تفسير سورة التوبة

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ
ونحو هذا روى الزهري عن سعيد بن المسيب (١).
١ - قوله -عز وجل-: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ الآية، ومعى البراءة في اللغة: انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان أبرأ براءة، أي: انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة، ومن هذا يقال: برئت من الدين، وليس فيها إلا لغة واحدة، كسر العين في الماضي، وفتحها في المستقبل، ويقال: بريء إلى فلان من كذا، أي: أخبره أنه (٢) بريء منه.
ومعنى ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي: براءة الله، فلما نون أدخل "من" كما تقول: هذا فضل الله، ورحمة الله، ثم ينون فتدخل "من"، فتقول: فضل من الله ورحمة منه.
قال المفسرون: "أخذت العرب تنقض عهودًا بينهم (٣) وبين
= ٢/ ٣٧٦ - ٣٧٧، ولم أجد من قال: إن هذا الأسماء تطلق على سورة الأنفال.
ج- حديث أبي هريرة في تأمير أبي بكر على الحج سنة ثمان وفيه: (ثم أردف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة). رواه البخاري (٤٦٥٥)، كتاب التفسير، باب قوله ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾.
فالحديث يوحي بأنها سورة مستقلة، وأن أولها قوله تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ﴾.
د- حديث علي -رضي الله عنه- قال: "لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر، فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة" الحديث، رواه عبد الله بن أحمد في زوائده على "المسند" ١/ ١٥١. قال أحمد شاكر: إسناده حسن. انظر: "المسند" بشرح أحمد شاكر ٢/ ٣٢٢ رقم (١٢٩٦).
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١٠٤ رقم (١١٠٣٩): (فيه محمد بن جابر السحيمي، وهو ضعيف، وقد وثق. اهـ. والحديث نص في بيان أول سورة براءة.
(١) لم أعثر على مصدر هذا القول.
(٢) في (ى): (أني).
(٣) في (م): (بينها).
رسول الله - ﷺ - فأمره الله تعالى أن ينقض عهودهم وأن ينبذ ذلك إليهم ففعل ما أمر به" (١).
قال أبو إسحاق: "أي قد بريء الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذ نكثوا" (٢).
والخطاب في ﴿عَاهَدْتُمْ﴾ لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[والمتولي للعقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-] (٣) والمعنى: إلى الذين عاهد (٤)، ولكن أدخلوا في الخطاب لأنهم راضون بفعله، فكأنهم عقدوا وعاهدوا.
و ﴿بَرَاءَةٌ﴾ ترتفع على وجهين: أحدهما: على خبر الابتداء، على معنى: هذه الآيات براءة من الله، وعلى الابتداء (٥)، ويكون الخبر: ﴿إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ﴾؛ لأن براءة موصولة بـ"من" و ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ صفة لها، والوجهان ذكرهما الزجاج (٦)، واختار الفراء الوجه الأول، ومثله بقولك إذا نظرت إلى رجل: جميلٌ والله، تريد: هذا جميل والله (٧).
٢ - قوله تعالى: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ الآية (٨)، قال ابن
(١) انظر نحو هذا القول في: "معاني القرآن وإعرابه" للفراء ١/ ٤٢٠، و"تفسير الثعلبي" ٦/ ٧٦ أ، و"زاد المسير" ٣/ ٣٩٠.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٨ بمعناه.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ى).
(٤) يعني رسول الله - ﷺ - وفي (ح): (عاهدتم، والصواب ما أثبته وهو موافق لما في "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٥٨ - ٥٩.
(٥) هذا هو الوجه الثاني للرفع.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٨.
(٧) "معاني القرآن" ١/ ٤٢٠.
(٨) ساقطة من (م).
281
الأنباري: "قال اللغويون (١): أصل السياحة الضرب في الأرض، والاتساع في السير، والبعد عن المدن ومواضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب، وقيل للصائم: سائح، لأنه يشبه السائح لتركه المطعم والمشرب" (٢)، قال الفراء: "يقال: ساح يسيح سياحة وسيوحًا" (٣).
قال الزجاج: "معناه: اذهبوا فيها وأقبلوا وأدبروا" (٤).
قال ابن الأنباري: "ويضمر القول على تقدير: فقل لهم: سيحوا، ويكون هذا رجوعًا من الغيبة إلى الخطاب، كقوله: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ ثم قال: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ...﴾ الآية [الإنسان: ٢٢].
قال المفسّرون: "هذا تأجيل من الله للمشركين أربعة أشهر، فمن كانت مدّة عهده أكثر من أربعة أشهر حطه إلى الأربعة أشهر (٥)، ومن كانت
(١) في (ح) و (ى): (النحويون).
(٢) انظر: "لسان العرب" (سيح) ٤/ ٢١٦٧.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٩.
(٥) هذا القول غير صحح؛ بل من كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر فعهده باقٍ إلى إتمام مدته ويدل على ذلك لأدلة التالية:
أ- قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾ [التوبة: ٤].
ب- قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ [التوبة: ٧].
جـ- عن زيد بن أثيع قال: "سألنا عليًا: بأي شيء بعثت؟ يعني يوم بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أبي بكر في الحجة، قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا". رواه الترمذي (٨٧١)، ئ ب الحج، باب ما جاء في كراهية الطواف عريانًا، وقال: حديث حسن، ورواه أيضًا أحمد في=
282
مدته أقل أربعة أشهر رفعه إلى الأربعة، ومن لم يكن له مدة جعل له خمسين يوما أجلًا" (١).
وروى الوالبي عن ابن عباس في هذه الآية قال: "حدّ الله للذين عاهدوا رسول الله أربعة أشهر يسيحون فيها حيثما شاؤا، وأجل من ليس له عهدٌ عند انسلاخ الأشهر الحرم، من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم، خمسين ليلة، فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره بأن يضع السيف فيهم حتى يدخلوا في الإسلام" (٢)، قال (٣) "ولم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت "براءة" وانسلخ الأشهر الحرم، ومدّة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل "براءة" عادت إلى أربعة أشهر، من يوم أذّن بـ"براءة" إلى عشر من ربيع الآخر وذلك أربعة أشهر".
وقال محمد بن إسحاق: "من كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر أمهل تمام الأربعة، ومن كانت مدة عهده بغير أجل محدود قصر به على أربعة أشهر، ليرتاد لنفسه ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل
= "المسند" ٢/ ٣٢ (تحقيق: أحمد شاكر) وقال المحقق: إسناده صحيح، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" رقم (١١٠١)، والقول بأن صاحب العهد عهده باق إلى تمام مدته ذهب إليه ابن جرير ١٠/ ٦٥، وابن كثير ٢/ ٣٦٦.
(١) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للفراء ١/ ٤٢٠، و"تفسير البغوي" ٤/ ٨، ونحوه في تفسير الثعلبي ٦/ ٧٥ أ، وابن جرير ١٥/ ٥٩ - ٦١، والماوردي ٢/ ٣٣٨، ونسبه لابن عباس والضحاك وقتادة
(٢) رواه بنحوه ابن جرير ١٠/ ٦٠، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٤٦، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٨٠.
(٣) يعني ابن عباس، وهذا القوك ليس من رواية الوالبي الصحيحة كما يبدو من صنيع المؤلف بل من رواية العوفي وهي ضعيفة جدًا. انظرها في: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٦٠.
283
حيثما أدرك، وأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يومًا، وابتداء هذا الأجل يوم النحر وانقضاؤه إلى عشر (١) من شهر ربيع الآخر لمن كانت مدته أربعة أشهر" (٢).
وقال الزهري: "الأربعة أشهر شوال، وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم؛ لأن هذه الآية نزلت في شهر شوال" (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾، قال ابن عباس: "يريد: حيثما كنتم وحيثما توجهتم لا يعجز الله عن نقمته فيكم" (٤).
وقال الزجاج: "إي وإن أُجلتم هذه الأربعة أشهر فلن تفوتوا الله" (٥)،
وقال غيره (٦): "المعنى أنكم فائتين كما يفوت ما يعجز عنه لأنكم حيثما (٧) كنتم في ملك الله وسلطانه".
(١) في (جـ): (عشرين)، وهو تصحيف بين، والصواب ما أثبته.
(٢) لم أجد هذا القول في "السيرة النبوية"، وقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٧٥ أمنسوبًا إلى محمد بن إسحاق وغيره، وذكر بعضه ابن جرير ١٠/ ٥٩ شارحًا به قول محمد بن إسحاق. والذي يظهر لي أن أصل القول لابن جرير موضحًا به قول ابن إسحاق، ونقله عنه الثعلبي بهذا المعنى وزاد عليه زيادات، فتوهم الواحدي أنه قول ابن إسحاق، والله أعلم.
(٣) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢٤٠، وابن جرير ١٠/ ٦٢، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٤١٢، وهو قول مردود بدلالة أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إنما قرأ على المشركين هذه الآية في ذي الحجة، يوم الحج الأكبر، فيجب أن يكون هذا اليوم أول الشهور. انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس، الموضع السابق.
(٤) "الوسيط" ٢/ ٤٧٦، وفي "تنوير المقباس" (١٨٧): "غير فائتين من القتل".
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٩.
(٦) ذكر نحو هذا القول: ابن جرير ١٠/ ٦٧.
(٧) في (م): (حيث).
284
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ قال ابن عباس: "بالقتل في الدنيا، والعذاب في الآخرة" (١)، وقال الزجاج: "هذا ضمان من الله -عز وجل- نصرة المؤمنين (٢) على الكافرين" (٣). والإخزاء (٤): الإذلال بما فيه الفضيحة والعار، والخزي: النكال (٥) الفاضح.
٣ - وقوله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾ الآية، أذان: رفع بالعطف على براءة قاله الفراء (٦)، والزجاج (٧)، ومعنى الأذان: الإعلام في قول المفسرين (٨) وأهل المعاني (٩).
قال الأزهري: "يقال: آذنته أوذنه إيذاناً وآذانًا، فالأذان اسم (١٠) يقوم مقام الإيذان، وهو المصدر الحقيقي" (١١).
قال أبو علي: قوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ صفة لـ ﴿وَأَذَانٌ﴾ وكذلك ﴿إِلَى النَّاسِ﴾ (١٢).
ومعناه: للناس، كما يقال: هذا غلام من فلان لك واليك، وأراد
(١) "الوسيط" ٢/ ٤٧٦، و"تفسير الرازي" ١٦/ ٢٢٠.
(٢) في (م): (نصرة للمؤمنين)، وفي"معاني القرآن" للزجاج: بنصرة المؤمنين.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٩.
(٤) في (ح): (والآخر)، وفي (م): (والأخرى)، وكلاهما خطأ.
(٥) في (ى): (والنكال).
(٦) "معاني القرآن" ١/ ٤٢٠.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٩.
(٨) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٦٧، والسمرقندي ٢/ ٣٣، والزمخشري ٢/ ١٧٣.
(٩) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٢٩، و"غريب القرآن وتفسيره" لليزيدي ص ١٦١، و"تفسير المشكل من غريب القرآن" ص ٩٥.
(١٠) في (م): (أهم).
(١١) "تهذيب اللغة" (أذن) ١/ ١٣٩.
(١٢) "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٤٠٥.
285
بالناس: المؤمن والمشرك؛ لأن الكل داخلون في هذا الإعلام.
وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾، قال أبو علي: "يجوز أن يتعلق الظرف بالصفة ويجوز أن يتعلق بالخبر الذي هو: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ ولا يجوز أن يتعلق بـ"أذان" لأنك قد وصفته والموصوف إذا وصفته لم يتعلق بشيء" (١).
واختلفوا في يوم الحج الأكبر فقال ابن عباس في رواية عكرمة: "إنه يوم عرفة" (٢)، وهو قول عمر وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاووس وإحدى الروايتين عن علي -رضي الله عنه- (٣)، ورواية المسور بن مخرمة عن رسول الله - ﷺ - وهو أنه قال: خطب رسول الله - ﷺ - عشية عرفة فقال: "أما بعد إن هذا يوم الحج الاكبر" (٤).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: "يوم الحج الأكبر يوم النحر" (٥)، وهو قول الشعبي والنخعي والسدي وابن زيد وإحدى الروايتين عن علي وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير (٦).
وروى ابن جريج عن مجاهد قال: "يوم الحج الأكبر أيام منى
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٤٠٦.
(٢) رواه ابن جرير ١/ ٦٩، والثعلبي ٦/ ٧٧ ب.
(٣) رواه عنهم جميعًا ابن جرير ١٠/ ٦٧ - ٦٩ إلا أنه قال: طاوس عن أبيه، ورواه عنهم أيضًا عدا طاوس، الثعلبي ٦/ ٧٧ ب، ٧٨ أ، ورواه أيضًا عنهم ابن أبي حاتم ٦/ ١٧٤٧ إلا أن روايته عن علي مرفوعة، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٣/ ٣٩٦، وابن كثير ٢/ ٣٦٩.
(٤) رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٨٢، ورواه ابن جرير ١٠/ ٦٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٤٨ عن محمد بن قيس مرسلًا.
(٥) رواه ابن جرير ١٠/ ٧٠ من رواية عكرمة، ١٠/ ٧٢ من رواية سعيد بن جبير.
(٦) أخرج آثارهم ابن جرير ١٠/ ٦٩ - ٧٤، والثعلبي ٦/ ٧٨ أ.
286
كلها" (١)، وهو مذهب سفيان الثوري، وكان يقول: يوم الحج الأكبر أيامه كلها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث (٢) يراد به الحين والزمان؛ لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أيامًا كثيرة (٣).
فمن قال: إنه يوم عرفة احتج بأن معظم الحج يقضى فيه وهو الوقوف، ومن قال: إنه يوم النحر احتج بأن أعمال الحج وقضاء المناسك يوم النحر؛ لأن في ليلة نهار (٤) يوم النحر الوقوف بعرفة غير فائت إلى طلوع الفجر، وفي صبيحتها تعمل أعمال الحج، فالحج كله يوم النحر (٥)، ومعنى الحج الأكبر: الحج بجميع أعماله، والحج الأصغر: العمرة، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (٦)، والزهري (٧) والشعبي (٨).
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ٧٤، والثعلبي ٦/ ٧٨ ب.
(٢) يوم بعاث: بضم الباء: يوم كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، وبعاث: حصن للأوس. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام ٢/ ١٨٣، و"لسان العرب" (بعث) ١/ ٣٠٧.
(٣) ذكره بلفظه الثعلبي ٦/ ٧٨ ب، ورواه مختصرًا ابن جرير ١٠/ ٧٤.
(٤) ساقطة من (م).
(٥) قلت: بل أقوى من هذا التعليل ما رواه البخاري تعليقاً عن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج بهذا، وقال: "هذا يوم الحج الأكبر". "صحيح البخاري"، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى ٣/ ٥٧٤، ورواه موصولًا أبو داود في "سننه" ١٩٤٥، كتاب المناسك، باب يوم الحج الأكبر، والحاكم في "المستدرك"، كتاب التفسير، تفسير سورة التوبة ٢/ ٣٣١ مطولًا، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(٦) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٧٧.
(٧) رواه الثعلبي ٦/ ٧٩ أ، والبغوي ٤/ ١٢، ورواه بمعناه إخبارًا عن قول أهل الجاهلية عبد الرازق ١/ ٢/ ٢٦٦، وابن جرير ١٠/ ٧٦.
(٨) رواه ابن جرير ١٠/ ٧٦، والثعلبي ٦/ ٧٩ أ، والبغوي ٤/ ١٢.
287
قالوا: الحج الأكبر: الوقوف بعرفة والحج الأصغر: العمرة لنقصان عملها عن (١) عمل الحج.
قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾، قال أبو علي: "لا بد من تقدير الجار في قوله ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ فتقول: بأن الله، لأن (٢) ﴿اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ لا يكون الإعلام، كما يكون الثاني الأول في نحو قولك: خبرك أنك خارج (٣)، وخبر الابتداء يجب أن يكون الأول إذ له فيه ذكر، و ﴿وَأَذَانٌ﴾ ابتداء فلا يكون ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ﴾ خبره إلا بتقدير الجار، ومعنى الآية: إن الله بريء من عهد المشركين، فهو من باب حذف المضاف، و"ورسوله" رفع بالابتداء وخبره مضمر على معنى: ورسوله أيضاً بريء، ودل الخبر عن الله على الخبر عن الرسول ومثله.
فإني وقيارٌ بها لغريب (٤)
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تُبْتُمْ﴾ رجع إلى خطاب المشركين، قال ابن عباس: "يريد: فإن رجعتم عن الشرك إلى توحيد الله" (٥)، ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من الإقامة على الشرك ﴿وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ يريد: عن الإيمان {فَاعْلَمُوا
(١) في (م): (من).
(٢) في "الحجة": لأن "أن الله.. ".
(٣) أ. هـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٤٠٦.
(٤) عجز بيت وصدره.
فمن يك أمسى بالمدينة رحله
والبيت لضابئ بن الحارث البرجمي كما في "الأصمعيات" (ص١٨٤)، "وخزانة الأدب" ٩/ ٣٢٦، و"الشعر والشعراء" ص٢١٩، و"كتاب سيبويه" ١/ ٧٥، و "نوادر أبي زيد" (ص٢٠)، وقوله: قيار، هكذا بالرفع، وهو كذلك في بعض المصادر، قال الجوهري في "الصحاح" (قير) ٢/ ٨٠١: قيار: اسم جمل ضابئ بن الحارث، ثم ذكر البيت ثم قال: برفع قيار على الموضع.
(٥) "تنوير المقباس" (ص١٨٧) بنحوه من رواية الكلبي، وحاله لا تخفى.
288
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي: إنكم لا تفوتون بأنفسكم من أن يحل بكم عذابه في الدنيا، ثم أوعدهم بعذاب الآخرة فقال: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، قال المفسرون: "لما فتح الله مكة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة ثمان من الهجرة وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى غزاة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف جعل المشركون ينقضون عهودهم فأمر الله رسوله بإلقاء عهودهم إليهم ليأذنوا بالحرب، فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحج ثم قال: "إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك" (١) فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر تلك السنة أميرًا على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، فلما سار دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليًا فقال: "اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذن بذلك فى الناس إذا اجتمعوا" فخرج علي -رضي الله عنه- على ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العضباء حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة فرجع أبو بكر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء قال: "لا، ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض؟! " (٢)، قال: بلى يا رسول الله، فسار أبو بكر أميرًا على الحج، وعليّ ليؤذن ببراءة، فقدما مكة، فلما كان قبل
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ٦١ - ٦٢ مرسلًا عن مجاهد، وطواف المشركين عراة مخرج في "صحيح البخاري" (١٦٦٥)، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة، وفي "صحيح مسلم" (١٢١٩)، كتاب الحج، باب في الوقوف.
(٢) رواه ابن جرير (١٠/ ٦٥) عن السدي، ورواه بنحوه ١٠/ ٦٤ عن ابن عباس، وروى صدره بمعناه الترمذي (٣٠٩٠)، كتاب التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وقال: حديث حسن غريب من حديث أنس، وكذلك رواه أحمد في المسند ١/ ٣.
289
التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم، وأقام للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره به، وقرأ عليهم سورة براءة، فقال المشركون: "نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب" (١).
وذكر أبو إسحاق السبب في تولية علي تلاوة براءة على المشركين قال: "وذلك لأن العرب جرت عادتها في عقد عهدوها (٢) ونقضها أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها، وكان جائزًا أن تقول العرب إذا تُلي عليها نقض العهد من الرسول - ﷺ - هذا خلاف ما يعرف فينا في نقض العهود، فأزاح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العلة في ذلك" (٣).
وقال عمرو (٤) بن بحر: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا بكر أميرًا على الحاج وولاه الموسم وبعث عليًّا يقرأ على الناس آيات من سورة براءة فكان أبو
(١) تفسير الثعلبي ٦/ ٧٦ أونسبه إلى محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما، وقد ذكر الزمخشري في "تفسيره" ٢/ ١٧٢ نحو هذا الأثر، وعلق عليه ابن حجر بقوله: "هذا ملفق من مواضع". انظر: حاشية "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف" للزيلعي ٢/ ٤٩.
(٢) في "معاني القرآن وإعرابه": عقودها.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٨.
(٤) في (ح): (عمر)، وهو: عمرو بن بحر بن محبوب، أبو عثمان الجاحظ، البصري المعتزلي، العلامة المتبحر في فنون الأدب وصاحب التصانيف المشهورة، كان أحد الأذكياء الحفاظ، لكنه كان ماجنًا قيل الدين، كثير الكذب وتوليد الحكايات، توفي سنة ٢٥٥ هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" ١٢/ ٢١٢، و"نزهة الألباء" ص ١٤٨، و"سير أعلام النبلاء" ١١/ ٥٢٦.
290
بكر الإمام وعلي المؤتم، وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع، وكان أبو بكر الدافع بالموسم ولم يكن لعلي أن يدفع حتى يدفع أبو بكر، وأما قوله - ﷺ - "لا يبلغ عني إلا رجل مني" (١) فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقل ذلك تفضيلًا منه لعلي على غيره في الدين، ولكن عامل العرب على مثل ما كان بعضهم يتعارفه من بعض، وكعادتهم في عقد الحلف وحل العقد، وكان السيد منهم إذا عقد لقوم حلفًا أو عاهد عهدا لم يحل ذلك العقد غيره أو رجل من رهطه دنيا (٢) كأخ أو عم فلذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك القول (٣).
٤ - قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الآية، قال أبو إسحاق: "الذين" في موضع نصب، أي: وقعت البراءة من المعاهدين الناقضين للعهود، إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقصوكم أي ليسوا داخلين في البراءة" (٤)، قال المفسرون (٥) في هذه الآية: "هؤلاء قوم مخصوصون أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإتمام عهده وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ومن اتبعهم وكان بقي لهم من مدتهم تسعة أشهر فأمر باتمامها لهم".
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا﴾ أي من شروط العهد شيئًا {وَلَمْ
(١) رواه الترمذي (٣٠٩٠)، كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة، وأحمد في "المسند".
(٢) في "لسان العرب" (دنا): (قالوا: "هو ابن عمي دنية، ودنيًا، منون، ودنيا، غير منون، ودنيا، مقصور: إذا كان ابن عمه لحا.. وكأن أجل ذلك كله (دنيا) أي: رحمًا أدنى إليّ من غيرها".
(٣) انظر قول الجاحظ في كتابه العثمانية ص ١٢٩ بنحوه، و"زاد المسير" ٣/ ٣٩٢.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٠ باختصار يسير.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٧٩ ب، والبغوي ٤/ ١٢، وهو قول السدي رواه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٨٣ - ٣٨٤.
يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا}، قال ابن عباس: "ولم يعاونوا عليكم عدوًا" (١)، وقوله (٢): ﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾ معناه: إلى انقضاء مدتهم، ومعنى المدة زمان طويل (٣) للفسحة؛ لأنه من مددتُ له في الأجل للمهلة، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ أي: يحب من اتقاه بطاعته وأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
٥ - قوله تعالى ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾، قال الليث: "يقال سلخت الشهر إذا خرجت منه فصرت في آخر يومه (٤)، وانسلخ (٥) الشهر" (٦)، وكشف أبو الهيثم (٧) عن هذا المعنى فقال: "يقال: أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه (٨) لباسًا منه ثم نسلخه عن أنفسنا [بعد تكامل النصف منه جزءًا فجزءًا حتى نسلخه عن أنفسنا] (٩) كله فينسلخ، وأنشد (١٠):
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي (١١)
(١) "تنوير المقباس" ص ١٨٧.
(٢) ساقط من (ح) و (ى).
(٣) في "لسان العرب" ٧/ ٤١٥٨ (مدد): المدة: طائفة من الزمان تقع على القليل والكثير، ومادّ فيها أي أطالها.
(٤) في كتاب"العين" و"تهذيب اللغة": في آخر يوم منه.
(٥) في النسخة (ح): (فانسلخ). وما أثبته موافق لكتاب "العين" و"تهذيب اللغة".
(٦) "تهذيب اللغة" (سلخ) ٢/ ١٧٣٠، والنص في كتاب"العين" (سلخ) ٤/ ١٩٨.
(٧) تقدمت ترجمته.
(٨) في (ى): (نفسه)، وهو خطأ.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(١٠) البيت بغير نسبة في: "تهذيب اللغة" (سلخ) ٢/ ١٧٣١، و"أساس البلاغة" (سلخ) ٢/ ٤٥٣، و"لسان العرب" (سلخ) ٤/ ٢٠٦٣.
(١١) اهـ كلام أبي الهيثم، انظر: "تهذيب اللغة" (سلخ) ٢/ ١٧٣١.
292
واختلفوا في معنى الأشهر الحرم هاهنا فمنهم من حملها على ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ويحل (١) القتال بانسلاخ المحرم على الإطلاق عند من جعل تاريخ (٢) الأشهر الأربعة من أول شوال وهو وقت نزول براءة (٣)، ومن قال: إن تاريخ الأشهر الأربعة من يوم النحر حمل قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [على التخصيص، ومعناه: فإذا انسلخ الأشهر الحرم ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾] (٤) الذين أمهلناهم خمسين يومًا وهم الذين لم يكن لهم ذمة سابقة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذا على قول من يقول الأشهر الحرم هذه الثلاثة التي تعرف بالحرم (٥) ومنهم من قال: المراد بالأشهر الحرم شهور العهد (٦)، قيل لها: حرم لأن الله تعالى حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين، فإذا مضت قد (٧) حل قتالهم عامًا مطلقًا، وهذا قول الحسن (٨)، ومجاهد (٩)،
(١) ساقط من (ح).
(٢) في (م): (من تاريخ).
(٣) هذا قول الزهري وحده، وقد سبق تخريجه، وانظر رد هذا القول هناك، وفي "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٤١٢.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ى).
(٥) روى هذا القول ابن جرير ١٠/ ٦٠ - ٦١، عن ابن عباس والضحاك وقتادة.
(٦) يعني شهور السياحة التي ذكرها الله بقوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢]. إذ أن هذا هو قول جميع من نسب إليهم المؤلف هذا القول، وذكر الشوكاني في تفسيره ٢/ ٣٣٧ احتمالاً آخر للمراد بها، وأنها المشار إليها بقوله تعالى: ﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾.
(٧) في (ح): (ذلك)، وفي (ى): (دلل)، ولا معنى لهما.
(٨) ذكره عنه الهواري ٢/ ١١٤، والماوردي ٢/ ٣٤٠، وابن الجوزي ٣/ ٣٩٨.
(٩) رواه ابن جرير ١٠/ ٧٩، والثعلبي ٦/ ٧٩ ب، والبغوي ٤/ ١٣، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٨٤ - ٣٨٥، وهو في "تفسير مجاهد" ص ٣٦٣.
293
وابن إسحاق (١)، وابن زيد (٢)، وعمرو بن شعيب (٢)، والسدي (٣).
وقوله تعالى: ﴿حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ يوجب تعميم الحل والحرم، قال الفراء: "في الأشهر الحرم وغيرها في الحل والحرم" (٤) ﴿وَخُذُوهُمْ﴾ أي (٥) بالأسر، والأخيذ: الأسير ﴿وَاحْصُرُوهُمْ﴾ معنى الحصر: المنع عن الخروج من محيط، قال ابن عباس: يريد: إن تحصنوا فاحصروهم" (٦)، وقال الفراء: "حصرهم: أن يمنعوا من البيت الحرام" (٧)، وقال ابن الأنباري: "يريد: أن احبسوهم واقطعوهم عن البيت الحرام".
وقوله تعالى: ﴿وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، من قولهم: رصدت فلانًا أرصده: إذا ترقبته، قال المفسرون (٨): يقول: اقعدوا لهم على كل طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى تجارة، قال أبو عبيدة في قوله: ﴿كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ المعنى: كل طريق" (٩)، وقال أبو الحسن الأخفش: " (على) محذوفة، المعنى: على كل مرصد، وأنشد (١٠):
(١) انظر: "السيرة النبوية" ٤/ ٢٠٤.
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ٧٩، والثعلبي ٦/ ٧٩ ب.
(٣) رواه ابن جرير ١٠/ ٧٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٥٢ - ١٧٥٣.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٤٢١.
(٥) ساقط من (م).
(٦) ذكره ابن الجوزي في"زاد المسير" ٣/ ٣٩٨.
(٧) "معاني القرآن" ١/ ٤٢١.
(٨) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٧٨، والسمرقندي ٢/ ٣٤، والثعلبي ٦/ ٧٩ ب، والبغوي ٤/ ١٣.
(٩) "مجاز القرآن" ١/ ٢٥٣ بمعناه.
(١٠) البيت لرجل من قيس، كما في كتاب "المعاني الكبير" ١/ ٣٨٦، وهو بلا نسبة في "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٨٥، و"لسان العرب" (رخص) ٣/ ١٦١٦.
294
نغالي اللحم للأضياف نيئًا ونرخصه إلا نضج القدور
المعنى نغالى باللحم (١)، فحذف الباء هاهنا فكذلك حذف (على)، قال الزجاج: " ﴿كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ ظرف، كقولك: ذهبت مذهبًا، وذهبت طريقًا، وذهبت كل طريق، فلست تحتاج أن تقول في هذا إلا بما تقوله في الظروف نحو: خلف وأمام وقدام" (٢).
