بن عوف وكان آخرهم وعليه قام الإسلام، وهذا قول ابن إسحاق ٥. ومن هذا قول شاعرهم :
ومنا منسي الشهور القلمس ٦
وقيل غيره، وأشعارهم في هذا كثيرة. قال الأبهري وكانوا يسمونه – يعني المحرم وصفر – الصفرين. وكان القلمس يحل في الشهر الحرام دماء طي وخثعم لأنهما كانا لا يريان الحج من بين سائر العرب. ثم اختلف كيف كانوا يصنعون في سائر شهور السنة من السنة هل كانوا يبقونها ٧ على أسمائها أم كانوا يغيرونها أيضا ؟ فقيل إنهم كانوا يغيرونها يسمون صفر المحرم لأجل تحريمه ثم يسمون ربيعا الأول صفرا وربيعا الأخير ربيعا الأول وهكذا آخر الشهور، وهذا هو القول الذي قدمناه من أنهم كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا وهو قول مجاهد وأبي مالك. وقيل بل كانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر بدلا منه ويتركون الشهور على أسمائها المعهودة، فإذا كان من قابل حرم المحرم على أصله وأحل صفرا مشت الشهور مستقيمة. ورأى من قال ذلك أن هذه كانت حالة القوم. وقال قوم في معنى الآية إن رؤساء بني كنانة وغيرها كانوا يؤخرون الحج في كل سنة عن وقته شهرا فيوقعونه في المحرم بعد ذي الحجة ثم في السنة الأخرى في صفر، فبين تعالى أن هذا الصنع كفر. وقد اختلف في قوله عليه الصلاة والسلام : " إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض " ٨ فقيل لأن العرب كانوا ٩ قد تمسكوا بملة إبراهيم عليه السلام في تحريم الأشهر الحرم وكانوا ينسئون الشهر الحرام إلى الذي يليه إذا احتاجوا إلى القتال فيه، وينتقلون هكذا من شهر إلى شهر حتى اختلط الأمر عليهم فصادفت حجة النبي صلى الله عليه وسلم تحريمهم قد طابق الشرع وكانوا في تلك السنة قد حرموا ذا الحجة بالاتفاق على الحساب الذي قلناه، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الاستدارة صادقت ما حرم الله به يوم خلق السموات والأرض. وقيل كانت العرب تحج عامين في كل ٠هر فصادفت حجة أبي بكر ذا القعدة من السنة التاسعة وصادفت حجة النبي صلى الله عليه وسلم ذا الحجة فلهذا أشار بالاستدارة. وذهب الخوارزمي ١٠ إلى أن الله سبحانه أول ما خلق الشمس أجراها في أول برج الحمل وكان الزمن الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم صادف حلول الشمس في الحمل. وهذا قول فاسد. وقد عدل على ما ذكر بعض المتأخرين فلم يوجد كذلك ١١. واختلف في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى ولا هامة ولا صفر " ١٢ ما أراد بقوله ولا صفر ؟ ففي بعض الأقوال أنه أراد ما كان من النسيء ويؤخذ من قوله تعالى :﴿ إن عدة الشهور عند الله... ﴾ الآية، أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها بالشهور العربية دون الشهور التي تعتبرها الروم والفرس وغيرها. وقد خصص الله تعالى منها الأربعة الحرم وليس يظهر لهذا التخصيص معنى سوى تحريم المقاتلة. وقد نسخ ذلك أو تحريم القتل حتى أن الدية تغلظ فيها على قول بعض العلماء ١٣.
١ في (هـ): "الله" والصواب ما أثبتناه استنادا إلى ما ذكره الفخر الرازي في التفسير الكبير ١٦/ ٥٧..
٢ في (و): "اختلفوا"..
٣ "ليواطئوا" كلمة ساقطة في (هـ)، وبياض في (ب)، (د)..
٤ في غير (ج)، (و): "مواعدة"..
٥ قال القرطبي: اختلف أهل التأويل في أول من نسأ. فقال ابن عباس وقتادة والضحاك: بنو مالك من كنانة وكانوا ثلاثة. وروي جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف. وقال الكلبي أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة. راجع الجامع لأحكام القرآن ٨/ ١٣٨. أما الجصاص فقد قال: وقال ابن إسحاق: كان ملك من العرب يقال له القلمس واسمه حذيفة، أول من نسأ. راجع أحكام القرآن للجصاص ٤/ ٣٠٩..
٦ في المحرر الوجيز: ومنا منسي الشهر القلمس ٨/ ١٨٠. وفي الجامع لأحكام القرآن: ومنا ناسئ الشهر القلمس ٨/ ١٣٨. وهو شطر بيت من البحر الوافر..
٧ في (أ): "يمنعونها"..
٨ الحديث أخرجه أحمد عن حماد عن داود بن أبي هند عن رجل من أهل الشام ٥/ ٧٣..
٩ "كانوا" ساقط في (ح)، (و)..
١٠ الخوارزمي: هو محمد بن موسى الخوارزمي، أبو عبد الله، رياضي فلكي، مؤرخ من أهل خوارزم. ترجم عدة كتب من اليونانية إلى العربية بأمر من المأمون العباسي. توفي سنة ٢٣٢هـ/ ٨٤٧م. انظر دائرة المعارف الإسلامية ٩/ ١٨ – ٢٢..
١١ راجع مختلف هذه الأقوال في أحكام القرآن للجصاص، باب: معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم "أن الزمان قد استدار... " ٤/ ٣٠٥ – ٣٠٩. وكذلك في التفسير الكبير ١٦/ ٥٦، ٥٧، وكذلك في المحرر الوجيز ٨/ ١٧٤ – ١٨٢..
١٢ الحديث رواه البخاري عن سفيان. كتاب البيوع، باب: شراء الإبل الهيم أو الأجرب ٢/ ١٥، ١٦. ومسلم عن أبي هريرة، كتاب السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها ٢/ ١٧٤٤، وأحمد عن سعد بن مالك ١/ ١٧٤..
١٣ قاله الكيا الهراسي في أحكام القرآن ٤/ ٢٠٠..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ﴾ إلى قوله :﴿ أليما ﴾ :
هذه الآية نزلت عتابا لمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وكانت في عام تسعة من الهجرة غزا فيها الروم في عشرين ألفا بين راكب وراجل وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين ١ كثير ومنافقون.
والعتاب في الآية إنما هو لمن عدى المنافقين وخص الثلاثة : كعب بن مالك ٢ وهلال بن أمية ٣ ومرارة بن الربيع ٤ بالتشديد في العتاب وفي التذنيب لما كانوا عليه من النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونهم من أهل بدر وممن كان يقتدى به وكان تخلفهم لغير علة ٥.
وقوله :﴿ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ﴾ اختلف فيه هل هو منسوخ أم لا ؟ فقال ابن عباس وهي منسوخة بقوله تعالى :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾ [ براءة : ١٢٢ ] / وكذلك قال الحسن وعكرمة ٦ فيها وفي قوله :﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا ﴾ الآية [ براءة : ١٢٠ ] أنهما منسوختان بقوله تعالى :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾. وقال جماعة هي محكمة وهو من باب العموم والخصوص ولا نسخ.
١ في (ح): "من المسلمين"..
٢ كعب بن مالك بن كعب الأنصاري السلمي، أبو عبد الله. توفي سنة ٥٠هـ/ ٦٧٠م وقيل غير ذلك. انظر الإصابة ٨/ ٣٠٤..
٣ هلال بن أمية بن عامر الأنصاري الواقفي، شهد بدرا. انظر الإصابة ١٠/ ٢٠٢..
٤ مرارة بن الربيع الأنصاري الأوسي من بني عوف شهد بدرا. انظر الإصابة ٩/ ١٥٩..
٥ راجع جامع البيان للطبري ١٠/ ٩٤..
٦ نسب مكي هذا القول إلى ابن عباس فقط بينما قال الحسن والضحاك بعدم النسخ. راجع الإيضاح ص ٢٧٣..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٨:قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ﴾ إلى قوله :﴿ أليما ﴾ :
هذه الآية نزلت عتابا لمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وكانت في عام تسعة من الهجرة غزا فيها الروم في عشرين ألفا بين راكب وراجل وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين ١ كثير ومنافقون.
والعتاب في الآية إنما هو لمن عدى المنافقين وخص الثلاثة : كعب بن مالك ٢ وهلال بن أمية ٣ ومرارة بن الربيع ٤ بالتشديد في العتاب وفي التذنيب لما كانوا عليه من النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونهم من أهل بدر وممن كان يقتدى به وكان تخلفهم لغير علة ٥.
وقوله :﴿ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ﴾ اختلف فيه هل هو منسوخ أم لا ؟ فقال ابن عباس وهي منسوخة بقوله تعالى :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾ [ براءة : ١٢٢ ] / وكذلك قال الحسن وعكرمة ٦ فيها وفي قوله :﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا ﴾ الآية [ براءة : ١٢٠ ] أنهما منسوختان بقوله تعالى :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾. وقال جماعة هي محكمة وهو من باب العموم والخصوص ولا نسخ.
١ في (ح): "من المسلمين"..
٢ كعب بن مالك بن كعب الأنصاري السلمي، أبو عبد الله. توفي سنة ٥٠هـ/ ٦٧٠م وقيل غير ذلك. انظر الإصابة ٨/ ٣٠٤..
٣ هلال بن أمية بن عامر الأنصاري الواقفي، شهد بدرا. انظر الإصابة ١٠/ ٢٠٢..
٤ مرارة بن الربيع الأنصاري الأوسي من بني عوف شهد بدرا. انظر الإصابة ٩/ ١٥٩..
٥ راجع جامع البيان للطبري ١٠/ ٩٤..
٦ نسب مكي هذا القول إلى ابن عباس فقط بينما قال الحسن والضحاك بعدم النسخ. راجع الإيضاح ص ٢٧٣..

قوله تعالى :﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ الآية :
هذا أمر من الله تعالى بالنفير في الغزو. وقد اختلف في هذه الآية هل هي منسوخة أم لا ؟ فقال بعضهم : هذا أمر عام لجميع الناس تعين به الفرض على الأعيان ثم نسخ بقوله عز وجل وعلا :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾ روي ذلك عن حسن وعكرمة. وقال أكثر العلماء بل هذا خاص ورد بلفظ عام والأمر في نفسه موقوف على فرض الكفاية ولم يقصد بالآية فرضه على الأعيان. وقال بعضهم هو عام لجميع الناس ولا نسخ فيه والمراد به وجوب النفور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا إلى الجهاد وأمر به، وهو الأصح. وقال بعضهم هو أمر عام لا نسخ فيه، والمراد نفير الكل عند الحاجة وظهور الكفر ١. وظاهر الآية يدل أن ذلك على جهة الاستدعاء وفي هذا نظر. إذ يقال كيف يوجب الاستدعاء شيئا لم يجب قبل الاستدعاء ؟ وقد يجاب عن هذا بأن الإمام إذا عين قوما وخرجهم إلى الجهاد كان النفير فرضا عليهم لا لمكان ٢ الجهاد لكن طاعة للإمام. وإذا كان في أهل الثغور كفاية فقد قال قوم من أهل العلم أنه يجب على الإمام أن يغزو في الجهات الأربع في كل سنة قوما يظهر بهم النكاية في العدو ٣ وإذا حصلت الكفاية بقوم سقط الفرض عن الباقين.
وقوله تعالى :﴿ خفافا وثقالا ﴾ : الخفة والثقل مستعاران لمن يسهل عليه الجهاد ومن يصعب عليه وهو له ممكن. وأما من لا يمكنه فهو عن الآية خارج كالأعمى ونحوه. وقد روي أن ابن أم مكتوم ٤ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أعلي أن أنفر ؟ فقال له نعم، حتى نزلت :﴿ ليس على الأعمى حرج ﴾ [ النور : ٦١، الفتح : ١٧ ] وهذا يدل من فعله عليه الصلاة والسلام على حمل العموم على ظاهره حتى يدل دليل على التخصيص. وهي مسألة نزاع بين العلماء وقد اختلف الناس في تفسير الخفة والثقل بعد أن خصصوها بأشياء، وحقيقة القول فيه ما قدمنا من حمله على العموم. فقيل الخفيف الغني والثقيل الفقير ٥ وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ ٦ وقيل الخفيف النشيط والثقيل الكسلان ٧ وقيل المشغول هو الثقيل ومن لا شغل له هو الخفيف ٨ وقيل الذي له ضيعة ثقيل ومن لا ضيعة له خفيف ٩ وقيل الشجاع هو الخفيف والجبان هو الثقيل ١٠ وقد قيل بعكس ذلك. وقيل الراجل هو الثقيل والفارس هو الخفيف ١١ وقد قيل بعكس ذلك. وهذه الأقوال إنما يصلح أن يؤتى بها على جهة المثال. وقد قال أبو طلحة ١٢ : " ما أسمع الله عذر أحدا وخرج إلى الشام فجاهد حتى مات " ١٣ وقال أبو أيوب ١٤ : " ما أجدني أبدا إلا خفيفا أو ثقيلا " وروي أن بعض الناس رأى في غزوات ١٥ الشام رجلا قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له يا عم : إن الله تعالى قد عذرك. فقال يا ابن أخي إنما قد أمرنا بالنفير خفافا وثقالا ١٦ وعن المقداد بن الأسود ١٧ أنه رأى بحمص على تابوت صراف وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو. فقال له لقد عذرك الله فقال أتت علينا سورة البعوث :﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ ١٨.
١ راجع أحكام القرآن للجصاص، باب: فرض النفير والجهاد ٤/ ٣٠٩ – ٣١١، المحرر الوجيز ٨/ ١٨٨، الجامع لأحكام القرآن ٨/ ١٥٠، الإيضاح ص ٢٧٣..
٢ "لا لمكان": بياض في (ب)..
٣ في (ح): "العدة"..
٤ ابن أم مكتوم: هو عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم، صحابي شجاع، كان ضرير البصر. أسلم بمكة وهاجر إلى المدينة. كان يؤذن بها مع بلال. استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم. توفي سنة ٢٣هـ/ ٢٤٣م. انظر طبقات بن سعد ٤/ ١٥٣..
٥ قاله مجاهد. راجع المحرر الوجيز ٨/ ١٨٨، والجامع لأحكام القرآن ٨/ ١٥٠..
٦ قاله الحسن وجماعة: م. س. ، ن. ص..
٧ قاله ابن عباس وقتادة: م. س. ، ن. ص..
٨ قاله الحكم بن عبين وزيد بن علي: م. س. ، ن. ص..
٩ قاله ابن زيد: م. س. ، ن. ص..
١٠ قاله النقاش: م. س. ، ن. ص..
١١ قاله الأوزاعي: م. س. ، ن. ص..
١٢ أبو طلحة هو زيد بن سهل بن الأسود بن مالك بن النجار أبو طلحة الأنصاري النجاري شهد العقبة وبدرا. توفي سنة ٣١هـ/ ٦٥١م وقيل غير ذلك. انظر الإصابة ٤/ ٥٤..
١٣ راجع أسباب النزول للواحدي ص ١٨٥..
١٤ أبو أيوب: هو خالد بن زيد بن ثعلبة الأنصاري، شهد العقبة وبدرا. لزم الجهاد إلى أن توفي سنة ٥٢هـ/ ٦٧٢م. انظر الإصابة ١/ ٥٤..
١٥ في (ب): "غزوة"..
١٦ راجع المحرر الوجيز ٨/ ١٨٩..
١٧ المقداد بن الأسود الكندي البهراني، وقيل الحضرمي. شهد بدرا. توفي سنة ٢٣هـ/ ٦٤٣م. انظر الإصابة ٥/ ٢٧٣..
١٨ في المحرر الوجيز: وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود... راجع ذلك في الجزء ٨/ ١٨٩، وفي التفسير الكبير: وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو أنت معذور... راجع ذلك في الجزء ١٦/ ١٧٠. وفي أسباب النزول للواحدي: وقال جاء المقداد بن الأسود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عظيما سمينا فشكا إليه وسأله... راجع ذلك في الصفحة ١٨٥..
قوله تعالى :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم ﴾ إلى قوله :﴿ يترددون ﴾ :
نزلت هذه الآية بسبب قوم من المنافقين استأذنوا دون عذر، منهم عبد الله بن أبي ورفاعة بن التابوت والجد بن قيس١ ومن تبعهم. فمنهم من قال : ائذن لي ولا تفتني. ومنهم من قال : ائذن لي في الإقامة. فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استبقاء وأخذا بالمساهلة وتوكلا على الله تعالى. وقال مجاهد إن بعضهم قال : نستأذنه فإن أذن في القعود قعدنا وإن لم يأذن قعدنا. وهذا الإذن مما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه واجتهاده. واختلف هل في الآية عتاب له على ذلك أم لا ؟ وقال بعضهم عتاب له في الإذن ولذلك قال تعالى :﴿ عفا الله عنك ﴾ فيما يلحقه من هذا وقد ذكر العفو، قبل العتاب إكراما له.
وقال عمرو بن ميمون الأودي ٢ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدع برأيه في قصتين دون أن يؤمر بشيء فيهما : أحدهما هذه وقصة أسارى بدر فعاتبه الله تعالى فيهما ٣وقال بعضهم ليس في الآية عتاب بل قوله تعالى :﴿ عفا الله عنك ﴾ استفتاح كلام كما تقول أصلحك الله وأعزك الله. ولم يكن منه عليه الصلاة والسلام ذنب يعفى عنه فيه لأن أمر الاستنفار وقبول الاعتذار مصروف لاجتهاده ٤ وهذا أظهر. لأن هذا إنما هو من أمور الدنيا. ولا خلاف أن له أن يجتهد برأيه في أمور الدنيا كقصة آبار النخل ونحو ذلك. وقد اختلف في هذه الآيات هل هي منسوخة أو محكمة ؟ فذهب جماعة إلى أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة النور :﴿ فأذن لمن شئت منهم ﴾ ٥ الآية [ النور : ٦٢ ] لأن في آية النور إباحة الإذن في الانصراف عن الحرب. وفي الآية التي نحن فيها حظره إلا بعذر بين فنسخ ذلك. وقال نحو هذا ابن عباس وعكرمة والحسن. وهذا القول يقتضي أن آية النور نزلت بعد آية التوبة لأن النسخ لا يكون إلا كذلك. وقد زعم قوم من المفسرين ٦ أن هذا غلط وأن آية النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات فأباح الله تعالى له أن يأذن، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى. فعلى هذا آية النور نزلت قبل آية التوبة ولا يصح النسخ بذلك.
وذهب جماعة إلى أن الآيات محكمة وأنها تعيين للمنافقين حين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في القعود على الجهاد بغير عذر وعذر الله تعالى المؤمنين فقال :﴿ فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم ﴾ ٧ [ النور : ٦٢ ] وهذا القول أصح من الأول ويعضده الاعتراض الذي ذكرناه على الأول.
١ عبد الله بن أبي سلول ورفاعة بن التابوت والجد بن قيس هم رؤوس النفاق وقصتهم مشهورة، فراجع ذلك في سيرة ابن هشام ٤/ ١٤٤..
٢ عمرو بن ميمون الأودي، أبو عبد الله، ويقال أبو يحيى. مخضرم، ثقة، تابعي أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره. انظر تهذيب التهذيب ٨/ ١٠٩..
٣ ذكر ذلك الطبري في جامع البيان ١٤/ ٢٧٣ وكذلك السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول، ذيل تفسير الجلالين ص ٤٤٥، ٤٤٦..
٤ أورد ذلك ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ١٩١، والفخر في التفسير الكبير ١٦/ ٧٤..
٥ راجع القول في الإيضاح ص ٢٧٤..
٦ منهم ابن عطية. راجع رأيه في المحرر الوجيز ٨/ ١٩٢..
٧ وقد نسب هذا الرأي لابن عباس. راجع الإيضاح ص ٢٧٤..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٣:قوله تعالى :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم ﴾ إلى قوله :﴿ يترددون ﴾ :
نزلت هذه الآية بسبب قوم من المنافقين استأذنوا دون عذر، منهم عبد الله بن أبي ورفاعة بن التابوت والجد بن قيس١ ومن تبعهم. فمنهم من قال : ائذن لي ولا تفتني. ومنهم من قال : ائذن لي في الإقامة. فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استبقاء وأخذا بالمساهلة وتوكلا على الله تعالى. وقال مجاهد إن بعضهم قال : نستأذنه فإن أذن في القعود قعدنا وإن لم يأذن قعدنا. وهذا الإذن مما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه واجتهاده. واختلف هل في الآية عتاب له على ذلك أم لا ؟ وقال بعضهم عتاب له في الإذن ولذلك قال تعالى :﴿ عفا الله عنك ﴾ فيما يلحقه من هذا وقد ذكر العفو، قبل العتاب إكراما له.
وقال عمرو بن ميمون الأودي ٢ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدع برأيه في قصتين دون أن يؤمر بشيء فيهما : أحدهما هذه وقصة أسارى بدر فعاتبه الله تعالى فيهما ٣وقال بعضهم ليس في الآية عتاب بل قوله تعالى :﴿ عفا الله عنك ﴾ استفتاح كلام كما تقول أصلحك الله وأعزك الله. ولم يكن منه عليه الصلاة والسلام ذنب يعفى عنه فيه لأن أمر الاستنفار وقبول الاعتذار مصروف لاجتهاده ٤ وهذا أظهر. لأن هذا إنما هو من أمور الدنيا. ولا خلاف أن له أن يجتهد برأيه في أمور الدنيا كقصة آبار النخل ونحو ذلك. وقد اختلف في هذه الآيات هل هي منسوخة أو محكمة ؟ فذهب جماعة إلى أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة النور :﴿ فأذن لمن شئت منهم ﴾ ٥ الآية [ النور : ٦٢ ] لأن في آية النور إباحة الإذن في الانصراف عن الحرب. وفي الآية التي نحن فيها حظره إلا بعذر بين فنسخ ذلك. وقال نحو هذا ابن عباس وعكرمة والحسن. وهذا القول يقتضي أن آية النور نزلت بعد آية التوبة لأن النسخ لا يكون إلا كذلك. وقد زعم قوم من المفسرين ٦ أن هذا غلط وأن آية النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات فأباح الله تعالى له أن يأذن، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى. فعلى هذا آية النور نزلت قبل آية التوبة ولا يصح النسخ بذلك.
وذهب جماعة إلى أن الآيات محكمة وأنها تعيين للمنافقين حين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في القعود على الجهاد بغير عذر وعذر الله تعالى المؤمنين فقال :﴿ فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم ﴾ ٧ [ النور : ٦٢ ] وهذا القول أصح من الأول ويعضده الاعتراض الذي ذكرناه على الأول.
١ عبد الله بن أبي سلول ورفاعة بن التابوت والجد بن قيس هم رؤوس النفاق وقصتهم مشهورة، فراجع ذلك في سيرة ابن هشام ٤/ ١٤٤..
٢ عمرو بن ميمون الأودي، أبو عبد الله، ويقال أبو يحيى. مخضرم، ثقة، تابعي أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره. انظر تهذيب التهذيب ٨/ ١٠٩..
٣ ذكر ذلك الطبري في جامع البيان ١٤/ ٢٧٣ وكذلك السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول، ذيل تفسير الجلالين ص ٤٤٥، ٤٤٦..
٤ أورد ذلك ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ١٩١، والفخر في التفسير الكبير ١٦/ ٧٤..
٥ راجع القول في الإيضاح ص ٢٧٤..
٦ منهم ابن عطية. راجع رأيه في المحرر الوجيز ٨/ ١٩٢..
٧ وقد نسب هذا الرأي لابن عباس. راجع الإيضاح ص ٢٧٤..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٣:قوله تعالى :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم ﴾ إلى قوله :﴿ يترددون ﴾ :
نزلت هذه الآية بسبب قوم من المنافقين استأذنوا دون عذر، منهم عبد الله بن أبي ورفاعة بن التابوت والجد بن قيس١ ومن تبعهم. فمنهم من قال : ائذن لي ولا تفتني. ومنهم من قال : ائذن لي في الإقامة. فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استبقاء وأخذا بالمساهلة وتوكلا على الله تعالى. وقال مجاهد إن بعضهم قال : نستأذنه فإن أذن في القعود قعدنا وإن لم يأذن قعدنا. وهذا الإذن مما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه واجتهاده. واختلف هل في الآية عتاب له على ذلك أم لا ؟ وقال بعضهم عتاب له في الإذن ولذلك قال تعالى :﴿ عفا الله عنك ﴾ فيما يلحقه من هذا وقد ذكر العفو، قبل العتاب إكراما له.
وقال عمرو بن ميمون الأودي ٢ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدع برأيه في قصتين دون أن يؤمر بشيء فيهما : أحدهما هذه وقصة أسارى بدر فعاتبه الله تعالى فيهما ٣وقال بعضهم ليس في الآية عتاب بل قوله تعالى :﴿ عفا الله عنك ﴾ استفتاح كلام كما تقول أصلحك الله وأعزك الله. ولم يكن منه عليه الصلاة والسلام ذنب يعفى عنه فيه لأن أمر الاستنفار وقبول الاعتذار مصروف لاجتهاده ٤ وهذا أظهر. لأن هذا إنما هو من أمور الدنيا. ولا خلاف أن له أن يجتهد برأيه في أمور الدنيا كقصة آبار النخل ونحو ذلك. وقد اختلف في هذه الآيات هل هي منسوخة أو محكمة ؟ فذهب جماعة إلى أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة النور :﴿ فأذن لمن شئت منهم ﴾ ٥ الآية [ النور : ٦٢ ] لأن في آية النور إباحة الإذن في الانصراف عن الحرب. وفي الآية التي نحن فيها حظره إلا بعذر بين فنسخ ذلك. وقال نحو هذا ابن عباس وعكرمة والحسن. وهذا القول يقتضي أن آية النور نزلت بعد آية التوبة لأن النسخ لا يكون إلا كذلك. وقد زعم قوم من المفسرين ٦ أن هذا غلط وأن آية النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات فأباح الله تعالى له أن يأذن، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى. فعلى هذا آية النور نزلت قبل آية التوبة ولا يصح النسخ بذلك.
وذهب جماعة إلى أن الآيات محكمة وأنها تعيين للمنافقين حين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في القعود على الجهاد بغير عذر وعذر الله تعالى المؤمنين فقال :﴿ فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم ﴾ ٧ [ النور : ٦٢ ] وهذا القول أصح من الأول ويعضده الاعتراض الذي ذكرناه على الأول.
١ عبد الله بن أبي سلول ورفاعة بن التابوت والجد بن قيس هم رؤوس النفاق وقصتهم مشهورة، فراجع ذلك في سيرة ابن هشام ٤/ ١٤٤..
٢ عمرو بن ميمون الأودي، أبو عبد الله، ويقال أبو يحيى. مخضرم، ثقة، تابعي أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره. انظر تهذيب التهذيب ٨/ ١٠٩..
٣ ذكر ذلك الطبري في جامع البيان ١٤/ ٢٧٣ وكذلك السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول، ذيل تفسير الجلالين ص ٤٤٥، ٤٤٦..
٤ أورد ذلك ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ١٩١، والفخر في التفسير الكبير ١٦/ ٧٤..
٥ راجع القول في الإيضاح ص ٢٧٤..
٦ منهم ابن عطية. راجع رأيه في المحرر الوجيز ٨/ ١٩٢..
٧ وقد نسب هذا الرأي لابن عباس. راجع الإيضاح ص ٢٧٤..

قوله تعالى :﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ :
تحتمل هذه الآية أن يكون معنى التوكل فيها مقرونا مع السعي والابتغاء لا أنه تعالى يريد توكلا دون سعي. ويحتمل أن يريد توكلا خالصا دون سعي من الإنسان مع ذلك. وقد اختلف العلماء في التوكل في الرزق دون السعي فيه فلم يره أكثر العلماء لأنه وإن كانت الآية عندهم محتملة بالقول الآخر ١ فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قد أذهب ذلك الاحتمال وخلص الاحتمال الآخر لأنه صلى الله عليه وسلم سعى طول عمره في إظهار أمر الله تعالى. وظاهر يوم أحد بين درعين فهذا منه صلى الله عليه وسلم توكل مع سعي وهذا إن لم يكن في الرزق فقد جاء في الرزق قوله تعالى :﴿ وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ( ٢٥ ) ﴾ [ مريم : ٢٥ ] وقال عليه الصلاة والسلام في الطير : " تغدو خماصا وتروح بطانا " ٢. وقال له رجل أرسل ناقتي وأتوكل قال :﴿ بل أعلقها وتوكل ﴾ ٣ فرأوا لمن يمكنه التحرك في الحلال أن يتحرف ولو أن يحتطب ونحو ذلك. وذهب بعض الناس إلى أن الرجل الجلد إذا بلغ من التوكل إلى أن يدخل دارا أو بيتا تجهل فيه حاله ويبقى في ذكر الله تعالى متوكلا على الله يقول : إن كان لي رزق فسيأتي الله به، وإن كان رزقي قد تم مت، أن ذلك حسن بالغ أعلى الدرجات. ولهذا اختلف في المسألة فأجازها قوم لمن لا يجدها بغيته، وحظرها آخرون إلا لمن اضطر إليها كالميتة وحظرها آخرون جملة ومن حجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تسأل الناس شيئا ". وأن هذا هو التوكل للحظر، وقد أمر الله تعالى بالتوكل فليكن على وجهه، ومن سأل فلم يتوكل. واختلف الذين رأوا له السعي والتطلب إن اضطر إلى أكل المحرمات كالميتة وسؤال الناس وما أمكنه من ذلك أيهم أفضل صبره عن ذلك وإن مات، أو أخذه منها لإبقاء رمقه، على قولين. وهذا بعد اتفاقهم على أن كل ذلك مباح له. وتأول الآية من يرى الصبر أفضل على أن معنى التوكل فيها هو التوكل مع السعي فيما عدا المحظورات. فأما مع أكل المحظورات فليس ثم توكل. وقول من زعم أن أخذه من ذلك أفضل مبني على القول بأنه واجب على الإنسان إحياء نفسه ٤.
١ في (ز): "للوجهين"..
٢ الحديث رواه أحمد عن أبي بكر الصديق ١/ ٣٠، والترمذي في كتاب الزهد، وابن ماجه في كتاب الزهد..
٣ الحديث رواه الترمذي في كتاب القيامة ٤/ ٦٦٤..
٤ راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٠٠..