قال أبو علي: "ذهب أبو الحسن إلى أن المرصد اسم للطريق كما فسره أبو عبيدة، وإذا (٣) كان اسمًا (٤) للطريق كان مخصوصًا، وإذا كان مخصوصًا وجب ألا يصل الفعل الذي لا يتعدى إليه إلا بحرف جر (٥) نحو: ذهبت إلى زيد، وقعدت على الطريق، إلا أن يجيء في ذلك اتساع فيكون الحرف معه محذوفًا كما حكاه سيبويه (٦) من قولهم: ذهبت الشام ودخلت البيت فالأسماء المخصوصة إذا تعدت إليها الأفعال التي لا تتعدى فإنما هو على الاتساع، والحكم في تعديها إليها والأصل أن يكون بالحرف، وقد غلط أبو إسحاق في قوله (٧): ﴿كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ ظرف كقولك ذهبت مذهبًا في أن جعل الطريق ظرفًا كالمذهب وليس الطريق بظرف، ألا ترى [أن الطريق] (٨) مكان مخصوص كما أن البيت والمسجد مخصوصان، وقد نص
(١) اهـ كلام الأخفش، انظر: "معاني القرآن" له ١/ ٣٥٣.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣١.
(٣) في (ح): (فإذا)، وما أثبته موافق لما في "الإغفال".
(٤) في (ح): (اسم).
(٥) كلمة (جر) ليست موجودة في "الإغفال".
(٦) انظر: "كتاب سيبويه" ١/ ٤١٤.
(٧) في "الإغفال": قوله -عز وجل-.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ي)، وفي "الإغفال": إلا أنه مكان... إلخ.
295
سيبويه على اختصاصه (١) والنص به ليس كالمذهب والمكان، ألا ترى أنَّه حمل قول ساعدة (٢):
لَدْنٌ بهز الكف (٣) يعسل متنه فيه (٤) كما عسل الطريق الثعلب (٥)
على أنه حذف الحرف اتساعًا، كما حذف عنده من ذهبت الشام (٦)، وقال أبو إسحاق في هذا المعنى خلاف ما قاله هنا، [وهو أنه قال في قوله -عز وجل- (٧): ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: ١٦]: أي على طريقك، قال: ولا اختلاف بين النحويين أن (على) محذوفة" (٨)، وإذا كان كذلك بلا خلاف لم يجز أن يجعله ههنا مثل ما هو ظرف (٩) بلا خلاف من
(١) انظر: "كتاب سيبويه" ١/ ٣٥.
(٢) هو: ساعدة بن جؤية الهذلي، من شعراء هذيل المجيدين، وشعره محشو بالغريب والمعاني الغامضة، وهو من مخضرمي الجاهلية والإسلام، وقد أسلم، ولم يلق النبي -صلى الله عليه وسلم-.
انظر: "خزانة الأدب" ١/ ٤٧٦، و"سمط اللآلئ" ص ١١٥، و"الأعلام" ٣/ ٧٠.
(٣) في (ى): (الكهف).
(٤) ساقطة من (م).
(٥) البيت لساعدة بن جؤية كما في "شرح أشعار الهذليين" ص ١١٢٠، و"كتاب سيبويه" ١/ ٣٦، و"لسان العرب" (عسل) ٥/ ٢٩٤٦، و"نوادر أبي زيد" ص١٥.
ورواية المصدر الأول: لذٌ. أي تلذ الكف بهزه.
ومعنى: لدن: أي لين. والمتن: الظهر، ويعسل: يضطرب، وعسل الطريق الثعلب: أي اضطرب في الطريق.
والشاعر يصف سنانًا مرهفًا يهتز في الكف. انظر: "شرح أشعار الهذليين" ص ١١١٩، ١١٢٠، و"لسان العرب" (عسل) ٥/ ٢٩٤٦.
(٦) انظر: "كتاب سيبويه" (١/ ٣٥، ٣٦).
(٧) في"الإغفال": ألا ترى أنه قال في قوله "لأقعدن.... " إلخ.
(٨) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٣٢٤.
(٩) في "الإغفال": مبهم ظرف.
296
قوله: ذهبت مذهبًا، وإذا كان الصراط [اسمًا للطريق وكان اسمًا مخصوصًا ومما لا يصح أن يكون ظرفًا لاختصاصه فالمرصد] (١) أيضًا (٢) مثله في الاختصاص، وأن لا يكون ظرفًا، كما لم يكن الصراط والطريق ظرفًا" (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾، قال ابن عباس: "يريد: من الشرك" (٤)، ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ قال أصحابنا (٥): هذه الآية دليل على أن تارك اصلاة يقتل؛ لأن الله أباح في دماءهم، ثم قال: "فإن تابوا" يعني من الشرك "وأقاموا الصلاة" وهذا اللفظ للفعل لا للاعتقاد؛ ولأن الاعتقاد مندرج تحت التوبة، فإذا لم يقم الصلاة بقي دمه على الإباحة، وإن تاب من الشرك بحكم ظاهر الآية، ودل الظاهر على التسوية بين الصلاة والزكاة فاقتضى الإجماع ترك الظاهر في الزكاة.
وقوله تعالى: ﴿وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾، قال ابن عباس: "يريد: زكاة الأموال من العين والمواشي والثمار" (٦)، وقوله تعالى: ﴿فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ قيل: يعني: إلى البيت الحرام، وقيل: إلى التصرف في أمصاركم للتجارة وغيرها، وقوله (٧): ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لمن تاب وآمن.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) في (ى): (هاهنا).
(٣) انظر: "الإغفال"، سورة التوبة، المسألة الأولى ص ٨٤٨ - ٨٥٢.
(٤) "تنوير المقباس" ١٨٧.
(٥) يعني أئمة الشافعية. انظر: "كتاب الأم" ١/ ٤٢٤، و"أحكام القرآن" للهراس ٣/ ١٧٧.
(٦) لم أقف عليه، وقد ذكره في "الوسيط" ٢/ ٤٧٩ بلا نسبة.
(٧) ساقط من (ح) و (ى).
297
٦ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ الآية، قال الفراء: ﴿اسْتَجَارَكَ﴾ في موضع جزم وإن فرق بين الجازم والمجزوم بـ"أحد" وذلك سهل في (إن) خاصة دون حروف الجزاء؛ لأنها شرط وليست باسم، فلم يحفلوا أن يفرقوا بينها وبين المجزوم بالمرفوع والمنصوب، فأما المنصوب فمثل قولك: إن أخاك ضربت ظلمت، والمرفوع مثل قوله: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ [النساء: ١٧٦] ولو حولت "هلك" إلى (يهلك) (١) لجزمته (٢)، ونحو هذا قال الزجاج، فقال: وإنما يجوز الفصل في باب (إن) لأن (إن) أم الجزاء، لا تزول (٣) عنه إلى غيره، فأما أخواتها فلا يجوز ذلك فيها إلا في الشعر، قال الشاعر (٤):
فمتى واغل يزرهم (٥) يحيوه وتُعطفْ عليه كأس الساقي (٦)
قال ابن عباس: " ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ﴾ ممن لم يكن له عهد" (٧)، وقال محمد بن إسحاق: "أي: من هؤلاء الذين أمرتك بقتالهم" (٨)، وقال سعيد بن جبير: "جاء رجل من المشركين إلى علي بن
(١) في "معاني القرآن": إن يهلك.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٢٢.
(٣) في (ح) و (ي): (لا تزال)، والمثبت من (م) وهو موافق لـ "معاني القرآن وإعرابه".
(٤) البيت لعدي بن زيد العبادي، كما في ملحق "ديوانه" ١٥٦، و"خزانة الأدب" ٣/ ٤٦، و"كتاب سيبويه" ٣/ ١١٣.
(٥) في النسخة (ح) و (م): (ينبهم)، وأثبت ما في النسخة (ى) لأنه موافق لما في "معاني القرآن وإعرابه"، والواغل: الداخل على القوم في شرابهم أو طعامهم ولم يدع. انظر: "مجمل اللغة" (وغل) ٤/ ٩٣١، و"القاموس المحيط"، باب اللام، فصل الواو ص ١٠٦٩.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٢.
(٧) لم أقف على مصدره.
(٨) "السيرة النبوية" ٤/ ٢٠٢.
298
أبي طالب: فقال: إن (١) أراد الرجل منا أن يأتي محمدًا بعد انقضاء هذا الأجل فيسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل؟! فقال علي: لا؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ الآية (٢)، وقال الزجاج: "المعنى: إن طلب منك أحد منهم أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام الله فأجره" (٣). وقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾، قال السدي (٤) ومقاتل (٥): "يعني القرآن"، وقال عطاء عن ابن عباس: "يريد: ما أعد (٦) الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب وما افترض في دينه من الصلاة والزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت وجميع الفرائض" (٧).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ قال: "يريد: الموضع الذي يأمن فيه" (٨) يريد: إذا لم يتب، فإن تاب ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾، وقال ابن زيد: "يقول: إن لم يوافقه ما تتلو (٩) عليه فأبلغه مأمنه" (١٠).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يعني: يفعل كل هذا لأنهم جهلة، لا يعلمون دين الله وتوحيده وما افترض عليهم، وقال
(١) في (ح): (إذا)، وما أثبته موافق للمصدر الثاني.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٦/ ٨١ أ.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣١.
(٤) رواه ابن جرير ١٤/ ٨٠، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٨٦.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ أ.
(٦) في (ي): (ما عطا)، وسقطت (ما) من النسخة (ح).
(٧) لم أعثر عليه.
(٨) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨٧.
(٩) في (ح): (يتلى)، والمثبت موافق لـ"تفسير ابن جرير".
(١٠) رواه ابن جرير ١٠/ ٨٠، وبنحوه ابن أبي حاتم ٦/ ١٧٥٦.
299
أبو إسحاق "أي: الأمر ذلك، أي: وجب أن يعرّفوا ويجاروا؛ لجهلهم بالعلم فربما يتبينون به الإسلام" (١).
وهذا بيان عن حال الطالب للعلم (٢)، وليس له عهد من الإمام، حتى يسمع الدليل على الحق، ثم يُردّ إلى مأمنه لينظر في أمره، وقال الحسن في هذه الآية: "إن استعاذك فأعذه حتى يسمع كلام الله، فتقيم عليه حجة الله، وتبين له دين الله، فإن أسلم فقد دخل في عز الإسلام وإن أبى فأبلغه مأمنه ولا تعرض له" (٣).
وقال أهل العلم: "الكافر الحربي إذا دخل دار الإسلام كان مغنومًا مع ماله إلا أن يدخل مستجيرًا لغرض شرعي، كاستماع كلام الله رجاء الإسلام، أو دخل لتجارة، فإن دخل بأمان صبي أو مجنون فأمانهما شبهة أمان (٤)، فيجب تبليغه مأمنه، وهو أن يبلغ محروسًا في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له، ومن دخل منهم دار الإسلام رسولاً فالرسالة له (٥)
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣١.
(٢) في (ى): (طالب العلم).
(٣) لم أعثر عليه في مظانه من كتب التفسير.
(٤) أمان المجنون لا يصح بالإجماع كالصبي غير المميز، أما الصبي المميز فللعلماء في أمانه قولان:
الأول: لا يصح أمانه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد.
الثاني: يصح أمانه، وهو قول مالك، والرواية المشهورة عن أحمد، وهو الصحيح، لقول الرسول - ﷺ - "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم". رواه البخاري (٣١٧٩)، كتاب الجزية، باب: إثم من عاهد ثم غدر ٤/ ٢١٧، ومسلم (١٣٧٠)، كتاب الحج، باب فضل المدينة. وانظر: "المهذب" ٢/ ٢٣٥، و"المغني" ١٣/ ٧٧.
(٥) ساقط من (م).
300
أمان (١)، ومن دخل ليأخذ مالاً له في دار الإسلام، ولماله أمان فأمان ماله أمانه (٢) " (٣).
٧ - قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾ الآية، قال الفراء: "هذا على التعجب [كما تقول: كيف] (٤) يستبقى مثلك؟ أي لا ينبغي أن يستبقى، قال: وإذا استفهمت بشيء من حروف الاستفهام فلك أن تدعه استفهامًا ولك أن تنوي به الجحد، من ذلك قولك: هل أنت إلا كواحد (٥) منا؟! [معناه: ما أنت إلا واحد منا" (٦)] (٧) وقال غيره من أهل المعاني: "في الآية محذوف تقديره: كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد" (٨).
وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، قال الزجاج: "أي: ليس العهد إلا لهؤلاء الذين لم ينكثوا"، قال: "وموضع "الذين" نصب بالاستثناء" (٩).
واختلفوا في المعنيّ بقوله: ﴿الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ﴾ والذي يشهد له ظاهر اللفظ أنهم بنو ضمرة وبنو كنانة الذين ذكروا في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ
(١) ساقط من (ى).
(٢) في (ى): (أمان).
(٣) انظر: "المهذب في فقه الإمام الشافعي" ٢/ ٢٦٣ بنحوه
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٥) في (م): (واحدًا).
(٦) "معاني القرآن" ١/ ٤٢٣.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٨) هذا القول للحوفي في "البرهان" ١١/ ١٤٢ ب، وذكره الرازي ١٥/ ٢٢٩، والقرطبي ٨/ ٧٨ دون تعيين القائل.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٢.
301
عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة: ٤] وهو قول السدي (١) وابن إسحاق (٢) والكلبي (٣) قالوا: "هم قبائل بني جذيمة (٤) وبنو مدلج (٥) وبنو ضمرة (٦) وبنو الدئل (٧) من بني بكر (٨).
وكذلك قال ابن جريج (٩).
قال محمد بن إسحاق: "هم قبائل من بني بكر (١٠) الذين (١١) كانوا دخلوا في عهد قريش مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش، فلم يكن نقضه إلا هذا الحي من قريش (١٢) فأمر
(١) رواه الثعلبي ٦/ ٨١ أ، والبغوي ٤/ ١٥، ورواه ابن جرير ١٠/ ٨١ بلفظ: هم بنو جذيمة بن الدئل، ورواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٨٦ بلفظ: هم بنو خزيمة بن فلان.
(٢) انظر: "السيرة النبوية" ٤/ ٢٠٢ وسيذكر المؤلف لفظه.
(٣) سقط اسم الكلبي من النسخة (ح)، وانظر قوله في: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٨١ أ، والبغوي ٤/ ١٥.
(٤) هم بنو جذيمة بن عامر بن عبد كنانة. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ١٨٧.
(٥) هم بنو مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة انظر: المصدر السابق، نفس الموضع.
(٦) هم بنو ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. المصدر السابق ص ١٨٥، و"نهاية الأرب" ص ٢٩٣.
(٧) هم بنو الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص ١٨٤، و"نهاية الأرب" ص ٦١.
(٨) هم بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص١٨٠، و"نهاية الأرب" ١٨٠، وليس لبكر من هذه القبائل سوى بني ضمرة وبني الدئل، أما بنو جذيمة وبنو مدلج فهم أبناء أخويه.
(٩) لم أقف على من ذكره، وقد رواه ابن جرير ١٠/ ٨١ عنه عن محمد بن عباد.
(١٠) في السيرة النبوية: من بني بكر.
(١١) ساقط من (ح) و (ى).
(١٢) في المصدر السابق زيادة. وبنو الدئل من بني بكر. اهـ. وهو الصواب.
302
النبي -صلى الله عليه وسلم- باتمام العهد لمن لم يكن نقض من بني بكر" (١).
وقوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾، قال ابن عباس: "يريد ما أوفوا بعهدهم أوفوا بعهدكم" (٢)، وقال الزجاج: "أي ما أقاموا على الوفاء بعهدهم فأقيموا أنتم" (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ يعني من اتقى الله وراقبه في أداء فرائضه، والوفاء بعهده لمن عاهده.
٨ - قوله تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ الآية، قال الفراء (٤) والزجاج (٥) وابن الأنباري وجميع أهل المعاني (٦): "أي كيف يكون لهم عهد وحالهم ما وصف في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا﴾ الآية، ولكنه حذف ما يتعلق به (كيف)؛ لأنه قد ذكر قبل هذا في الآية المتقدمة فاكتفى به، قال الفراء: "وإذا أعيد الحرف وقد مضى معناه استجازوا حذف الفعل، وأنشدوا (٧):
(١) المصدر السابق ٤/ ٥٤٤.
(٢) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص١٨٨.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٢، وجملة: فأقيموا أنتم ليست من كلام الزجاج.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٤٢٤.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٣.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ١٨٦، و"إعراب القرآن" له ٢/ ٦، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي بن أبي طالب ص ٣٢٤، و"البرهان" للحوفي ١١/ ١٤٣.
قلت: قوله "جميع أهل المعاني" فيه نظر؛ فإن الأخفش الأوسط قدر المضمر بقوله: كيف لا تقتلونهم. انظر: "معاني القرآن" له ١/ ٣٥٥، وجوز أبو البقاء أن يكون المقدر: كيف تطمئنون إليهم. انظر: "التبيان في إعراب القرآن" ص ٤١٥.
(٧) في "معاني القرآن": كما قال الشاعر.
303
وخبرتماني أنما الموت في القرى فكيف وهذي هضبة وكثيب (١) (٢)
أي فكيف مات وليس بقرية، وأنشد أبو إسحاق (٣) وأبو بكر قول الحطيئة:
فكيف ولم أعلمهُم خذلوكمُ على معظَم ولا أديمكمُ قدُّوا (٤)
أراد: فكيف يكون ما تقولون حقًّا والأمر على ما أصف.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ يقال: ظهرت على فلان: إذا علوته، وظهرت على السطح: إذا صرت فوقه، قال الليث: "الظهور: الظفر بالشيء" (٥)، وأظهر الله المسلمين على المشركين أي أعلاهم عليهم، ومنه قوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: ١٤] وقوله: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣، الفتح: ٢٨، الصف: ٩]، أي: ليعليه (٦)، قال
(١) البيت لكعب بن سعد الغنوي من قصيدة يرثي فيها أخاه أبا المغوار الذي مات في البادية، وكان أخوه فرّ به من وباء المدينة انظر: "الأصمعيات" ص٩٧، و"شرح أبيات سيبويه" ٢/ ٢٦٩، و"كتاب سيبويه" ٣/ ٤٨٧، و"لسان العرب" (تفسير هذا) ٦/ ٣٧٨٠ (قول).
يقول الشاعر: لقد أخبرني الناس أن الموت يكون في القرى حيث الوباء، فكيف مات أخي في الصحراء حيث الهضاب والكثبان وطيب الهواء.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٢٤.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٣.
(٤) "ديوانه" ص ١٤٠، وفيه: على موطن، ونسب إليه أيضاً في "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٢٤، و"معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٤٧٩، و"الدر المصون" ٦/ ١٦.
وقوله: على معظم: أي أمر عظيم. والأديم: الجلد، وقده: شقه، والمراد: لم يطعنوا في أعراضكم ولم يأكلوا لحومكم بالغيبة.
(٥) "تهذيب اللغة" (ظهر) ٣/ ٢٢٥٩ ت والنص في كتاب "العين" (ظهر) ٤/ ٣٧.
(٦) ساقط من (ى).
304
أهل المعاني: "الظهور: العلو بالغلبة (١)، وأصله خروج الشيء إلى حيث يصلح أن يدرك" (٢)، قال ابن عباس: "يريد: أن يقدروا عليكم" (٣).
وقوله تعالى: ﴿لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾، قال الليث: "رقب الإنسان يرقبه رقبة ورقوبًا (٤)، وهو أن ينتظره، ورقيب القوم حارسهم" (٥)، وقوله: ﴿وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه: ٩٤] أي لم تحفظه، وقيل: لم تنتظر (٦)، وهذان معنيان يرجعان إلى واحد، وهو أن معنى الرقوب: العمل في الأمر على ما تقدم به العهد، فالحفظ والانتظار داخل في هذا، قال ابن عباس: "لا يحفظوا" (٧)، وقال الضحاك: "لا ينتظروا" (٧)، وقال قطرب: "لا يراعوا" (٧).
واختلفوا في معنى الإل (٨)، فقال أبو عبيدة: "الإل: العهد" (٩)، وقال الفراء: "الإل: القرابة" (١٠)، وقال إسحاق: "وقيل (١١): الإل: الحلف،
(١) ساقط من (ى).
(٢) في "المفردات" (ظهر) ص ٣١٨: ("ظهر الشيء: أصله أن يحصل شيء على ظهر الأرض ثم صار مستعملًا في كل بارز مبصر". اهـ. باختصار.
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٨٨ بمعناه.
(٤) في "تهذيب اللغة" وكتاب العين: رقبانًا.
(٥) "تهذيب اللغة" (رقب) ٢/ ١٤٤٨، ونحوه في كتاب "العين" (رقب) ٥/ ١٥٤.
(٦) هذا قول ابن جريج، والأول قول ابن عباس، رواه عنهما ابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٤/ ٥٤٨.
(٧) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٨١ ب، والبغوي ٤/ ١٥.
(٨) في (ى): (الأول)، وهو خطأ.
(٩) "مجاز القرآن" ١/ ٢٥٣ ونص قوله: العهد والعقد واليمين.
(١٠) "تهذيب اللغة" (أل) ١/ ١٨٤، و"لسان العرب" (ألل) ١/ ١١٢.
(١١) ساقط من (ي).
305
يعني الجوار، وقيل: الإل: اسم من أسماء الله -عز وجل-" (١).
وأما قول المفسرين: فقال ابن عباس والضحاك: "قرابة" (٢)، وهو رواية منصور (٣) عن مجاهد (٤)، وقال قتادة: "الإل: الحلف" (٥)، وقال السدي وابن زيد: "هو العهد" (٦)، وهو إحدى الروايات عن مجاهد (٧)، وقال في سائر الروايات: "الإل هو الله -عز وجل-" (٨)، وهو قول أبي مجلز (٩) (١٠)، وبكل هذه المعاني في الإل جاءت الأشعار، قال حسان:
لعمرك إن إلك من قريش كإل السقب (١١) من رأل النعام (١٢)
يعني القرابة، وقال أوس بن حجر:
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٣.
(٢) رواه عنهما ابن جرير ١٠/ ٨٤، والثعلبي ٦/ ٨١ أ، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٥٨.
(٣) هو ابن المعتمر.
(٤) رواه بمعناه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٧٥٨ من رواية ابن أبي نجيح.
(٥) رواه ابن جرير ١٠/ ٨٤، والثعلبي ٦/ ٨١ أ، والبغوي ٤/ ١٥.
(٦) رواه عنهما ابن جرير ١٠/ ٨٤، والثعلبي ٦/ ٨٢ أ.
(٧) هي رواية ابن أبي نجيح وخصيف عنه. انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٨٥، و"تفسير الإمام مجاهد" ص ٣٦٥.
(٨) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٨٣، والثعلبي ٦/ ٨٢ أ، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٥٨.
(٩) هو: لاحق بن حميد الشيباني السدوسي البصري، من كبار التابعين، إمام ثقة، مشهور بكنيته، توفي سنة ١٠٦هـ على القول المشهور.
انظر: "الكاشف" ٣/ ٢١٧، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٥٨٢، و"تقريب التهذيب" ص ٥٨٦ (٧٤٩٠).
(١٠) رواه ابن جرير ١٠/ ٨٣، والثعلبي ٦/ ٨٢ أ، قال ابن حجر في"فتح الباري" ٦/ ٢٦٧: "عن مجاهد: الإل: الله، وأنكره عليه غير واحد".
(١١) في (ح): (السيف)، وهو خطأ.
(١٢) "ديوانه" ص ٢١٦، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ٨٥، و"لسان العرب" (ألل) ١/ ١١٣. =
306
لولا بنو مالك والإل مرقبة ومالك فيهم الإلاء والشرف (١)
يعني الحلف، وقال آخر (٢):
وجدناهم كاذبًا إِلّهم وذو الإِلّ والعهد لا يكذب
يعني العهد، وفي حديث أبي بكر أنه قال: "إن هذا الكلام لم يخرج من إل" (٣)، يعني الله -عز وجل-.
قال أبو إسحاق: "وليس عندنا بالوجه قول من قال: الإل اسم من أسماء الله معروفة ومعلومة كما تُليت في القرآن، وسمعت في الأخبار، ولم يسمع الداعي يقول في الدعاء يا إل، قال: وحقيقة "الإل" عندي على (٤) ما توجبه اللغة: تحديد الشيء (٥)، فمن ذلك الألة: الحربة (٦) وأذن مؤَلَّلة (٧)، فالإل يخرج في جميع ما فسر من العهد والقرابة والجوار من (٨) هذا،
= والسقب: الذكر من ولد الناقة، كما في "الصحاح" (سقب) ١/ ١٤٨، والرأل: ولد النعام، كما في المصدر نفسه (رأل) ٤/ ١٧٠٣. والمعنى: ما قرابتك من قريش إلا كقرابة ولد الناقة من ولد النعام، فأنت دعي ملصق فيهم.
(١) "ديوانه" ص٣١، وتفسير الثعلبي ٦/ ٨١ ب.
(٢) لم أهتد إلى قائله، وهو بلا نسبة في "تفسير الطبري" ١٠/ ٨٥، والثعلبي ٦/ ٨٢ أ، و"البرهان" للحوفي ١١/ ١٤٥ ب، و"الدر المصون" ٦/ ١٧.
(٣) ذكر هذا الأثر أبو عبيد في غريب الحديث ١/ ١٠٠، والثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٨٢ أ، ونصه عنده: إن ناسًا قدموا على أبي بكر -رضي الله عنه- من قوم مسيلمة فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرءوا، فقال أبو بكر: إن هذا... إلخ.
(٤) ساقطة من (ى).
(٥) في (ى): (تحديدًا للشيء)، وما أثبته موافق لسائر النسخ، و"معاني القرآن وإعرابه"، و"تهذيب اللغة".
(٦) في (ح): (الجزية)، وهو خطأ.
(٧) في "معاني القرآن وإعرابه"، و"تهذيب اللغة". آذن مؤللة: إذا كانت محددة.
(٨) في"معاني القرآن وإعرابه" و"تهذيب اللغة": على.
307
إذا (١) قطت في العهد: بينهما إلّ، [فتأويله أنهما قد حددا في أخذ العهود] (٢) (٣)، وكذلك في الجوار والقرابة، وقال الأزهري: "إيل من أسماء الله -عز وجل- بالعبرانية، فجائز أن يكون أعرب فقيل: إل (٤) " (٥).
وقال بعض أهل المعاني: "الأصل في جميع ما فسر به الإل: العهد، وهو مأخوذ من قولهم ألّ يؤلّ (٦) إلا، إذا صفا وبرق ولمع، ومنه الألّه للمعانها، وأذن مؤللة: مشبهة بالحربة في تحديدها، فالعهد سمي إلا (٧) لظهوره وصفائه من شائب الغدر" (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا ذِمَّةً﴾ الذمة: العهد، وجمعها ذمم وذمام، وهو كل حرمة تلزمك إذا ضيعتها المذمة، وقال أبو عبيدة: "الذمة: ما يتذمم منه" (٩). يعني ما يجتنب فيه الذم، يقال: تذمم فلان أي: ألقى عن نفسه الذم، نحو: تحوب (١٠) وتأثم وتحرج، وذُكر في التفسير الوجهان في معنى
(١) هكذا في جميع النسخ و"تهذيب اللغة"، وفي"معاني القرآن وإعرابه": فإذا.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع، كما يظهر بالمقابلة مع هذا النص ومع "تهذيب اللغة" و"لسان العرب" (ألل).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٤، و"تهذيب اللغة" (أل) ١/ ١٨٤ - ١٨٥ مع اختلاف يسير.
(٤) في"تهذيب اللغة": إسرائيل.
(٥) "تهذيب اللغة" (أل) ١/ ١٨٤ - ١٨٥، وقد نسب الأزهري الجملة الأولى لابن السكيت.
(٦) في (ى): (يؤول).
(٧) في (ح) و (ى): (الإل).
(٨) ذكر نحو هذا القول الرازي في "تفسيره" ١٥/ ٢٣١.
(٩) "مجاز القرآن" ١/ ٢٥٣، ونص قوله: "الذمة: التذمم ممن لا عهد له".
(١٠) تحوب: قال أبو عبيد في "غريب الحديث" ٢/ ٢٢١: "قد يكون التحوب: التعبد=
308
الذمة، فقال الأكثرون: العهد، وهو قول ابن عباس (١)، ومن فسر الإلّ بالعهد قال: "إنما كرر لاختلاف اللفظين للتأكيد والمعنى واحد" (٢)، وهو مذهب المبرد (٣)، وحكى محمد بن جرير (٤): "إن الذمة في هذا الموضع: التذمم ممن لا عهد له".
وقوله تعالى: ﴿يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ [وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ] (٥)﴾، قال ابن عباس: "يريد: يقولون بألسنتهم كلاما حلوًا، وفي القلب (٦) ضمير لا يحبه الله" (٧)، وقال سعيد بن جبير: "يرضونكم بالحسن من القول وتأبى قلوبهم الوفاء به" (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾، قال ابن عباس: "يريد: كاذبون" (٩)، وقال غيره: "ناقضون العهد" (١٠)، وقال أهل المعاني:
= والتجنب للمأثم" اهـ. وفي "لسان العرب" (حوب) ٢/ ١٠٣٦، يقال: "تحوب: إذا تعبد، كأنه يلقي الحُوب عن نفسه، كما يقال: تأثم، وتحنث".
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ٨٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٥٨.