قوله تعالى :﴿ قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين ( ٥٣ ) ﴾ :
سبب هذه الآية أن الجد بن قيس قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ائذن لي ولا تفتني فأذن له. قال إني أعينك بمالي. فنزلت هذه الآية ١ وقد اختلف في الكافر يفعل في حال ٢ كفره شيئا من أفعال البر كصلة الرحم ونحو ذلك هل يثاب عليه في الآخرة أم لا ؟ على قولين. واحتج من لم ير له ثوابا بهذه الآية. ومن حجة من يرى له ثوابا أن حكيم بن حزام ٣ قال : يا رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صلة وعتاقة هل لي فيها أجر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " أسلمت على ما سلف لك من خير " ومن حجتهم أيضا حديث أبي طالب أنه في ضحضاح من نار ٤. والكلام في هذا طويل وفيما ذكرناه غنية.
١ راجع أسباب النزول للواحدي ص ١٨٥، والتفسير الكبير ١٦/ ٨٨ والمحرر الوجيز ٨/ ٢٠٢، والجامع لأحكام القرآن ٨/ ١٦١، ولباب النقول ص ٤٤٦..
٢ في (أ)، (ز): "خلال"..
٣ حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد القرشي، أبو خالد المكي – أسلم يوم الفتح وكان من المؤلفة قلوبهم – توفي سنة ٥٤هـ/ ٦٦١م وقيل غير ذلك. انظر الإصابة ٣/ ٥٣..
٤ قال القرطبي فكان المعنى في الحديث أنك اكتسبت طباعا جميلة في الجاهلية أكسبتك عادة جميلة في الإسلام، وذلك أن حكيما عاش مائة وعشرين سنة، ستين في الإسلام وستين في الجاهلية. راجع الجامع لأحكام القرآن ٨/ ١٦١، ١٦٢..
قوله تعالى :﴿ إنما الصدقات للفقراء.... ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فريضة من الله ﴾ :
هذه الآية نزلت في تعيين من يجوز له أخذ الزكاة، فالصدقات في الآية هي الزكاة المفروضة. والذين سمى الله فيها هم الذين توضع فيهم الزكاة وعددهم في ظاهر الآية ثمانية. ونحن نتكلم على ما يخص كل واحد منهم ثم نتكلم على ما يعم الجميع. فأما الفقير والمسكين فقد اختلف فيهما اختلاف كثيرا. فقيل هما اسمان لشيء واحد والذي يملك شيئا يسيرا لا يكفيه إلا أنه وصف بصفتين لتأكيد أمره ١ فعلى هذا القول عدد من تقسم عليهم الزكاة في الآية سبعة، وإلى هذا القول مال ابن الجلاب ٢. وقيل بل هما لمعنيين، ثم اختلف الذين ذهبوا إلى هذا في الفرق بينهما ٣ على عشرة أقوال ٤.
فقيل الفقير أحسن حالا من المسكين لأنه الذي له البلغة من العيش والمسكين هو الذي لا شيء له٥ واحتجوا بقول الراعي :
أما الفقير الذي كانت حلوبته ***.......................... ٦
فجعل للفقير حلوبة وقال تعالى :﴿ أو مسكينا ذا متربة ( ١٦ ) ﴾ [ البلد : ١٦ ] أي من لصق بالتراب من سوء حاله. وأيضا فإن المسكين مفعيل من السكون مبالغة في وصفه بذلك أي لا حركة له كالميت. وقيل لأعرابي : فقير أنت ؟ قال : لا والله بل مسكين. أي أسوأ حالا من الفقير، وإلى هذا القول ذهب ابن السكيت ٧ ويونس ٨ وابن قتيبة ٩، وحكى ابن القصار١٠ أنه قول أصحاب مالك وإليه ذهب أبو حنيفة. وقيل المسكين أحسن حالا من الفقير لأنه الذي له البلغة من العيش، والفقير الذي لا شيء له واحتجوا بقوله تعالى :﴿ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ﴾ [ الكهف : ٧٩ ] فجعل لهم سفينة. وبقوله تعالى :﴿ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض ﴾ [ البقرة : ٢٧٣ ] فإن الفقير المكسور الفقار. ومن كثر فقاره فلا حياة له. ويقول الشاعر :
هل لك من أجر عظيم تؤجره *** تغيث مسكينا كثيرا عسكره
عشر شياه سمعه وبصره١١
فجعل له عشر شياه. وإلى هذا القول ذهب الأصمعي ١٢ والأنباري ١٣ وهو قول الشافعي. ورجح جماعة القول الأول وردوا ما احتج به الآخرون فقالوا : أما قوله تعالى :﴿ فكانت لمساكين ﴾ [ الكهف : ٧٩ ] فلا حجة فيه من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه سماهم مساكين ترحما وإن لم يكونوا مساكين في الحقيقة فسماهم بذلك مجازا على جهة التحريم. ويبين هذا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مسكين مسكين من لا زوجة له ". قالوا يا رسول الله : وإن كان ذا مال. قال : " نعم وإن كان ذا مال " ١٤ وقيل لقيلة يا مسكينة عليك السكينة ١٥ وقال عليه الصلاة والسلام : " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين ونعوذ بالله من الفقر " ١٦. والثاني : أن يكون إضاف السفينة إليهم على غير جهة الملك كما أن العرب قد تفعل مثل هذا كثيرا ولكن إذا كان من ذلك الشيء بسبب. ولما كان هؤلاء عاملين فيها نسب السفينة إليهم كما يقال هذه الدابة لفلان السائس، وكما قال تعالى :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ( ٤٦ ) ﴾ [ الرحمن : ٤٦ ] كما قال الفرزدق ١٧ :
وأنتم لهذا الدين كالقبلة التي *** إن يضل الناس يهدي ظلالها١٨
في قول من جعل الضمير عائدا إلى القبلة لا إلى الناس، ولا ظلال على الحقيقة للقبلة وإنما الظلال لمن يصلي إليها. والثالث : ما جاء من أنه قد قرئ لمساكين بالتشديد للسين. وتفسيره على وجهين : أحدهما : أن يعني بهم دباغي المسوك وإليه ذهب جماعة من المفسرين ١٩. والثاني : أن يكون من الإمساك. إلا أن المشهور من هذا أمسك ومسك لغة قليلة. وأما قوله تعالى :﴿ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ﴾ [ البقرة : ٢٧٣ ] فبين أنه لا حجة فيه إذ ليس يخرج من الآية أنه لا شيء له وأن له شيئا. وسنتكلم على هذه الآية في موضعها إن شاء الله تعالى. وأما قولهم إن الفقير المكسور الفقار فلا حجة فيه لأنه قد يجوز أن لا يكون من ذلك. ويكون من قولهم فقرت البعير إذا حززته ٢٠ بحديدة ثم وضعت على موضع الحز الحديد وعليه وتر لتذله وتروضه. فيكون الفقير إنما سمي فقيرا لأن الدهر قد أذله وفعل به ما يفعل بالبعير الضعيف ٢١. وأما الشعر فلا حجة فيه أيضا لأنه لم يرد أن له عشر شياه ٢٢ وإنما معناه أن العشر شياه لو وهبت له لكنت سمعه وبصره فحذف ما لا يتم المعنى إلا به بدلالة الكلام عليه ٢٣. واعترض أهل القول الثاني احتجاج أهل القول الأول بيت الراعي : أما الفقير الذي كانت حلوبته، فإنه إنما سماه فقيرا بعد أن صار لا حلوبة له. وإنما ذكر أنه كانت له حلوبة لا أنه له الآن وهذا ضعيف يرده معنى الشعر لأنه إنما يصف مصدقين جاروا في الصدقة وأخذوا حلوبة هذا الفقير. وهل هو حظ أهل اللغة ومن تابعهم من أهل الكلام على الفقير والمسكين وبما قالوه يفسرون الآية وهي ثلاثة أقوال، وللمفسرين فيها أقوال أخرى. ذهب الضحاك إلى أن الفقراء هم المهاجرون، والمساكين من لم يهاجروا. وقال النخعي نحوه. قال سفيان : لا نعطي فقراء الأعراب شيئا. وعلى هذا القول قد انقطع صنف واحد من الثمانية وهم الفقراء فلم يبق إلا المساكين إذ لا هجرة بعد الفتح. وذهب عكرمة إلى أن الفقراء من المسلمين، والمساكين من أهل الذمة. قال : ولا تقولوا للفقراء المسلمين مساكين. وروي أيضا عن ابن عباس والضحاك. وذهب بعضهم إلى أن الفقير من لا مال له ولا حرفة، سائلا كان أو متعففا، ويحكى هذا عن الشافعي أيضا. وذهب قتادة إلى أن الفقير الزمن المحتاج والمسكين الصحيح المحتاج. وذهب ابن عباس وغيره إلى أن الفقراء هم الذين يتصاونون والمساكين الذين يسألون ولا يتصاونون، وروي هذا عن علي بن زياد ٢٤ عن مالك، وروي أيضا عن عكرمة. وقال مالك أيضا في المجموعة : الفقير الذي يحرم الرزق والمسكين الذي ٢٥ لا يجد غنى ولا يفطن له ٢٦. ومن حجة هذا القول قوله عليه الصلاة والسلام : " ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس " ٢٧.
وذهب عبيد الله بن الحسن ٢٨ إلى أن المسكين الذي يخضع ويستكن وإن لم يسأل. والفقير الذي يتحمل ويقبل الشيء سرا. فهذه سبعة أقوال لأهل التفسير. فالصدقة لا يجوز دفعها لغني ليس من الأصناف الستة الذين عهدهم الله تعالى بعد الفقراء والمساكين باتفاق لدليل الآية. فإن اجتهد الرجل في صدقته فدفعها إلى غني وهو يراه غير غني فلا تجزئه في المشهور من المذهب وتجزئه عند ابن القاسم في أحد قوليه وأبي حنيفة. ودليل القول الأول قوله تعالى :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ﴾ فلم يجعل فيها نصيبا للأغنياء فمن أعطاها لغني فكأنه لم يعطها فلا تجزئه وهذا بخلاف ما لو فعله الإمام. واختلف في القوي على الاكتساب هل يجوز له أخذ الصدقة أم لا ؟ فذهب مالك وجماعة سواه إلى أنه يجوز له. وذهب يحيى بن عمر ٢٩ إلى أنه لا يجوز ٣٠ ولا تجزئ معطيها وجعل القوة كالغنى وهو قول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد وإسحاق ٣١. واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي " ٣٢ وفي آخر : " ولا لقوي مكتسب ". وحجة القول الأول عموم قوله تعالى :﴿ للفقراء والمساكين ﴾ أما الحديث : " ولذي مرة سوي " فإنه مخصوص. واختلف في الغنى الذي يحرم معه أخذ الصدقة فقيل هو الكفاية وإن كان دون نصاب لقوله عليه الصلاة والسلام : " من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا " ٣٣ وهو المشهور عن مالك وإليه ذهب الشافعي. وقيل إن هذا الحديث – وهو حديث الأوقية – منسوخ بقوله عليه الصلاة والسلام : " من سأل وله خمس إواق فقد سأل إلحافا " ٣٤. وقيل هو النصاب، ومن كان له دون النصاب فقد حلت له الصدقة. وإلى مثل هذا ذهب أبو حنيفة للحديث : " أمرت أن آخذها من أغنيائكم وأردها على فقرائكم " ٣٥ ورواه المغيرة عن مالك وقاله المغيرة وهو قول عبد الملك ٣٦ وقيل الكفاية ٣٧ فمن ٣٨ كان له ٣٩ أكثر من نصاب ولا كفاية فيه حلت له، وإن كان ٤٠ له أكثر من نصاب ولا كفاية فيه٤١ فأحرى أن لا تكون له كفاية فيما دون النصاب. فكان هذا القول اعتبر فيه الكفاية مع النصاب. وقيل هو وجود قوت اليوم، الغداء والعشاء. واحتج من قال هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار " قالوا يا رسول الله و ما يغنيه ؟ قال : " قدر ما يغذيه ويعشيه " ٤٢ وقال من رد هذا الحديث منسوخ. وقال بعضهم المعنى فيه غداء وعشاء على دائم الأوقات. فإذا كان عنده ما يكفيه لمدة طويلة فقد حرمت عليه المسألة. وقيل هو أربعون درهما لقوله عليه الصلاة والسلام : " من سأل وله أوقيه... " وهو قول أبي عبيد، وقيل هو خمسون، وقد ضعفت جماعة هذا الحديث. فهذه ستة أقوال أسدها القول باعتبار الكفاية لأن من ليس له ما يكفيه فهو فقير أو مسكين. وقد أحل الله تعالى لهما الصدقة بقوله تعالى :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ﴾ قال بعضهم : وكل من حد في الغناء حدا أو لم يحد فإنما هو بعد ما لا غنى له عنه من دار يحلها أو خادم ٤٣ وهو ٤٤ محتاج ٤٥ إليها ولا فضلة في ثمنها، ومن كان كهذا فالفقهاء مجمعون على أنه يأخذ من الصدقة ما يحتاج إليه. واختلف هل يجوز صرف الصدقة إلى الذمي أم لا ؟ فعندنا أنه لا يجوز وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز واستدل بعموم ٤٦ قوله تعالى :﴿ إنما الصدقات للفقراء... ﴾ ولم يخص. ودليلنا قوله عليه الصلاة والسلام : " خذ الصدقة من أغنيائهم وردها في فقرائهم " ٤٧ وهذه الإضافة لا بد لها من اختصاص. وقد ثبت أنه لم يرد القبيلة ولا البلد فعلم أن المراد المسلم وعندنا أنه لا يجوز دفع الرجل صدقته لمن تلزمه نفقته خلافا لأبي حنيفة في ذلك تعلقا بعموم الآية. وحجتنا أنهم إذا كانت تلزمهم نفقتهم فليسوا بفقراء بعد. فمن وضع الصدقة فيهم فقد وضعها في غير موضعها، كذا ذكر بعضهم الخلاف في هذه المسألة. ورأيت بعضهم حكى الاتفاق على أنه لا يجوز دفع الصدقة إليهم، وأما دفعها لمن لا تلزمه نفقته من أقاربه، فعن مالك فيه روايتان : الجواز والكراهة. وذكر أنه رؤي مالك يعطي زكاته أقاربه. وحجة الجواز عموم الآية، وليسوا بأغنياء لأن نفقتهم لا تلزم. وإذا قلنا إنه يعطي قرابته فمن أحق هم أو جيرانه الفقراء ؟ أما إن كان قريبه حاضرا معه فهو أولى وإن كان غائبا غيبة تقصر في مثلها الصلاة. فقيل هو أولى من الجار وقيل الجار أولى وظاهر الآية التسوية لأنه إنما جعل السبب في الأخذ الفقر، فإذا تساووا في ذلك استووا في جواز الأخذ. واختلف في الزوجة هل يجوز أن تدفع صدقتها إلى زوجها ؟ فمنع مالك من ذلك، وذكر ابن القصار أن ذلك عند شيوخه على وجه الكراهة، فإن فعلت أجزأها. وأجازها أشهب ٤٨ إذ لم يرجع إليها شيئا من ذلك في نفقتها. وعن أبي حنيفة والشافعي الروايتان. وحجة الجواز قوله تعالى :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ﴾ فعم. وأما الزوج فلا يجوز له أن يدفع صدقته إلى زوجه لأن نفقتها تلزمه إلا على ما ذكرنا من قول أبي حنيفة في هذا الأصل، وإن كان بعضهم قد حكى الإجماع على أن ذلك لا يجوز. واختلف هل تحل الصدقة لآل النبي صلى الله عل
١ نسبه القرضاوي إلى أبي يوسف صاحب أبي حنيفة وإلى ابن القاسم من أصحاب مالك. راجع فقه الزكاة ٢/ ٥٤٤..
٢ ابن الجلاب هو أبو القاسم عبد الله بن الحسن، وقيل عبيد الله بن الحسن، وقيل عبد الرحمن بن عبد الله المعروف بابن الجلاب. توفي سنة ٣٧٨هـ/ ٩٨٨م وقيل سنة ٣٧٥هـ/ ٩٨٥م. انظر طبقات الفقهاء للشيرازي ص ١٦٨، الديباج لابن فرحون ص ١٤٦..
٣ "بينهما" ساقط في (ب)، (د)، (هـ)..
٤ وقال القرطبي على تسعة أقوال. راجع الجامع لأحكام القرآن ٨/ ١٦٨..
٥ نسبه الجصاص إلى أبي الحسن الكرخي. راجع أحكام القرآن ٤/ ٣٢٢..
٦ والبيت:
أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد
وقد نسبه الجصاص إلى ابن الأعرابي. راجع م. س. ، ن. ص..

٧ ابن السكيت: هو أبو يوسف، يعقوب بن إسحاق. إمام في اللغة والأدب. تعلم ببغداد. من كتبه إصلاح المنطق. انظر وفيات الأعيان لابن خلكان ٢/ ٣٠٩..
٨ يونس: هو أبو عبد الرحمن يونس بن حبيب الضبي البصري، بارع في النحو، من أصحاب أبي عمرو بن العلاء. توفي سنة ١٨٢هـ/ ٨٠٢م. انظر طبقات المفسرين للداودي ٢/ ٣٨٥..
٩ ابن قتيبة هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري اللغوي النحوي نزيل بغداد كان شغوفا بالعلم وأنواع المعارف. له عدة مؤلفات منها معاني القرآن. توفي سنة ٢٧٦هـ/ ٨٨٨م. انظر طبقات المفسرين للداودي ١/ ٢٥١..
١٠ ابن القصار: هو أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد البغدادي، القاضي المعروف بابن القصار أصولي، من كبار فقهار المالكية. توفي سنة ٣٩٨هـ/ ١٠٠٨م. انظر الديباج ص ١٩٩..
١١ البيت من البحر الرجز..
١٢ الأصمعي: هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مظهر بن رباح الأصمعي، اللغوي المشهور. انظر أخبار النحويين للسيرافي ص ٦٧..
١٣ ابن الأنباري: هو أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار النحوي. اشتهر بالحفظ. توفي سنة ٣٢٨هـ/ ٩٤٠م. انظر تذكرة الحفاظ للذهبي ٣/ ٨٤٢..
١٤ الحديث أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، باب: في تحريم الفروج، فصل في الترغيب في النكاح ٤/ ٣٨٢..
١٥ ذكر ذلك ابن سعد في طبقاته. وقيلة هي قيلة بنت مخرمة. انظر طبقات ابن سعد ١/ ٣١٩..
١٦ الحديث رواه ابن ماجة في سننه، كتاب الزهد، باب: مجالسة الفقراء ٢/ ١٣٨١..
١٧ الفرزدق: هو همام بن غالب بن صعصعة بن مجاشع الدارمي التميمي من شعراء العهد الأموي. انظر لسان العرب لابن منظور ٣/ ٢٨٨..
١٨ البيت من البحر الطويل..
١٩ نسبه ابن عطية إلى النقاش. راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٠٩..
٢٠ في (ز): "خرزته"..
٢١ "الضعيف" ساقطة في (ح)..
٢٢ "عشر شياه" ساقط في (أ)..
٢٣ في (أ)، (ز): "لا يتم الكلام... الكلام عليه"..
٢٤ علي بن زياد التونسي. سمع من مالك الموطأ وتفقه عليه وله كتب على مذهبه منها كتاب يسمى "خير من زنته" وبه تفقه سحنون عاش بعد مالك نحو من خمس سنين. انظر طبقات الفقهاء ص ١٥٢..
٢٥ في (أ): زيادة:"لا يحرمه"..
٢٦ في (أ): "لا يتفطن له"..
٢٧ الحديث رواه البخاري عن أبي هريرة، كتاب الزكاة، باب: قوله تعالى: ﴿لا يسألون الناس إلحافا﴾ ٢/ ١٣٣. رواه مسلم عن أبي هريرة، كتاب الزكاة، باب: المسكين الذي لا يجد غنى ٣/ ٩٥..
٢٨ عبيد الله بن الحسن بن حصين العنبري، القاضي، فقيه بصري، ثقة. توفي سنة ١٦٨هـ/ ٧٨٥م. انظر تهذيب التهذيب لابن حجر ٧/٧..
٢٩ يحيى بن عمر: هو الصحابي يحيى بن عمر بن الحرث بن زائدة بن كندة بن ثعلبة الأنصاري. انظر الإصابة لابن حجر ٣/ ٦١٣..
٣٠ من قوله: "فذهب مالك... إلى: لا يجوز" ساقط في (ح)..
٣١ إسحاق: لعله إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن مطر الحنظلي الماروزي المعروف بابن راهويه، فقيه ومحدث. توفي سنة ٢٣٨هـ/ ٨٥٢م. انظر طبقات الفقهاء ص ٥٤..
٣٢ الحديث أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الزكاة ٣/ ١٥٠..
٣٣ الحديث رواه أحمد عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد ٤/ ٣٦..
٣٤ الحديث أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار ١/ ٢٠٣..
٣٥ كما أوصى عليه الصلاة والسلام معاذ بن جبل قائلا له: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم". راجع المغني لابن قدامة ٢/ ٥١٠. والترمذي، كتاب الزكاة، باب: ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة ٣/ ٢١..
٣٦ عبد الملك: هو عبد الملك بن الماجشون. انظر ترجمته في صفحة ٢٥..
٣٧ وهو رأي المالكية والشافعية والحنابلة. راجع فقه الزكاة للقرضاوي ٢/ ٥٦٦..
٣٨ في (ب)، (د)، (هـ): "فيمن"..
٣٩ "له" ساقط في (أ)..
٤٠ في (د)، (هـ)، (و)، (ز): "وإذا"..
٤١ من قوله: "حلت له... إلى قوله: ولا كفاية فيه" ساقط في (أ)..
٤٢ الحديث ذكره أبو داود في سننه، كتاب الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة ٢/ ٢٨١..
٤٣ في (د)، (هـ)، (و): "وخادم"..
٤٤ في (ب)، (هـ)، (و): "هو"..
٤٥ في (ز): "يحتاج"..
٤٦ "بعموم" ساقطة في غير (أ)، (ز)..
٤٧ الحديث رواه ابن عباس وذكره الباجي في المنتقى. كتاب الزكاة، باب: أخذ الإمام الزكاة من المزكي ٢/ ٩٤..
٤٨ أشهب: هو أبو عمر أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم القيسي. روى عن مالك والليث. توفي سنة ٢٠٤هـ/ ٨١٩م. انظر تهذيب التهذيب لابن حجر ١/ ٣٥٩..
قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ﴾ :
هذه الآية تقتضي أن يجاهد الكفار والمنافقين ١ إلا أنه يحتمل أن يريد أن يجاهد المنافقين كما يجاهد الكفار بالسيف ويحتمل أن يريد ٢ أن يجاهد الكفار بالسيف والمنافقين بدون ٣ ذلك باللسان ونحوه ٤. وبحسب هذا الاحتمال اختلف المفسرون فقيل المعنى جاهد الكفار والمنافقين بالسيف فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المنافقين كما يقاتل الكفار وأذن له في قتلهم، وعلى ذلك مات النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب الزجاج. وقال ابن مسعود يفعل ذلك إن قدر وإلا باللسان، وإليه ذهب ابن عباس. وقيل المعنى جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بإقامة الحدود عليهم وإلى هذا ذهب الحسن بن أبي الحسن، قال : وأكثر ما كانت الحدود تصيب يومئذ المنافقين. فلم ير من ذهب إلى هذين القولين قتال المنافقين ولا ٥ قتلهم. ومال إلى هذا ٦ بعض المفسرين ٧ وقال : قتلهم لا يكون إلا إذا جلحوا، وإذا جلحوا فهم كفار ثم قال ما ينقض مذهبه. قال : ووجه ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين بالمدينة أنهم لم يكونوا مجلحين بل كان كل مغموس عليه إذا وقف ادعى الإسلام فكان في تركهم إبقاء وحياطة للإسلام ومخافة أن ينفر العرب إذا سمعت أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل من يظهر الإسلام. فقال أولا إنه يترك المنافقين ما لم يجلحوا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركهم بالمدينة لذلك، فالعلة في تركهم إذن ترك التجليح. ثم قال إن تركهم حياطة للإسلام، فعلى هذا إذا لم يحتج إلى حياطة الإسلام لقوته لزم أن يقاتلوا ويقتلوا وإن لم يجلحوا، وهذا مناقض لمذهبه، والقول الأول أحسن على مقتضى الآية لأنه تعالى قرن جهاد المنافقين بجهاد الكفار، وظاهره التسوية في ذلك. فما يجاهد به الكفار يجاهد به المنافقون وذلك السيف إلا أن يتقي في قتالهم شيء على الإسلام فيبقي عليهم ومن فرق بين جهاد وجهاد فقد خرج على الظاهر. وقد مضى ذكر أحكام المنافقين في سورة البقرة فقف عليه ٨. وفي قوله تعالى :﴿ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ﴾ [ براءة : ٦٥ ] دليل على أن الجاد واللاعب في النطق بكلمة الكفر سواء ودليل على أن الاستهزاء بآيات الله تعالى كفر. قال أبو الحسن : وفي قوله تعالى :﴿ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ﴾ [ براءة : ٧٤ ] دليل على أن توبة الزنديق مقبولة إذا لم يظهر الكفر لأن النبي صلى الله عليه وسلم استبقاهم وقنع بإنكارهم لما قالوه. والذي قالوه هو قول الجلاس بن سويد بن الصامت ٩ : إن كان ما جاء به محمد فنحن من الحمير، وقول عبد الله بن أبي :﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ﴾ ١٠ [ المنافقون : ٨ ].
١ في (ج)، (ح)، (و): "المنافقون"..
٢ "أن يريد" ساقط في (ب)، (هـ)، (ز)..
٣ في (ح) زيادة: "سيف"..
٤ "ونحوه" ساقط في (أ)..
٥ في (ح): "وإلى"..
٦ من قوله: "الحسن بن أبي الحسن... إلى: ومال إلى هذا" ساقط في (و)..
٧ قاله ابن عطية ولفظه: قتلهم لا يكون إلا مع التجليح ومن جلح خرج عن رتبة النفاق. راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٣٢..
٨ راجع أطروحة ابن يوسف: أحكام القرآن لأبي محمد عبد المنعم بن الفرس. تحقيق تفسير سورتي الفاتحة والبقرة ٢/ ٦ – ٩..
٩ الجلاس بن سويد بن الصامت الأنصاري، كان من المنافقين ثم تاب وحسنت توبته. انظر الإصابة ٢/ ٩٢..
١٠ القصة ذكرها السيوطي في لباب النقول ص ٤٥٤، وذكرها أبو الحسن الكيا الهراسي في أحكام القرآن ٤/ ٢١٤..
قوله تعالى :﴿ ومنهم من عاهد الله ﴾ إلى قوله :﴿ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ( ٧٧ ) ﴾ :
هذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري١ قيل وفي معتب بن قشير٢ وذلك أن ثعلبة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يدعو له أن يجعل له مالا. قال : فلو كان لي مال لقضيت حقوقه وفعلت به الخير. ولم يزل به حتى دعا له. فاتخذ غنما. فنمت له حتى ضاقت بها المدينة، فتنحى عن المدينة، وكثرت غنمه فكان لا يصلي الجمعة، ثم كثرت حتى تنحى بعيدا، فترك الصلاة ونجم نفاقه ونزل خلال ذلك فرض الزكاة. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتصدقين فلما بلغوا ثعلبة قال : هذه أخت الجزية ثم قال دعوني حتى أرى رأي. فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال : " ويحه " ثلاثا. ونزلت الآية. وبلغ ذلك ثعلبة، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغب أن يؤدي زكاته فأعرض عنه وقال : إن الله تعالى أمرني أن لا آخذ زكاتك. فبقي كذلك حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ورد ثعلبة على أبي بكر ثم على عمر ثم على عثمان يرغب إلى كل واحد منهم أن يأخذ منه الزكاة. فكلهم يرد ذلك اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبقي كذلك ثعلبة حتى هلك في مدة عثمان ٣ فقوله تعالى :﴿ فأعقبهم نفاقا ﴾ نص في المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه، والتقدير فأعقبهم الله نفاقا. وقيل التقدير فأعقبهم البخل نفاقا.
وقوله تعالى :﴿ إلى يوم يلقونه ﴾ : يقتضي موتهم على النفاق. ولذلك لم يقبل رجوع ثعلبة لشهادة القرآن عليه بالنفاق إلى يوم ٤ الملاقاة. وقوله تعالى :﴿ نفاقا ﴾ : يحتمل أن يريد نفاق معصية ويحتمل أن يريد نفاق كفر.
فإذا قيل إن المراد به نفاق كفر فإنما أقر ثعلبة على ذلك كما أقر سائر المنافقين. وإذا قلنا إنه نفاق معصية ٥ فإنما أقر ثعلبة على ذلك ولم تقبل منه الزكاة عقابا له وهذا خاص بثعلبة. ومن فعل ذلك الوقت مثل فعله أن لا يجوز أن يعاقب اليوم أحد في مثل ذلك بأن لا تؤخذ منه الزكاة فتؤخذ منه كرها وإن كان قد جاء عن عمر بن عبد العزيز أن عاملا كتب إليه أن فلانا يمنع الزكاة. فكتب إليه عمر أن دعه واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين لما يلحقه من المقت في ذلك ٦. وظاهر هذا من عمر أن العقاب عام فيمن فعل فعل ثعلبة، والصحيح ما قدمته. وإنما كان ذلك أيضا في ثعلبة لقوله تعالى :﴿ إلى يوم يلقونه ﴾ فأخبر أن النفاق لا يزول عنه إلى يوم يلقاه ونفاقه إنما كان يمنع الزكاة فلم تقبل منه الزكاة فتبقى عليه تلك القسمة إلى أن يلقى الله عز وجل. وغير ثعلبة لم يقل فيه ذلك فلا يكون حكمه حكم ذلك الحكم. وذكر بعضهم عن ابن عباس في نزول الآية غير ما تقدم. قال٧ وذلك أن حاطب بن أبي بلتعة٨ لما أبطأ عليه ماله بالشام حلف في مجلس من مجالس الأنصار إذا سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه. فلما سلم بخل بذلك ٩.