(٢) هذا قول ابن زيد، انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٨٤، و"البرهان" للحوفي ١١/ ١٤٥ أ.
(٣) لم أقف على مصدره.
(٤) يعني الطبري، انظر: "تفسيره" ١٠/ ٨٥، والقول لأبي عبيدة كما في "مجاز القرآن" ١/ ٢٥٣.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) في (ى): (قلوبهم).
(٧) "تنوير المقباس" ص ١٨٨ بمعناه.
(٨) لم أقف على مصدره.
(٩) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٤٠٣ بمعناه.
(١٠) هذا قول ابن جرير باختصار، انظر: "تفسيره" ١٠/ ٨٥.
309
"الكفار كلهم فاسقون وتخصيص أكثرهم ههنا (١) على وجهين: أحدهما: أنه أراد المتمردين، والثاني: أنه وضع الخصوص موضع العموم" (٢).
٩ - قوله تعالى: ﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا، ومضى الكلام في حقيقة معنى هذا في مواضع (٣)، قال مجاهد: "أطعم أبو سفيان بن حرب حُلفاءه وترك حلفاء النبي -صلى الله عليه وسلم-" (٤)، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلك الأكلة (٥).
قوله تعالى: ﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ﴾ أي: فأعرضوا عن طاعة الله، وقال عطاء: "كان أبو سفيان يعطي البعير والناقة والطعام ليصد الناس بذلك عن متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم-" (٦)، وعلى هذا: معنى "فصدوا عن سبيله": منعوا الناس (٧) به عن الدخول في الإسلام، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي من اشترائهم (٨) الكفر بالإيمان.
١٠ - قوله تعالى: ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ يعني هؤلاء الناقضين للعهد الذين اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً، وهذا ذم لهم بترك
(١) ساقط من (ى).
(٢) انظر: "البحر المحيط" ٥/ ١٣.
(٣) انظر: "البسيط" آل عمران: ٧٧، ١٨٧، ١٩٩، المائدة: ٤٤.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ٨٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٥٩، وابن المنذر وأبو الشيخ، كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٨٧، وانظر: "تفسير الإمام مجاهد" ص ٣٦٥.
(٥) هذا التعليل من كلام المؤلف، ولعل المقصود أن أبا سفيان اشترى ذمم حلفائه بمثل ذلك الإطعام، فنقضوا عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
(٦) ذكره الثعلبي ٦/ ٨٢ ب.
(٧) ساقط من (ح) و (ى).
(٨) في (ى): (اشتراء).
المراقبة للعهد والذمة للمؤمن، وقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾، قال الكلبي: "أي المعتدون للحلال إلى الحرام بنقض العهد" (١).
١١ - قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾، قال ابن عباس: "يريد: عن الشرك" (٢).
﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ قال ابن مسعود: "أُمرتم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة جميعاً ولم يُزك فلا صلاة له" (٣)، وقال ابن زيد: "افترضت الصلاة مع الزكاة جميعًا ولم يفرق بينهما وأبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة" (٤)، وقال: "يرحم الله أبا بكر ما كان (٥) أفقهه" (٦).
وقال أهل العلم: "هذه الآية دليل على أن الصلاة والزكاة مقرونتان بالشهادة في كف السيف وحقن الدم ودليل على أن المؤاخاة بالإسلام بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعًا لأن الله تعالى شرطهما في إثبات المؤاخاة ومن لم يكن من أهل وجوب الزكاة وجب عليه أن يقر بحكمها فإذا أقر بحكمها دخل في الصفة التي تجب بها الأخوة" (٧).
وقوله تعالى: ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾، قال الفراء: "معناه: فهم إخوانكم، يرتفع مثل هذا من الكلام بأن يضمر له اسمه مكنيًا عنه كقوله (٨): {فَإِنْ لَمْ
(١) رواه الفيرزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨٨ عن الكلبي عن ابن عباس.
(٢) المصدر السابق، نفس الموضع.
(٣) رواه ابن جرير ١٠/ ٨٧، والثعلبي ٦/ ٨٢ ب، والبغوي ٤/ ١٦.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ٨٧، والثعلبي ٦/ ٨٢ ب.
(٥) (كان) ساقطة من (ى).
(٦) هذا الأثر تابع للأثر السابق. وانظره في المصدرين السابقين.
(٧) انظر نحو هذا القول في كتاب "الأم" ١/ ٤٢٤، و"أحكام القرآن" للهراسي ٣/ ١٧٧، و"الإكليل استنباط التنزيل" ص١١٦.
(٨) في (ى): (قوله)، وفي "معاني القرآن": ومثله.
﴿تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [الأحزاب: ٥] أي: فهم إخوانكم" (١).
قال أبو حاتم: "قال أهل البصرة أجمعون: "الإخوة" في النسب، و"الإخوان" في الصداقة، قال: وهذا غلط، يقال للأصدقاء وغير الأصدقاء: إخوة وإخوان قال الله سبحانه (٢) وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] لم يعن (٣) النسب، وقال -عز وجل-: ﴿أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ﴾ [النور: ٦١] وهذا في النسب" (٤).
قال ابن عباس: "حرمت هذا الآية دماء أهل القبلة" (٥).
﴿وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [أي: نبينها، يعني آيات القرآن ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾] (٦) أنها من عند الله.
١٢ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾ يقال: نكث فلان عهده: إذا نقضه بعد إحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه (٧)، وهو الغزل من الصوف والشعر يُبرم وُينسج، فإذا أخلقت (٨) النسيجة قطعت ونكثت (٩) خيوطها المبرمة وخلطت بالصوف وميشت (١٠)، ثم غزل ثانية،
(١) "معاني القرآن" ١/ ٤٢٥.
(٢) في (ح): (قال الله تعالى)، وفي "تهذيب اللغة": قال الله جل وعز.
(٣) في (ى): (يعني).
(٤) "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٨ بنحوه.
(٥) رواه ابن جرير ١٠/ ٨٧ وفي سنده رجل لم يسم.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٧) في (م): (انبرامه).
(٨) في (ى): (اختلفت)، وما أثبته موافق لما في "تهذيب اللغة" (نكث) ٤/ ٣٦٥٨، وفي "مجمل اللغة" (نكث) ٤/ ٨٨٤: النكث: أن تنقض أخلاق الأكسية، وتغزل ثانية.
(٩) في (م): (ونكث).
(١٠) الميش: خلط الشعر بالصوف، انظر: "تهذيب اللغة" (ماش) ٤/ ٣٣٢٦، و"القاموس المحيط"، فصل الميم، باب الشين ص ٦٠٦.
312
ومنه قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾ [النحل: ٩٢] والأيمان: جمع يمين، بمعنى الحلف والقسم، وقيل للحلف يمين باسم اليد، وكانوا يبسطون أيمانهم إذا حلفوا أو تحالفوا أو تعاقدوا، وقيل: سمي القسم يميناً ليمن البرّ فيه.
قال (١) المفسرون: يعني مشركي قريش، يقول: "إن نقضوا عهودهم" (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ﴾ [قال ابن عباس: يريد: اغتابوكم وغمصوا عليكم في دينكم] (٣)، يقال: طعنه بالرمح يطعنه، وطعن بالقول السيىء (٤) يطعن (٥)، قال الليث: "وبعضهم يقول: يطعُن بالرمح ويطعَن بالقول، فيفرق بينهما" (٦)، وقال الزجاج: "وهذه الآية توجب قتل الذمي إذا أظهر الطعن في الإسلام؛ لأن العهد معقود عليه ألا يطعن فإن طعن فقد نكث" (٧).
(١) في (ى): (وقال).
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٨٧ - ٨٩، والبغوي ٤/ ١٧، و"زاد المسير" ٣/ ٤٠٤.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ي) والغمص: الاحتقار والاستصغار. انظر: "لسان العرب" (غمص) (٧/ ٦١.
(٤) في (م): (السيء الذي).
(٥) بضم العين. قال الكسائي: لم أسمع أحدًا من العرب يقول: يطعَن بالرمح ولا في الحسب، وإنما سمعت "يطعُنُ". وقال الفراء: سمعت أنا "يطعَن" بالرمح. انظر: "تهذيب اللغة" (طعن) ٣/ ٢١٩٥.
(٦) "تهذيب اللغة" (طعن) ٣/ ٢١٩٥، ونحوه في كتاب "العين" (طعن) ٢/ ١٥، وقد رد الخليل هذا القول، وقال: كلاهما مضموم.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٤.
313
قال أصحابنا (١): "إذا بلغنا عن طائفة من أهل الذمة الطعن في ديننا انتقض بذلك عهدهم لقوله: ﴿وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾.
قال ابن عباس والمفسرون: "هم رؤوس قريش وصناديدها" (٢)،
وقال الزجاج: "أئمة الكفر: رؤساء الكافرين وقادتهم لأن الإمام متبع (٣)، وذكرنا معنى (٤) الإمام عند قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا (٥)﴾ (٦) وفي:
(١) يعني أئمة الشافعية انظر: "روضة الطالبين" ١٠/ ٣٣٧.
(٢) انظر أقوال المفسرين سوى ابن عباس في: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٨٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٦١، وروياه عن ابن عباس بلفظ مغاير، قال: يعني أهل العهد من المشركين، وأثر ابن عباس الذي ذكره المصنف ذكره أيضًا في "أسباب النزول" ص ٢٤٦، ورواه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٨٨، والبغوي ٤/ ١٧، قال القرطبي ٨/ ٨٤: هذا بعيد؛ فإن الآية في سورة "براءة" حين نزلت وقرئت على الناس كان الله قد استأصل شأفة قريش فلم يبق إلا مسلم أو مسالم". قلت: ومما يؤيد قول القرطبي -رحمه الله- ما رواه ابن جرير ١٠/ ٨٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٦١ عن حذيفة قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد، وأصله في صحيح البخاري (٤٦٥٨)، كتاب التفسير: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ..﴾.
ولا يقال إن هذه الآية نزلت قبل فتح مكة ثم ضمت إلى سورة "براءة" لثبوت بعث علي -رضي الله عنه- بصدر سورة "براءة" وقت نزولها، وثبوت أن المبعوث معه كان أربعين آية. انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٦٥، وقد صحح المحقق السند كما في المصدر نفسه ٥/ ١٧٠.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٤.
(٤) ساقط من (ى).
(٥) ساقط من (ح).
(٦) من الآية: ١٢٤ من سورة البقرة. وانظر "النسخة الأزهرية" ١/ ٨٥ أ، وقد قال هناك: "الإمام: كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، والنبي إمام أمته، والخليفة إمام رعيته، والقرآن إمام المسلمين... إلخ".
314
"أئمة" قراءتان (١) بتحقيق الهمزتين، وقلب الثانية ياء (٢).
قال أبو إسحاق: "الأصل في أئمة أَأْمِمَة (٣)؛ لأنها جمع إمام، مثل: قال وأمثلة، ولكنّ الميمين لما اجتمعتا أدغمت الأولى في الثانية وأُلقيت حركتها (٤) على الهمزة فصارت أئمة فأبدل من الهمزة المكسورة الياء (٥)؛ لكراهة اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة، هذا هو الاختيار عند جميع النحويين (٦)، وذكرنا وجه هذا عند قوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٦].
قال الزجاج: ومن قرأ بهمزتين فينبغي (٧) أن يقرأ أَأْدم بهمزتين، والإجماع أن آدم فيه همزة واحدة، والاختلاف يرد إلى الإجماع وليس "أئمة" باجتماع الهمزتين من مذهب (٨) أصحابنا (٩) وإلا ما يحكى عن ابن
(١) قرأ ابن عامر والكوفيون (أئمة) بتحقيق الهمزتين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع على المشهور عنه (أيمة) بهمزة بعدها ياء. انظر: كتاب "السبعة" ص ٣١٢، و"إرشاد المبتدئ" ص ٣٥٠، و"التبصرة في القراءات" ٢١٤.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) في (ى): (أممة)، وما أثبته موافق لما في "معاني القرآن واعرابه" و"تهذيب اللغة" (أم) ١/ ٢٠٦.
(٤) في (ى): (لحركتها)، وما في (ح) موافق لما في "معاني القرآن وإعرابه" و"تهذيب اللغة" (أم) ١/ ٢٠٦.
(٥) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٥.
(٦) نسبه للنحويين أيضًا الزجاج في "معاني القرآن" ٢/ ٤٣٤، وانظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ٤٤٣، و"المقتضب" ١/ ١٥٩، و"تهذيب اللغة" (أم) ١/ ٢٠٦، و"الخصائص" لابن جني ٣/ ١٤٣، و"أوضح المسالك" ٣/ ٣٢٤ - ٣٢٦.
(٧) في (ح): (فينبغي له)، والزيادة غير موجودة في "معاني القرآن وإعرابه" ولا في "تهذيب اللغة" (أم).
(٨) في (م): (مذاهب).
(٩) يعني البصريين، انظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ٥٥١، وكتاب "التكملة" ص ٢١٩.
315
أبي إسحاق (١) أنه كان يُجيز اجتماعها" (٢).
واختلفوا في التفضيل في الإمامة فعند المازني يقال: "هذا أومّ من هذا بالواو؛ لأن الأصل أأمّ فلم يمكن أن يبدل من الهمزة الثانية ألفاً لاجتماع الساكنين فجعلت واوًا مفتوحة كما قالوا في جمع آدم: أوادم، وآخر: أواخر (٣).
وعند الأخفش يقال: أيمّ (٤)؛ لأن الهمزة الثانية من هذه الكلمة كلما تحركت (٥) أبدل (٦) منها ياء، نحو: أيمة، قال الزجاج: "والقياس
(١) في "معاني القرآن وإعرابه": ابن إسحاق، وفي "تهذيب اللغة" (أم)، و"لسان العرب" (أمم): أبي إسحاق، وما ذكره الواحدي موافق لما في "الحجة للقراء السبعة" ١/ ٢٧٤.
والصواب ما ذكره الواحدي؛ إذ هو عبد الله بن أبي إسحاق زيد بن الحارث الحضرمي مولاهم البصري النحوي المقرئ، من قدماء النحويين، وهو أول من مد القياس في النحو، وشرح العلل، وتوسع في ذلك، توفي سنة ١١٧هـ، وقيل ١٢٩ هـ. انظر: "طبقات النحويين واللغويين" ص٣١، و"غاية النهاية" ١/ ٤١٠.
وانظر: مذهب ابن أبي إسحاق في اجتماع الهمزتين في "كتاب سيبويه" ٣/ ٤٤٣، و"المقتضب" ١/ ١٥٩، و"إعراب القرآن للنحاس" ٢/ ٧، و"الحجة" ١/ ٢٧٤.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٤ - ٤٣٥ بتصرف.
(٣) انظر رأي المازني في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٥، و"لسان العرب" (أمم) ١/ ١٣٣، هكذا نقل عن المازني وفي "المنصف شرح التصريف" ٢/ ٣١٨: قال أبو عثمان -يعني المازني-: "والقياس عندي أن أقول في "هذا أفعل من هذا" من "أممت" وأخواتها: هذا أيم من هذا".
(٤) انظر: "معاني القرآن" له ١/ ٣٥٥، و"معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٣٥، وفي "المنصف شرح التصريف" ٢/ ٣١٥، سألت أبا الحسن -يعني الأخفش- عن. "هذا أفعل من هذا من أممت، أي قصدت" فقال: أقول: "هذا أوم من هذا".
(٥) في (ح): (تحرك).
(٦) في (ي): (أبدلت).
316
هو الأول" (١).
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾، قال الفراء: "أي لا عهود لهم" (٢)، وفيه قراءتان: فتح الهمزة وكسرها (٣).
قال الزجاج: "من قرأ: ﴿لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ فقد وصفهم بالنكث في العهود وهو أجود القراءتين (٤) " (٥).
والذي يقوي الفتح قوله: ﴿قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ [التوبة: ١٣] ولأنه إذا قال: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ عُلم أنه لا إيمان لهم، فالفتح في قوله: ﴿لَا أَيْمَانَ﴾ أولى؛ لأنه لا يكون تكريرًا إذ لم يقع عليه دلالة من الكلام الذي تقدمه كما وقع على الكسر.
ومعنى ﴿لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ أي لا أيمان لهم صادقة؛ لأنه قد أثبت لهم الأيمان في قوله: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ [وفي قوله: ﴿قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾] (٦) [التوبة: ١٣] فالمنفي هاهنا غير الموجب هناك؛ لأن معنى المنفي: لا أيمان لهم يفون بها، ولا أيمان لهم صادقة كما قال (٧):
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٥.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٤٢٥.
(٣) قرأ ابن عامر بكسر الهمزة من كلمة "إيمان" وقرأ الباقون بفتحها.
انظر: "كتاب السبعة" ص٣١٢، و"الغاية في القراءات العشر" ص١٦٤، و"التبصرة في القراءات" ص ٢١٤، و"تقريب النشر" ص ١٢٠.
(٤) كلا القراءتين سبعيتان متواترتان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد خفي ذلك على الإمام ابن جرير -رحمه الله- فرد قراءة ابن عامر، وزعم أن القراءة بها لا تجوز.
انظر: "تفسيره" ١٠/ ٨٩، وانظر الرد عليه في كتاب: "القراءات المتواترة التي أنكرها ابن جرير" ص ٤٥٢.
(٥) اهـ. كلام الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٥.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٧) لم أهتد إلى القائل، والبيت بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" ٦/ ٨٣ أ، و"الجامع=
317
وإن حلفت لا ينقض النأيُ عهدها فليس لمخضوب البنان يمين
أي ليس لها (١) يمين تقي بها.
ومن قرأ بالكسر فقال الفراء: "يريد: أنهم كفرة لا إسلام لهم" قال: "وقد يكون المعنى: لا تُؤمنوهم، فيكون مصدر قولك: آمنته إيماناً" (٢).
وذكر أبو إسحاق أيضًا الوجهين (٣).
وشرح أبو علي هذا فقال: "الإيمان ههنا يراد به الذي هو ضد التخويف، أي: ليس لأئمة الكفر من المشركين إيمان كما يكون لذوي الذمة من أهل الكتاب؛ لأن المشركين لا يقرون على دينهم، فلا يكون على هذا: الإيمان الذي هو خلاف الكفر، فيكون تكريرًا لدلالة ما تقدم من قوله: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ على أن أهل الكفر لا إيمان لهم" (٤).
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾، قال ابن عباس: "يريد: كي ينتهوا عن الشرك بالله" (٥).
وقال الزجاج: "أي ليرجى منهم الانتهاء" (٦).
= لأحكام القرآن" للقرطبي ٨/ ٨١، و"الدر المصون" ٦/ ٢٦، والنأي: البعد كما في الصحاح (نأي) ٦/ ٢٤٩٩.
(١) ساقط من (ح).
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٤٢٥، وفي "لسان العرب" (أمن) ١/ ١٤١: "يقال: آمن فلانٌ العدو إيمانًا، فأمن يأمن والعدو مؤمن".
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٥، ٤٣٦.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٧٨ باختصار وتصرف.
(٥) ذكر الأثر المصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٨١.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٦.
318
١٣ - قوله تعالى: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ الآية، قال ابن عباس: "هذا تحريض من الله لأوليائه على أعدائه" (١)، وقال الزجاج: "هذا على جهة التوبيخ، ومعناه: الحض على قتالهم" (٢).
قال أهل المعاني: "إذا قلت: ألا (٣) تفعل كذا (٤)، فإنما [تستعمل ذلك في فعل تقدر وجوده، وإذا قلت: ألست تفعل؟] (٥) فإنما تقول ذلك في فعل تحقق وجوده، والفرق (٦) بينهما أن (لا) يُنفى بها المستقبل، فإذا (٧) دخلت عليها الألف صار (٨) تحضيضًا [على فعل ما يستقبل] (٩)، و (ليس) إنما تستعمل لنفي الحال، فإذا (١٠) دخلت عليها الألف صار (١١) لتحقيق الحال" (١٢).
(١) "تنوير المقباس" ص١٨٨ بمعناه.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٦.
(٣) في (ى): (لا).
(٤) في (ح): (ألا تفعل ذلك كذا).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) في (ح): (والفرقة).
(٧) في (ى): (وإذا).
(٨) هكذا في جميع النسخ، وكذلك في "تفسير الرازي" ١٥/ ٢٣٥، والسياق يقتضي أن يقول: صارت.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(١٠) في (م): (وإذا).
(١١) كذا في جميع النسخ وكذلك في "تفسير الرازي" ١٥/ ٢٣٥ - ٢٣٦، والسياق يقتضي أن يقول: صارت.
(١٢) ذكره عن أهل المعاني الرازي في "تفسيره" ١٥/ ٢٣٥ نقلاً عن الواحدي.
وانظر في (ألا) "شر المفصل" ٨/ ١١٣، و"المغني" ص٧٧، و "همع الهوامع" ٢/ ٧٠.
319
وقوله تعالى: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ يدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفارة ليكون ذلك زجرًا لغيرهم، قال محمد بن إسحاق والسدي والكلبي: "نزلت في كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة" (١).
وقوله تعالى: ﴿وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ﴾، قال المفسرون: "كانوا هموا بذلك بأن (٢) يخرجوه من مكة على حالة فظيعة فصان الله رسوله عنها، وأمره بالهجرة إلى المدينة، وحين جلسوا (٣) في دار الندوة للمكر به، كان من رأي بعضهم إخراجه من مكة" (٤).
فبان بهذا أنهم قصدوا إخراجه، وهموا به فلم يمكنهم الله من ذلك (٥).
(١) انظر: قول السدي في "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٩٠، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٦٢، وانظر قول الكلبي في: "تفسير هود بن محكم" ٢/ ١١٧، والقرطبي ٨/ ٨٥ بمعناه، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص١٨٨، عن الكلبي عن ابن عباس.
أما قول محمد بن إسحاق فلم أجده بهذا المعنى، ولفظه كما في "السيرة النبوية" ٤/ ١٠، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ٩٠: "ثم أمر رسوله - ﷺ - بجهاد أهل الشرك، ممن نقض من أهل العهد الخاص، ومن كان من أهل العهد العام، بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم أجلاً إلا أن يعدو فيها عاد منهم فيقتل بعدائه، فقال: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ...﴾ الآيات" اهـ. ومعلوم أن أهل مكة أسلموا قبل نزول هذه الآيات فالقول بأنها نزلت فيهم فيه نظر.
(٢) في (م) و (ى): (وأن).
(٣) في (ح): (حبسوا)، وهو خطأ.
(٤) انظر: "السيرة النبوية" ٢/ ٩٣، ٩٤، و"الكشاف" ٢/ ١٧٧، و"زاد المسير" ٣/ ٤٠٥، وفي الآية أقوال أخرى انظرها في "المحرر الوجيز" ٦/ ٤٢٨، و"البحر المحيط" ٥/ ١٦.
(٥) لعله يعني على الحالة الفظيعة التي ذكرها؛ وإلا فقد أخرجوا رسول الله - ﷺ - والمؤمنين من مكة كما قال تعالى: ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا﴾ [الممتحنة: =
320
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، قال ابن عباس: "يريد: بالقطيعه والهجرة والعداوة" (١)، وذكر المفسرون في هذا قولين: أحدهما: أنه أراد بدؤكم بالقتال يوم بدر (٢)؛ لأنهم حين سلم العير قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمدًا ومن معه، والثاني: أنه أراد أنهم قاتلوا حلفاءك خزاعة فبدؤا بنقض العهد وهذا قول الأكثرين (٣)، واختيار الفراء (٤) والزجاج (٥).
وقوله تعالى: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾، قال الزجاج: "المعنى: أتخشون أن ينالكم من قتالهم مكروه فتتركون قتالهم؟ ﴿فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ﴾ أي: فمكروه عذاب الله أحق أن يخشى في ترك قتالهم (٦) ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي: مصدقين بعقاب الله وثوابه" (٧)، ودلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه دون غيره.
= ١]. وكما قال الرسول - ﷺ -: "لولا أني أخرجت منك ما خرجت"، رواه الإمام أحمد ٤/ ٣٠٥، وغيره وسنده صحيح كما في "صحيح الجامع الصغير" ٢/ ١١٩٢، ولذا قال المفسرون: هموا بإخراج الرسول وفعلوا، انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠ - ٨٩ - ٩٠، وابن عطية ٦/ ٤٢٨ - ٤٢٩.
(١) لم أقف عليه.
(٢) ذكر هذا القول ابن جرير ١٠/ ٩٠، ورواه عن السدي وهو قول مقاتل، انظر: "تفسيره" ١٢٦ ب، وانظر أيضاً: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٨٣ ب، والبغوي ٤/ ١٨.
(٣) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٩٠، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٦٢، والثعلبي ٦/ ٨٣ أ، وابن الجوزي ٣/ ٤٠٥، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٨٩.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٤٢٥.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٦.
(٦) قوله: "في ترك قتالهم" ليس موجودًا في "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع.
(٧) ا. هـ. كلام الزجاج. المصدر السابق، نفس الموضع.
321
١٤ - قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ " [قال مقاتل: وعدهم الله النصر بهذه الآية" (١)، ومعنى: ﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾] (٢) يقتلهم بسيوفكم ورماحكم، في معنى قول ابن عباس والمفسرين (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَيُخْزِهِمْ﴾، قال ابن عباس: "بعد (٤) قتلكم إياهم" (٥). وهذا يدل على أن هذا الإخزاء وقع بهم في الآخرة، وقال آخرون: "معناه: يذلهم بالقهر والأسر" (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾، قال ابن عباس والسدي ومجاهد: "يعني بني خزاعة" (٧)، وذلك حين أعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكوا (٨) فيهم (٩)، فشفى الله صدورهم من بني بكر واستوفى
(١) "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٣) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٩٠ - ٩١، والثعلبي ٦/ ٨٣ ب، والسمرقندي ٢/ ٣٦. وانظر قول ابن عباس في: "تنوير المقباس" ص ١٨٩، ولا يخفى ضعف سند هذا التفسير إذ هو من رواية الكلبي الباطلة. انظر: "الإتقان" ٤/ ٢٣٩.
(٤) في (ى): (يريد)، والصواب ما أثبته من غيرها بدلالة استنباط المؤلف من الرواية.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٩٠ - ٩١، والسمرقندي ٢/ ٣٦، والثعلبي ٦/ ٨٣ ب، والبغوي ٤/ ١٨.
(٧) انظر: قول ابن عباس في "زاد المسير" ٣/ ٤٠٦، و"تنوير المقباس" (ص ١٨٩)، وانظر: قول السدي ومجاهد في "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٩١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٦٣ ب، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٨٩.
(٨) بغير همز، يقال: نكيت في العدو أنكي نكاية فأنا ناك: إذا أكثرت فيهم الجراح والقتل فوهنوا لذلك، أما بالهمز فيقال: نكأت القرحة: إذا قرفتها وقشرقها. انظر: "القاموس المحيط" (نكى) ١٣٤٠، و"لسان العرب" (نكى) ٨/ ٤٥٤٥.
(٩) في (م): (نكأوا عليهم).
322
ثأرهم بالنبي - ﷺ - والمؤمنين حين استووا في القتل، وذلك أنه لما جاء المستغيث من خزاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنشد (١):
اللهمَّ إني ناشد محمدًا حلف أبينا وأبيه الأتلدا (٢)
.. الأبيات.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا نُصرت إن لم أنصركم" (٣) وغضب لهم، وخرج إلى مكة ونصر الله رسوله وشفى صدور خزاعة.
(١) هو: عمرو بن سالم الخزاعي سيد خزاعة، وقد انحاز هو وقبيلته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ودخلوا في عقده وعهده وذلك حين تم صلح الحديبية بين المسلمين وكفار قريش، بينما دخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، واستمرت الهدنة بين القبيلتين عدة أشهر، ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلاً، وبيتوهم على ماء لهم قرب مكة، وأعانتهم قريش، وأمدوهم بالسلاح للضغن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فركب عمرو بن سالم وقدم المدينة وأخبره بما كان من بني بكر وقريش، وأنشد:
اللهم إني ناشد محمدًا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
كنا والدًا وكنت ولدًا ثمت أسلمنا ولم ننزع يداً
فانصر رسول الله نصرًا عندًا وادع عباد الله يأتوا مددًا
.. إلى أن قال:
هم بيتونا بالهجير هجدًا وقتلونا ركعًا وسجدًا
انظر: "السيرة النبوية" ٤/ ١٠، و"الاستيعاب" ٣/ ٢٥٩، و"مجمع الزوائد" ٦/ ٢٤٠، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٨٩.
(٢) في (ى): (الألتدا)، وهو خطأ، والأتلد: الأقدم. انظر: "لسان العرب" (تلد) ١/ ٤٣٩.
(٣) ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٦/ ٢٣٧ - ٢٤١ بألفاظ مقاربة وقال في أحدها: رواه أبو يعلى عن حزام بن هشام بن حبيش، عن أبيه، وقد وثقهما ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح" وقال الهيثمي في لفظ آخر: "رواه الطبراني في الصغير والكبير، وفيه يحيى بن سليمان بن نضلة، وهو ضعيف".
323
قال أبو إسحاق: "وفي هذه الآية، دليل على تثبيت النبوة؛ لأنه وعدهم النصر ووفى به، فدل به على صدق ما أتى به محمد - ﷺ -" (١)، ودلّ كلام أبي إسحاق (٢) في تفسير قوله: ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ أن هذا يراد به أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا حلفاؤه من خزاعة؛ لأنه قال: "فيه دليل على أنهم اشتد غضبهم لله عز وجل" (٣)، فعنده الشفاء إنما هو من داء الغضب لله ولدينه ورسوله، وعند غيره من المفسرين: الشفاء من داء الحقد لخزاعة على بني بكر وقريش (٤).