وقوله تعالى :﴿ بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ﴾ يقوم من هذا أن إخلاف ١٠ الوعد والكذب نفاق ١١. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يعضد ذلك. قال : " ثلاثة من كن فيه كان منافقا خالصا : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان " ١٢ وجاء في بعض الأحاديث زيادة. وروي أن عمرو بن العاص لما احتضر قال : زوجوا فلانا فإني قد وعدته، لا ألقى الله بثلث النفاق ١٣ وإلى هذا ذهب جماعة كثيرة من أهل العلم أن هذه الخصال نفاق ومن اتصف بها فهو منافق إلى يوم القيامة ١٤ وذهب قوم إلى أنها ليست بنفاق. فقال عطاء بن أبي رباح : قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء. وهذه الأحاديث التي هي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم للذين شهد الله تعالى عليهم، وهذه الخصال في سائر الأمة معاص باتفاق ١٥ وذكر الطبري أن الحسن رجع إلى هذا. والقول الأول أظهر لأن الله تعالى قد قال :﴿ نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه ﴾ أي أعقبوا بالنفاق منعهم هذه الأشياء، فمن كانت فيه هذه الأشياء فهو منافق. وهذه الآية على ما ذكر ابن لبابة قد احتج بها بعضهم لمذهب مالك في أن الصدقة لا يلزم الحالف بها في يمين، فلا يحكم بها كانت لمعين أو غير معين اختلافا لمن رأى الحكم بذلك جملة، يريد لأن الذي عهد الله تعالى على الصدقة لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في ماله بشيء حين حنث. فهذا وجه الحجة وهو احتجاج ضعيف لما قدمناه من معنى الآية. وقال أبو الحسن : استدل به قوم على أن من حلف أن فعل كذا فله عليه كذا أنه يلزمه. وظاهره لا يدل عليه لأنه ليس بنذر ١٦.
١ ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية الأنصاري. شهد بدرا، مات في خلافة عمر، وقيل في خلافة عثمان. انظر الإصابة ٢/ ١٩..
٢ نسب ابن عطية هذا القول إلى الحسن. راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٣٦..
٣ ذكر ذلك الواحدي عن أبي أمامة في أسباب النزول ص ١٨٩ – ١٩١..
٤ "بالنفاق إلى يوم" ساقط في (أ)، (ب)، (هـ)، (و)، (ز)..
٥ من قوله: "فإنما أقر... إلى: معصية" ساقط في (أ)، (ز)..
٦ ذكر القصة ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/٢٣٧..
٧ "قال" ساقطة في (أ)..
٨ حاطب بن أبي بلتعة اللخمي. صحابي شهد الوقائع كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. مات بالمدينة سنة ٣٠ هـ/ ٦٥٠م. انظر الأعلام ٢/ ١٦٣، الإصابة ١/ ٣٠٠..
٩ أورده الكيا الهراسي في أحكام القرآن ٤/ ٢٥٠، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٢٠٩، والأجهوري في إرشاد الرحمن، تحقيق محمد عبد الله محمد ثاني ٢/ ١٧٤..
١٠ في غير (هـ)، (و)، (ز): "خلاف"..
١١ "نفاق" ساقطة في (أ)، (ز)..
١٢ رواه مسلم عن عبد الله بن عمر بلفظ: أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر. وفي حديث سفيان: وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق. وفي حديث أبي هريرة: آية المنافق ثلاثة.... راجع مختلف هذه الأحاديث في صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان خصال المنافق ١/ ٥٦..
١٣ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ٢٣٨..
١٤ نسبه ابن عطية إلى البخاري وإلى الحسن بن أبي الحسن. راجع م. س. ، ن. ص..
١٥ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ٢٣٨..
١٦ راجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٢١٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:قوله تعالى :﴿ ومنهم من عاهد الله ﴾ إلى قوله :﴿ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ( ٧٧ ) ﴾ :
هذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري١ قيل وفي معتب بن قشير٢ وذلك أن ثعلبة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يدعو له أن يجعل له مالا. قال : فلو كان لي مال لقضيت حقوقه وفعلت به الخير. ولم يزل به حتى دعا له. فاتخذ غنما. فنمت له حتى ضاقت بها المدينة، فتنحى عن المدينة، وكثرت غنمه فكان لا يصلي الجمعة، ثم كثرت حتى تنحى بعيدا، فترك الصلاة ونجم نفاقه ونزل خلال ذلك فرض الزكاة. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتصدقين فلما بلغوا ثعلبة قال : هذه أخت الجزية ثم قال دعوني حتى أرى رأي. فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال :" ويحه " ثلاثا. ونزلت الآية. وبلغ ذلك ثعلبة، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغب أن يؤدي زكاته فأعرض عنه وقال : إن الله تعالى أمرني أن لا آخذ زكاتك. فبقي كذلك حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ورد ثعلبة على أبي بكر ثم على عمر ثم على عثمان يرغب إلى كل واحد منهم أن يأخذ منه الزكاة. فكلهم يرد ذلك اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبقي كذلك ثعلبة حتى هلك في مدة عثمان ٣ فقوله تعالى :﴿ فأعقبهم نفاقا ﴾ نص في المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه، والتقدير فأعقبهم الله نفاقا. وقيل التقدير فأعقبهم البخل نفاقا.
وقوله تعالى :﴿ إلى يوم يلقونه ﴾ : يقتضي موتهم على النفاق. ولذلك لم يقبل رجوع ثعلبة لشهادة القرآن عليه بالنفاق إلى يوم ٤ الملاقاة. وقوله تعالى :﴿ نفاقا ﴾ : يحتمل أن يريد نفاق معصية ويحتمل أن يريد نفاق كفر.
فإذا قيل إن المراد به نفاق كفر فإنما أقر ثعلبة على ذلك كما أقر سائر المنافقين. وإذا قلنا إنه نفاق معصية ٥ فإنما أقر ثعلبة على ذلك ولم تقبل منه الزكاة عقابا له وهذا خاص بثعلبة. ومن فعل ذلك الوقت مثل فعله أن لا يجوز أن يعاقب اليوم أحد في مثل ذلك بأن لا تؤخذ منه الزكاة فتؤخذ منه كرها وإن كان قد جاء عن عمر بن عبد العزيز أن عاملا كتب إليه أن فلانا يمنع الزكاة. فكتب إليه عمر أن دعه واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين لما يلحقه من المقت في ذلك ٦. وظاهر هذا من عمر أن العقاب عام فيمن فعل فعل ثعلبة، والصحيح ما قدمته. وإنما كان ذلك أيضا في ثعلبة لقوله تعالى :﴿ إلى يوم يلقونه ﴾ فأخبر أن النفاق لا يزول عنه إلى يوم يلقاه ونفاقه إنما كان يمنع الزكاة فلم تقبل منه الزكاة فتبقى عليه تلك القسمة إلى أن يلقى الله عز وجل. وغير ثعلبة لم يقل فيه ذلك فلا يكون حكمه حكم ذلك الحكم. وذكر بعضهم عن ابن عباس في نزول الآية غير ما تقدم. قال٧ وذلك أن حاطب بن أبي بلتعة٨ لما أبطأ عليه ماله بالشام حلف في مجلس من مجالس الأنصار إذا سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه. فلما سلم بخل بذلك ٩.
وقوله تعالى :﴿ بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ﴾ يقوم من هذا أن إخلاف ١٠ الوعد والكذب نفاق ١١. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يعضد ذلك. قال :" ثلاثة من كن فيه كان منافقا خالصا : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان " ١٢ وجاء في بعض الأحاديث زيادة. وروي أن عمرو بن العاص لما احتضر قال : زوجوا فلانا فإني قد وعدته، لا ألقى الله بثلث النفاق ١٣ وإلى هذا ذهب جماعة كثيرة من أهل العلم أن هذه الخصال نفاق ومن اتصف بها فهو منافق إلى يوم القيامة ١٤ وذهب قوم إلى أنها ليست بنفاق. فقال عطاء بن أبي رباح : قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء. وهذه الأحاديث التي هي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم للذين شهد الله تعالى عليهم، وهذه الخصال في سائر الأمة معاص باتفاق ١٥ وذكر الطبري أن الحسن رجع إلى هذا. والقول الأول أظهر لأن الله تعالى قد قال :﴿ نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه ﴾ أي أعقبوا بالنفاق منعهم هذه الأشياء، فمن كانت فيه هذه الأشياء فهو منافق. وهذه الآية على ما ذكر ابن لبابة قد احتج بها بعضهم لمذهب مالك في أن الصدقة لا يلزم الحالف بها في يمين، فلا يحكم بها كانت لمعين أو غير معين اختلافا لمن رأى الحكم بذلك جملة، يريد لأن الذي عهد الله تعالى على الصدقة لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في ماله بشيء حين حنث. فهذا وجه الحجة وهو احتجاج ضعيف لما قدمناه من معنى الآية. وقال أبو الحسن : استدل به قوم على أن من حلف أن فعل كذا فله عليه كذا أنه يلزمه. وظاهره لا يدل عليه لأنه ليس بنذر ١٦.
١ ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية الأنصاري. شهد بدرا، مات في خلافة عمر، وقيل في خلافة عثمان. انظر الإصابة ٢/ ١٩..
٢ نسب ابن عطية هذا القول إلى الحسن. راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٣٦..
٣ ذكر ذلك الواحدي عن أبي أمامة في أسباب النزول ص ١٨٩ – ١٩١..
٤ "بالنفاق إلى يوم" ساقط في (أ)، (ب)، (هـ)، (و)، (ز)..
٥ من قوله: "فإنما أقر... إلى: معصية" ساقط في (أ)، (ز)..
٦ ذكر القصة ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/٢٣٧..
٧ "قال" ساقطة في (أ)..
٨ حاطب بن أبي بلتعة اللخمي. صحابي شهد الوقائع كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. مات بالمدينة سنة ٣٠ هـ/ ٦٥٠م. انظر الأعلام ٢/ ١٦٣، الإصابة ١/ ٣٠٠..
٩ أورده الكيا الهراسي في أحكام القرآن ٤/ ٢٥٠، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٢٠٩، والأجهوري في إرشاد الرحمن، تحقيق محمد عبد الله محمد ثاني ٢/ ١٧٤..
١٠ في غير (هـ)، (و)، (ز): "خلاف"..
١١ "نفاق" ساقطة في (أ)، (ز)..
١٢ رواه مسلم عن عبد الله بن عمر بلفظ: أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر. وفي حديث سفيان: وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق. وفي حديث أبي هريرة: آية المنافق ثلاثة.... راجع مختلف هذه الأحاديث في صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان خصال المنافق ١/ ٥٦..
١٣ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ٢٣٨..
١٤ نسبه ابن عطية إلى البخاري وإلى الحسن بن أبي الحسن. راجع م. س. ، ن. ص..
١٥ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ٢٣٨..
١٦ راجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٢١٥..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:قوله تعالى :﴿ ومنهم من عاهد الله ﴾ إلى قوله :﴿ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ( ٧٧ ) ﴾ :
هذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري١ قيل وفي معتب بن قشير٢ وذلك أن ثعلبة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يدعو له أن يجعل له مالا. قال : فلو كان لي مال لقضيت حقوقه وفعلت به الخير. ولم يزل به حتى دعا له. فاتخذ غنما. فنمت له حتى ضاقت بها المدينة، فتنحى عن المدينة، وكثرت غنمه فكان لا يصلي الجمعة، ثم كثرت حتى تنحى بعيدا، فترك الصلاة ونجم نفاقه ونزل خلال ذلك فرض الزكاة. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتصدقين فلما بلغوا ثعلبة قال : هذه أخت الجزية ثم قال دعوني حتى أرى رأي. فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال :" ويحه " ثلاثا. ونزلت الآية. وبلغ ذلك ثعلبة، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغب أن يؤدي زكاته فأعرض عنه وقال : إن الله تعالى أمرني أن لا آخذ زكاتك. فبقي كذلك حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ورد ثعلبة على أبي بكر ثم على عمر ثم على عثمان يرغب إلى كل واحد منهم أن يأخذ منه الزكاة. فكلهم يرد ذلك اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبقي كذلك ثعلبة حتى هلك في مدة عثمان ٣ فقوله تعالى :﴿ فأعقبهم نفاقا ﴾ نص في المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه، والتقدير فأعقبهم الله نفاقا. وقيل التقدير فأعقبهم البخل نفاقا.
وقوله تعالى :﴿ إلى يوم يلقونه ﴾ : يقتضي موتهم على النفاق. ولذلك لم يقبل رجوع ثعلبة لشهادة القرآن عليه بالنفاق إلى يوم ٤ الملاقاة. وقوله تعالى :﴿ نفاقا ﴾ : يحتمل أن يريد نفاق معصية ويحتمل أن يريد نفاق كفر.
فإذا قيل إن المراد به نفاق كفر فإنما أقر ثعلبة على ذلك كما أقر سائر المنافقين. وإذا قلنا إنه نفاق معصية ٥ فإنما أقر ثعلبة على ذلك ولم تقبل منه الزكاة عقابا له وهذا خاص بثعلبة. ومن فعل ذلك الوقت مثل فعله أن لا يجوز أن يعاقب اليوم أحد في مثل ذلك بأن لا تؤخذ منه الزكاة فتؤخذ منه كرها وإن كان قد جاء عن عمر بن عبد العزيز أن عاملا كتب إليه أن فلانا يمنع الزكاة. فكتب إليه عمر أن دعه واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين لما يلحقه من المقت في ذلك ٦. وظاهر هذا من عمر أن العقاب عام فيمن فعل فعل ثعلبة، والصحيح ما قدمته. وإنما كان ذلك أيضا في ثعلبة لقوله تعالى :﴿ إلى يوم يلقونه ﴾ فأخبر أن النفاق لا يزول عنه إلى يوم يلقاه ونفاقه إنما كان يمنع الزكاة فلم تقبل منه الزكاة فتبقى عليه تلك القسمة إلى أن يلقى الله عز وجل. وغير ثعلبة لم يقل فيه ذلك فلا يكون حكمه حكم ذلك الحكم. وذكر بعضهم عن ابن عباس في نزول الآية غير ما تقدم. قال٧ وذلك أن حاطب بن أبي بلتعة٨ لما أبطأ عليه ماله بالشام حلف في مجلس من مجالس الأنصار إذا سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه. فلما سلم بخل بذلك ٩.
وقوله تعالى :﴿ بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ﴾ يقوم من هذا أن إخلاف ١٠ الوعد والكذب نفاق ١١. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يعضد ذلك. قال :" ثلاثة من كن فيه كان منافقا خالصا : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان " ١٢ وجاء في بعض الأحاديث زيادة. وروي أن عمرو بن العاص لما احتضر قال : زوجوا فلانا فإني قد وعدته، لا ألقى الله بثلث النفاق ١٣ وإلى هذا ذهب جماعة كثيرة من أهل العلم أن هذه الخصال نفاق ومن اتصف بها فهو منافق إلى يوم القيامة ١٤ وذهب قوم إلى أنها ليست بنفاق. فقال عطاء بن أبي رباح : قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء. وهذه الأحاديث التي هي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم للذين شهد الله تعالى عليهم، وهذه الخصال في سائر الأمة معاص باتفاق ١٥ وذكر الطبري أن الحسن رجع إلى هذا. والقول الأول أظهر لأن الله تعالى قد قال :﴿ نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه ﴾ أي أعقبوا بالنفاق منعهم هذه الأشياء، فمن كانت فيه هذه الأشياء فهو منافق. وهذه الآية على ما ذكر ابن لبابة قد احتج بها بعضهم لمذهب مالك في أن الصدقة لا يلزم الحالف بها في يمين، فلا يحكم بها كانت لمعين أو غير معين اختلافا لمن رأى الحكم بذلك جملة، يريد لأن الذي عهد الله تعالى على الصدقة لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في ماله بشيء حين حنث. فهذا وجه الحجة وهو احتجاج ضعيف لما قدمناه من معنى الآية. وقال أبو الحسن : استدل به قوم على أن من حلف أن فعل كذا فله عليه كذا أنه يلزمه. وظاهره لا يدل عليه لأنه ليس بنذر ١٦.
١ ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية الأنصاري. شهد بدرا، مات في خلافة عمر، وقيل في خلافة عثمان. انظر الإصابة ٢/ ١٩..
٢ نسب ابن عطية هذا القول إلى الحسن. راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٣٦..
٣ ذكر ذلك الواحدي عن أبي أمامة في أسباب النزول ص ١٨٩ – ١٩١..
٤ "بالنفاق إلى يوم" ساقط في (أ)، (ب)، (هـ)، (و)، (ز)..
٥ من قوله: "فإنما أقر... إلى: معصية" ساقط في (أ)، (ز)..
٦ ذكر القصة ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/٢٣٧..
٧ "قال" ساقطة في (أ)..
٨ حاطب بن أبي بلتعة اللخمي. صحابي شهد الوقائع كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. مات بالمدينة سنة ٣٠ هـ/ ٦٥٠م. انظر الأعلام ٢/ ١٦٣، الإصابة ١/ ٣٠٠..
٩ أورده الكيا الهراسي في أحكام القرآن ٤/ ٢٥٠، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٢٠٩، والأجهوري في إرشاد الرحمن، تحقيق محمد عبد الله محمد ثاني ٢/ ١٧٤..
١٠ في غير (هـ)، (و)، (ز): "خلاف"..
١١ "نفاق" ساقطة في (أ)، (ز)..
١٢ رواه مسلم عن عبد الله بن عمر بلفظ: أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر. وفي حديث سفيان: وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق. وفي حديث أبي هريرة: آية المنافق ثلاثة.... راجع مختلف هذه الأحاديث في صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان خصال المنافق ١/ ٥٦..
١٣ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ٢٣٨..
١٤ نسبه ابن عطية إلى البخاري وإلى الحسن بن أبي الحسن. راجع م. س. ، ن. ص..
١٥ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ٢٣٨..
١٦ راجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٢١٥..

قوله تعالى :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ﴾ :
قوله :﴿ استغفر لهم ﴾ يحتمل أن يكون بمعنى الشرط إن تستغفر لهم أو لا تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم، كقول الشاعر ١ :
أسيئي بنا أم أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
فلا تكون ( أو ) على هذا للتخيير ويكون معنى الكلام المنع من الاستغفار وإلى هذا ذهب الطبري ويحتمل أن يكون ذلك على التخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ويعضد هذا قوله صلى الله عليه وسلم لعمر وقد سمعه عمر يستغفر لهم بعد نزول الآية فقال : أتستغفر للمنافقين وقد أعلمك الله تعالى أنه لا يغفر لهم فقال له : يا عمر إن الله خيرني فاخترت ولو علمت إني إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت. فإذا كان على جهة الشرط فلا يكون منسوخا وإذا كان على التخيير ففيه إباحة الاستغفار للمنافقين. وهذا منسوخ لأنه لا يجوز أن يستغفر لهم. واختلفوا في الناسخ ما هو ؟ فقيل قوله تعالى :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ﴾ ٢ [ براءة : ٨٤ ].
وقوله تعالى :﴿ إن تستغفر لهم سبعين مرة ﴾ يحتمل أن يكون جعل السبعين غاية الكثرة فضرب به المثل. والمعنى إن استغفرت لهم أبدا فلن يغفر الله لهم. فيكون في أول الآية إباحة الاستغفار إن لم يكن جاء على الشرط ويكون في آخرها قد أعلمه أن لا يغفر لهم وإن استغفر. ويحتمل أن يكون جعل السبعين حدا للمرات التي إذا استغفرها لهم لم تغفر ويبقى ما زاد على السبعين محتملا أن يغفر به ومحتملا أن لا يغفر به إلا أن دلالته إنما هي دلالة خطاب. وقد اختلف العلماء في القول به، ولمالك ما يدل على القولين. وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر لهم لزدت " دليلا على أنه لم يقل بدليل الخطاب لأنه لو قال بدليل الخطاب لكان عنده أن الزيادة على السبعين يغفرها. فإذا لم يقل بدليل خطاب الآية كان – أي الزيادة في الاستغفار على السبعين – يغفر له. وهذا أيضا إذا قيل به منسوخ. وروى جرير عن الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه :﴿ إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ﴾ قال : " لأزيدن على السبعين ". وهذا خلاف ما تقدم عنه وهو من النبي صلى الله عليه وسلم قول بدليل الخطاب فنسخه الله تعالى بقوله :﴿ سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ﴾ [ المنافقون : ٦ ]. وكثير من العلماء لا يرى في هذه الآية نسخا فيحملون أولها على الشرط ولا يقولون في آخرها ٣ بدليل الخطاب ٤.
١ الشاعر هو كثير كما في المحرر الوجيز ٨/ ٢٤١. والبيت من البحر الطويل..
٢ وقيل نسخه قوله تعالى: ﴿سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم﴾ راجع الإيضاح ص ٢٧٧، ٢٧٨..
٣ "في آخرها" ساقط في (ب)، (هـ)..
٤ ذكره مكي في الإيضاح ص ٢٧٨..
وقوله تعالى :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ﴾ :
هذه الآية نزلت في شأن عبد الله بن أبي بن سلول حيث توفي. فروى أنس ١ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تقدم للصلاة جاء جبريل عليه السلام فجذب بثوبه فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه ٢ ففي هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه. وقيل بل صلى عليه وأن الآية إنما نزلت بعد ذلك. وروي أن ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ٣ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أبيه فرغب في ٤ أن يصلي عليه وفي أن يكسوه قميصه الذي يلي بدنه، وقيل إن ابن أبي قبل موته قد كان رغب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له ويصلي عليه فأجابه. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه قام إليه عمر وقال يا رسول الله : أتصلي عليه وقد نهى الله تعالى عن الاستغفار لهم/ وجعل يعدد أفعال عبد الله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أخر عني يا عمر فإني خيرت ولو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت " وفي حديث آخر : " أن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا وأني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي " كذا في بعض الروايات، يريد من منافقي العرب، وفي بعض الروايات من قومه. فسكت عمر وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله ثم نزلت هذه الآية بعد ذلك ٥ وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم إما لموضع إظهار الإيمان وإما لأنه لم يتحقق كفره ولو تحقق كفره لما صلى عليه. وجاء أنه تاب بهذه الفعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة في إسلام ٦ عبد الله ألف رجل من الخزرج. وجاءت أحاديث شتى تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على عبد الله منها حديث جابر قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعدما دفن فأمر به فأخرج فوضعه بين ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه ٧.
واختلف في هذه الآية هل هي ناسخة أم لا ؟ فقيل هي ناسخة لقوله تعالى :﴿ وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ﴾ [ براءة : ١٠٣ ] وهذا قول فاسد لأن قوله ﴿ وصل عليهم ﴾ في غير المنافقين، وهم الذين تابوا. وقوله :﴿ ولا تصل ﴾ في المنافقين. وقيل هي ناسخة لقوله تعالى :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ﴾ وقد تقدم الكلام على هذا. وقيل هي ناسخة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، يريدون من الصلاة على عبد الله بن أبي. وهذا على القول بأنه صلى عليه. فهذه ثلاثة أقوال لمن زعم أنه ناسخ. وقيل ليس بناسخ وإنما فيه إعلام بحكم ما، وعلى هذا يأتي قول من لم ير أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عبد الله بن أبي ٨. وقد اختلف في الصلاة على الجنائز هل هي سنة أو فرض كفاية على قولين. والأظهر أنه كفاية. قال بعضهم والدليل على ذلك قوله تعالى :﴿ ولا تصل على أحد منهم ﴾ يعني المنافقين. ودليل هذا وصل على غير المنافقين من المؤمنين.
١ أنس بن مالك بن النضر الأنصاري، خادم النبي صلى الله عليه وسلم وأحد المكثرين من الرواية عنه. توفي سنة ٩٢هـ/ ٧١١م وقيل سنة ٩٣هـ/ ٧١٢م. انظر الإصابة ١/ ٨٤..
٢ في رواية ابن عطية: فجذبه بثوبه وتلا عليه: ﴿ولا تصل على أحد منهم مات أبدا...﴾ راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٤٦..
٣ عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول: هو عبد الله بن عبد الله بن أبي بن مالك بن الحرث بن مالك بن سالم الأنصاري الخزرجي. توفي سنة ١٢هـ/ ٦٣٢م. انظر الإصابة لابن حجر ٢/ ٣٢٧..
٤ "في" ساقط في (ح)..
٥ راجع لباب النقول ص ٤٦٥، أسباب النزول للواحدي ص ١٩٢، ١٩٣، جامع البيان ١٤/ ٤١٠، سيرة ابن هشام ٤/ ١٤٥، ١٤٦..
٦ "إسلام" كلمة ساقطة في غير (ج)، (ح)..
٧ ذكر ذلك ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ٢٤٧..
٨ راجع الإيضاح ص ٢٧٨، ٢٧٩..
وقوله تعالى بعد هذا :﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾ :
يحتج به في إسقاط الضمان على قاتل البهيمة الطائلة.
قوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ﴾ :
اختلف في هذه الآية هل هي في الصدقة المفروضة أم في صدقة التطوع ؟ فذهب جماعة إلى أنها في صدقة التطوع ورووا أن أبا لبابة والجماعة التائبة معه – وهي المقصودة بقوله تعالى :﴿ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ﴾ [ براءة : ١٠٢ ] – جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تيب عليها ١ فقالت يا رسول الله : إنا نريد أن نتصدق بأموالنا زيادة في توبتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لا أعرض لأموالكم إلا بأمر الله تعالى ". فتركهم حتى نزلت الآية. فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾. إلى هذا ذهب ابن عباس وغيره ٢. وذهب جماعة إلى أنها في الصدقة المفروضة ٣. وإذا قلنا بهذا فقوله :﴿ من أموالهم ﴾ لفظ عام في الأموال المأخوذ منها الصدقة وفيمن تؤخذ منه الصدقة ٤.
وقوله تعالى :﴿ صدقة ﴾ لفظ مجمل في القدر المأخوذ ما هو. فينبغي أن يبحث عن عموم الآية ما خص منه وما لم يخص. وعن مجملها بما فسر. أما الأموال فلا خلاف أنه يدخل تحت عمومها الحرث والماشية والعين. واختلف في سوى هذه من العروض على ثلاثة أقوال : أبو حنيفة يوجب فيها الصدقة على الإطلاق ٥ وداود يسقطها ٦ على الإطلاق، ومالك يوجبها على المدير على شروط معلومة من مذهبه. وحجة أبي حنيفة قوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾. وحجة داود قوله عليه الصلاة والسلام : " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " ٧ ففهم منه أن ذلك خارج عن تلك الأموال لا لعلة وحمل عليه سائر العروض وأما مالك رحمه الله تعالى فحمل الآية على عمومها من عروض التجارة والحرث فلذلك فرق بين المدير وغيره. وأما من تؤخذ منه الصدقة فالآية فيهم محمولة على عمومها، إلا أنه اختلف في الصبيان والمجانين. فمالك يوجب الزكاة في أموالهم على الإطلاق. وأبو حنيفة يسقطها عليهم إلا في الحرث. وابن شبرمة يسقطها إلا في الماشية، وقوم يسقطونها جملة. فحجة مالك عموم الآية وقوله عليه الصلاة والسلام : " أمرت أن آخذها من أغنيائهم " وغير ذلك من العموم. وبمثل هذا يحتج ابن شبرمة، إلا أن أبا حنيفة تناقض بإيجابه ٨ الزكاة في حرثها، وابن شبرمة بإيجابه الزكاة ٩ في ماشيتها. وحجة من أسقطها جملة حجة أبي حنيفة إلا أنه لا تناقض في قوله، وقول مالك ومن تابعه أظهر. واختلف أيضا ١٠ في العبيد ١١. فعندنا أنه لا تجب زكاة في أموالهم ١٢، والشافعي في أحد قوليه وأصحاب الرأي وسفيان ١٣ يرون الزكاة في أموالهم وأن السيد يخرجها. وأبو ثور يرى مثل ذلك إن كان المملوك مسلما، وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه يريان في ماشيتهم خاصة الصدقة يخرجها السيد.
وحجة مالك ومن تابعه قوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ دل على أنه لم يرد العبد إذ لا يصح أن يقال في مال العبد أنه ماله على الإطلاق إذ لا يجوز له ما يجوز لرب المال في ماله من الهبة والصدقة وما أشبه ذلك بإجماع، وإنما هو ماله على صفة. فإطلاقه ذلك اللفظ دل على أن العبيد لم يدخلوا في عموم المأخوذ منهم. ومن رأى الزكاة في أموالهم رأى عموم الآية منسحبا عليهم، وما سوى هذين ١٤ القولين ١٥ ضعيف. وأما الصدقة التي جاءت مجملة في القرآن فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما المراد بذلك الإجمال. أما في العين فجعل النصاب المأخوذ منه ربع العشر في الورق مائتي درهم وفي الذهب عشرين دينارا على ما ذكرنا فيما تقدم من أنه قد روي ذلك عنه. وفي الحرث خمسة أوسق وفي الماشية خمس ذود من الإبل وفيها شاة وأربعين شاة من الغنم يؤخذ منها واحدة. وفي ثلاثين من البقر يؤخذ منها تبيع. وفي أربعين مسنة، على خلاف في هذا كله وهو محتاج إلى تفسير واستقصاء طويل ليس هذا الكتاب بموضع له ١٦.
وقوله تعالى :﴿ تطهرهم وتزكيهم بها ﴾ يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو المخاطب بذلك فيكون الضمير له. ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على الصدقة يكون تقدير قوله :﴿ بها ﴾ أي نفسها. ويحتمل أن يكون الضمير في ﴿ تطهرهم ﴾ عائدا على الصدقة١٧ ويكون ﴿ وتزكيهم ﴾ مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل على أنه لا يجوز أن تؤخذ زكاة من كافر لأن التطهير والتزكية لا تصح في الكفار.
قوله تعالى :﴿ وصل عليهم... ﴾ معناه ادع لهم فإن في دعائك لهم سكونا لأنفسهم. وقيل أراد الصلاة المعلومة صلاة الجنائز ١٨ وقد تقدم قول من زعم أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ﴾ ١٩ [ براءة : ٨٤ ] وبينا فساده. والذين قالوا إن معنى الآية الدعاء، قالوا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : " اللهم صل على آل فلان " بسبب هذه الآية. قال ابن أبي أوفى ٢٠ فأتاه أبي بصدقته فقال : " اللهم صل على آل أبي أوفى " ٢١. واختلف الناس بحسب هذا هل يجب على الإمام إذا أوتي بالصدقة أن يدعو أم لا ؟ فذهب أهل الظاهر إلى وجوب ذلك أخذا بظاهر القرآن والحديث المذكور. ولم يوجبه الجمهور، وقال ابن القصار : قول الجماعة أولى.