١٥ - قوله تعالى: ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾، قال المفسرون: "يعني: كربها ووجدها بمعونة قريش بكرًا عليهم" (٥).
﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ يعني (٦) من المشركين كأبي سفيان وعكرمة ابن أبي جهل (٧) وسهيل بن عمرو (٨)، تاب الله عليهم، وهداهم للإسلام.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٦ بنحوه.
(٢) (إسحاق) ساقط من (ى).
(٣) المصدر السابق، نفس الموضع.
(٤) هذا قول مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي. انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٩١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٦٣، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٨٩.
(٥) هذا نص قول الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٨٣ ب، ومثله البغوي ٤/ ١٨، وبنحوه قال ابن جرير ١٠/ ٩١.
(٦) من (م).
(٧) هو: عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي المكي، الشريف الشهيد، كان سيد بني مخزوم بعد قتل أبيه، ثم أسلم وحسن إسلامه، وأبلى في الإسلام بلاءً حسنًا، وقتل في معركة أجنادين أو اليرموك سنة ١٣ هـ أو ١٥هـ. انظر: "المعارف" ص١٨٨، و"سير أعلام النبلاء" ١/ ٣٢٣، و"البداية والنهاية" ٧/ ٤، ٣٢، و"الإصابة" ٤/ ٤٩٦.
(٨) هو: سهيل بن عمرو بن عبد شمس العامري القرشي خطيب قريش وفصيحهم، =
324
قال الزجاج: "قوله تعالى: ﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ﴾ ليس بجواب لقوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ﴾ ولكنه مستأنف؛ لأن ﴿يَتُوبُ﴾ ليس من جنس ما يجاب به ﴿قَاتِلُوهُمْ﴾ " (١).
وقال الفراء: "رفع قوله: ﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ﴾ لأن معناه ليس من شروط الجزاء، إنما هو استئناف، كقولك للرجل: ائتني أعطك، وأحبُّك بعد وأكرمُك، استئناف ليس بشرط للجزاء، ومثله قوله: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشورى: ٢٤] تم الجزاء ههنا، ثم استأنف: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ (٢) " (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، قال ابن عباس: "يريد: "عليم" بنيات المؤمنين وحبهم لله "حكيم" فيما قضى في الذين نقضوا القضية (٤) " (٥).
= ومن أشرافهم، أسلم بعد فتح مكة وحسن إسلامه، وكان سمحًا جوادًا مفوهًا، كثير الصلاة والصوم والصدقة، مات في طاعون عمواس سنة ١٨هـ، وقيل: بل قتل في معركة اليرموك سنة ١٣هـ أو ١٥هـ.
انظر: "المعارف" ١٦١، و"سير أعلام النبلاء" ١/ ١٩٤، و"الإصابة" ٣/ ٩٣.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٧.
(٢) قوله (يمح) كتبت في جميع النسخ هكذا: "يمحو" بإثبات الواو، وهي في رسم المصحف العثماني وفي "معاني القرآن" للفراء بإسقاط الواو، قال العكبري في "التبيان في إعراب القرآن" ص ٤١٦: و"يمح": مرفوع مستأنف، وليس من الجواب؛ لأنه يمحو الباطل من غير شرط، وسقطت الواو من اللفظ لالتقاء الساكنين، ومن المصحف حملاً على اللفظ). وانظر أيضاً: "البيان في غريب إعراب القرآن" ٢/ ٣٤٧ فقد ذكر نحو ذلك.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤٢٦ بتصرف يسير.
(٤) في (ى): (العهد).
(٥) في "تنوير المقباس" ص ١٨٩: "والله عليم" بمن تاب وبمن لم يتب منهم "حكيم" فيما حكم عليهم.
325
١٦ - قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا﴾ الآية، قال الفراء: "هذا من الاستفهام الذي يتوسط الكلام فيجعل بـ"أم" ليفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ الذي لم يتصل بكلام، ولو أريد به الابتداء لكان بالألف أو بـ"هل" (١) " وهذا مما قد (٢) أحكمناه (٣) في سورة البقرة (٤).
قال ابن عباس: "الخطاب في هذه الآية للمنافقين كانوا يتوسلون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخروج معه إلى الجهاد تعذيرا، والنفاق في قلوبهم" (٥).
ومعنى: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ أي: العلم الذي يجازي عليه؛ لأنه إنما يجازي على ما عملوا (٦)، قاله الزجاج (٧)، وهذا مما ذكرناه في سورة البقرة عند قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ (٨) وفي سورة آل عمران [١٤٢].
﴿الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾، قال ابن عباس: "يريد: بنية صادقة" (٩).
(١) اهـ. "معاني القرآن" ١/ ٤٢٦.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) في (ى): (حكيناه).
(٤) انظر: "البسيط" البقرة: ٢١٤.
(٥) ذكر الأثر عنه ابن الجوزي في: "زاد المسير" ٣/ ٤٠٦ بمعناه.
(٦) قال ابن الجوزي في المصدر السابق، الصفحة التالية: "ولما يعلم الله" أي: ولم تجاهدوا فيعلم الله وجود ذلك منكم، وقد كان يعلم ذلك غيبًا، فأراد إظهار ما علم ليجازي عليه.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٧.
(٨) من الآية: ١٤٣ من سورة البقرة، وقال في هذا الموضع: "إلا لنعلم" والله تعالى عالم لم يزل، ولا يجوز أن يحدث له علم، واختلف أهل المعاني في وجه تأويله، فذهب جماعة إلى أن العلم له منزلتان: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به بعد وجوده، والحكم للحلم بعد الوجود؛ لأنه يوجب الثواب والعقاب... الخ).
(٩) لم أقف على مصدره.
326
وقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾، قال الكفراء: "الوليجة: البطانة من المشركين يتخذونهم فيفشون إليهم أسرارهم" (١).
وقال أبو عبيدة: "كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم: وليجة" (٢).
وأصله من الولوج، فوليجة الرجل: من يختصه بدخلة أمره دون الناس، يقال هو وليجتي وهم وليجتى للواحد والجمع.
قال ابن عباس في قوله: ﴿وَلِيجَةً﴾ "يريد: أولياء من المشركين" (٣).
وقال قتادة: "خيانة" (٤)، وقال الضحاك: "خديعة" (٥).
وهذان القولان ليسا تفسيرًا للوليجة، بل هما تفسير لعلة اتخاذ الوليجة، كأنهما قالا: ولم يتخذوا وليجة للخيانة والخديعة؛ لأن اتخاذ الوليجة من الكفار خيانة وخديعة، قال ابن عباس: "إن الله لا يرضى أن يكون الباطن خلافًا للظاهر ولا الظاهر خلافًا للباطن، إنما يريد الله من خلقه الاستقامة كما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت: ٣٠]، الأحقاف: ١٣] (٦) ".
(١) "معاني القرآن" ١/ ٤٢٦.
(٢) اهـ. كلام أبي عبيدة، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٥٤.
(٣) ذكره المصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٨٢، وروى ابن أبي حاتم ٦/ ١٧٦٤، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٩٠ عنه قال: الوليجة: البطانة من غير دينهم.
(٤) رواه الثعلبي ٦/ ٨٤ أ، وعبد بن حميد وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٩٠، و"فتح القدير" ٢/ ٣٤٣، وقد تصحف في "الدر" إلى: حنانة.
(٥) رواه الثعلبي ٦/ ٨٤ أ.
(٦) لم أقف عليه في مظانه.
327
وقال أبو (١) إسحاق: "لما فرض القتال تبين المنافق من غيره، ومن يوالي المؤمنين ممن يوالي أعداءهم فأنزل الله هذه الآية" (٢).
وتقدير لفظ الآية مع المعنى: ولما يعلم الله المجاهدين والممتنعين من اتخاذ الوليجة.
١٧ - قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ الآية، قال ابن عباس: "لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيروه بكفره بالله وقطيعة الرحم وأغلظ عليّ القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا؟ قال له علىّ: ألكم محاسن؟! فقال: نعم، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني، فأنزل الله -عز وجل- ردًا على العباس ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ (٣).
ومعنى ما كان لهم ذلك: أنه أوجب على المسلمين منعهم عن ذلك، وأكثر المفسرين حملوا العمارة ههنا على دخول المسجد الحرام (٤) والقعود فيه (٥)، وهو قول ابن عباس والحسن، قال (٦) في رواية عطاء: "يريد: لا يدخلوه ولا يقعدوا فيه كما كانوا قبل ذلك" (٧).
(١) في (ى): (ابن)، وهو خطأ.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٧.
(٣) ذكره الثعلبي ٦/ ٨٤ أ، والمصنف في "أسباب النزول" ص ٢٤٦ بغير سند، ورواه مختصرًا بن جرير ١٠/ ٩٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٦٥ من طريق الوالبي.
(٤) من (م).
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٨٤ ب، والبغوي ٤/ ٢٠، والسمرقندي ٢/ ٣٨، والآية التالية وسبب النزول الذي ذكره المؤلف يدلان على أن المراد بالعمارة العمارة المعروفة من البناء والترميم.
(٦) لفظ: (قال) ساقط من (ح). والقائل ابن عباس، وسيأتي قول الحسن وتخريجه.
(٧) لم أقف عليه فيما بين يديّ من مصادر.
328
وقال الحسن: "يقول (١): ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام" (٢). وقال الكلبي: "ما كان للمشركين أن يدخلوا المسجد وهم مشركون" (٣).
وذهب آخرون إلى (٤) العمارة المعروفة من رم المسترم (٥) من أبنية المسجد (٦)، وهذا محظور على الكافر يمنع منه ولا يمكن.
واختلف القراء في قوله: ﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ فقرأ أبو عمرو وابن كثير على التوحيد (٧) وحجتهما قوله: ﴿وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ ومن جمع فحجته أن المشركين ليسوا بأولياء لمساجد المسلمين، لا المسجد الحرام ولا غيره [وإذا لم يكونوا أولياءها لم يكن لهم عمارتها، إنما عمارتها للمسلمين الذين هم أولياؤه (٨) فدخل في ذلك المسجد الحرام وغيره، (٩)، ويدل على
(١) ساقط من (ى).
(٢) ذكره الثعلبي ٦/ ٨٤ ب، والمصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٨٢، والبغوي ٤/ ٢٠.
(٣) لم أقف عليه يما بين يديّ من مصادر.
(٤) في (ح): زيادة (أن) بعد (إلى).
(٥) في (ى): (المستهدم، وهما بمعنى واحد، قال في "لسان العرب" (رم) ٣/ ١٧٣٦: "الرم: إصلاح الشيء الذي فسد.. واسترام الحائط: أي حان له أن يرم إذا بعد عهده بالتطيين".
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٩٣، والبغوي ٤/ ١٩، وابن الجوزي ٣/ ٤٠٩، والقرطبي ٨/ ٩٠.
(٧) وكذلك يعقوب، وقرأ باقي العشرة بالجمع. انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٤، و"تقريب النشر" ص١٢٠، و"تحبير التيسير" ص ١١٩.
(٨) هكذا في (ى) و (م) و"الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٨٠ الذي نقك المؤلف النص منه، والسياق يقتضي أن يقول: أولياؤها.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
329
أنهم ليس لهم عمارة المسجد قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾ [الأنفال: ٣٤]، قال الفراء في هذه الآية: "ربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع، ألا ترى الرجل على البرذون (١) فتقول: قد أخذتَ في ركوب البراذين؟ وترى الرجل كثير الدراهم فتقول: إنه لكثير الدرهم (٢)، وتقول العرب: عليه أخلاق نعلين، وأخلاق ثوب، ومنه قول الشاعر (٣):
جاء الشتاء وقميصي أخلاق (٤)
وقوله تعالى: ﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾، قال الزجاج: "شاهدين" (٥) حال، المعنى: ما كانت (٦) لهم عمارة المسجد في حال إقرارهم بالكفر" (٧).
(١) قال الأزهري في "تهذيب اللغة" (برذن) ١/ ٣٠٧: "البراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العراب".
(٢) في (ح) و (ى): (الدراهم، وهو خطأ).
(٣) صدر بيت وعجزه:
شراذم بعجب منه التواق
ولم أهتد إلى قائله، وقال البغدادي في "الخزانة" ١/ ٢٣٤: "نسب أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات هذا البيت إلى بعض الأعراب" اهـ. والبيت بلا نسبة في "لسان العرب" (توق).
وثوب أخلاق -بالجمع- إذا بلي كله. وثوب شراذم: قطع، والتواق: اسم ابن الشاعر. انظر: "خزانة الأدب"، الموضع السابق.
(٤) اهـ. كلام الفراء من "معاني القرآن" ١/ ٤٢٧ مع اختلاف يسير.
(٥) في (ح): زيادة "على أنفسهم بالكفر" وهذه الزيادة غير موجودة في المصدر.
(٦) في (ى): (كان).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٧.
330
ومعنى: ﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾: قال ابن عباس في رواية الضحاك: "شهادتهم على أنفسهم بالكفر: سجودهم لأصنامهم وإقرارهم أنها مخلوقة" (١)، وقال في رواية عطاء: "يريد: حين اتخذوا لله شفعاء وأنداداً" (٢)، وهذا معنى القول (٣) الأول.
وقال الحسن: "لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بكفرهم" (٤) يعني أن (٥) فيما يخبرون به دليلًا على كفرهم، لا أنهم يقولون نحن كفار، ولكن كما تقول للرجل: كلامك يشهد أنك ظالم، وقال السدي: "شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يُسأل ما أنت؟ فيقول: نصراني واليهودي يقول: يهودي، وعابد الوثن يقول: مشرك" (٦).
وذكر ابن الأنباري في هذا وجهين:
أحدهما: أنه قال: شهادتهم على أنفسهم بالكفر عدولهم عن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حق لا يخفى على مميز، ولا يرتاب به عاقل، فكانوا (٧) في ذلك بمنزلة من شهد على نفسه بالكفر.
والثاني: أنهم آمنوا بأنبياء (٨) شهدوا لمحمد - ﷺ - بالصدق فلما آمنوا
(١) رواه الثعلبي ٦/ ٨٥ أ، وفي سنده جويبر وهو ضعيف جداً، ثم إن الضحاك لم يلق ابن عباس كما في "تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٢٦، ورواه البغوي ٤/ ٢٠ مختصرًا.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) في (ى): (قول).
(٤) رواه الثعلبي ٦/ ٨٥ أ، والبغوي ٤/ ٢٠.
(٥) ساقط من (ى).
(٦) رواه بنحوه ابن جرير ١٠/ ٩٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٦٥، والثعلبي ٦/ ٨٥ أ، والبغوي ٤/ ٢٠.
(٧) في (م): (كانوا).
(٨) في (ي): (بالأنبياء).
331
بهم وكذبوه دلوا على كفرهم (١)، وجرى ذلك مجرى الشهادة منهم على أنفسهم بالكفر" (٢).
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾، قال ابن عباس: "يريد: أن أعمالهم لغير الله" (٣).
وقال الزجاج: "أي كفرهم قد أذهب ثواب أعمالهم" (٤).
ودلت هذه الآية مع ما ذكرنا من التفسير في العمارة أن الكافر ممنوع من عمارة مسجد من مساجد المسلمين، ولو أوصى بها (٥) لم تقبل وصيته، ويمنع عن دخول المساجد، فإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيم المساجد ومنعهم منها للآية، وقد أنزل رسول الله - ﷺ - وفد ثقيف في المسجد وهم كفار (٦)، وشد ثمامة (٧) بن أثال
(١) هذا الوجه يصح في حق أهل الكتاب دون مشركي العرب فإنهم ما كانوا يؤمنون بالأنبياء، ولا يعرفون الوحي، كما قال تعالى: ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ [ق: ٢]، وقال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٤].
(٢) ذكر قول ابن الأنباري بلفظ مقارب ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٠٨.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٧.
(٥) أي بالعمارة، وفي (ى): (لها)، أي للمساجد، وأثبت ما في (م) و (ح) لموافقته ما في"تفسير الرازي" ١٦/ ٧ - ٨ نقلاً عن الواحدي.
(٦) انظر: "مسند الإمام أحمد" ٤/ ٢١٨، و"سنن أبي داود"، (٣٠٢٥) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في خبر الطائف.
(٧) هو: ثمامة بن أثال بن النعمان الحنفي أبو أمامة اليمامي الصحابي، كان سيد أهل اليمامة، وقد حاصر أهل مكة أقتصاديًا ولما ارتد أهل اليمامة في فتنة مسيلمة ثبت هو على إسلامه وقاتل المرتدين من أهل البحرين، وقتل غيلة سنة١٢هـ. =
332
الحنفي على سارية من سواري المسجد وهو كافر (١)، وليس في الآية حجة لمن جعل دخول الكافر المسجد وصلاته فيه إيمانًا منه؛ لأنا (٢) لا نأمن أن تكون صلاته قبل سماع الشهادتين منه سخرية واستهزاءً، ولا يكون فعله (٣) عمارة للمسجد ما لم تتقدم منه كلمة الإيمان، وإن حملنا العمارة على عمارة البناء سقط هذا الاستدلال.
١٨ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ أي: إنما يعمرها بحقها من آمن بالله، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالايمان؛ فإن الله -عز وجل- يقول ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ " (٤)، وهذا يدل على أن المراد بالعمارة دخول المسجد والقعود فيه.
= انظر: "الاستيعاب" ١/ ٢٨٧ (٢٨٢)، و"الإصابة" ١/ ٢٠٣ (٩٦١).
(١) رواه البخاري (٤٦٩)، كتاب الصلاة، باب دخول المشرك المسجد ١/ ٢٠٢.
(٢) (لأنا) ساقط من (ح).
(٣) يعني دخوله المسجد وصلاته فيه.
(٤) رواه الترمذي في "سننه" (٣٠٩٣)، كتاب التفسير، باب ومن سورة التوبة، وقال: حديث حسن غريب، ورواه أيضًا الدارمي في "سننه"، كتاب الصلاة، باب المحافظة على الصلوات، رقم (١٢٢٣) ١/ ٣٠٢، وأحمد في "المسند" ٣/ ٦٨، ٧٦، والحاكم في "المستدرك"، كتاب الصلاة ١/ ٢١٢ وصححه، وتعقبه الذهبي بأن في سنده دراجًا وهو كثير المناكير.
قلت: وجميع أسانيد هذا الحديث في مصادره السابقة تدور على دراج بن سمعان عن أبي الهيثم وهي ضعيفة.
قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في "التقريب" ص ٢٠١ (١٨٢٤): (صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف. وضعف الحديث أيضًا الألباني في "ضعيف الجامع الصغير وزياداته" رقم (٦٠٨) ١/ ١٨٤.
333
وقوله تعالى: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾، قال ابن عباس: "يعني المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان" (١)، والإيمان بالله يجمع الصلاة والزكاة، ولكنهما من أوكد أقسام الإسلام وما أوجبه الإيمان، فذكرهما، قال الزجاج: "ولم يذكر الرسول - ﷺ - في هذا (٢)؛ لأن في قوله: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ دليل على تصديقه؛ لأن المعنى: وآتى الزكاة التي أتى بتحديدها الرسول - ﷺ - (٣).
قال أهل المعاني: "يريد من كان بهذه الصفة كان من أهل عمارة المسجد، وليس المعنى أن من عمرها كان بهذه الصفة" (٤)، غير أنه قلَّ من يعمرها إلا وقد جمع هذه الصفات، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخبر الذي ذكرنا.
وقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾، قال الزجاج: "تأويله: لم يخف في باب الدين إلا الله جل وعز" (٥).
وقال أهل المعاني: "يعني: لا يترك هذه العبادات لخشية أحد ولكن يخشى الله فيقيم ذلك، والخشية من غير الله المنهي عنها أن يترك أمر الله لخشية غيره، فأما أن يخشى الناس خشية لا تؤديه إلى ترك أمر الله فليس بمنهى عنه" (٦).
(١) لم أقف على مصدره.
(٢) في (ى): (في هذه الآية)، وما أثبته موافق لما في المصدر التالى.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٨ بتصرف.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٤٠٩، و"الوسيط" ٢/ ٤٨٤، ولم أجده في كتاب أهل المعاني.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٨، وليس فيه لفظ (جل وعز).
(٦) ذكر العلماء أن الخشية والخوف أربعة أقسام: =
334
وقوله تعالى: ﴿فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ أي فأولئك هم المهتدون، وعسى من الله واجبة، ولكن ذكر بلفظ "عسى" ليكونوا على رجاء وطمع وحذر، وابن عباس والمفسرون يقولون: "عسى واجبة من الله" (١)، ومعنى الاهتداء ههنا الإمساك بطاعة الله التي تؤدي إلى الجنة.
١٩ - قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾ الآية، ذكر المفسرون أقوالًا في نزول هذه الآية فقال ابن عباس في رواية الوالبي: "قال العباس: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج، فأنزل الله هذه الآية" (٢)، وقال في رواية العوفي: "إن المشركين قالوا: عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير من الإيمان
= الأول: خوف السر، وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء من مرض أو فقر ونحو ذلك بقدرته ومشيئته، فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلاً، ومن خاف غيره هذا الخوف فهو مشرك شركًا أكبر. قال تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة: ٤٠].
الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الطاعة من غير عذر إلا خوف الناس، فهذا محرم.
الثالث: خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة، وهذا من أعلى مراتب الإيمان.
الرابع: الخوف الطبيعي، كالخوف من عدو أو سبع ونحو ذلك، فهذا لا يذم، وهو الذي ذكره الله عن موسى-عليه السلام- في قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ [القصص: ٢٢]. انظر: "تيسير العزيز الحميد" ص ٤٨٦، و"فتح المجيد" ص ٣٥٢.
(١) رواه عن ابن عباس، ابن جرير ١٠/ ٩٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٦٦ من طريق علي ابن أبي طلحة الوالبي وهو في صحيفته ص٢٦٠، وقد ذهب إلى هذا القول الثعلبي ٦/ ٨٥ ب، والبغوي ٤/ ٢٠، والماوردي ٢/ ٣٤٨، والقرطبي ٨/ ٩١ وغيرهم، ولم أجده عن الحسن.
(٢) رواه الثعلبي ٦/ ٨٦ أ، والبغوي ٤/ ٢٢، وبنحوه ابن جرير ١٠/ ٩٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٦٨.
335
والجهاد، فأنزل الله هذه الآية" (١).
وقال الحسن والشعبي والقرظي: "افتخر علي والعباس وطلحة بن شيبة (٢): فقال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه؛ ولو أشاء بتُّ فيه، وقال العباس: [أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي] (٣): أنا صاحب الجهاد، فأنزل الله هذه الآية" (٤).
والسقاية: الموضع الذي يتخذ فيه (٥) الشراب في المواسم وغيرها، ومنه قوله تعالى: ﴿جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ [يوسف: ٧٠]، يعني إناء، قاله الليث (٦)، قال: وسقاية الحاج: سقيهم الشراب" (٧).
فالسقاية يجوز أن تكون اسمًا، ويجوز أن تكون مصدرًا، كالرعاية
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ٩٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٦٨، والثعلبي ٦/ ٨٦ أ.
(٢) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "طلحة بن شيبة لا وجود له، وإنما خادم الكعبة هو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة". انظر: "منهاج السنة" ٥/ ١٨.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٤) ذكر الأثر عنهم الثعلبي ٦/ ٨٦ أ، والواحدي في "أسباب النزول" ٢٤٨، والبغوي ٤/ ٢٢، ورواه ابن جرير ١٠/ ٩٦ عن القرظي بلفظه، وعن الحسن والشعبي بمعناه مختصرًا، وفي سند ابن جرير عن القرظي علتان: جهالة أحد رواته، والإرسال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ٥/ ١٨ - ١٩: "هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة، بل ودلالات الكذب عليه ظاهرة".
(٥) في (ح): (منه).
(٦) "تهذيب اللغة" (سقي) ٢/ ١٧١٥، والنص موجود بنحوه في كتاب "العين" (سقي) ٥/ ١٨٩.
(٧) المصدرين السابقين، نفس الموضع.
336
والحماية (١)، فإن جعلته اسمًا فالمعنى: أجعلتم أهل (٢) سقاية الحاج أو (٣) أصحابها؟ ثم حذفت المضاف، وإن جعلته مصدرًا فهو مصدرٌ يراد به الفاعل على تقدير: أجعلتم ساقي الحاج [أو سقاة (٤) الحاج] (٥) وعمار (٦) المسجد، كمن آمن (٧)، وإن شئت تركتها مصدرًا وأضمرت المضاف في قوله: ﴿كَمَنْ آمَنَ﴾ فقلت: التقدير: أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن؟ وهذه الوجوه ذكرها الفراء (٨) والزجاج (٩) وابن الأنباري (١٠)، وقد استقصينا ما في هذا عند قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ (١١)، قال الحسن: "وكانت
(١) في (ى): (والرعاية)، وهو خطأ.
(٢) "أهل" ساقط من (ى).
(٣) في (ى): (و).
(٤) في (ح): (سقاية). وهو خطأ.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) في (ح) و (ى): (وعمارة)، وهو خطأ.
(٧) قال ابن جني: ولست أدفع مع هذا أن يكون "سقاية الحاج" جمع ساق، و"عمارة المسجد الحرام" جمع عامر، فيكون كقائم وقيام، وصاحب وصحاب، وراع ورعاء، إلا أنه أنث (فعالًا) على ما مضى فصار كحجارة وعيارة... إلخ". "المحتسب" ١/ ٢٨٦.
(٨) "معاني القرآن" ١/ ٤٢٧ وقد ذكر وجهًا واحداً وهو أن "السقاية" و"العمارة" مصدر يكفي من الاسم.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٨، وقد ذكر وجهًا واحداً، وهو أن المضاف محذوف، والتقدير: أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد.
(١٠) في كتابه "معاني القرآن" ولم يُعثر عليه حتى الآن.
(١١) من الآية: ١٧٧ من سورة البقرة. وانظر "النسخة الأزهرية" ١/ ١٠٧ ب وقد قال في هذا الموضع: "ولكن البر من آمن بالله" البر مصدر، ولا يخبر عن المصادر بالأسماء و (من) اسم، واختلف النحويون وأهل المعاني في وجهه، وقال أبو عبيدة: البر ههنا بمعنى البار، والفاعل قد يسمى بالمصدر.. وحكى الزجاج أن معناه: ذا البر فحذف كقوله "هم درجات عند الله" أي ذو درجات، وقال قطرب والفراء: معناه: ولكن البر بر من آمن فحذف المضاف..).
337
السقاية نبيذ زبيب" (١) وقوله تعالى: ﴿وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، قال ابن عباس: "يريد: تجميره وتخليقه (٢) " (٣).
وقوله تعالى: ﴿كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ﴾ قال العوفي عن ابن عباس: "أخبر أن عمارتهم المسجد الحرام، وقيامهم على السقاية لا ينفعهم عند الله مع الشرك (٤) بالله، [وأن الإيمان بالله والجهاد مع نبيه خير مما هم عليه" (٥)] (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أي قد هدى المؤمنين الذين وصفهم، ولم يهد الذين سووا بهم (٧)، وقال مقاتل: "لا يستوون عند الله في الفضل" (٨)، وقال الكلبي: "في الثواب" (٩)، وقال الأشتر بن
(١) ذكره الثعلبي ٦/ ٨٦ ب، وابن الجوزي ٣/ ٤١٠.
(٢) التجمير: التبخير بالعود، والتخليق: الطلي بالخلوق، والخلوق: طيب معروف يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، وتغلب عليه العمرة والصفرة. انظر: "لسان العرب" (جمر) ٢/ ٦٧٥ و (خلق) ٢/ ١٢٤٧.
(٣) ذكر الأثر ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤١١، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٨٦.
(٤) في (م): (الشريك).
(٥) رواه الثعلبي ٦/ ٨٦ أبهذا اللفظ، ورواه ابن جرير ١٠/ ٩٥ بنحوه مع تقديم ما بين المعقوفين على ما قبلها.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٧) يعني التسوية المذكورة في قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ الآية، وعبارة المؤلف ليست على إطلاقها فإن ممن سوي بهم العباس وشيبة بن عثمان، وقد هداهما الله تعالى.
(٨) "تفسير مقاتل" ص ١٢٧ ب.
(٩) "تنوير المقباس" ص١٨٩ عنه عن ابن عباس.
338
عبد الله (١). "الذين زعموا أنهم أهل العمارة سماهم الله ظالمين بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئًا".
٢٠ - ثم نعت المهاجرين فقال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى قوله: ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي من الذين افتخروا بعمارة البيت وسقي الحاج، فإن قيل: إنهم كانوا كفارًا فكيف جاز في صفة المؤمنين أنهم أعظم درجة عند الله منهم، ولا درجة لهم عند الله؟ قيل: هذا على ما كانوا يقدرون هم لأنفسهم وإن كان ذلك التقدير خطأ (٢)، كقوله (٣): ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ [الفرقان: ٢٤]، وقال الزجاج: "المعنى: أعظم من غيرهم درجة" (٤)، فيدخل في هذا كل ذي درجة ويحصل للمهاجرين المزية.
وقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ معنى الفوز في اللغة: الظفر بالبغية وإدراك الطلبة (٥)، قال الزجاج: "والفائز: الذي يظفر بأمنيته من الخير" (٦)، وهذا مما قد سبق (٧).