وقوله تعالى :﴿ وصل عليهم ﴾ معناه إذا ماتوا. هكذا يقتضي إطلاق الصلاة في الشريعة ٢٢ ولو ثبت أنه أراد الدعاء لكان خصوصا للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :﴿ إن صلواتك سكن لهم ﴾ ولا نعلم هذا في غير النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يحمل الأمر على الندب. وبهذه الآية احتج مانع الزكاة على أبي بكر بقوله تعالى :﴿ إن صلواتك سكن لهم ﴾ فقالوا : لم تكن الزكاة إلا مع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت سكنا، وصلاة غيره ليست كذلك فلا تجب الزكاة علينا ٢٣. واختلف في الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم هل يجوز أن يقال صلى الله على فلان ؟ فلم يجزه قوم وذكر عن ابن عباس، وأجازه الجمهور وحجة إجازتهم الآية والحديث المتقدم. واختلف هل يجب دفع الزكاة في الأموال الظاهرة كالحرث والماشية إلى الإمام أم لا ؟ ففي مذهب مالك ٢٤ أنه يجب، وإن فرقها المالك دون الإمام ضمن ٢٥. وذهب الشافعي في قوله الجديد إلى أن رب المال مخير بين أن يفرقها بنفسه أو يدفعها إلى الإمام فيفرقها. ودليل قول مالك وأصحابه قوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾.
١ "لما تيب عليها" ساقط في (أ)، (هـ)، (ز)..
٢ ونسبه الفخر والجصاص إلى الحسن. راجع التفسير الكبير ١٦/ ١٧٧، وأحكام القرآن للجصاص ٤/ ٣٥٦. وراجع القصة في أسباب النزول للواحدي ص ١٩٤، ١٩٥..
٣ وهو ما ذهب إليه الجصاص بقوله: والصحيح أنها الزكوات المفروضات. راجع أحكام القرآن للجصاص ٤/ ٣٥٦. وذكر القرطبي أن ذلك ينسب إلى ابن عباس، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري. راجع الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٢٤٤..
٤ من قوله: "وإذا قلنا بهذا... إلى: الصدقة" ساقط في (أ)، (ز)..
٥ قال الجصاص: وبذلك كان يقول شيخنا أبو الحسن الكرخي. راجع أحكام القرآن للجصاص ٤/ ٣٥٦..
٦ في (أ)، (ز): "يطلقها"..
٧ الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة، كتاب الزكاة، باب: لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه ٣/ ٦٧..
٨ في غير (أ)، (ح) زيادة: "في"..
٩ "في حرثها وابن شبرمة بإيجابه الزكاة" ساقط في (أ)، (و)، (ز)..
١٠ في (أ) زيادة: "في مال"..
١١ في (أ)، (ز): "العبد"..
١٢ في (أ)، (ز): "ماله"..
١٣ هو سفيان الثوري: سبقت ترجمته ص ٢٤..
١٤ "هذين" كلمة ساقطة في (ب)، (د)..
١٥ "القولين" كلمة ساقطة في (ج)، (ح)، (هـ)..
١٦ راجع ذلك مفصلا في فقه الزكاة للقرضاوي ١/١٢٣، وفي أحكام القرآن للجصاص. باب: مقدار الزكاة ٤/ ٣٥٦ – ٣٦٦..
١٧ من قوله: "ويكون تقدير... إلى: على الصدقة" ساقط في (أ)، (ب)، (هـ)، (و)، (ز)..
١٨ قال الفخر الرازي: قال الواحدي: السكن في اللغة ما سكنت إليه. والمعنى أن صلاتك عليهم توجب سكون نفوسهم إليك، والمفسرين عبارات. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعاؤك رحمة لهم. وقال قتادة: وقار لهم. وقال الكلبي: طمأنينة لهم. راجع التفسير الكبير ١٦/ ١٨٤..
١٩ نسبه ابن عطية إلى مكي والنحاس. راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٦٦، الإيضاح ص ٢٧٩..
٢٠ ابن أبي أوفى: هو عبد الله بن أبي أوفى واسمه علقمة بن خالد بن الحارث بن أبي أسيد بن رفاعة بن ثعلبة، من هوازن، أبو معاوية وقيل أبو إبراهيم. توفي سنة ٨٠هـ/ ٧٠٠م. انظر الإصابة لابن حجر ٢/ ٢٧١..
٢١ رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقته ٣/ ١٢١..
٢٢ قال الشافعي رحمه الله: والسنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول: أجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت. راجع التفسير الكبير ١٦/ ١٨٠. وقال الجصاص: وكذلك ينبغي لعامل الصدقة إذا قبضها أن يدعو لصاحبها اقتداء بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. راجع أحكام القرآن للجصاص ٤/ ٣٦٧..
٢٣ قال الفخر الرازي: واعلم أنه ضعيف لأن سائر الآيات دلت على أن الزكاة إنما وجبت دفعا لحاجة الفقير كما في قوله: ﴿إنما الصدقات للفقراء﴾ وكما في قوله: ﴿وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (١٩)﴾. رجع التفسير الكبير ١٦/ ١٨٠، ١٨١..
٢٤ "مالك" كلمة ساقطة في (أ)، (ز)..
٢٥ "ضمن" كلمة ساقطة في (أ)، (هـ)، (ز)..
قوله تعالى :﴿ لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه. فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ( ١٠٨ ) ﴾ :
اختلف في الضمير في ﴿ فيه رجال ﴾ على من يعود، وفي الرجال. فقيل الضمير عائد على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجال جماعة الأنصار. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : " يا معشر الأنصار إني رأيت الله تعالى أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون ؟ " قالوا يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء ففعلنا نحن كذلك فلما جاء الإسلام لم ندعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلا تدعوه أبدا " ١ يريدون بالتطهير الاستنجاء. وقيل الضمير عائد على مسجد قباء، والمراد بنو عمرو بن عوف ٢. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تلك المقالة لهم، وكنى الله تعالى في هذه الآية على الاستنجاء بالتطهر. ففي الآية دليل صحيح على إجازة الاستنجاء بالماء، وهي مسألة قد اختلف أهل العلم فيها. فلم ير قوم منهم الاستنجاء بالماء ورأوه بالأحجار منهم حذيفة وسعد بن مالك ٣ والزبير وقال : لعن الله غاسل أسته. وقال ابن المسيب : هل يفعل ذلك إلا النساء. وكان الحسن البصري لا يغسل بالماء. وقال عطاء غسل الدبر محدث. ولم يجز ابن حبيب الاستنجاء إلا بالماء فأما بالأحجار مع وجود الماء فلا وهو قول شذ فيه. أجاز الجمهور الاستنجاء بهما جميعا، أجازه بالماء للآية المتقدمة والحديث، وأجازوه بالأحجار للحديث ٤ وهذا القول أحسنهما، والقول الأول مردود بالآية، والثاني مردود بالحديث، إلا أنهم اختلفوا في الأفضل على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الماء. والثاني : أنه الأحجار. والثالث : الجمع بينهما. فالأحجار لإزالة غير النجاسة والماء لإزالة أثرها. والحجة للقول بتفضيل الماء وهو الذي عليه أكثر المذاهب أن الله تعالى قد ذكر استنجاءهم بالماء ثم قال :﴿ والله يحب المطهرين ﴾ أي يجب ذلك ما أوجب الله تعالى فهو الأفضل. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، والجن يستفتونه على الاستنجاء، فقال ثلاثة أحجار، قالوا وكيف بالماء. قال هو أطهر وأطيب ٥.
١ الأثر ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ٢٧٦، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٢٦٠، والسيوطي في لباب النقول ص ٤٧٨..
٢ بنو عمرو بن عوف: هم بطن من الأوس، من الأزد، من القحطانية، منازلهم قباء والصفينة. انظر معجم قبائل العرب ٢/ ٨٣٤..
٣ سعد بن مالك: هو سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة البكري. قال التبريزي هو جد طرفة بن العبد. انظر خزانة الأدب للبغدادي ١/ ٢٣٦..
٤ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل الماء معه في الاستنجاء فكان يستعمل الحجارة تخفيفا والماء تطهيرا. راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٨/٢٦١، ٢٦٢..

٥ قال ابن عطية: وحدثني أبي رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض علماء القيروان كانوا يتخذون في متوضياتهم أحجارا في تراب ينقون بها ثم يستنجون بالماء أخذا بهذا القول. راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٧٦. وكذلك ذكره القرطبي نقلا عن ابن العربي في الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٢٦٢..
قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾ إلى قوله :﴿ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ﴾ :
اختلف في الاستغفار ما المراد به في قوله تعالى :﴿ أن يستغفروا للمشركين ﴾ فقيل الصلاة، وهو قول عطاء. وقيل هو الدعاء بالمغفرة وهو قول الجمهور. والذين ذهبوا إلى هذا اتفقوا أن من ليس من إيمانه من الكفر كمن مات منهم، ومن نصر الله تعالى عليه من إحيائهم بأنه لا يؤمن كأبي لهب داخل تحت هذه الآية فلا يجوز الاستغفار له. واختلف في الحي من الكفار لا يقطع بأنه لا يؤمن هل هو داخل تحت عموم الآية فلا يجوز الاستغفار له أو ليس بداخل تحت العموم فيجوز الاستغفار له على قولين ١. واختلف في سبب الآية. فقيل نزلت في قصة أبي طالب ٢ حين احتضر دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فوعظه وقال : " يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها يوم القيامة "، وبالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ٣. فقالا له : يا أبا طالب : أترغب عن ملة عبد المطلب. فقال أبو طالب والله يا محمد، والله لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك. ثم قال : أنا على ملة عبد المطلب. ومات على ذلك إذ لم يسمع النبي صلى الله عليه وسم ما قال العباس ٤ فنزلت :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ [ القصص : ٥٦ ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ". فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية فترك الاستغفار له ٥. وروي أن المؤمنين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهن ٦ فلذلك دخلوا في التأنيث والنهي. وقيل نزلت الآية بسبب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين : " لأزيدن على السبعين "، وعلى هذين القولين في السبب يترتب القولان في الذي نسخته هذه الآية، وذلك أنه قيل إنها ناسخة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبي طالب. وقيل بل هي ناسخة لقوله عليه الصلاة والسلام : " لأزيدن على السبعين " ٧ ومن يرى الاستغفار لأحياء المشركين الذين لم يؤس منهم يقول بالأول، ومن لا يرى ذلك يقول بالقول الثاني. وقيل نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف عليها حتى استحرت عليه الشمس وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار، فنزلت الآية ولم يؤذن له. وأخبر أصحابه أنه أذن له في زيارة قبرها ومنع أن يستغفر لها، فما رؤي باكيا أكثر من يومئذ. وقيل نزلت الآية بسبب جماعة من المؤمنين قالوا استغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه، فنزلت الآية ٨. وعلى هذين القولين في السبب يترتب القول في الآية أنها ليست بناسخة.
وقوله تعالى :﴿ من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾ :
دليل قوي لمن يجيز الاستغفار لأحياء المشركين الذين لم يؤس من إيمانهم، ومن هذا قول أبي هريرة رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة وأمه، قيل له ولأبيه، قال لأن أبي مات كافرا.
قوله تعالى :﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه ﴾ :
المعنى ليس في استغفار إبراهيم لأبيه حجة أيها المؤمنون لأن استغفاره له إنما كان عن موعدة. واختلف هل كان هذا بعد أو لم يكن. وإنما يكون يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير ذلك كله يوم القيامة وذلك أن إبراهيم يلقاه فيعرفه يتذكر قوله :﴿ سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ﴾ [ مريم : ٤٧ ] فيقول له ألزم حقوي ولن أدعك اليوم لشيء فيلزمه حتى يأتي الصراط فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعانا أمردا فيتبرأ منه حينئذ ٩ وهذا قول ضعيف. وذهب الجمهور إلى خلاف هذا وأنه قد كان هذا كله فيما مضى. واختلفوا في هذه الموعدة ما هي، فقيل هي موعدة من إبراهيم عليه السلام لأبيه بأن يستغفر له وذلك لقوله تعالى :﴿ سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ﴾ [ مريم : ٤٧ ] وقيل هي موعدة من إبراهيم لإبراهيم بأنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه بما تبين له منه. واختلف في تبينه بأنه عدو لله بما كان، فقيل ذلك بموت آزر على الكفر، وقيل ذلك بأنه نهي عنه وهو حي ١٠.
١ قال ابن عطية: والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه. ومن هذا قول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه. قيل له ولأبيه قال: لا إن أبي مات كافرا. راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٨٩..
٢ أبي طالب: هو عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم من قريش عن النبي صلى الله عليه وسلم، من رؤساء بني هاشم نصر النبي صلى الله عليه وسلم ودافع عنه. مات بمكة كافرا في السنة العاشرة من النبوة. انظر الأعلام ٤/ ١٦٦، طبقات ابن سعد ١/ ٧٥..
٣ عبد الله بن أبي أمية: واسمه حذيفة، وقيل سهل بن المغيرة بن عبد الله المخزومي صهر النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج له البخاري. انظر الإصابة لابن حجر ٢/ ٢٦٨..
٤ العباس: هو أبو الفضل العباس بن عبد المطلب بن هاشم من أكابر قريش في الجاهلية والإسلام. توفي سنة ٣٢هـ/ ٦٥٣م. انظر الإصابة لابن حجر ٢/ ٣٤٠..
٥ راجع لباب النقول ص ٤٨١، وأسباب النزول للواحدي ص ١٩٧. قال الفخر: قال الواحدي: وقد استبعده الحسين بن الفضل لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولا، ووفاة أبي طالب كانت بمكة في أول الإسلام. وأقول هذا الاستبعاد عندي مستبعد... راجع ذلك في التفسير الكبير ١٦/ ٢٠٨..
٦ "لموتاهم" كلمة ساقطة في (أ)..
٧ راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٨٩، والتفسير الكبير ١٦/ ٢٠٨..
٨ راجع أسباب النزول للواحدي ص ١٩٨، ١٩٩..
٩ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ٢٩٠..