(١) هكذا في (م) و (ى) وفي (ح): (الأشترين عند الله)، ولم أجد فيما بين يدي من مصادر من اسمه الأشتر بن عبد الله، وأرجح أن في النص تصحيف، والصواب: وقال -يعني الكلبي-: الأشرين عند الله الذين زعموا.. الخ، ويؤكد هذا أن الأثر قد رواه ابن جرير ١٠/ ٩٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٦٩ عن ابن عباس من طريق العوفي دون قوله "الأشرين عند الله"، وقد روي عن العرب صيغة أفعل التفضيل "أشر" وإن كانت لغة قليلة ورديئة كما في "الصحاح" (شرر) ٢/ ٦٩٥، و"لسان العرب" (شرر) ٤/ ٢٢٣٢.
(٢) في (ح): حقًّا، والصواب ما أثبته من (ى) و (م).
(٣) (كقوله) ساقط من (ح).
(٤) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٨.
(٥) انظر: "الصحاح" (فوز) ٣/ ٨٩٠، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧١٨ (فاز).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٩.
(٧) انظر: "البسيط" آل عمران: ١٨٥.
٢١ - قوله تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ﴾ الآية، قال أبو إسحاق: "أي: يعلمهم في الدنيا مالهم في الآخرة" (١) [وقوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾ النعيم: نقيض البؤس، وهو لين العيش من النعمة (٢)، وهي اللين، والمقيم: الدائم الذي لا يزول ولا يبرح (٣)، وهذه الآية والتي بعدها (٤) في المهاجرين خاصة] (٥).
٢٣ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ الآية، قال ابن عباس في رواية الضحاك: "لما أمر الله المسلمين بالهجرة وكان قبل فتح مكة من آمن ولم يهاجر، لم يقبل الله إيمانه حتى يجانب الآباء والأقرباء إن كانوا كفارًا" (٦)، وقال في رواية أبي صالح (٧): "لما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لناس بالهجرة إلى المدينة فمن الناس من يوافقه أهله وزوجته وأقاربه على الهجرة، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده، فيقولون: ننشدك الله أن تضيعنا، فيرق فيجلس ويدع الهجرة، فأنزل الله هذه الآية" (٨)، فقوله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ أي: بطانة وأصدقاء، تؤثرون المقام بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٩.
(٢) انظر: "الصحاح" (نعم) ٥/ ٢٠٤٢.
(٣) انظر: "لسان العرب" (قوم) ٦/ ٣٧٨١.
(٤) يعني قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ ودليل التخصيص الآية السابقة: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا...﴾ إلخ.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٦) رواه الثعلبي ٦/ ٨٧ أمطولاً، وفي سنده جويبر ضعيف.
(٧) هو: باذام. تقدمت ترجمته، وقد روى تفسيره الكلبي.
(٨) رواه الثعلبي ٦/ ٨٧ أ، والبغوي ٤/ ٢٤ مختصرًا عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
وقال ابن عباس: "يريد: لا تتولوهم في شيء من أمورهم، لا في النكاح ولا في الميراث ولا في الطعام ولا في الشراب ولا في السلام ولا في الكلام حتى يؤمنوا ويوحدوا الله" (١).
وقوله تعالى: ﴿إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ﴾ الاستحباب: طلب المحبة، ثم يقال: استحب كذا بمعنى أحبه كأنه طلب محبته، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب.
وقوله (٢): ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، قال ابن عباس: "يريد: مشرك مثلهم" (٣)، وقال الحسن: "من تولى المشرك فهو مشرك، وذلك أنه راض بشركه كما أن من تولى الفاسق فهو فاسق لرضاه بفسقه" (٤).
٢٤ - قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ﴾ الآية، قال ابن عباس في رواية الضحاك: "لما أمر المسلمون بالهجرة ومجانبة أقاربهم الكفرة قالوا: يا نبي الله، إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين نقطع آباءنا وعشائرنا وتذهب تجارتنا وتخرب ديارنا فأنزل الله هذه الآية" (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَعَشِيرَتُكُمْ﴾ عشيرة الرجل: أهله الأدنون، وهم الذين يعاشرونه وقريء "وعشيراتكم" بالجمع (٦)، وذلك أن كل واحد من
(١) لم أقف عليه.
(٢) من (م).
(٣) "تفسير الرازي" ١٦/ ١٨، والقرطبي ٨/ ٩٤.
(٤) لم أقف على مصدره، وقد ذكره من غير نسبة هود بن محكم في "تفسيره" ٢/ ١٢١.
(٥) رواه الثعلبي ٦/ ٨٧ أمطولاً، وانظر: "زاد المسير" ٣/ ٤١١ وسنده ضعيف؛ لأن الضحاك لم يلق ابن عباس كما في "تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٢٦.
(٦) وهي قراءة شعبة عن عاصم وحده، وقرأ حفص عن عاصم وباقي القراء العشرة بالإفراد. انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٤، و"التبصرة في القراءات" ص ٢١٤، و"تقريب النشر" ص ١٢٠.
341
المخاطبين له عشيرة، فإذا جُمعت قيل: "وعشيراتكم"، ومن أفرد قال: العشيرة واقعة على الجمع فاستغنى عن جمعها، ويقوي ذلك أن الأخفش قال: "لا تكاد العرب تجمع عشيرة: عشيرات، إنما يجمعونها (١) عشائر" (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا﴾ الاقتراف: الاكتساب، قال ابن عباس: "يريد [كسبتموها" (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ قال ابن عباس] (٤): "يريد: فتربصوا بما تحبون فليس لكم عند الله ثواب في إيمانكم" (٥)، ومعنى (٦): ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ يعني فتح مكة في قول مجاهد (٧) ومقاتل (٨) والأكثرين (٩)، ومعنى هذا: إن كنتم تؤثرون المقام في دوركم
(١) في (ج): (يجمعونه).
(٢) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٨٠، و"الوسيط" ٢/ ٤٨٦، و"زاد المسير" ٣/ ٤١٢، و"لسان العرب" (عشر) ٥/ ٢٩٥٥، وقول الأخفش هذا ليس موجودًا في كتابه "معاني القرآن".
(٣) "الوجيز" ٦/ ٤٤٦.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٥) ذكره المصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٨٧.
(٦) ساقط من (ى).
(٧) رواه ابن جرير ١٠/ ٩٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٧٢، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٤/ ١٥٧، والقول في "تفسير مجاهد" ص ٣٦٦.
(٨) "تفسير مقاتل" ص ١٢٧ ب.
(٩) لم يذكره ابن جرير وابن أبي حاتم والماوردي والسيوطي إلا عن مجاهد، وزاد الثعلبي مقاتل، وقد ذكر ما ذكره المصنف من أنه قول الأكثرين. البغوي ٤/ ٤٨٧، وابن الجوزي ٣/ ٤١٣. قال الشيخ ابن عاشور في "التحرير والتنوير" ١٠/ ١٥٤: =
342
وأهليكم وتتركون الهجرة فأقيموا غير مثابين حتى يفتح الله مكة فيسقط فرض الهجرة، ولا يكون الأمر بالتربص أمر إباحة (١) بل هو أمر تهديد، وقال الحسن: ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ أي: من عقوبة عاجلة أو آجلة" (٢)، وهذا أقرب؛ لأنه أليق بالوعيد.
وقوله (٣): ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ أي: الخارجين عن طاعته إلى معصيته، وهذا أيضًا تهديد لهؤلاء بحرمان الهداية.
٢٥ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾ الآية، النصر: المعونة على العدو خاصة، والمواطن، وهو كل مقام أقام به الإنسان لأمر، ومثله الوطن (٤)، والأوطان: كالمواطن، وأوطن فلان أرض كذا: أي: اتخذها محلا ومسكنًا يقيم فيها (٥)، قال الزجاج: "في مواطن: أي في أمكنة" (٦)، وقال الفراء: "مواطن لا تنصرف؛ لأنه مثال لم يأت عليه شيء من الأسماء المفردة (٧)، وأنه غاية للجمع إذا انتهى الجمع إليه فينبغي
= (ومن فسر أمر الله بفتح مكة فقد ذهل؛ لأن هذه السورة نزلت بعد الفتح). وانظر ما يؤكد قوله في: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٩٨.
(١) في (ى): (أمرًا بإباحة)، والصواب ما أثبته.
(٢) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٤٩، والزمخشري في "الكشاف" ٢/ ١٨١، وبمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤١٣.
(٣) من (م).
(٤) في (ى): (الموطن).
(٥) انظر: كتاب "العين" (وطن) ٧/ ٤٥٤، و"تهذيب اللغة" (وطن) ٤/ ٣٩١١.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٩.
(٧) يعني الأسماء التي تدل على الواحد، قال الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٠: "ومعنى ليس على مثال الواحد: أي ليس في ألفاظ الواحد ما جاء على لفظه، وأنه ألا يجمع كما يجمع الواحد جمع تكسير". =
343
أن لا يجمع، ألا ترى أنك لا تقول: دراهمات ولا دنانيرات ولا مساجدات، وربما اضطر إليه الشاعر فجمعه وليس يوجد [في الكلام] (١) ما يجوز في الشعر، قال الشاعر (٢):
فهن يجمعن حدائداتها
فهذا من المرفوض (٣) إلا في الشعر" (٤). انتهى كلامه.
ومعنى هذا أن الجمع من العلل المانعة للصرف، وهذا النوع من [الجمع غاية] (٥) المجموع، فكأن الجمع قد تكرر فيه فصارت هذه العلة تقوم مقام علتين فأوجبت ترك الصرف.
وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾، قال الزجاج (٦): "أي: وفي يوم حنين، أي: ونصركم في يوم حنين" (٧)، ونحو ذلك قال ابن عباس:
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) هو: الأحمر كما في "لسان العرب" (حدد) ٢/ ٨٠٠، وانظر البيت بلا نسبة في: "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٤٣٩، و"الخصائص" ٣/ ٢٣٦، وكتاب "الحلل" (ص ٤٠٥)، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ٢/ ٣٠٥، و"خزانة الأدب" ١/ ٢٠٨. ورواية البيت في جميع هذه المصادر: فهن يعلكن... إلخ.
والبيت ضمن أبيات في وصف الخيل منها:
أصبحن في قرح وفي داراتها سبع ليال غير معلوفاتها
فهن يعلكن... إلخ.
(٣) في (ى): (الفروض)، وهو تصحيف.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٤٢٨ بتصرف يسير.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) ساقط من (ى).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٩.
344
"ونصركم يوم حنين" (١)، قال قتادة: "حنين: واد بين مكة والطائف قاتل عليه نبي الله - ﷺ - هوازن وثقيفًا" (٢).
وجرى (٣) (حنين) لأنه اسم مذكر [سمي به مذكر] (٤) نحو: بدر وأحد وحراء وثبير (٥)، وربما جعلت العرب حنين (٦) وبدرًا اسمًا للبلدة والبقعة فلا يُجْرونه (٧) نحو قول الشاعر (٨):
ألسنا أكثر الثقلين رحلًا وأعظمهم ببطن حراء نارًا
وقال آخر (٩):
نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين حين تواكل الأبطال
(١) "تنوير المقباس" ص١٩٠بمعناه.
(٢) رواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٧٧٢.
(٣) إجراء الاسم عند الكوفيين: صرفه وتنوينه، وعدم إجرائه: منع صرفه.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي)، وليس موجودا في "معاني القرآن" للفراء.
(٥) ثبير: جبل معروف عند مكة المكرمة انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" (ثبر) ١/ ٢٠٧.
(٦) هكذا في جميع النسخ، والأولى: حنينًا؛ لأنه صرف بدرًا بعده.
(٧) بضم الياء وإسكان الجيم.
(٨) هو: جرير كما في "كتاب سيبويه" ٢/ ٢٤، و"لسان العرب" (حرى) ٢/ ٨٥٣، وليس في ديوانه، وانظر البيت بلا نسبة في: "الصحاح" (حرا) ٦/ ٢٣١٢، و"المقتضب" ٣/ ٣٥٩، و"الدر المصون" ٦/ ٣٧، وصدر البيت عند سيبويه والمبرد هكذا:
ستعلم أينا خيرٌ قديمًا
قال ابن بري: هكذا أنشده سيبويه، وهو لجرير، وأنشده الجوهري: ألسنا أكرم الثقلين طرًّا.. " اهـ "لسان العرب"، الموضع السابق.
(٩) هو: حسان بن ثابت -رضي الله عنه- والبيت في "ديوانه" ص ١٩٤، و"لسان العرب" (حنن) ٢/ ١٠٣٢، وبلا نسبة في "الصحاح" (حنن) ٥/ ٢١٠٥، ورواية الديوان والفراء وغيرهما هكذا: يوم تواكل الأبطال.
345
هذا قول الفراء وكلامه (١).
قال المفسرون: "لما افتتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان، خرج متوجهًا إلى حنين لقتال هوازن وثقيف" (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾، قال قتادة: "كانوا اثنى عشر ألفاً" (٣). وقال مقاتل: "كانوا أحد (٤) عشر ألفًا وخمسمائة" (٥). وقال الكلبي: "كانوا عشرة آلاف، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط" (٦).
وقال عطاء عن ابن عباس: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى حنين في ستة عشر ألفًا، وكان معه رجل من الأنصار يقال له: سلمة بن سلامة بن وقش (٧) فعجب لكثرة الناس، فقال: لن نغلب اليوم من قلة، فساء رسول الله - ﷺ - كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل، فذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ " (٨).
(١) يعني من قوله: وجرى (حنين)، انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٢٩.
(٢) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٧٧٢ - ١٧٧٣، والثعلبي ٦/ ٨٨ أ، والبغوي ٤/ ٢٥، وانظر الآثار الواردة في غزوة حنين في "الدر المنثور" ٣/ ٤٠٤ - ٤٠٨.
(٣) رواه ابن جرير ١٠/ ١٠٠، والثعلبي ٦/ ٨٨ أ، والبغوي ٤/ ٢٦.
(٤) في (ى): (إحدى)، والصواب ما أثبته، وهو موافق لما في "تفسير مقاتل".
(٥) "تفسير مقاتل" ص١٢٧ ب.
(٦) "تفسير الثعلبي" ٦/ ٨٨ أ، والبغوي ٤/ ٢٦، والرازي ١٥/ ٢١.
(٧) هو: سلمة بن سلامة بن وقش بن زغبة الأشهلي الأنصاري شهد العقبتين وبدرًا وأحدًا والمشاهد، توفي سنة ٣٤ هـ، وقيل سنة ٤٥ هـ.
انظر: "التاريخ"الكبير" ٤/ ٦٨ (١٩٨٦)، و"سير أعلام النبلاء" ٢/ ٣٥٥، و"الإصابة" ٢/ ٩٥ (٣٣٨١).
(٨) ذكره المصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٨٧، وذكر بعضه الزمخشري في الكشاف ٢/ ١٨٢، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤١٣.
346
وقوله تعالى: ﴿فَلَمْ (١) تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾ معنى الإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة.
وقوله: ﴿فَلَمْ (١) تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾ أي لم تعطكم شيئًا يدفع حاجتكم، قال الزجاج: "أعلمهم الله أنهم ليس بكثرتهم يغلبون، وأنهم إنما يغلبون بنصر الله إياهم" (٢)، فوكلوا ذلك اليوم إلى كثرتهم؛ فانهزموا ثم تداركهم الله بنصره حتى ظفروا.
وقوله تعالى: ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ يقال: رحب يرحب رحبًا ورحابة، قال ابن شميل: "ضاقت عليه بما رحبت (٣): أي: على رحبها وسعتها" (٤)، فمعنى قوله: ﴿بِمَا رَحُبَتْ﴾ أي برحبها، ومعناه: مع رحبها، و"ما" ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر كقوله: ﴿لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي﴾ [يس: ٢٦، ٢٧] أي بمغفرته لي، ومعنى الآية: إنكم لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعًا يصلح لكم لفراركم عن عدوكم.
قال ابن عباس: "يقول: هي واسعة، ولكم فيها رحاب ومتسع، فضاقت عليكم لموضع العجب" (٥).
قال الزجاج: "جعل الله عقوبتهم على إعجابهم بالكثرة أن رَعَبهم (٦)
(١) في (ي): (فلن)، وهو خطأ محض.
(٢) اهـ كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٠.
(٣) هكذا، وفي "تهذيب اللغة": "ضاقت عليهم الأرض بما رحبت"... إلخ.
(٤) "تهذيب اللغة" (رحب) ٢/ ١٣٨٧.
(٥) "تنوير المقباس" ص١٩٠ بمعناه مختصرًا.
(٦) بفتح العين غير المشددة، أي: أفزعهم وأخافهم، و"لسان العرب" (رعب) ٣/ ١٦٦٧.
347
حتى ولّوا مدبرين" (١).
قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا (٢) على الغنائم فاستقبلونا (٣) بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث" (٤)، قال البراء: "والذي لا إله إلا هو ما ولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دبره قط، لقد رأيته، وأبو سفيان آخذ بالركاب (٥)، والعباس آخذ بلجام الدابة، وهو يقول:
"أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب"
وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يألو، وكانت بغلة شهباء، ثم قال للعباس: " [ناد: يا معشر الأنصار، يا معشر المهاجرين، وكان العباس رجلاً صيتًا، فجعل ينادي: يا عباد الله] (٦)، يا أصحاب (٧) الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقًا واحداً (٨)، وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده كفًا من الحصباء فرماهم بها، وقال:
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٠.
(٢) في (ى): (وانحنينا)، وفي "الصحيحين": فأكببنا.
(٣) في (ى): (فاستقبلوا).
(٤) رواه مختصرًا البخاري في "صحيحه" (٤٣١٥)، كتاب: المغازي، باب قول الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ...﴾، ومسلم في "صحيحه" (١٧٧٦)، كتاب الجهاد والسير.
(٥) الركاب: موضع في سرج الدابة، وهو كالغرز للرجل. انظر "القاموس المحيط"، فصل الراء، باب الباء ٩١٥٥، و"لسان العرب" (ركب) ٣/ ١٧١٣.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٧) في (ح): يا معشر أصحاب الشجرة.
(٨) العنق: الجماعة الكثيرة من الناس، وجاء القوم عنقًا عنقًا: أي طوائف. انظر: "لسان العرب" (عنق) ١٠/ ٢٧٣.
348
" شاهت الوجوه"، فما زال أمرهم مدبرًا، وحدهم كليلًا حتى هزمهم الله، ولم يبق منهم أحدٌ يومئذٍ إلا وامتلأت عيناه من ذلك التراب" (١).
٢٦ - فذلك قوله: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ السكينة: ما يسكن إليه القلب والنفس، قال الليث: "السكينة: الوداعة والوقار" (٢)، وقيل (٣): السكينة: الأمنة والطمأنينة" (٤)، وهي المراد ههنا؛ لأن الرعب يوجب الاضطراب والهزيمة، وضده الأمنة التي توجب الطمأنينة والوقار، قال ابن عباس: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾: يريد رحمته"، يعني أن تلك السكينة إنما أنزلت عليهم من رحمة الله.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ قال (٥): يريد الملائكة" وقال
(١) هذا الأثر ملفق من عدة روايات، وليس للبراء وحده كما يدل عليه صنيع المؤلف، وهو نقله عن الثعلبي مع التصرف، والثعلبي صرح بأنه لفقه من عدة روايات فقال: (وكانت قصة حنين على ما ذكره المفسرون بروايات كثيرة لفقتها ونسقتها لتكون أقرب إلى الأفهام، وأحسن للنظام). "تفسير الثعلبي" ٦/ ٨٨ أ، بل إن الثعلبي ميّز قول البراء من قول غيره، وعلى أي حال فهذا الأثر ملفق من الروايات التالية:-
١ - رواية البراء، وقد رواها الثعلبي ٦/ ٨٨/ ب بلفظ المؤلف، وهي تنتهي عند لفظ "عبد المطلب" وبنحوها رواها البخاري (٤٣١٥)، كتاب: المغازي، باب قول الله تعالى: ﴿ويوم حنين..﴾ ٥/ ٣١٠، ومسلم (١٧٧٦)، كتاب الجهاد والسير.
٢ - رواية العباس بن عبد المطلب، رواها مسلم (١٧٧٥)، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، وأحمد في "المسند" ١/ ٢٠٧.
٣ - رواية قتادة، رواها ابن جرير ١٠/ ١٠٤.
٤ - رواية سلمة بن الأكوع، رواها مسلم (١٧٧٧)، كتاب الجهاد، باب في غزوة حنين.
(٢) كتاب "العين" (سكن) ٥/ ٣١٣.
(٣) في (ى): (وقال)، وأثبت ما في (ح) و (م) لعدم وجود هذا القول في كتاب العين.
(٤) هذا قول ابن جرير ١٠/ ١٠٤، والثعلبي ٦/ ٩١ ب.
(٥) يعني ابن عباس، كما صرح بذلك في "الوسيط" ٢/ ٤٨٨، وذكره أيضًا ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤١٦.
349
سعيد بن جبير: "أمدّ الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة" (١)، وقال سعيد بن المسيب: "حدثني رجل كان (٢) في (٣) المشركين يوم حنين قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم إذ (٤) انتهينا إلى صاحب (٥) البغلة الشهباء (٦)، فتلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا" (٧).
وقال الزجاج: "أنزل الله -عز وجل- عليهم السكينة حتى عادوا وظفروا، فأراهم الله في ذلك اليوم من آياته ما زادهم تثبيتًا بنبوة النبي -صلى الله عليه وسلم" (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، قال ابن عباس: "يريد بأسيافكم ورماحكم" (٩).
(١) رواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٧٧٤، وذكره بغير سند الثعلبي ٦/ ٨٩ أ، وابن الجوزي ٣/ ٤١٦.
(٢) لفظ: (كان) ساقط من (ح)، وهو موجود في مصادر التخريج التالية.
(٣) في (ى): (من)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لمصادر التخريج التالية.
(٤) هكذا في جميع النسخ، وكذلك في "تفسير الثعلبي"، وفي "الوسيط": حتى إذا. وفي "تفسير الرازي" وأبي حيان: فلما.
(٥) (إلى صاحب) مكرر في (ى).
(٦) يعني رسول الله - ﷺ - انظر: "صحيح مسلم" (١٧٧٥) كتاب: الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، و"تفسير الثعلبي" ٦/ ٨٩ ب.
(٧) ذكره الثعلبي ٦/ ٨٩ ب، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٨٨، والرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٢، وأبو حيان في "البحر" ٥/ ٢٥.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٠.
(٩) لم أقف عليه إلا في "الوجيز" للمؤلف ٦/ ٤٥٠، وفي "تنوير المقباس" ص١٩٠: "وعذب الذين كفروا": بالقتل والهزيمة.
350
وقال غيره: "أي بالقتل والأسر، وسبي العيال، وسلب الأموال، مع الصَّغار والإذلال" (١)، ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾.
٢٧ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ فيهديه إلى الإسلام ولا يؤاخذه بما سلف منه، قال ابن عباس: "يريد ممن كان في علم الله أن يهديه للإسلام" (٢)، ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ لمن اهتدى ﴿رَحِيمٌ﴾ لمن آمن.
٢٨ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ الآية، قال الفراء: "لا تكاد العرب تقول: نجس إلا وقبلها رجس، فإذا أفردوا قالوا: نجس لا غير، ولا يجمع ولا يؤنث، وهو مثل دنف (٣) " (٤).
وقال الليث: "النجس: الشيء القذر من الناس ومن كل شيء (٥)، ورجل نجس وقوم أنجاس، ولغة أخرى (٦): رجل نجس وقوم نجس وامرأة نجس" (٧)، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ أي أخباث أنجاس.
(١) هذا قول الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٩١ ب دون قوله: مع الصغار والإذلال، وبلفظ الثعلبي ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٤١٦، ونسبه للبعض دون تحديد، وقال ابن جرير ١٠/ ١٠٤ "بالقتل وسبي الأهلين والذراري، وسلب الأموال والذمة".
(٢) "تنوير المقباس" ص١٩١ بمعناه.
(٣) الدنَف (بفتح النون): (المرض الملازم، وبكسرها: المريض الذي براه المرض حتى أضفى على الموت. "لسان العرب" (دنف) ٣/ ١٤٣٢.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٤٣٠.
(٥) في "تهذيب اللغة": ومن كل شيء قذرته، وفي كتاب "العين": وكل شيء قذرته فهو نجس.
(٦) يعني في الكملة أخرى باعتباره مصدرًا فلا يثنى ولا يؤنث ولا يجمع.
(٧) "تهذيب اللغة" (نجس) ٤/ ٣٥١٩ - ٣٥٢٠، ونحوه مختصرًا في كتاب "العين" (نجس) ٦/ ٥٥.
351
قال ابن عباس في رواية عطاء: "يريد لا يغتسلون من الجنابة، ولا يتوضؤون لله، ولا يصلون له" (١)، ونحو هذا قال قتادة: سماهم نجسًا لأنهم يجنبون ولا يغتسلون، ويحدثون ولا يتوضؤون" (٢).
قال أهل العلم وأصحاب (٣) المعاني: "هذه النجاسة التي وصف الله بها المشركين نجاسة الحكم لا نجاسة العين، سموا نجسًا على الذم، ولو كانت أعيانهم نجسة لما طهرهم الإسلام، ولكن شركهم يجري مجرى القذر في أنه يوجب نجسهم فسموا نجسًا لهذا المعنى" (٤)، وقال أبو علي: معنى قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ أي: ليسوا من أهل الطهارة وإن لم تكن عليه (٥) نجاسة من نحو البول والدم والخمر، والمعنى: إن الطهارة الثابتة للمسلمين هم خارجون عنها (٦)، ومباينون لها، وهذه الطهارة هي ما ثبتت لهم في قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ [التوبة: ١٠٣] (٧).
(١) ذكره المصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٨٨، والرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٥.
(٢) رواه البغوي ٤/ ٣١، ورواه مختصرًا عبد الرزاق الصنعاني في "تفسيره" ١/ ٢/٢٧١، وابن جرير ١٠/ ١٠٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٧٥.
(٣) في (ح): (إلى أصحاب)، وهو خطأ بين.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٩٢ أ، والبغوي ٤/ ٣١، وابن الجوزي ٣/ ٤١٧، وأحكام القرآن للهراسي ٤/ ٣٦، و"أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٩١٣، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ٣٨٢.
(٥) أي على أحدهم.
(٦) ساقط من (ح).
(٧) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٣٠٧.
352
وقوله تعالى: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ [قال المفسرون: "أراد منعهم من دخول الحرم وذلك أنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام" (١)] (٢).
وقال بعضهم: "المراد بالمسجد الحرام: الحرم" (٣)، وهو كقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الإسراء: ١] وإنما رفع من بيت أم هانئ (٤) (٥)، وهذا مذهب عطاء، وقال: الحرم كله قبلة ومسجد" (٦)، وتلا هذه الآية.
وقوله تعالى: ﴿بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾، قال قتادة: "يعني عام حج بالناس أبو بكر، وتلا علي سورة براءة" (٧)، وقال عطاء عن ابن عباس:
(١) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٠٥، والثعلبي ٦/ ٩٢ أ.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٣) هذا قول ابن عباس وسعيد بن جير ومجاهد وعطاء وابن شهاب كما في "تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٧٧٦، ورواه ابن جرير ١٠/ ١٠٥، والثعلبي ٦/ ٩٢ أعن عطاء.
(٤) هي: أم هانئ بنت أبي طالب بن عبد المطلب، بنت عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخت علي أمير المؤمنين -رضي الله عنه-، اسمها فاختة، وقيل: فاطمة، وقيل: هند، لها أحاديث في الكتب الستة، وتوفيت بعد سنة ٥٠ هـ.
انظر: "الكاشف" ٢/ ٥٢٨، و"الإصابة" ٤/ ٥٠٣.
(٥) رفع النبي -صلى الله عليه وسلم- من بيت أم هانئ رواه الطبراني في الكبير ٢٤/ ٤٣٢، ٤٣٤، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ١/ ٢٤٦: "فيه عبد الأعلي بن أبي المشاور، متروك كذاب" اهـ.
ورواه أيضاً ابن جرير ١٥/ ٢ (طبعة الحلبي) من طريق ابن إسحاق عن محمد بن السائب الكلبي، والكلبي متهم بالكذب.
(٦) رواه ابن جرير ١٠/ ١٠٥، والثعلبي ٦/ ٩٢ أ.
(٧) رواه ابن جرير ١٠/ ١٠٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٧٦، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٠٨.
353
"يريد: يوم الفتح" (١)، وقال الزجاج: "هذا وقع سنة تسع من الهجرة، أُمر المسلمون بمنع المشركين من الحج" (٢).
فأما الكلام في حكم هذه الآية: فروى جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (٣): "لا يدخل الحرم إلا أهل الجزية أو عبد رجل من المسلمين" (٤).
قال أصحابنا (٥): "الحرم حرام على المشركين، ولو كان الإمام بمكة فجاء رسول من المشركين فليخرج إلى الحل لاستماع الرسالة، وإن دخل مشرك الحرم متواريًا فمرض فيه أخرجناه مريضًا، وإن مات ودفن ولم يعلم نبشناه وأخرجنا عظامه إذا أمكن، فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز، وإن التجؤا إلى مكة لم يجز لنا نصب القتال عليهم، إنما أحلت لرسول الله - ﷺ - ساعة من نهار، فإن بدؤنا فيها بالقتال حلت المدافعة، فأما من وجب عليه القصاص أو الحد فلاذ بالحرم (٦)
(١) "الوجيز" ٦/ ٤٥٣ وفيه نظر إذ أن الثابت أن المشركين لم ينهوا عن الحج إلا في السنة التاسعة، كما في "صحيح البخاري" (٤٦٥٥)، كتاب: التفسير، سورة براءة، باب: قوله "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر".
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤١.
(٣) (قال) ساقط من (ى).
(٤) ذكره الثعلبي ٦/ ٩٢ أبدون سند، ورواه بمعناه أحمد في "المسند" ٣/ ٣٩٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٧٦ ولفظهما: "لا يدخل المسجد الحرام" وفي سنده ثلاث علل:
أ- أشعث بن سوار الكندي، قال في "تقريب التهذيب" ص ١١٣ (٥٢٤): (ضعيف).
ب- شريك بن عبد الله، قال في التقريب ص ٢٦٦ (٢٧٨٧): (صدوق يخطئ).
ج- عنعنة الحسن البصري، وهو مدلس كما في إتحاف ذوي الرسوخ (ص ٢٢).
(٥) يعني الشافعية: انظر "المهذب في فقه الإمام الشافعي" ٢/ ٢٥٨، وبعض القول في "الأم" (٤/ ٢٥٢، ٢٥٣، ٤١٣).
(٦) ساقط من (ح).
354
فالحرم لا يعيذ (١) عاصيًا (٢) عندنا (٣)، وقد مضى الكلام في هذا، فأما جزائر العرب فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لئن عشت إلى قابل لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب" (٤)، فلا يجوز تمكين المشركين من استيطانها بعدما أجلاهم عمر -رضي الله عنه- بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويجوز لهم الاجتياز بشرط ألا يقيم المجتاز [في موضع] (٥) أكثر من ثلاثة أيام، هذه سنة عمر فيهم (٦). وقد أكثروا في تحديد جزيرة العرب، وقد قال الشافعي -وهو أعلم الناس بذلك-: "جزيرة العرب: مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها" (٧).
(١) في (م): (لا يصير)، وهو خطأ.
(٢) ذهب المحققون من العلماء إلى التفريق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في الحل ثم لاذ بالحرم فالأول يقام عليه الحد والثاني لا يقام عليه الحد؛ بل الحرم يعيذه ويحميه، قال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" ٣/ ٤٤٤: "وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم، بل لا يحفظ عن تابعي ولا صحابي خلافه، وإليه ذهب أبو حنيفة ومن وافقه من أهل العراق، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث، وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفى منه في الحرم"، ثم ساق ابن القيم أدلة الفريقين، وفند أدلة القول المرجوح، وبين الفرق بين الجاني في الحرم واللاجيء إليه، فانظره هناك فإنه بحث قيم.
(٣) يعني الشافعية، انظر: "الأم" (٤/ ٤١٣، ٤١٤).
(٤) رواه بنحوه مسلم في (١٧٦٧)، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأبو داود (٣٠٣٩)، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في إخراج اليهود من جزيرة العرب، والترمذي (١٦٠٦)، كتاب السير، باب في إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأحمد في "المسند" ١/ ٣٢.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) رواه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف، كتاب أهل الكتاب، باب لا يدخل مشرك المدينة رقم (٩٩٧٧) ٦/ ٥١، وانظر "المغني" ١٣/ ٢٤٤.
(٧) انظر: "المهذب في فقه الإمام الشافعي" ٢/ ٢٥٧، والشافعي -رحمه الله- إنما فسر بذلك الحجاز، ونص عبارته: "وإن سأل من تؤخذ منه الجزية أن يعطيها =
355
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ العيلة: الفقر، يقال (١): عال الرجل يعيل عيلة فهو عائل إذا افتقر، قال ابن عباس: "يريد خفتم حاجة" (٢)، قال مجاهد (٣) ومقاتل (٤) وقتادة (٥) والمفسرون (٦): "لما منع المشركون من دخول الحرم قال المسلمون: إنهم كانوا يأتون بالمير (٧) ويتبايعون، فالآن تنقطع المتاجر ويضيق العيش فأنزل الله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، قال ابن عباس: "يريد: يتفضل عليكم بما هو أوسع وأكثر" (٨)، قال مقاتل: "أسلم أهل جدة وصنعاء
= ويجري عليه الحكم على أن يسكن الحجاز لم يكن ذلك له، والحجاز: مكة والمدينة واليمامة مخاليف كلها" كتاب "الأم" ٤/ ٢٥١، ثم قال في الصفحة التالية بعد أن بين أن اليمن ليست بحجاز: فأما سائر البلدان -ما خلا الحجاز- فلا بأس أن يصالحوا على المقام بها".
وفي"تهذيب اللغة" (جزر) ١/ ٥٩٦: "جزيرة العرب: محالها، سميت جزبرة لأن البحرين بحر فارس، وبحر السودان أحاطا بجانبيها، وأحاط بالجانب الشمالي دجلة والفرات، وهي أرض العرب ومعدنها".
(١) (يقال) ساقط من (ح).
(٢) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩١.
(٣) رواه بمعناه ابن جرير ١٠/ ١٠٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٧٧، وهو في "تفسير مجاهد" ص ٣٦٧.
(٤) "تفسير مقاتل" ص ١٢٨ أبمعناه.
(٥) رواه بمعناه ابن جرير ١٠/ ١٠٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٧٧، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٠٨.
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٠٥ - ١٠٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٧٧، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٠٨ - ٤١٠.
(٧) المير: جمع ميرة، وهي جلب الطعام. انظر: "لسان العرب" (مير) ٧/ ٤٣٠٦.
(٨) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٨٨.
356
وجرش (١) وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله ما كانوا يتخوفون" (٢)، وقال الضحاك وقضادة: "أغناهم الله عما خافوا من العيلة بالجزية" (٣)، وقوله تعالى: ﴿إِنْ شَاءَ﴾ قال أهل المعاني: "شرط المشيئة في الغنى (٤) لأنه علم أن فيهم من لا يبلغ هذا الغنى (٥) الموعود، وقيل لتنقطع الآمال إلى الله -عز وجل- كما قال: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [الفتح: ٢٧].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، قال ابن عباس: "عليم بما يصلحكم، حكيم فيما حكم في المشركين" (٦).
٢٩ - وقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الآية، هذه الآية نزلت في أهل الكتاب، قال مجاهد: "نزلت حين أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحرب الروم فغزا (٧) بعد نزولها غزوة تبوك" (٨)، وقال الكلبي: "نزلت في قريظة والنضير من اليهود وأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قتالهم
(١) جرش: مدينة في اليمن وفي الأردن، انظر: "معجم البلدان" ٢/ ١٢٧، والمراد بها هنا التي باليمن؛ لأن أهلها أسلموا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما بلاد الأردن والشام فلم تفتح إلا في عهد أبي بكر وعمر.
(٢) ذكره عنه الثعلبي ٦/ ٩٢ ب، وهو في "تفسير مقاتل" ١٢٨ أبلفظ: "فكفاهم الله ما كانوا يتخوفون فأسلم أهل نجد وجرش وأهل صنعاء فحملوا الطعام".
(٣) رواه عنهما ابن جرير ١٠/ ١٠٧ - ١٠٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٧٧.
(٤) في (ى): (المعنى).
(٥) في (ج): (المعنى).
(٦) ذكره ابن الجوزي في"زاد المسير" ٣/ ٤١٨، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٨٨.
(٧) في (ى): (فغزوا)، وأثبت ما في (ح) و (م) لأنه أسد في انتظام الكلام، ولموافقته لما في تفسير الثعلبي.
(٨) رواه الثعلبي ٦/ ٩٢ ب وهو كذلك في تفسير مجاهد ص ٣٦٧.
357
فصالحوه، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين" (١).
وإذا كانت الآية نازلة فيهم فمعنى قوله: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أن إقرارهم عن غير معرفة فليس بإيمان، وهذا معنى قول أبي إسحاق: "إنهم لا يؤمنون بالله إيمان الموحدين، فأعلم الله -عز وجل- أن ذلك غير إيمان، وأن إيمانهم بالبعث ليس على جهة الإيمان لأنهم لا (٢) يقرون بأن (٣) أهل الجنة يأكلون ويشربون (٤) " (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾، قال ابن عباس: "يريد من الميتة والدم ولحم الخنزير" (٦)، وقال الكلبي: "يعني الخمر" (٧)، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ﴾، قال الكلبي: "ولا يعبدون عبادة الحق" (٨)، والحق هو الله تعالى، وروى شيبان (٩) عن قتادة: الحق هو الله
(١) ذكره الثعلبي ٦/ ٩٢ ب.
(٢) (لا) ساقطة من (ح).
(٣) في (ى): (أن)، وما أثبته موافق لـ"معاني القرآن وإعرابه".
(٤) قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٨٢: "لما كفروا بمحمد - ﷺ - لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد الرسل، ولا بما جاؤوا به، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه، لا لأنه شرع الله ودينه؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانًا صحيحًا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد - ﷺ -؛لأن جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه"ا. هـ.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤١، وقد اختصر المؤلف كلام الزجاج.
(٦) لم أقف على مصدره.
(٧) لم أقف على مصدره، وقد رواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٧٧٨، عن سعيد بن جبير.
(٨) في "تنوير المقباس" عنه عن ابن عباس ص ١٩١: ("لا يخضعون لله بالتوحيد").
(٩) هو: شيبان بن عبد الرحمن التيمي مولاهم، أبو معاوية البصري، المؤدب، كان =
358
ودينه الإسلام، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩]: (١) [وقال أبو عبيدة: معناه] (٢) ولا يطيعون الله طاعة أهل الإسلام، وكل من أطاع ملكًا أو ذا سلطان فقد دان له، ومنه قول زهير (٣):
لئن حللت (٤) بجوٍ في بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدك (٥)
أي في طاعة عمرو، وطى هذا التقدير: لا يدينون دين أهل الحق، أي طاعة أهل الإسلام فحذف المضاف، وقوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، قال ابن عباس: "يريد من اليهود والنصارى والصابئين" (٦)،
= معلمًا صدوقًا ثقة صاحب كتاب، روى عن قتادة والحسن البصري وغيرهما، وتوفي سنة ٦٤١ هـ. انظر: "الكاشف" ١/ ٤٩١، و"تقريب التهذيب" ص ٣٦٩ (٢٨٣٣)، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٤٧٥.
(١) انظر قول قتادة في تفسير الثعلبي ٦/ ٩٣ أ، والبغوي ٤/ ٣٤.
(٢) ما بين المعقوفين من (م).
(٣) البيت في "شرح ديوانه" ص ١٨٣، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٠٩.
و"جو": موضع في ديار بني أسد، و"عمرو": هو عمرو بن هند بن المنذر بن ماء السماء، و"فدك": قرية معروفة شمال الحجاز.
والشاعر يخاطب الحارث بن ورقاء الأسدي، الذي أغار على إبل زهير، وأسر راعيه وكانت بنو أسد تحت نفوذ عمرو بن هند ملك العراق، فهدد زهير الحارث بهجاء لاذع إن لم يرد الإبل والراعي، يقول بعد البيت المذكور:
ليأتينك مني منطق قذع باق، كما دنس القبطية الودك
انظر: "شرح الديوان" ص ١٦٤، ١٨٣.
(٤) (حللت) ساقط من (ى).
(٥) اهـ. كلام أبي عبيدة، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٥٥.
(٦) "تنوير المقباس" ص١٩١، دون ذكر الصابئين، وقد اختلف المؤرخون والمفسرون في حقيقة دين الصابئة، والصححيح أن هذا الاسم يطلق على فرقتين:
الأولى: الصابئة الحرانية، وهؤلاء هم امتداد قوم إبراهيم -عليه السلام-، ويذكر الدكتور =
359
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ﴾، قال الحسن: "قاتل رسول الله، - ﷺ - أهل هذه (١) الجزيرة من العرب على الإسلام ولم يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد آخر على هذه الطعمة (٢) -يعني الجزية- في شأن أهل الكتاب وهو قوله: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ﴾ إلى قوله: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾ (٣).
والجزية هي (٤): ما يعطي المعاهد على عهده، وهي (فِعْلة) من جزى يجزي إذا قضى ما عليه، وقوله: ﴿عَنْ يَدٍ﴾، قال ابن عباس: "هو أنهم
= النشار نقلاً -عن البيروني- أن هؤلاء الوثنيين عباد الكواكب إنما تسموا باسم الصابئة أيام المأمون بفتوى شيخ فقيه من أهل حران حتى ينجوا من القتل أو إلزامهم بالإسلام.
الثانية: الصابئة على وجه الحقيقة، وهؤلاء قوم من اليهود تخلفوا ببابل بعد عودة قومهم إلى فلسطين، ووضعوا مذهبًا ممتزجًا من اليهودية والمجوسية، ويتجهون في صلاتهم نحو القطب الشمالي ولا يزال لهم وجود في العراق.
انظر: "المصنف" للصنعاني ٦/ ١٢٤، و"الملل والنحل" للشهرستاني (الهامش في) ٢/ ٩٥، و"المغني" ١٣/ ٢٠٣، و"تفسير الرازي" ١٦/ ٣١، و"نشأة الفكر الفلسفي" د. النشار ١/ ٢٠٩ - ٢١٩.
(١) ساقط من (ي).
(٢) هذا يوحي بأن جهاد أهل الكتاب من أجل الجزية، والواقع أن الهدف من القتال نشر نور الله في الآفاق، والقضاء على الحواجز التي تحول دون إبلاغ الناس كلام الله، والجزية ضريبة على المعاهد الذي رغب البقاء على دينه، وهي في مقابل حمايته والدفاع عنه، وتأمين الأمن له في ظل الدولة الإسلامية.
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ٩٣ ب، لكنه لم يقل: يعني الجزية ورواه أيضًا ابن أبي شيبة وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤١٢ لكن لفظهما "على هذه الأمة" بدل "على هذه الطعمة" وبه يزول الإشكال.
(٤) ساقط من (ى).
360
يعطونها بأيديهم يمشون بها كارهين ولا يجيئون بها ركبانًا، ولا يرسلون بها" (١).
وهو قوله: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أي: ذليلون مقهورون يتلتلون بها تلتلة (٢)، يريد أنهم يُجرّون إلى الموضع الذي تقبض منهم فيه (٣) بالعنف حتى يؤدوها من يدهم، وروى يحيى بن آدم (٤) عن عثمان البُري (٥) في قوله: ﴿عَنْ يَدٍ﴾ قال: "نقد (٦) ليس بنسيئة" (٧).
(١) رواه الثعلبي ٦/ ٩٤ ب، ورواه مختصرًا البغوي ٤/ ٣٣، وأشار إليه ابن جرير ١٠/ ١١٠ بقوله: وذلك قول روي عن ابن عباس من وجه فيه نظر.
(٢) في (ى): (ثلثله)، والتلتله: الشدة والعنف في السوق، انظر: "لسان العرب" (تلل) ١/ ٤٤٢.
(٣) (فيه) ساقط من (ى).
(٤) هو: يحيى بن آدم بن سليمان، أبو زكريا الأموي مولاهم الكوفي، العلامة الحافظ المجود، كان ثقة، كثير الحديث، من كبار أئمة الاجتهاد، توفي سنة ٢٠٣ هـ.
انظر: "التاريخ الكبير" ٨/ ٢٦١، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ٣٥٩، و"سير أعلام النبلاء" ٩/ ٥٢٢، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٣٣٧.
(٥) هو: عثمان بن مقسم البري، أبو سلمة الكندي مولاهم البصري أحد فقهاء البصرة المفتين، على ضعف في حديثه وبدعة فيه، وقد تركه النسائي والقطان وابن معين وغيرهم. انظر: "التاريخ" ٦/ ٢٥٢، وكتاب "الضعفاء الصغير" ص ١٦٤، و"سير أعلام النبلاء" ٧/ ٣٢٥، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ٤٥٣.
ملحوظة: عثمان المذكور روى له الترمذي (١٩٤١)، كتاب: البر، باب: ما جاء في الخيانة والغش حديثًا من طريق زيد بن الحباب عن أبي سلمة الكندي عن فرقد. وقد اعتبر ابن حجر في "تقريب التهذيب" ص ٦٤٦ (٨١٤٦) أبا سلمة مجهولاً، والصحيح أنه هو عثمان البري. انظر: السير، الموضع السابق.
(٦) هكذا في جميع النسخ، وفي "تهذيب اللغة": نقدًا. ومراد المؤلف: عن نقد، كما في "معالم التنزيل" ٤/ ٣٣.
(٧) "تهذيب اللغة" (يدى) ٤/ ٣٩٧٥، ولفظه: قال: نقدًا عن ظهر يد، ليس بنسيئة.
361
وذكر أهل المعاني في قوله: ﴿عَنْ يَدٍ﴾ أقوالاً:- روى أبو عبيد عن أبي عبيدة قال: "كل من انطاع (١) لمن قهره فأعطى عن غير طيبة نفس فقد أعطى عن يد" (٢)، ومعنى هذا أنه أعطى عن ذل واستسلام كما يقال: أعطى فلان بيده: إذا ذل واعترف بالانقياد، ودل على هذا قوله: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾، قال القتيبي: "يقال أعطاه عن يد، وعن ظهر يد: إذا أعطاه مبتدئًا غير مكافيء" (٣)، وهذا بالعكس أولى؛ فإنهم يبذلون الجزية دفعًا عن رقابهم ومكافأة للمسلمين بإقرارهم على دينهم، ولكن المعنى ههنا "عن يد" أي عن غير مكافأة [منكم إياهم] (٤) بما أعطوا من المال (٥)، وذكر أبو إسحاق فيه أوجهًا (٦):
أحدها (٧): ﴿عَنْ يَدٍ﴾ أي عن ذلٍ واعترافٍ للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم.
والثاني: ﴿عَنْ يَدٍ﴾ عن قهر وذلٍ، كما تقول اليد في هذا لفلان أي: الأمر النافذ لفلان (٨).
(١) في (م): (أطاع).
(٢) اهـ. كلام أبي عبيدة، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٥٦.
(٣) اهـ. كلام القتيبي، انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٤.
(٤) في (ح): (ومنكم أتاهم)، وهو خطأ.
(٥) ابن قتيبة ينفي مكافأة أهل الذمة للمسلمين، بل يدفعون الجزية بلا مقابل، والمؤلف ينفي مكافأة المسلمين لهم، فهم إذا دفعوا الجزية لا يرد المسلمون مكافأة لها.
(٦) في (ي): (وجهًا).
(٧) في (ى): (آخر).
(٨) ساقط من (ى).
362
والثالث: ﴿عَنْ يَدٍ﴾ أي: عن إنعام عليهم بذاك؛ لأن قبول الجزية منهم (١) وترك أنفسهم لهم نعمة عليهم ويد من المعروف جزيلة (٢) " (٣).
وحكى غيره: ﴿عَنْ يَدٍ﴾ أي: عن جماعة، لا يعفى عن ذي فضل منهم لفضله" واليد: جماعة القوم، يقال: القوم على يد واحدة أي هم مجتمعون (٤)، ومنه قوله - ﷺ - (٥) "وهم يد على من سواهم" (٦) يعني هم جميعاً، كلمتهم ونصرتهم واحدة على جميع الملل، وقال أبو علي: "ويجوز ﴿عَنْ يَدٍ﴾: عن ظهور عليهم وغلبة لهم من قولهم: لا يد لي (٧) به أي لا قوة لي عليه" (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ قد ذكرنا قولًا واحداً فيه عن ابن عباس، وهو أنهم يمشون بها من غير ركوب ولا توكيل (٩)، وقال عطاء: "يريد ذليلًا قائمًا على رجليه وهو صاغر" (١٠)، يعني أنه يعطي ذلك عن قيام
(١) في (ى): (منكم).
(٢) ساقط من (ح).
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٢ بنحوه، والنص منقول من "تهذيب اللغة" (يدي) ١٤/ ٢٤٠.
(٤) في "لسان العرب" (يدي) ٨/ ٤٩٥٤: "يد الرجل: جماعة قومه وأنصاره، عن ابن الأعرابي".
(٥) من (م) وفي سائر النسخ: عليه السلام.
(٦) رواه ابن ماجه (١٦٨٣)، كتاب الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم، وأحمد في "المسند" ٢/ ٢١٥، وسنده حسن كما في "صحيح الجامع الصغير" رقم (٦٧١٢) ٢/ ١١٣٧.
(٧) في (ى): (له).
(٨) لم أجده فيما بين يدي من كتب أبي علي الفارسي.
(٩) تقدم تخريجه.
(١٠) لم أجد من ذكره.
363
ولا يجلس، وهذا قول عكرمة (١)، وقال الكلبي: "هو أنه إذا أعطى الجزية صفع في قفاه" (٢)، وقيل: معنى الصغار ههنا: "هو إعطاؤهم إياها" (٣).
فأما حكم هذه الآية: فاعلم أن المشركين فريقان: فريق هم عبدة الأوثان، وعبدة ما استحسنوا، فهؤلاء لا يقرون على دينهم بأخذ الجزية ويجب قتالهم حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وفريق هم أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى والصابئون (٤) والسامرة (٥) وهذان الصنفان (٦) سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فينا، وكذلك المجوس سبيلهم سبيل أهل الكتاب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" (٧)، ويروى أنه
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ١٠٩، والبغوي ٤/ ٣٣.
(٢) ذكره الثعلبي ٦/ ٩٤ أ، والبغوي ٤/ ٣٣.
(٣) ذكر هذا القول من غير نسبة ابن جرير ١٠/ ١٠٩، والثعلبي ٦/ ٩٤ أ، والبغوي ٤/ ٣٤، والماوردي ٢/ ٣٥٢، وابن الجوزي ٣/ ٤٢١.
(٤) سبق التعريف بهم.
(٥) السامرة: فرقة من اليهود لهم توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود وينكرون نبوة من عدا موسى وهارون ويوشع بن نون عليهم السلام والنبي المنتظر، وقبلتهم جبل بنابلس، ولا يعرفون حرمة لبيت المقدس، وهم فرقتان: الدوستانية الألفانية، والكوسانية، والأولى لا تقر بالبعث في الآخرة.
انظر: "الفصل في الملل والأهواء والنحل" ١/ ٩٨، و"الملل والنحل" (بهامش الفصل) ٢/ ٥٨.
(٦) يعني الصابئين والسامرة.
(٧) رواه مالك في "الموطأ"، كتاب الزكاة (٤٢) ١/ ٢٣٣، ومن طريقه رواه الشافعي في "الأم" ٤/ ٢٤٦، والبيهقي في "السنن الصغير"، كتاب الجزية رقم (٣٧٠٣) ٤/ ٤، و"الكبرى"، كتاب الجزية، باب المجوس ٩/ ٣١٩، وابن أبي شيبة في "المصنف" كتاب الجهاد، باب ما قالوا في المجوس رقم (١٢٦٩٧) ١٢/ ٢٤٣، وهو حديث ضعيف كما في "فتح الباري" ٦/ ٢٦١، و"إرواء الغليل" رقم (١٢٤٨) ٥/ ٨٨.
364
عليه الصلاة والسلام أخذ الجزية من مجوس هجر (١)، فهؤلاء يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية، ويعاهدوا المسلمين على أداء الجزية.
وأما قدرها فقال أنس: "قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على كل محتلم دينارًا" (٢)، وقسم عمر -رضي الله عنه- على الفقراء من أهل الذمة اثنى عشر درهمًا، وعلى الأوساط (٣) أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين درهما (٤)، قال أصحابنا: "وأقل الجزية دينار ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي (٥)، فإذا رضوا والتزموا الزيادة ضربنا على المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير، والاختيار في الابتداء إليهم، فإذا قبلوا وجب
(١) رواه البخاري (٣١٥٧)، كتاب الجزية، باب: الجزية والموادعة (١٥٨٦)، وأبو داود، (٢٥٠١) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية من المجوس والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس، والدارمي، كتاب الجهاد، باب في أخذ الجزية من المجوس، رقم (٢٥٠١) ٢/ ٣٠٧، وأحمد في "المسند" ١/ ١٩١.
(٢) ذكره الثعلبي ٦/ ٩٣ ب مع أثر عمر الذي بعده، بغير سند، والحديث مشهور عن معاذ، فقد رواه عنه أبو داود (١٥٧٦)، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، والترمذي (٦٢٣)، كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر، والنسائي، كتاب الزكاة، باب زكاة البقر ٥/ ٢٥، والحاكم ١/ ٣٩٨ قال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(٣) في (ح): (الأوسط).
(٤) رواه أبو عبيد في كتاب "الأموال" (ص ٥٠)، وابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب الجهاد، باب ما قالوا في وضع الجزية رقم (١٢٦٨٩) ١٢/ ٢٤١ بنحوه عن محمد ابن عبد الله الثقفي.
(٥) هذا مذهب الشافعي -رحمه الله- انظر: "الأم" ٤/ ٢٥٣ - ٢٥٦، وفي المسألة أقوال للفقهاء انظرها في كتاب "الأموال" لأبي عبيد ص ٤٩ - ٥٢، و"المغني" ١٣/ ٢٠٩ - ٢١٢.
365
على الإمام تقريرهم في بلاد الإسلام، إلا أن يخاف فتنة، فالمصلحة مفوضة إلى اجتهاده، فإن قبل الواحد منهم أربعة دنانير ثم بدا له وأراد أن يقر في بلاد الإسلام بدينار واحد لم يكن له إلى ذلك سبيل، فإن نقض العهد كلفناه (١) الخروج إلى دار الحرب، فإن قبل بعد النقض دينارا واحدا لزمنا (٢) تقريره (٣)، قال المفسرون: "وإنما أقر هؤلاء على دينهم بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل؛ ولأن في أيديهم كتابهم فربما يتفكرون وينظرون فيعرفون صدق محمد - ﷺ - ونبوته، فأمهلوا لهذا المعنى" (٤).
ومصرف الجزية مصرف الفيء ولا يجوز صرف شيء منها إلى مصرف الصدقات (٥).
(١) في (ح): (كلفنا).
(٢) في (ى): (ألزمناه).
(٣) انظر: كتاب "الأم" ٤/ ٢٦٧، وهذا بناء على أن الاختيار في الابتداء إليهم، وناقض العهد يعتبر مبتدئًا.
(٤) انظر: "لباب التأويل في معاني التنزيل" ٢/ ٢١٥، و"تفسير الرازي" ١٦/ ٣٢.
(٥) قال أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب في فقه الإمام الشافعي" ٢/ ٢٤٨، ٢٤٩: "اختلف قول الشافعي -رضي الله عنه- فيما يحصل من مال الفيء بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال في أحد القولين: يصرف في المصالح؛ لأنه مال راتب لرسول الله - ﷺ - فصرف بعد موته في المصالح كخمس الخمس، فعلى هذا يبدأ بالأهم، وهو سد الثغور، وأرزاق المقاتلة، ثم الأهم فالأهم، وقال في القول الثاني: هو للمقاتلة... ولا يعطى من الفيء صبي ولا مجنون ولا عبد ولا امرأة ولا ضعيف لا يقدر على القتال؛ لأن الفيء للمجاهدين".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اتفق العلماء على أن يصرف منه -يعني الفيء- أرزاق الجند المقاتلين، الذين يقاتلون الكفار، فإن تقويتهم تذل الكفار، فيؤخذ منهم الفيء، وتنازعوا هل يصرف في سائر مصالح المسلمين، أم تختص به =
366
٣٠ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ الآية، قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة (١): "أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جماعة من اليهود: سلام بن مشكم (٢) والنعمان بن أوفى (٣) وشاس (٤) بن قيس ومالك ابن الصيف (٥) فقالوا: كيف نتبعك وأنت (٦) قد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم
= المقاتلة؟ على قولين للشافعي، ووجهين في مذهب الإمام أحمد، لكن المشهور في مذهبه، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك: أنه لا يختص به المقاتلة، بل يصرف في المصالح كلها" ثم قال:
".. فيصرف منه إلى كل من للمسلمين به منفعة عامة كالمجاهدين، وكولاة أمورهم، من ولاة الحرب، وولاة الديوان، وولاة الحكم ويصرف منه إلى ذوي الحاجات منهم أيضاً". "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" (٢٨/ ٥٦٥، ٥٦٦).
(١) هكذا قال الواحدي تبعًا للثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٩٤/ ب، والصواب: أو عكرمة كما في "تفسير ابن جرير" و"تفسير ابن أبي حاتم".
(٢) هو أحد بني النضير وزعيم من زعمائها، وصاحب كنزهم الذي يعدونه لنوائبهم، وقد شمر عن ساعد الجد في العداوة لرسول الله، والسعي لإطفاء نور الله، وزوجه زينب بنت الحارث التي وضعت السم لرسول الله - ﷺ -.
انظر: "السيرة النبوية" ٢/ ١٣٦، ١٧٣، ١٩٧، ٤٢٢، ٤٢٣.
(٣) أبو أنس، من أحبار يهود بني قينقاع، كما في "السيرة النبوية" ٢/ ١٣٧، ٢٠٠.
(٤) في (ى): (شماس، وفي (ح): (شاتين، والصواب ما أثبته من (م) وهو موافق لمصادر تخريج الأثر. وهو شاس بن قيس من أحبار يهود بني قينقاع الذين ناصبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العداء، وكان شيخًا قد عمي، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، وهو الذي سعى لتذكير الأوس والخزرج بما كان بينهما من حروب في الجاهلية حتى كاد الحيان أن يقتتلا.