١٠ قال القرطبي: قال القاضي أبو بكر بن العربي: "تعلق النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبي طالب بقوله تعالى: ﴿سأستغفر لك ربي﴾. فأخبره الله تعالى أن استغفار إبراهيم لأبيه كان وعدا قبل أن يتبين الكفر منه، فلما تبين الكفر منه تبرأ منه فكيف تستغفر أنت لعمك يا محمد وقد شاهدت موته كافرا" راجع الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٢٧٤، ٢٧٥. وراجع نحو هذا القول في أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٢١٩..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٣:قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾ إلى قوله :﴿ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ﴾ :
اختلف في الاستغفار ما المراد به في قوله تعالى :﴿ أن يستغفروا للمشركين ﴾ فقيل الصلاة، وهو قول عطاء. وقيل هو الدعاء بالمغفرة وهو قول الجمهور. والذين ذهبوا إلى هذا اتفقوا أن من ليس من إيمانه من الكفر كمن مات منهم، ومن نصر الله تعالى عليه من إحيائهم بأنه لا يؤمن كأبي لهب داخل تحت هذه الآية فلا يجوز الاستغفار له. واختلف في الحي من الكفار لا يقطع بأنه لا يؤمن هل هو داخل تحت عموم الآية فلا يجوز الاستغفار له أو ليس بداخل تحت العموم فيجوز الاستغفار له على قولين ١. واختلف في سبب الآية. فقيل نزلت في قصة أبي طالب ٢ حين احتضر دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فوعظه وقال :" يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها يوم القيامة "، وبالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ٣. فقالا له : يا أبا طالب : أترغب عن ملة عبد المطلب. فقال أبو طالب والله يا محمد، والله لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك. ثم قال : أنا على ملة عبد المطلب. ومات على ذلك إذ لم يسمع النبي صلى الله عليه وسم ما قال العباس ٤ فنزلت :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ [ القصص : ٥٦ ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ". فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية فترك الاستغفار له ٥. وروي أن المؤمنين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهن ٦ فلذلك دخلوا في التأنيث والنهي. وقيل نزلت الآية بسبب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين :" لأزيدن على السبعين "، وعلى هذين القولين في السبب يترتب القولان في الذي نسخته هذه الآية، وذلك أنه قيل إنها ناسخة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبي طالب. وقيل بل هي ناسخة لقوله عليه الصلاة والسلام :" لأزيدن على السبعين " ٧ ومن يرى الاستغفار لأحياء المشركين الذين لم يؤس منهم يقول بالأول، ومن لا يرى ذلك يقول بالقول الثاني. وقيل نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف عليها حتى استحرت عليه الشمس وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار، فنزلت الآية ولم يؤذن له. وأخبر أصحابه أنه أذن له في زيارة قبرها ومنع أن يستغفر لها، فما رؤي باكيا أكثر من يومئذ. وقيل نزلت الآية بسبب جماعة من المؤمنين قالوا استغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه، فنزلت الآية ٨. وعلى هذين القولين في السبب يترتب القول في الآية أنها ليست بناسخة.
وقوله تعالى :﴿ من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾ :
دليل قوي لمن يجيز الاستغفار لأحياء المشركين الذين لم يؤس من إيمانهم، ومن هذا قول أبي هريرة رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة وأمه، قيل له ولأبيه، قال لأن أبي مات كافرا.
قوله تعالى :﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه ﴾ :
المعنى ليس في استغفار إبراهيم لأبيه حجة أيها المؤمنون لأن استغفاره له إنما كان عن موعدة. واختلف هل كان هذا بعد أو لم يكن. وإنما يكون يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير ذلك كله يوم القيامة وذلك أن إبراهيم يلقاه فيعرفه يتذكر قوله :﴿ سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ﴾ [ مريم : ٤٧ ] فيقول له ألزم حقوي ولن أدعك اليوم لشيء فيلزمه حتى يأتي الصراط فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعانا أمردا فيتبرأ منه حينئذ ٩ وهذا قول ضعيف. وذهب الجمهور إلى خلاف هذا وأنه قد كان هذا كله فيما مضى. واختلفوا في هذه الموعدة ما هي، فقيل هي موعدة من إبراهيم عليه السلام لأبيه بأن يستغفر له وذلك لقوله تعالى :﴿ سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ﴾ [ مريم : ٤٧ ] وقيل هي موعدة من إبراهيم لإبراهيم بأنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه بما تبين له منه. واختلف في تبينه بأنه عدو لله بما كان، فقيل ذلك بموت آزر على الكفر، وقيل ذلك بأنه نهي عنه وهو حي ١٠.
١ قال ابن عطية: والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه. ومن هذا قول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه. قيل له ولأبيه قال: لا إن أبي مات كافرا. راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٨٩..
٢ أبي طالب: هو عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم من قريش عن النبي صلى الله عليه وسلم، من رؤساء بني هاشم نصر النبي صلى الله عليه وسلم ودافع عنه. مات بمكة كافرا في السنة العاشرة من النبوة. انظر الأعلام ٤/ ١٦٦، طبقات ابن سعد ١/ ٧٥..
٣ عبد الله بن أبي أمية: واسمه حذيفة، وقيل سهل بن المغيرة بن عبد الله المخزومي صهر النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج له البخاري. انظر الإصابة لابن حجر ٢/ ٢٦٨..
٤ العباس: هو أبو الفضل العباس بن عبد المطلب بن هاشم من أكابر قريش في الجاهلية والإسلام. توفي سنة ٣٢هـ/ ٦٥٣م. انظر الإصابة لابن حجر ٢/ ٣٤٠..
٥ راجع لباب النقول ص ٤٨١، وأسباب النزول للواحدي ص ١٩٧. قال الفخر: قال الواحدي: وقد استبعده الحسين بن الفضل لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولا، ووفاة أبي طالب كانت بمكة في أول الإسلام. وأقول هذا الاستبعاد عندي مستبعد... راجع ذلك في التفسير الكبير ١٦/ ٢٠٨..
٦ "لموتاهم" كلمة ساقطة في (أ)..
٧ راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٨٩، والتفسير الكبير ١٦/ ٢٠٨..
٨ راجع أسباب النزول للواحدي ص ١٩٨، ١٩٩..
٩ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز ٨/ ٢٩٠..
١٠ قال القرطبي: قال القاضي أبو بكر بن العربي: "تعلق النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبي طالب بقوله تعالى: ﴿سأستغفر لك ربي﴾. فأخبره الله تعالى أن استغفار إبراهيم لأبيه كان وعدا قبل أن يتبين الكفر منه، فلما تبين الكفر منه تبرأ منه فكيف تستغفر أنت لعمك يا محمد وقد شاهدت موته كافرا" راجع الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٢٧٤، ٢٧٥. وراجع نحو هذا القول في أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٢١٩..

قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( ١١٩ ) ﴾ :
هذه الآية متضمنة الأمر بالصدق، إلا أنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا " ١ وفي حديث آخر أنه لم يرخص في الكذب إلا في ثلاث : كان يقول : " لا أعدهن كذبا : الرجل يصلح بين الناس فيقول قولا يريد به الصلاح، والرجل يكذب إلى زوجته، والمرأة تحدث زوجها والرجل يتقول في الحرب " ٢ واختلف الناس في هذا فأجازت طائفة منهم الكذب وحجتهم في هذا القول الحديث ويتأول الآية في الموضع الذي يجب فيه الصدق. ولم تجز طائفة الكذب تصريحا ولا تعريضا في جد ولا لعب وهو قول إبراهيم النخعي وابن مسعود ٣. واحتج ابن مسعود لذلك بهذه الآية :﴿ وكونوا مع الصادقين ﴾ وأجازته طائفة تعريضا ولم تجزه تصريحا وهو قول الجمهور وحجة الطبري. فأما ما وفى به الرجل دمه من الكذب فلا خلاف في جوازه، قال أبو الحسن : وفي هذه الآية دلالة على التأمل في الأول وأن لا يتبع منها إلا ما دلت الدلالة عليه وبان صدقه. فأما أن يأخذ تقليدا دون أن يعلم صدقه فلا. وليس فيه دلالة على رد أخبار الآحاد والظنون لأنها لا تقبل عندنا إلا إذا دل الدليل القاطع على وجوب اتباعها والعمل بها، والدليل الذي يوجب العمل بها معلوم صدقه حقيقة، فيكون الاتباع للصادق تحقيقا ٤.
١ الحديث رواه مسلم عن ابن كلثوم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه ٣/ ٢٠١١..
٢ راجع سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في إصلاح ذات البين ٤/ ٣٣١..
٣ قال القرطبي: قال ابن العربي "وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى فإن في هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة والمخالفة في الفعل".
وقال مالك: لا يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. راجع الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٢٨٩..

٤ راجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٢١٩..
قوله تعالى :﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ﴾ :
اختلف فيما تقتضيه هذه الآية من عموم النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هل هو محكم أو منسوخ ؟ فذهب جماعة إلى أنه كان ذلك خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأما اليوم فلا يلزم ذلك، وهو قول قتادة. وقيل بل كان النفير واجبا على الأمة كلهم لضعف الإسلام ثم نسخ ذلك لقوة الإسلام بقوله تعالى :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾ ١ [ براءة : ١٢٢ ] قوله تعالى :﴿ ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا ﴾.
لفظ عام في كل ما يصنع مما يؤذيهم. واختلف في الزنا بنساء أهل الحرب فلم يجزه الجمهور لعموم الظواهر الواردة في ذلك من القرآن والسنة وأجازه أبو حنيفة ومحمد، وبعض الناس يحتج لذلك بهذه الآية :﴿ ولا ينالون من عدو نيلا ﴾ إلا كتب لهم بها عمل صالح، وهو احتجاج ضعيف. وقال أبو الحسن : استدل قوم بهذه الآية على أن وطأ ديارهم إذا جعل بمثابة النيل منهم والأخذ لأموالهم والقتل لهم والأسر فإن الفارس يستحق سهم الفرس بدخول أرض الحرب لانحيازه الغنيمة وذلك أن وطأ ديارهم يدخل الذل عليهم كما تدخله تلك الأشياء ولذلك قال علي رضي الله تعالى عنه : ما وطئ قوم في عقر ديارهم إلا ذلوا ٢.
١ نسب ابن عطية القول الثاني إلى ابن زيد. راجع المحرر الوجيز ٨/ ٢٩٨. ونسبه مكي إلى ابن زيد وزيد بن أسلم. أما القول الأول فقد نسبه إلى ابن عباس وقتادة والضحاك. راجع الإيضاح ص ٢٨٠..
٢ راجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٢٢٠..
قوله تعالى :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ﴾ إلى قوله :﴿ وليجدوا فيكم غلظة ﴾ :
اختلف في سبب الآية، فقيل سببها إن المؤمنين الذين كانوا بالوادي سكانا ومبعوثين لتعليم الشرع لما سمعوا قوله تعالى :﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ﴾ [ براءة : ١٢٠ ] أهمهم ذلك فنفروا إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وقيل سببها إنه لما نزلت الآية في المتخلفين قالوا : هلك أهل البوادي. فنزلت هذه الآية مقيمة لعذرهم ١. والآية على هذين القولين مخصصة لعموم الآية التي قبلها، وقيل هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا نزلت فيهم والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه ثابتة الحكم مع تخلفه أي يجب إذا تخلف أن لا ينفر الناس كافة فيبقى هو منفردا. وإنما ينبغي أن تنفر طائفة وتبقى طائفة لتفقه هذه الطائفة في الدين وينذروا النافرين إذا رجع النافرون إليهم، وإلى نحو هذا ذهب ابن عباس. وقال الحسن لتتفقه الطائفة النافرة ثم تنذر إذا رجعت إلى قومها المتخلفة، قال وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية ٢ وقيل ليست الآية في معنى الغزو وإنما سببها أن قبائل من العرب – لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين – أصابتهم مجاعة شديدة فنفروا إلى المدينة لمعنى المعاش فكادوا أن يفسدوها. وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان وإنما أضر بهم الجوع فنزلت الآية في ذلك. والآية على هذين القولين في غير معنى الآية المتقدمة، فالآية غير ناسخة على ما ذكرنا من الأقوال في سببها، وإلى هذا ذهب٣ الأكثر. وذهب قوم إلى أنها ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير.
وقد استدل قوم بهذه الآية على وجوب العمل بخبر الواحد ٤. قالوا والطائفة نفر يسير كالثلاثة. قال بعضهم ويقع على الواحد. قالوا ولا يحصل العلم بخبر هؤلاء وقد أخبر الله تعالى أنهم ينذرون قومهم، وفي ضمن ذلك قبول إيجاب إنزالهم. وخالفهم غيرهم في ذلك من القدرية ٥ ومن تابعهم من أهل الظاهر ورأوا تحريم العمل به واحتجوا بقوله تعالى :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم ﴾ [ الإسراء : ٣٦ ] وبغير ذلك مما لا تثبت به حجة. وأنكره أيضا قوم ولم يروا في الشرع دليلا على تحريمه ولا على وجوبه. وضعف من أنكر العمل بخبر الواحد الاستدلال بالآية التي ذكرنا بأن قالوا هذا إن كان قاطعا فهو في وجوب الإنذار لا في وجوب العمل على النذر عند اتحاد المنذر إلى غير ذلك من التأويلات الضعيفة. والقول بوجوب العمل به وهو الذي عليه جماهير العلماء وأهل السنة، والحجة على إثباته من الكتاب والسنة والإجماع واضحة، وفي جلبها طول فلذلك نعرض عنها إذ قد بسط ذلك كله غيرنا. واستدل بعضهم بهذه الآية على اشتراط العدد في الراوي. فقال لا يقبل الحديث من أقل من ثلاثة لأن الطائفة أقلها ثلاثة، ومنهم من اشترط اثنين ومنهم من اشترط أربعة. وفي هذه الآية أيضا دليل على أنه يجب على العام قبول قول الواحد من أهل العلم وتقليده. وانظر كم عدد الطائفة التي تنفر. وقد قال تعالى :﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ﴾ [ النور : ٢ ] واختلف في قدرها. وقال عليه الصلاة والسلام : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق... " ٦ وهل يراد بها عدد التواتر أم لا ؟ وقد اختلف في ذلك.
وقوله تعالى :﴿ ولينذروا قومهم ﴾ يفيد ما بلغوا عن الرسول وما يفتون به من اجتهادهم خلافا لمن لم ير للعام التقليد وألزمه النظر. وفي هذه الآية أيضا دلالة على وجوب طلب العلم وأنه من فروض الكفاية في بعض وفرض عين في بعض.
١ راجع أسباب النزول للواحدي ص ١٩٩، لباب النقول ص ٤٨٦، المحرر الوجيز ٨/ ٣٠٠، جامع البيان ١٤/ ٥٧٠..
٢ راجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٢٢١..
٣ في (أ)، (ز): "يذهب"..
٤ قال أبو الحسن الكيا الهراسي: وفيه دلالة على لزوم قبول خبر الواحد في أمور الديانات التي يجب على الكل معرفتها ولا تعم الحاجة إليها. راجع أحكام القرآن ٤/ ٢٢١..
٥ القدرية: ويسمون أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية والعدلية وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركا، وقالوا: لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى احترازا من وصمة القلب. راجع الملل والنحل للشهرستاني ١/ ٤٣..
٦ الحديث رواه أبو داود عن عمران بن حصين في سننه، كتاب الجهاد، باب: في دوام الجهاد ٣/١١..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ﴾ :
اختلف فيها، فقيل نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام. ويضعف هذا القول بأن الآية من آخر ما نزل. وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجاوز قوما من الكفار غازيا لقوم أبعد منهم، فأمر الله تعالى بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة. وقيل الآية مبينة صور القتال كافة وهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة. واختلف في الإشارة : بالذين يلونكم، إلى من هي ؟ فقيل نزلت الآية ١ مشيرة إلى قتال الروم بالشام لأنهم كانوا يومئذ العدو الذي يلي إذا كانت العرب قد عمها الإسلام، والعراق بعيدة. ثم لما اتسع الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم ٢ وغيرهما من الأمم. وقيل المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم، قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
وبعد هذه الآيات ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ٣ استدل به ابن عباس على أنه لا يجوز أن يقال انصرفنا من الصلاة وإنما يقال قضينا الصلاة.
١ "نزلت الآية" ساقط في (أ )، (ز)..
٢ قال ابن عطية: وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم، فقال عليك بالروم. وقال الحسن هم الروم والديلم. راجع المحرر الوجيز ٨/ ٣٠١..
٣ نسبه ابن عطية إلى ابن زيد. راجع م. س. ، ن. ص..
Icon