انظر: "السيرة النبوية" ٢/ ١٣٧، ١٩٦.
(٥) من أحبار يهود بني قينقاع، وكان ممن يتعنت في سؤال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للبس الحق بالباطل. انظر: "السيرة النبوية" (٢/ ١٣٧، ١٧٤، ١٩٧)
(٦) ساقط من (ح).
367
أن عزيرًا بن الله؟ فأنزل الله في قولهم هذه الآية" (١).
وقال عبيد (٢) بن عمير: "إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء (٣) " (٤)، فعلى هذا أوقع الله عليه (٥) اسم الجماعة على مذهب العرب في قولها: ركبت البغال ولعله (٦) لم يركب إلا واحداً قاله ابن الأنباري (٧)، وقال غيره: "إذا كان فيهم من يذهب إلى هذا القول جاز أن ينسب إليهم كما تقول: المعتزلة تقول كذا، وإن كانت طائفة منهم تقوله" (٨).
وأما السبب الذي لأجله قالوا هذه المقالة فقال ابن عباس في رواية عطية: "إن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فرفع الله عنهم التابوت، وأنساهم التوراة، ونسخها من صدورهم، فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم، فنزل نور من السماء فدخل جوفه فعاد إليه الذي كان ذهب (٩) من جوفه [من التوراة] (١٠)، فنادى في قومه: قد
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ١١٠ - ١١١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨١، وابن إسحاق في "السيرة" ٢/ ٢٠٢، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤١٣.
(٢) في (م): (عبيدة)، وهو خطأ.
(٣) من أحبار يهود بني قينقاع الذين نصبوا لرسول الله - ﷺ - العداوة، وهو القائل: إن الله فقير ونحن أغنياء، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
انظر: "السيرة النبوية" (٢/ ١٣٧، ١٨٧، ٢٠١).
(٤) ذكره الثعلبي ٦/ ٩٥ أ، والبغوي ٤/ ٣٦، ورواه ابن جرير ١٠/ ١١٠ عن عبد الله ابن عبيد بن عمير.
(٥) في (م): (عليهم).
(٦) ساقط من (ى).
(٧) لم أقف عليه.
(٨) انظر: "المحرر الوجير" ٦/ ٤٦١، و"تفسير الطبري" ١٠/ ١١٠.
(٩) ساقط من (ى).
(١٠) ما بين المعقوفين من (ح).
368
رد الله إليّ التوراة، وطفق يعلمهم، ثم إن التابوت نزل بعد ذلك فعرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم فوجدوه مثله، فقالوا: والله ما أُوتي عزير هذا إلا لأنه (١) ابن الله" (٢)، فسبب هذه المقالة عند جميع المفسرين تجديد عزير التوراة لهم عن ظهر قلبه بعد ذهابها عنهم، وإن اختلفوا في كيفية الذهاب، فابن عباس في رواية عطية ذهب إلى ما ذكرنا، وذهب الكلبي إلى قتل بُخْتُنَصَّر (٣) علماءهم (٤)، وذهب السدي إلى أن العمالقة ظهرت عليهم فقتلوهم (٥).
واختلف القراء في"عزير" فقرؤوه بالتنوين وبغيره (٦)، قال أبو إسحاق: "الوجه إثبات التنوين؛ لأن "ابن" (٧) خبر، وإنما يحذف التنوين
(١) في (ى): (أنه).
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ١١١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨١، والثعلبي ٦/ ٩٥ أ، والبغوي ٤/ ٣٧، وسنده ضعيف جدًّا، وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.
(٣) أحد ملوك بابل الجبابرة قبل ميلاد عيسى-عليه السلام- وهو الذي هدم بيت المقدس، وفي القاموس (نصر): (بُختُنصَّر: معروف وهو الذي كان خرب بيت المقدس -عمره الله تعالى- قال الأصمعي: "إنما هو (بُوخَتْنَصَّر) فأعرب، وبوخت: ابن، ونصَّر: صنم، وكان وجد عند الصنم، ولم يعرف له أب، فقيل هو ابن الصنم" اهـ. وانظر شيئًا من أخباره في "تاريخ الطبري" ١/ ٥٣٨ - ٥٦٠، و"الكامل" لابن الأثير ١/ ١٤٧ - ١٥٤، و"البداية والنهاية" ٢/ ٣٤ - ٣٩.
(٤) رواه مطولًا الثعبي ٦/ ٩٦ أ، والبغوي ٤/ ٣٧، وهو من الإسرائيليات التي لا يعرف صدقها من كذبها، والأولى تنزيه كتب التفسير منها.
(٥) رواه مطولًا ابن جرير ١٠/ ١١١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨١، وهو من الإسرائيليات التي تسللت إلى كتب التفسير، وفي بقية الخبر مبالغات تبدو عليها سيما الكذب.
(٦) قرأ عاصم والكسائي ويعقوب بالتنوين، وقرأ الباقون بغير تنوين. انظر: "الغاية" ص ١٦٤، و"التبصرة" ص٢١٤، و"تقريب النشر" ص ١٢٠.
(٧) في "معاني القرآن وإعرابه". ابنًا.
369
في الصفة نحو قولك: جاءني زيد بن عمرو، فيحذف التنوين لالتقاء الساكنين ولأن النعت والمنعوت كالشيء الواحد، فإذا كان خبرًا فالتنوين، [وقد يجوز حذف التنوين] (١) على ضعف لالتقاء الساكنين وقد قرئت ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: ١، ٢] فحذف (٢) التنوين (٣) لسكونه وسكون اللام (٤)، وفيه وجه آخر أن يكون الخبر محذوفًا ويكون معناه: عزير ابن الله معبودنا (٥) فيكون "ابن" نعتا (٦)، ولا اختلاف بين النحويين أن إثبات التنوين أجود" هذا كلامه (٧).
وقد شرح أبو علي وأبو الفتح (٨) ما ذكره أبو إسحاق وهو أن من نون "عزيرًا" جعله مبتدأ وجعل "ابن" خبره، وإذا كان كذلك فلا بد من إثبات التنوين في حال السعة والاختيار؛ لأن "عزيرًا" ونحوه ينصرف عجميًا كان أو عربيًا، وأما من حذف التنوين فإن حذفه على وجهين: أحدهما: أنه
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) في "معاني القرآن وإعرابه": بحذف.
(٣) يعني تنوين "أحد" وقد رواها هارون عن أبي عمرو، وقرأ بها أيضًا أبان بن عثمان وزيد بن علي ونصر بن عاصم وابن سيرين والحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال وآخرون، وحكم عليها ابن خالويه بالشذوذ. انظر: كتاب "السبعة في القراءات" (ص٧٠٠)، و"مختصر في شواذ القرآن" ص ١٨٣، و"مشكل إعراب القرآن" ٢/ ٨٥٢، و"البحر المحيط" ١٠/ ٥٧١.
(٤) يعني اللام في لفظ الجلالة المذكور في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ وفي "معاني القرآن وإعرابه": وسكون الباء في قوله: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ اهـ.
(٥) في (ى): (معبودًا)، وهو خطأ من الناحية الإعرابية.
(٦) وهذا الوجه ضعيف؛ لأنه لا دليل على الخبر المحذوف.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٢ بنحوه.
(٨) (وأبو الفتح) ساقط من (ى) وهو ابن جني.
370
جعل الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد نحو قولهم: لا رجل ظريف، وحذف التنوين ولم يحرك لالتقاء الساكنين كما يحرك في زيد العاقل؛ لأن الساكنين كأنهما التقيا في تضاعيف كلمة واحدة فحذف الأول منهما ولم يحرك لكثرة الاستعمال، ولا يجوز إثبات التنوين إذا كان الابن صفة وإن كان الأصل؛ لأنهم جعلوه من الأصول المرفوضة كما أن إظهار الأول من المثلين في نحو ضننوا لا يجوز في الكلام، وإذا كان "عزير" مع "ابن" بمنزلة اسم مفرد، والاسم المفرد لا يكون جملة مستقلة مفيدة في هذا النحو فلا بد من إضمار جزء آخر يقدر انضمامه إليه ليتم جملة وتجعل الظاهر [إما مبتدأ و] (١) إما خبر المبتدأ فيكون التقدير: صاحبنا أو نسيبنا أو نبينا عزير ابن الله، إن قدرت المضمر المبتدأ، وإن قدرته بعكس ذلك جاز، فهذا أحد (٢) الوجهين.
فإن قلت (٣): فإن من أجرى ابنا صفة على عزير ولم ينون فقد أخبر عنه أيضًا بأنه ابن كما أخبر عنه من نون عزيرًا فأي فرق بين الحالين (٤)؟
والجواب عن ذلك: أنك إذا قلت: زيد ظريف فجعلت ظريفًا خبرًا عن زيد، فقد استأنفت الآن تعريف هذه الحال وإفادتها للسامع، وإذا قلت: هو زيد الظريف، فإنما أخبرت عن ذلك المضمر بأنه زيد، وأفدت هذا من حاله ثم حليته بالظريف، أي هو زيد المعروف قديمًا بالظرف،
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) في (م): (آخر).
(٣) الإشكال والجواب عليه لابن جني في "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥٣٣، وما قبله لأبي علي في "الحجة" ٤/ ١٨١ - ١٨٣.
(٤) في (ى): (الحالتين).
371
وليس غرضك أن تفيد الآن أنه حينئذٍ (١) استحق عندك (٢) الوصف بالظرف فهذا أحد الفروق بين الخبر والوصف، فكذلك أيضًا لو كان تقديره: هو عزير الذي عرف قديما بأنه ابن الله، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا (٣) جاز حذف التنوين وساغ، بل وجب ذلك، وليس المعنى كذلك، إنما ذكر الله عنهم أنهم أخبروا بهذا الخبر، واعتقدوا هذا الاعتقاد (٤).
الوجه الآخر: أن لا تجعلهما اسما واحداً ولكن تجعل الأول المبتدأ والآخر الخبر، فيكون المعنى فيه على هذا كالمعنى في إثبات التنوين، وتكون القراءتان (٥) متفقتين، إلا أنك حذفت التنوين لالتقاء الساكنين، كما تُحذف حروف اللين لذلك في نحو: رمى القوم، وقاضي البلد، ويدعو الإنسان، كذلك (٦) حذف التنوين لالتقاء الساكنين وهو مراد؛ لأنه ضارع حروف اللين بما فيه من الغنة، ألا ترى أنه قد جرى مجراها في نحو: لم يك زيد منطلقا، وقد أدغم [في الياء والواو كما أدغم] (٧) كل واحد منهما في الآخر بعد قلب الحرف إلى ما يدغم فيه (٨)، وأبدلوا الألف من النون
(١) في (ى) زيادة (أنه) بعد كلمة (حينئذٍ).
(٢) في (ح): (عند).
(٣) في (ح): (كثيراً).
(٤) اهـ. كلام أبي الفتح ابن جني في "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥٣٣ بتصرف. وما بعده من كلام أبي علي وأبي الفتح.
(٥) في (ى): (القراءتين). وهو خطأ.
(٦) في (ح): (لذلك).
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٨) اختصر الواحدي عبارة أبي علي اختصارًا مخلاً ونصها: "في نحو: لم يك زيد منطلقًا، وفي نحو: صنعاني، وبهراني، وقد أدغم.. "إلخ، فقول أبي علي. وقد أدغم.. إلخ إنما هو في كلمتي صنعاني وبهراني.
372
نحو: رأيت زيدًا، و ﴿لَنَسْفَعًا﴾ [العلق: ١٥] فإذا اجتمعت النون مع حروف اللين في هذه المواضع وشابهتها جاز أن تتفق معها في الحذف لالتقاء الساكنين، وعلى هذا ما يروى من قراءة بعضهم: "أحدُ الله" (١)، وقد جاء ذلك في الشعر كثيراً، قال حميد (٢):
حميدُ الذي أمج داره أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع
وقال ابن الرقيات (٣):
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي عن خدام العقيلةُ العذراءُ (٤)
وأنشد أبو زيد (٥):
(١) يعني بحذف التنوين من (أحد) وقد سبق تخريج القراءة والآية قبل عدة أسطر.
(٢) البيت لحميد الأمجي نسبة إلى (أمَج) وهي بلدة قرب المدينة، وكان معاصرًا لعمر ابن عبد العزيز.
والشاهد في البيت حذف التنوين من (حميد). انظر: "الكامل" ١/ ٢٥٢، و"المقتضب" ٢/ ٣١٣، و"المسائل العسكريات" (ص ١٧٧)، و"معجم البلدان" (أمج) ١/ ٢٥٠.
(٣) هو: عبيد الله أو عبد الله بن قيس بن شريح العامري القرشي، شاعر قريش في العصر الأموي، ويعرف بابن قيس الرقيات لأنه كان يتغزل بثلاث نسوة، يقال لهن جميعًا: رقية، وكان أكثر شعره الغزل، توفي سنة ٨٥ هـ تقريبًا. انظر: "الأغاني" ٤/ ١٥٤، و"سمط اللآلي" (ص ٢٩٤)، و"الشعر والشعراء" (ص ٣٥٩).
(٤) البيت في ديوانه (ص ٩٥) وقبله:
كيف نومي على الفراش ولما تشمل الشام غارةٌ شعواء
والخدام: جمع الخدمة، وهي الخلخال، والعقيلة: المرأة الكريمة.
والشاهد: عدم تنوين "خدام". انظر: أمالي ابن الشجري ٢/ ١٦٣.
(٥) "نوادر أبي زيد" ص ٣٢١ وقبله: =
373
إذا غطيف السلمي فرا
وأنشد أبو العباس (١):
عمرو (٢) الذي هشم الثريد لقومه
وقال آخر (٣):
وحاتم الطائي وهاب المئي
= لتجدني بالأمير برًّا وبالقناة مدعسًا مكرًا
إذا غطيف.. الخ.
وانظر: الأبيات في "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٣١، و"الأمالي الشجرية" ٣/ ٥٣، و"ضرائر الشعر" ص ١٠٦، واللسان (دعس) ٣/ ١٣٨٠.
(١) يعني المبرد، وقد تقدمت ترجمته، وانظر البيت في كتابيه: "الكامل" ١/ ٢٥٢، و"المقتضب" ٢/ ٣١٢، وقد اعترض علي بن حمزة في كتابه "التنبيهات على أغاليط الرواة" على المبرد في رواية هذا البيت، وقال: الرواية: عمرو العلا.
قلت: قد ذكر المبرد البيت بهذه الرواية في "المقتضب" ٢/ ٣١٦، ولا شاهد في هذه الرواية لأنه مضاف.
(٢) في (ح): (وعمرو)، وهو هاشم بن عبد مناف جد الرسول - ﷺ -، قال السهيلي في "الروض الأنف" ١/ ٩٤: "ذكر أصحاب الأخبار أن هاشمًا كان يستعين على إطعام الحاج بقريش فيرفدونه بأموالهم ويعينونه، ثم جاءت أزمة شديدة فكره أن يكلف قريشًا أمر الرفادة، فاحتمل إلى الشام بجميع ماله، واشترى به أجمع كعكًا ودقيقًا، ثم أتى الموسم فهشم ذلك الكعك هشيمًا، ودقه دقًا، وصنع للحاج طعامًا مثل الثريد، وبذلك سمي هاشمًا، ودقه دقًا؛ لأن الكعك اليابس لا يثرد وإنما يهشم هشمًا، فبذلك مُدح حتى قال شاعرهم فيه: وهو عبد الله بن الزبعرى.. "، وذكر البيت ضمن أبيات، وذُكر البيت أيضًا في اللسان (سنت، مح) منسوبًا لابن الزبعرى، وفي "هشم" لابنة هاشم، وفي "الاشتقاف" لابن دريد ص١٣ لمطرود الخزاعي، وفي "نوادر أبي زيد" ص ١٦٧ بلا نسبة.
(٣) تقدم تخريج البيت.
374
وأنشدوا أيضًا (١):
والله لو كنت لهذا خالصًا لكنت عبدًا آكل الأبارصا
أي آكلاً" (٢)، وهو في الشعر كثير.
قال أبو علي: "الوجه في هذه القراءة: الحمل على الوجه الأول؛ لأنه لم يستمر (٣) حذف التنوين في الكلام، وإن حصلت المشابهات بين النون وحروف (٤) اللين (٥) " (٦).
وقال أبو الفتح: الاختيار: الوجه الثاني، وإن كان فيه ضرورة؛ لأنه أشبه، لموافقته معنى (٧) قراءة من نون وجعل "ابنًا" خبرًا عن"عزير" (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾، قال المفسرون في سبب شرك النصارى بهذه الكلمة: "إنهم كانوا على الحق بعدما رفع
(١) البيت غير منسوب في كتاب "الحيوان" ٤/ ٣٠٠، و"أدب الكاتب" ص ١٦٦. قال البطليوسي في "الاقتضاب" ص ٣٥٥: ("هذا البيت لا أعلم قائله، ولا ما يتصل به، والظاهر من معناه أن قائله سليم خطة ولم يرضها ورأى قدره يجل عنها، فقال: لو كنت ممن يرضى بما سمتموني إياه، وأهّلتموني له لكنت كالعبد الذي يأكل الوزغ" اهـ، وانظر البيت أيضًا في "المنصف" ٢/ ٣٣٢، و"الصحاح" (برص) ٣/ ١٥٣٠، و"اللسان" (برص) ١/ ٢٥٨.
(٢) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٨١ - ١٨٦، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥٣٢ - ٥٣٦.
(٣) في "الحجة": يستقر.
(٤) في (ى): (حرف).
(٥) ساقط من (ح).
(٦) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٨٦.
(٧) في (ى): (مع).
(٨) "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥٣٢ بمعناه.
375
عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: بولس (١) قتل جملة من أصحاب عيسى (٢)، ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، وإني أحتال فأضلهم، فعرقب فرسه (٣)، وأظهر الندامة مما كان صنع، ووضع على رأسه التراب (٤)، وقال: نوديت من السماء: ليست لك توبة إلا أن تتنصر وقد تبت، فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة لا يخرج، وتعلم الإنجيل، فصدقوه وأحبوه، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلاً اسمه نسطور (٥)، وعلمه أن عيسى ومريم
(١) هو: شاول اليهودي ولد في طرسوس ونشأ في مدينة القدس، وكان من أشد أعداء النصارى، ثم انتقل فجأة إلى النصرانية، وتسمى باسم بولس، وكان قوي الشخصية دائب الحركة، مؤثرًا ذكيا، وقد استطاع بمكره وكيده أن يحرف كثيراً من تعاليم المسيح وأن يطمس معالمها الصحيحة، يقال: إنه قتل في اضطهادات نيرون للنصارى سنة ٦٦ م.
انظر: "الديانات والعقائد في مختلف العصور" ٣/ ٢٥٤، و"محاضرات في النصرانية" لأبي زهرة ص ٨٢.
(٢) جاء في أول الإصحاح التاسع من سفر أعمال الرسل: "أما شاول (اسم بولس قبل تنصره) فكان لم يزل ينفث تهددًا وقتلًا على تلاميذ الرب". انظر: "محاضرات في النصرانية" ص ٨٧.
(٣) عرقب الدابة: قطع عرقوبها، وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يدها، وعرقوبا الفرس: ما ضم ملتقى الوظيفين (ما فوق الرسغ إلى مفصل الساق) والساقين من مآخرهما من العصب. انظر: "القاموس المحيط"، فصل: العين، باب الباء ١/ ١٠٣، و"لسان العرب" (عرقب) ٥/ ٢٩٠٩، انظر: معنى (الوظيفين) في كتاب "العين" (وظف) ٨/ ١٦٩، و"تهذيب اللغة" (وظف) ٤/ ٣٩١٣.
(٤) في (ى): (فوضع التراب على رأسه).
(٥) لم أقف له على ترجمة.
376
والإله كانوا ثلاثة (١)، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت (٢)، وقال: لم يكن عيسى بإنس ولا جسم ولكنه ابن الله، وعلم رجلاً يقال له: يعقوب (٣) ذلك، ثم دعا رجلاً يقال له: ملكا (٤) فقال له: إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى، ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم: أنت خالصتي فادع الناس إلى نحلتك، ولقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني، وإني غدًا أذبح نفسي لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح فذبح نفسه (٥)، ودعا كل واحد من هؤلاء الثلاثة الناس إلى نحلته، فتبع كل واحد طائفة من الناس، واقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا" (٦)، فجميع النصارى من الفرق الثلاث.
(١) يعني آلهة.
(٢) قال أبو البقاء الكفوي في "الكليات" ص ٧٩٨: ("اللاهوت: الخالق، والناسوت: المخلوق، وربما يطلق الأول على الروح والثاني على البدن وربما يطلق أيضاً على العالم العلوي، والثاني على العالم السفلي.. " الخ. والمراد به هنا اجتماع العنصر الإلهي والعنصر الإنساني في المسيح كما يزعم النصارى. انظر: "محاضرات في النصرانية" ص ١٦٨.
(٣) لم أقف له على ترجمة.
(٤) لم أقف له على ترجمة.
(٥) ذكر بعض المؤرخين أن بولس قتل في اضطهادات الإمبراطور نيرون للنصارى. انظر: "محاضرات في النصرانية" ص٨٩.
(٦) ذكره الثعلبي ٦/ ٩٦ ب، والبغوي ٤/ ٣٧، والرازي ١٦/ ٣٤، والخازن ٢/ ٢١٥ وهذا من الإسرائيليات التي ينبغي تنزيه كتب التفسير منها، وليس لدى المؤرخين مستند يثبت صحة هذا، والمعروف أن تأليه عيسى -عليه السلام- حدث بسبب المجامع الكنسية بعد اعتناق الرومان الديانة النصرانية بعد الميلاد بثلاثمائة سنة.
انظر: "البداية والنهاية" ٢/ ٩٦.
377
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾، قال ابن عباس: "يريد: كذبا منهم وافتراءً"، وقال أهل المعاني: "أي يقولونه بألسنتهم من غير علم وليس يرجع قولهم إلى معنى صحيح (١) فهو لا يجاوز الفم، والمعنى الصحيح ما رجع إلى اضطرار (٢) أو (٣) برهان" (٤)، قال الزجاج: "المعنى: إنه ليس فيه برهان ولا بيان إنما هو قول بالفم لا معنى تحته صحيح، لأنهم (٥) معترفون بأن الله لم يتخذ صاحبة فكيف يزعمون أن له ولدًا، فإنما هو تكذيب (٦) وقول فقط" (٧)، وقال ابن الأنباري: "القول يكون باللسان ويكون بالقلب، وقول القلب هو الذي يقع عليه اسم الظن، ولهذا المعنى ذهبت العرب بالقول مذهب الظن، فقالوا (٨): أتقول عبد الله خارج؟، ومتى تقول: محمد منطلق؟ يريدون متى تظن، قال الشاعر (٩):
أما الرحيل فدون بعد غد فمتى تقول الدار تجمعنا؟
ولو لم يقل: ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ لجاز أن يذهب الوهم إلى قول القلب وقد
(١) في (ح): (معنى علم صحيح).
(٢) في (ح): (الاضطرار).
(٣) في (ى): (وبرهان).
(٤) انظر: "مفاتيح الغيب" ١٦/ ٣٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ١١٨ ولم أقف عليه عند أهل المعاني.
(٥) لفظ: (نهم) ساقط من (ى).
(٦) في"معاني القرآن وإعربه": تكذب، وهو أولى، قال ابن منظور: "تكذّب فلان: إذا تكلف الكذب". "لسان العرب" (كذب) ٧/ ٣٨٤١.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٣.
(٨) في (ح): (وقالوا).
(٩) البيت لعمر بن أبي ربيعة وهو في "ديوانه" ص ٣٩٤. وانظر: "خزانة الأدب" ٢/ ٤٣٩، و"شرح أبيات سيبويه" ١/ ١٧٩، و"كتاب سيبويه" ١/ ١٢٤.
378
بين الله -عز وجل- هذا في قوله: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾ [المنافقون: ١] الآية، فلم كذب الله قول ألسنتهم بل كذب قول قلوبهم.
وقوله تعالى: ﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ المضاهاة: المشابهة، قال الفراء: " [يقال ضاهيته] (١) ضهًا ومضاهاة" (٢)، هذا قول أْكثر أهل اللغة في المضاهاة (٣)، وقال شمر: "قال قالد بن جنبه (٤): المضاهاة: المتابعة، فلان يضاهي فلانًا أي: يتابعه" (٥)، قال ابن عباس: "يريد (٦): يتشبهون بقول الأمم الخالية" (٧)، وهذا قول مجاهد والحسن واختيار أبي علي، قال مجاهد: "يضاهئون قول المشركين حين قالوا: اللات والعزى ومناة بنات الله" (٨)، وقال الحسن: "شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة" (٩).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٣٦، وفي"تهذيب اللغة" (ضهي) ٣/ ٢١٤١: قال الفراء: "يضاهون: يضارعون قول الذين كفروا" وسقط لفظ "يضارعون" من كتابه "معانى القرآن" ١/ ٤٣٣.
(٣) انظر: "الصحاح" (ضهى) ٦/ ٢٤١٠، و"القاموس"، فصل الضاد، باب الواو والياء ١٣٠٦.
(٤) لم أجد ترجمته فيما بين يدي من المصادر.
(٥) "تهذيب اللغة" (ضهى) ٣/ ٢١٤٢.
(٦) ساقط من (ح).
(٧) رواه مختصرًا بمعناه ابن جرير ١٠/ ١١٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٣، والثعلبي ٦/ ٩٧ أ، والبغوي ٤/ ٣٨.
وذكره البخاري في "صحيحه" معلقًا ٨/ ٣١٦، كتاب التفسير، باب: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
(٨) رواه الثعلبى ٦/ ٩٧ ب، والبغوي ٤/ ٣٨
(٩) المصدرين السابقين، نفس الموضع.
379
وقال أبو علي: "يشبه أن يكون "الذين (١) كفروا": المشركين الذين لا كتاب لهم لأنهم ادعوا في الملائكة أنها بنات الله، قال: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ﴾ [النحل: ٥٧] وقال: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١)﴾ [النجم: ٢١] وقال: ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: ١٠٠] (٢).
وقال ابن الأنباري: "يشابهون في قولهم قول (٣) المشركين إذ زعموا أنهم يعبدون ثلاثة: الله وعيسى ومريم، وقال المشركون: نعبد اللات والعزى ومناة" (٤)، وعلى ما ذكر ابن الأنباري: الفعل في ﴿يُضَاهِئُونَ﴾ يرجع إلى النصارى دون اليهود، وهو قول قتادة والسدي إلا أنهما جعلا المشابهة من وجه آخر وهو أنهما قالا: "ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقالت النصارى: المسيح ابن الله، كما قالت اليهود: عزيرٌ ابن الله" (٥) فجعلا (٦) ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ اليهود، وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي قال: "ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم (٧) " (٨).
(١) ساقط من (ح).
(٢) اهـ كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٨٦.
(٣) ساقط من (ى).
(٤) ذكره مختصرًا دون تعيين القائل القرطبي في "تفسيره" ٨/ ١١٨.
(٥) رواه عنهما الثعلبي ٦/ ٩٧ ب، والبغوي ٤/ ٣٨، ورواه الصنعاني في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٧١ عن قتادة، ورواه ابن جرير ١٠/ ١١٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٣ مختصراً عن قتادة بلفظه، وعن السدي بمعناه.
(٦) في (ح) و (م): (فجعل)، وهو خطأ.
(٧) في (ى): (قولهم)، وهو خطأ.
(٨) لم أجد من ذكره عن ابن عباس بهذا اللفظ، وقد أخرج رواية الوالبي ابن جرير ١٠/ ١١٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٣، والثعلبي ٦/ ٩٧ أ، والبخاري تعليقًا في "صحيحه" ٨/ ٣١٦ كتاب التفسير باب: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ﴾ جميعهم بلفظ =
380
وقال الزجاج: "معناه (١): يشابهون في قولهم هذا من تقدم من كفر منهم، أي إنما قالوه اتباعًا لمن تقدم منهم، الدليل على هذا قوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١] أي قبلوا فهم أن (٢) العزير والمسيح ابنا الله" (٣)، وهذا اختيار ابن قتيبة؛ لأنه قال: "يريد أن من كان في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- من اليهود والنصارى يقولون ما قاله أولوهم" (٤)، فأما قول المفسرين في معنى: ﴿يُضَاهِئُونَ﴾ فقد ذكرنا قول ابن عباس، وقال مجاهد: "يواطئون" (٥)، وقال الحسن: "يوافقون" (٦).
وقرأ عاصم ﴿يُضَاهِئُونَ﴾ مهموزًا (٧)، قال أحمد بن يحيى (٨): لم يتابع عاصمًا أحد (٩) على الهمز (١٠) " (١١)، قال الليث: "وربما همزوا
= "يشبهون". أما اللفظ الذي ذكره المؤلف فقد أخرجه ابن جرير ١٠/ ١١٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٣، عن قتاد فلعل المؤلف -رحمه الله- وهم فنسبه لابن عباس.
(١) ساقط من (ى).
(٢) ساقط من (ح).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٣.
(٤) "تفسير غريب القرآن" (ص ١٨٤).
(٥) رواه الثعلبي ٦/ ٩٧ ب، والبغوي ٤/ ٣٨.
(٦) انظر: المصدرين السابقين، نفس الموضع.
(٧) انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٥، وكتاب "إرشاد المبتدي" ص ٣٥٢، و "تقريب النشر"، باب الهمز المفرد ص ٣٤.
(٨) أبو العباس ثعلب.
(٩) في (م): (أحد عاصمًا).
(١٠) يعني من أصحاب القراءات المتواترة، وقد قرأ بها من غيرهم طلحة بن مصرف. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢١٠، و"المحرر الوجيز" ٦/ ٤٦٥، و"البحر المحيط" ٥/ ٤٠٣.
(١١) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٨٦، و"زاد المسير" ٣/ ٤٢٥.
381
فيه" (١)، وحكى ابن الأنباري: "ضاهيت وضاهأت" (٢)، قال أبو علي (٣): "يشبه أن يكون ما قرأ به عاصم من الهمز لغة (٤) فيكون في الكلمة لغتان، مثل أرجيت وأرجأت" (٥).
وقوله تعالى: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾، قال ابن عباس وأكثر المفسرين: "لعنهم" (٦).
قال الأزهري: "وليس هذا من القتال الذي هو بمعنى المحاربة بين اثنين؛ لأن قولهم: قاتله بمعنى لعنه، من واحد" (٧)، وقال ابن جريج: " ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ أي قتلهم الله، وهو بمعنى التعجب" (٨).
(١) "تهذيب اللغة" (ضهي) ٣/ ٢١٤١، والنص في كتاب "العين" (ضهي) ٤/ ٧٠.
(٢) "زاد المسير" ٣/ ٤٢٥.
(٣) في (ى): (أبو عبيد)، والصواب ما أثبته إذ النص في "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٨٧ من قول أبي علي الفارسي.
(٤) هذا من عجيب القول إذ كيف لا يجزم بثبوت اللغة بقراءة متواترة، وأمثاله من اللغويين يثبتونها ببيت شعري، أو جملة منقولة عن أعرابي، وقد أثبت الفراء أن الهمز لغة أهل الطائف، وذكر ابن جرير ١٠/ ١١٣ أنها لغة ثقيف، كما أثبت الخليل بن أحمد اللغتين في الكلمة. انظر: كتاب "العين" (ضهي) ٤/ ٧٠، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢١٣، و"الحجة" ٤/ ١٨٧، و"لسان العرب" (ضهي) ٥/ ٢٦١٧.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٨٧.
(٦) رواه عن ابن عباس الإمام ابن جرير ١٠/ ١١٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٣، والثعلبي ٦/ ٩٧، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤١٥، وقد نسب هذا القول إلى المفسرين أبو منصور الأزهري في "تهذيب اللغة" (قتل) ٢/ ٢٨٨٤.
(٧) "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٨٨٤.
(٨) رواه الثعلبي ٦/ ٩٧ ب، ورواه البغوي ٤/ ٣٨ بلفظ: قتلهم الله، وذكره القرطبي ٨/ ١١٩: بلفظ: هو بمعنى التعجب.
382
وقال أهل المعاني: "عاداهم الله" (١)، فعبر عن هذا بالمقاتلة لما بين المقاتلين (٢) من العداوة، وقال ابن الأنباري: "وهذا تعليم لنا الدعاء عليهم، معناه: قولوا إذا دعوتهم عليهم: قاتلهم الله، أي لعنهم الله" (٣)، كذا قال المفسرون في: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾، والمقاتلة أصلها من المقتول أُخبر عن الله بها كانت بمعنى اللعنة؛ لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك.
وقوله تعالى: ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ الإفك: الصرف، يقال: أُفك الرجل عن الخير أي قلب وصرف، ورجل مأفوك: أي مصروف عن الخير، يقول: كيف يصدون ويصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله الولد (٤)؟! وهذا التعجب (٥) إنما هو راجع إلى الخلق، والله لا يتعجب من شيء (٦)، ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم، والله تعالى
(١) هذا قول ابن الأنباري كما في "تهذيب اللغة" (قتل) ٢/ ٢٨٨٤، و"زاد المسير" ٣/ ٤٢٥.
(٢) كذا في جميع النسخ، وهو يريد المتقاتلين.
(٣) لم أقف على مصدره.
(٤) في (ى): (ولدًا).
(٥) في (ى): (التعجيب)، وأثبت ما في النسخ الأخرى لأنه أسد في المعنى ولموافقته لما في "تفسير الرازي" ١٦/ ٣٦ الذي نقل تفسير الجملة عن الواحدي بلفظه دون أن يشير لذلك.
(٦) مذهب السلف إثبات العجب لله كغيره من الصفات الثابتة في الكتاب أو السنة، وإن لم تعرف كيفيتها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- يؤمنون بذلك -يعني أحاديث الصفات- كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل".
وقال: وأما قوله -يعني النافي صفة التعجب-: "التعجب استعظام للمتعجب منه"!!. فيقال: نعم. وقد يكون بجهل بسبب التعجب، وقد يكون لما خرج عن نظائره، =
383
عجيب نبيه من تركهم الحق وإتيانهم الباطل (١) في زعمهم.
٣١ - قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ﴾، قال أبو عبيد: الأحبار: "الفقهاء" (٢)، واختلفوا في واحده فبعضهم يقول: حَبْر، وبعضهم يقول حِبْر، قال: وقال الفراء: "إنما هو حِبْر، يقال ذلك للعالم".
وقال الأصمعي: "لا أدري أهو الحَبر أو الحِبر للرجل العالم" (٣).
= والله تعالى بكل شيء عليم، فلا يجوز عليه أن لا يعلم سبب ما تعجب منه، بل يتعجب لخروجه عن نظائره تعظيمًا له، والله تعالى يعظم ما هو عظيم، إما لعظمة سببه، أو لعظمته، فإنه وصف بعض الخير بأنه عظيم، ووصف بعض الشر بأنه عظيم". "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ٣/ ١٤١، ٦/ ١٢٣.
وقد دل على صفة العجب قوله تعالى: ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾ [الصافات: ١٢] بضم التاء على قراءة الكوفيين غير عاصم كما في "الغاية" ص ٢٤٩، وقول النبي - ﷺ - "عجيب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل". رواه البخاري (٣٠١٠)، كتاب الجهاد، باب الأسارى في السلاسل ٤/ ١٤٥، انظر: "تفسير ابن جرير" ٢٣/ ٤٣ (ط الحلبي)، و"قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر" ص ٦٩.
(١) في (ج): (بالباطل).
(٢) لم أجده إلا في "تفسير الرازي" ١٦/ ٣٧، وهو كثير النقل من "البسيط" للواحدي، ويغلب على الظن أنه وهم من المؤلف فإن عبارة أبي عبيد في "غريب الحديث" ١/ ٦٠ نصها: وأما الحبر من قول الله تعالى: ﴿مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ﴾ فإن الفقهاء يختلفون فيه فبعضهم يقول: حَبْرٌ، وبعضهم يقول: حِبْرٌ، وقال الفراء: "إنما هو حِبْرٌ يقال للعالم ذلك".
فلعل المؤلف نظر نظرة عجلى إلى هذا النص وحسب أن كلمة (الفقهاء) فيه تفسير للأحبار، لا سيما أنه موطن اشباه، والله أعلم.
(٣) ا. هـ. كلام أبي عبيد، و"غريب الحديث" ١/ ٦١، وانظر: قول الفراء أيضًا في "تهذيب اللغة" (حبر) ١/ ٧٢١، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ١١٣ - ١١٤ ولم أجده في "معاني القرآن".
384
وكان أبو الهيثم يقول: واحد الأحبار حَبر بالفتح لا غير، وينكر الكسر (١) (٢).
ابن السكيت عن ابن الأعرابي: حِبْر وحَبْر للعالم (٣).
[وقال الليث: "هو حِبْر وحَبْر للعالم] (٤) ذميا كان أو مسلما بعد (٥) أن يكون من أهل الكتاب" (٦).
والكلام في الرهبان قد مضى عند قوله: ﴿قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ [المائدة: ٨٢] (٧).
وقال أهل المعاني: "الحبر: العالم الذي صناعته تحبير المعاني بحسن البيان عنها، والراهب: الخاشي الذي يظهر عليه لباس الخشية، وكثير استعماله في متنسكي النصارى" (٨).
قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ﴾: فقهاؤهم
(١) ساقط من (ح).
(٢) "تهذيب اللغة" (حبر) ١/ ٧٢١.
(٣) "إصلاح المنطق" ص ٣٢، والمصدر السابق، نفس الموضع.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٥) في عبارة النسخة (ى) اضطراب، ونصها: ذميًّا كان أو مسلمًا بعد حبر وحبر أن يكون... إلخ.
(٦) "تهذيب اللغة" (حبر) ١/ ٧٢١، والنص في كتاب "العين" (حبر) ٣/ ٢١٨، وانظر إطلاق الحبر على العالم المسلم ولو لم يكن من أهل الكتاب في "صحيح البخاري" (٦٧٣٦)، كتاب الفرائض، باب ميراث ابنة ابن مع ابن.
(٧) انظر: النسخة (ح) ٢/ ٦٧ أحيث قال: (وأما الرهبان فهو جمع راهب، مثل راكب وركبان، وفارس وفرسان، قال الليث: الرهبانية مصدر الراهب، والترهب: التعبد في صومعة.. وأصل الرهبانية من الرهبة بمعنى المخافة).
(٨) انظر: "تفسير الرازي" ١٦/ ٣٧.
385
وعبادهم" (١). وقال الضحاك: "علماؤهم وقراؤهم" (٢).
وقال عدي بن حاتم: "انتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ من سورة براءة فقرأ هذه الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم! وكان عدي نصرانيا، فقال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه (٣)؟ " فقلت بلى، فقال: "فتلك عبادتهم" (٤).
وقال أبو البختري (٥) في هذه الآية: "أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو
(١) ذكره المصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٠، ورواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٤ بلفظ: الأحبار: القراء، وفي "تنوير المقباس" ص١٩١: "اتخذوا أحبارهم": علماءهم.
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ١١٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٤.
(٣) في (م): (فتستحلونه).
(٤) رواه الترمذي (٣٠٩٥)، كتاب التفسير، باب: ومن سورة التوبة، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب آداب القاضي، رقم (٢٠٣٥٠) ١٠/ ١٩٨، وابن جرير ١٠/ ١١٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٤، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" ٣/ ٤١٥، وزاد نسبته إلى ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه، وفي سند الترمذي والبيهقي وابن جرير وابن أبي حاتم غطيف بن أعين، وهو ضعيف كما في "تقريب التهذيب" ص ٤٤٣ (٥٣٦٤)، وكتاب "الضعفاء والمتروكين" ص٣٢٤، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث.
لكن للحديث طرق انظرها في: "كتاب تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف" ٢/ ٦٦.
(٥) هو: سعيد بن فيروز الطائي مولاهم، أبو البختري الكوفي، تابعي فقيه ثقة، وكان مقدم الصالحين القراء الذين ثاروا على الحجاج في فتنة ابن الأشعث، وقتل في وقعة الجماجم سنة ٨٣ هـ.
انظر: "سيرأعلام النبلاء" ٤/ ٢٧٩، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٣٨، و"شذرات الذهب" ١/ ٩٢.
386
أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله فأطاعوهم، فكانت تلك الربوبية" (١).
وقال الربيع: "قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك (٢) الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه، (فقالوا (٣): لن نسبق أحبارنا بشيء) (٤)، فما أمرونا به ائتمرنا، وما نُهينا (٥) عنه انتهينا، فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم" (٦).
قال أهل المعاني: "معناه: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم كالأرباب حيث (٧) أطاعوهم في كل شيء، كقوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا﴾ [الكهف: ٩٦] أي كنار" (٨).
وهذا بيان أن مخالف أمر الله في التحريم والتحليل كالمشرك في عبادة الله، لأن استحلال ما حرم الله كفر بالإجماع، وكل كافر مشرك، ومن اعتقد طاعة أحد لعينه أو لصفة فيه فأطاعه في خلاف ما أمر الله فهو من الذين ذكروا في هذه الآية أنهم كانوا يعتقدون وجوب طاعة أحبارهم،
(١) رواه الثعلبي ٦/ ٩٨ أ، ورواه بمعناه ابن جرير ١٠/ ١١٥.
(٢) من (م).
(٣) في (ى): (فقال).
(٤) ما بين القوسين تحرف في تفسير ابن جرير (تحقيق: شاكر) هكذا: "قال: لم يسبوا أحبارنا بشيء مضى" وأشار المحقق إلى أنه لم يهتد للصواب، وحذفت الجملة برمتها في طبعة الحلبي، فليصحح.
(٥) هكذا في جميع النسخ، والأولى: نهونا، كما في تفسير ابن جرير والثعلبي.
(٦) رواه الثعلبي ٦/ ٩٨ب، وبنحوه ابن جرير ١٠/ ١١٥، وأشار إليه ابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٤.
(٧) ساقط من (ح).
(٨) ذكره الثعلبي ٦/ ٩٨ ب، والقرطبي ٨/ ١٢٠ منسوبا إلى أهل المعاني دون تعيين.
387
فأخبر الله تعالى أنهم اتخذوهم أربابًا.
وقوله تعالى: ﴿وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾، قال ابن عباس: "يريد: اتخذوه ربًا" (١).
[وقوله -عز وجل-] (٢) ﴿وَمَا أُمِرُوا﴾، قال: يريد في التوراة والإنجيل" (٣)، ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا﴾ وهو الذي ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (٤) سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ نزه نفسه أن يكون له ولدٌ، أو شريك، قال الزجاج: "معناه: تنزيها له عن شركهم" (٥).
٣٢ - وقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾، قال ابن عباس: "يريدون أن يخمدوا دين الله بتكذيبهم" (٦)، فمعنى نور الله في قول أكثرهم: الإسلام (٧)، يعني أنهم يكذبون به، ولعرضون عنه، يريدون إبطاله بذلك.
وقال الكلبي: "يردون (٨) القرآن بألسنتهم تكذيبًا له" (٩)، وقوله تعالى: ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾.
(١) ذكره المصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٠، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩١ بلفظ: اتخذوا المسيح ابن مريم إلهًا.
(٢) من (م).
(٣) ذكره المصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٠، ورواه الفيروزأبادي ص ١٩١ بلفظ: في جملة الكتب.
(٤) في (م): (وهو الذي لا إله غيره).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٤٤.
(٦) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٢٦، والمصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٩١، وبنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٢.
(٧) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١١٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٤، والثعلبي ٦/ ٩٨ ب.
(٨) في (ح): (يريدون)، وهو خطأ.
(٩) رواه الثعلبي ٦/ ٩٨ ب، والبغوي ٤/ ٣٩.
388
قال الفراء: "لم يجىء عن العرب حرف على (فعل) (يفعل) مفتوح العين في الماضي والغابر إلا وثانيه أو ثالثه أحد حروف الحلق، غير أبى يأبى، جاء نادرًا" (١)، ويقال: رجل أبيٌّ، وأبيان (٢)، وأباء: ذو إباء شديد، وأخذه إباء (٣): إذا كان يأبى الطعام فلا يشتهيه.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾، قال ابن عباس: "إلا أن يظهر دينه" (٤).
قال الفراء: "دخلت (إلا) لأن في (أبيت) طرفًا من الجحد، ألا ترى أن (أبيت) كقولك: لم أفعل (٥)، ولا أفعل، ولولا ذلك لم يجز دخول (إلا) كما إنك لا تقول: ضربت إلا أخاك، ولا ذهب إلا أخوك، [دون أن تقول: ضربت القوم، وذهب القوم] (٦) وأنشد:
فهل (٧) لي أم غيرها إن تركتها أبى الله إلا أن أكون لها ابنما (٨) (٩)
(١) "تهذيب اللغة" (أبى) ١/ ١١٣، وقد زاد اللغويون: قلى يقلى، وغشى يغشى، وشجى يشجى، وجبى يجبى. انظر: المصدر السابق، نفس الموضع.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) في (ح): (إباءة)، والصواب ما أثبته وهو موافق لما في "تهذيب اللغة" (أبى) ١/ ١١٣.
(٤) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٢.
(٥) في النسخة (ح) اضطراب وتحريف، ونص قول الفراء فيها:
ودخلت (إلا) أن في أثبت طرفًا من الجحد ألا ترى أن أثبت لقولك لم أفعل إلخ، وما في (م) و (ى) موافق لما في "معاني القرآن".
(٦) ما بين المعقوفين ليس موجودًا في "معاني القرآن" ١/ ٤٣٣.
(٧) في "معاني القرآن": وهل.
(٨) في (ح) و (م): (ابنا، والصواب ما في (ي) كما في "معاني القرآن" ١/ ٤٣٣.
(٩) البيت للمتلمس، وهو في "ديوانه" ص٣٠ وانظر: "الأصمعيات" ص ٢٤٥، و"خزانة الأدب" ١٠/ ٥٨، و"المقاصد النحوية" ٤/ ٥٦٨، و"المقتضب" ٢/ ٩٣.
389
وقال الزجاج: "دخلت (إلا) ولا جحد في الكلام، وأنت لا تقول: ضربت إلا زيدا؛ لأن الكلام غير دال على المحذوف، وإذا قلت: ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ فالمعنى: ويأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره، والحذف مستعمل مع الإباء" (١)، وأنكر قول الفراء فقال: "لو جاز ما قال على أن فيه طرفًا من الجحد لجاز: كرهت إلا أخاك، ولا دليل ههنا على المكروه ما هو؟ ولا من هو؟ فـ (كرهت) مثل (أبيت) [إلا أن أبيت] (٢) الحذف مستعمل معها (٣) " (٤).
٣٣ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾، قال ابن عباس: "يريد: محمدًا - ﷺ - (٥) ﴿بِالْهُدَى﴾ قال: بالقرآن (٦)، وقيل: بالبيان الذي يؤدي إلى نعيم الثواب في الجنة" (٧)، ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾، قال ابن عباس: "يريد الحنيفية" (٨)، ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [قال ابن عباس: "ليظهر الرسول على الدين كله" (٩)] (١٠) يعني (١١): ليعلمه شرائع الدين كلها فيظهر
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٤.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من: (ح).
(٣) ساقط من: (ح).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٤ وأكثر الجمل منقولة بالمعنى.
(٥) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٢.
(٦) رواه الثعلبي ٦/ ٩٩ أ، والفيروزأبادي ص ١٩٢.
(٧) ذكره بنحوه الثعلبي في الموضع السابق، ولم يعين القائل.
(٨) رواه الفيروزأبادي ص ١٩٢ بلفظ: "دين الإسلام، شهادة أن لا إله إلا الله".
(٩) رواه ابن جرير ١٠/ ١١٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٦، والبيهقي في "سننه" ٩/ ٣٠٦، والثعلبي ٦/ ٩٩ أوهو من رواية علي بن أبي طلحة.
(١٠) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(١١) من (م).
390
عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء.
وقال في رواية عطاء: "ليعليه على جميع الأديان" (١)، وعلى هذا اختلفوا: فقال أبو هريرة والضحاك: "ذلك عند خروج عيسى" (٢).
وقال السدي: "ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في دين الإسلام، أو أدى الخراج" (٣)، وقال الكلبي: "لا تقوم الساعة حتى يكون ذلك" (٤).
وقال أهل المعاني: "معناه: ليعلي دين الإسلام على كل دين بالحجة
(١) رواه بمعناه ابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٦ ب، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب النكاح، رقم (١٣٩٨٦) ٧/ ٢٨٠ من رواية عكرمة.
قال الإمام الشافعي: "فقد أظهر الله جل ثناؤه دينه الذي بعث به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأديان بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خالفه من الأديان باطل، وأظهره بأن جماع الشرك دينان: دين أهل الكتاب، ودين الأميين فقهر رسول الله - ﷺ - الأميين.. وقتل من أهل الكتاب وسبق حتى دان بعضهم الإسلام، وأعطى بعضٌ الجزية صاغرين وجرى عليهم حكمه - ﷺ - وهذا ظهور الدين كله".
"سنن البيهقي الكبرى"، كتاب السير، باب ظهور دين النبي ٩/ ٣٠١.
(٢) رواه عن أبي هريرة الإمام ابن جرير ١٠/ ١١٦، وفي سنده راوٍ لم يسم. ورواه أيضاً عبد بن حميد وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٤/ ١٧٦، وذكره عنه بغير سند الثعلبي ٦/ ٩٩ أ، والبغوي ٤/ ٤٠ وقد روياه في نفس الموضع عن الضحاك. وقد جاء في "الصحيحين" ما يشهد له من بعض الوجوه، وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". رواه البخاري (٢٤٧٦)، كتاب المظالم، باب كسر الصليب، ومسلم (١٥٥)، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى -عليه السلام-...
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ٩٩ أ، وذكره القرطبي ٨/ ١٢١.
(٤) رواه الثعلبى في الموضع السابق.
391
والغلبة" (١)، وقد صح ظهوره عليها فحجة هذا الدين أقوى الحجج، والغلبة لهذا الدين على سائر الأديان؛ فإن أهل الإسلام يغزون أهل سائر الملل، [وأهل سائر الملل] (٢) لا يغزون أهل الإسلام (٣).
وقيل: أراد في جزيرة العرب (٤)، وحصل ذلك بإجلاء أهل الذمة منها، وظهور الدين فيها كلها.
٣٤ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ﴾ قال ابن عباس: "يريد أن كثيراً من الفقهاء والعباد من أهل
(١) رواه بنحوه الثعلبي ٦/ ٩٩ ب، عن الحسين بن الفضل الموصوف بأنه إمام عصره في معاني القرآن كما في "طبقات المفسرين" للسيوطي ص ٣٧، وهو أيضاً قول النحاس في "إعراب القرآن" ٢/ ١٤.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٣) هذا يوم كان المسلمون أمة واحدة معتصمين بحبل الله، مستمسكين بدينه، وكان الله يدافع عنهم، ويعلي شأنهم، ويقذف الرعب في قلوب أعدائهم، أما اليوم بعد أن طال على المسلمين الأمد، وقست قلوبهم، وتفرقت كلمتهم، وقذف في قلوبهم الوهن -حب الحياة وكراهية الموت- فقد تسلط عليهم الأعداء، وأصبحت بلاد المسلمين نهبًا لكل طامع، وصدق فيهم قول نبيهم - ﷺ -: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله! فمن قلة يومئذٍ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل". رواه أحمد ٥/ ١٧٨ بسند صحيح كما في "صحيح الجامع الصغير" رقم (٨١٨٣).
(٤) ذكره بمعناه الثعلبي ٦/ ٩٩ ب، والبغوي ٤/ ٤٠، وبلفظه القرطبي ٨/ ١٢٢، وأبو حيان ٥/ ٣٣، ولم يعين أحد منهم القائل.
وهذا القول فيه نظر؛ فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام وذلًا يذل الله به الكفر". رواه أحمد في "المسند" ٤/ ٦، ١٠٣/ ٤.
392
الكتاب" (١)، وقال السدي: "أما الأحبار فمن اليهود، وأما الرهبان فمن النصارى" (٢).
وقوله تعالى: ﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ هو ما ذكرنا في مواضع من أخذهم الرشى (٣) في الحكم وما كانوا يصيبونه من المآكل من سفلتهم، وخافوا ذهاب ذلك عنهم بتصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- لو صدقوه، فصرفوا الناس عن الإيمان به، فذلك قوله (٤): ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قال ابن عباس: "يريد قريظة والنضير وصدهم (٥) عن طاعة الله" (٦)، قال أهل المعاني: "أراد بقوله: ﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ يتملكونها، فوضع يأكلون موضعه؛ لأن الأكل عرّضهم لذلك" (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ ذكر في محل "الذين" قولان: أحدهما: النصب بالعطف على اسم إن، فيكون المعنى
(١) ذكره السمرقندي ٢/ ٤٦ بلفظ: الأحبار: العلماء، والرهبان: أصحاب الصوامع، وبنحوه في "تنوير المقباس" ص ٢٩٢.
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ١١٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٧، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤١٧.
(٣) الرشى: بضم الراء وكسرها، جمع رشوة، وهي ما يعطاه من يعين على الباطل. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" (رشا) ٢/ ٢٢٦، و"لسان العرب" (رشا) ٣/ ١٦٥٣.
(٤) ساقط من (ح).
(٥) في (ح) و (ى): (فصدهم).
(٦) في "تنوير المقباس" ص ١٩٢: ("ويصدون عن سبيل الله": عن دين الله وطاعته.
(٧) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٤٢٨، و"مفاتيح الغيب" ١٦/ ٤٣ ولبم أجد من ذكره من أهل المعاني.
393
ويأكلها الذين يكنزون. والثاني: الرفع بالاستئناف (١)، والقولان مبنيان على سبب النزول.
واختلفوا في نزول الآية، فالأكثرون على أن قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ﴾ إلى آخره مستأنف نازل في هذه الأمة، قال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ يريد: من المؤمنين" (٢)، وقال السدي: "أما الذين يكنزون الذهب والفضة فهم أهل القبلة" (٣)، وروي عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية فقال: هم أهل الكتاب، وهي خاصة [عامة] (٤)، قال أهل العلم: "أراد أن الآية نازلة في أهل الكتاب وهي خاصة] (٥) فيمن لم يؤد الزكاة من المسلمين، عامة في جميع أهل الكتاب من أنفق ومن (٦) لم ينفق؛ لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم وإن أنفقوا" (٧)، وقال أبو ذر: "كنت بالشام فقرأت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ فقال معاوية: ليست هذه الآية فينا، إنما هذه الآية في أهل الكتاب، فقلت: إنها لفينا وفيهم" (٨).
(١) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٤ - ١٥، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٦، و"الدر المصون" ٦/ ٤١.
(٢) ذكره بنحوه ابن الجوزي ٣/ ٤٢٩.
(٣) رواه ابن جرير ١٠/ ١١٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٨.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٢٠ من رواية العوفي.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٦) من (م).
(٧) القول لابن جرير، انظر: "تفسيره" ١٠/ ١٢١، والمتبادر إلى الذهن أن معنى قول ابن عباس -إن صح عنه -: هي خاصة في أهل الكتاب، عامة فيمن فعل فعلهم من المسلمين.
(٨) رواه بهذا اللفظ ابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب الزكاة، باب ما ذكر في الكنز.. =
394
وأصل الكنز في كلام العرب: الجمع، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز، على ظهر الأرض كان أو في بطنها، يدل على ذلك قول الهذلي (١):
لا دَرَّ دَرّي إن أطعمت نازلكم قِرْف الحتيّ وعندي البر مكنوز (٢)
وقال الليث: "يقال: كنز الإنسان مالاً يكنزه، والكنز: اسم للمال إذا أحرز في وعاء" (٣)، يقال: كنزت البر في الجراب فاكتنز، واختلفوا في المراد بهذا الكنز، وترك هذا الإنفاق، فالذي عليه الأكثرون -وهو الإجماع اليوم- أن المراد بهذا الكنز هو جمع المال الذي لا تؤدى زكاته (٤).
= ٣/ ٢١٢، ورواه مطولاً البخاري (١٤٠٦)، كتاب: الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز، وابن جرير ١٠/ ١٢١ - ١٢٢، والثعلبي ٦/ ١٠٣ ب.
(١) هو: المتنخل الهذلي، وهو مالك بن عويمر أو عمرو بن عثمان بن حبيث الهذلي، أبو أثيلة، شاعر مجيد، من نوابغ شعراء هذيل. انظر: "خزانة الأدب" ٢/ ١٣٥، و"الشعر والشعراء" ص ٤٣٨، و"الأعلام" ٥/ ٢٦٤.
(٢) البيت منسوب للمتنخل في "شرح أشعار الهذليين" ٣/ ١٢٦٣، و"جمهرة اللغة" (برر) ١/ ٦٧، و"شرح أبيات سيبويه" ١/ ٥٥٠، و"لسان العرب" (برر) ١/ ٢٥٤، كتاب "المعاني الكبير" ١/ ٣٨٤، ونسب البيت لأبي ذؤيب الهذلي في كتاب "الحيوان" ٥/ ٢٨٥، و"شرح شواهد الشافية" ص ٤٨٨، ونسب أيضًا للمتلمس، وهو في ملحق "ديوانه" ص ٢٩١.
قال ابن قتيبة: "يقال: لا در در فلان: أي لا كانت له حلوبة ولا رزق، والحتي: سويق المقل، والقرف: ما انقشر منه" كتاب "المعاني الكبير" ١/ ٣٨٤.
(٣) "تهذيب اللغة" (كنز) ٤/ ٣١٩٢، ونحوه في كتاب "العين" (كنز) ٥/ ٣٢١.
(٤) انظر: "المصنف" للصنعاني ٤/ ١٠٦ - ١٠٨، ولابن أبي شيبة ٣/ ١٩٠، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ١١٧ - ١٢٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٨ - ١٧٨٩، والثعلبي ٦/ ١٠٠ أ - ١٠١ ب، و"الدر المنثور" ٣/ ٤١٧ - ٤١٩.
395
ومعنى قوله: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لا يؤدون زكاتها وهذا مذهب عمر وابنه وجابر، وقول ابن عباس (١) والضحاك (٢) والسدي (٣)، قال ابن عمر: "كل ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لم تؤد زكاته فهو كنز، وإن كان فوق الأرض" (٤)، وقال عمر: "ما أدي (٥) زكاته فليس بكنز" (٦)، وقال جابر: "إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز" (٧).
وقال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ "يريد: الذين لا يؤدون زكاة أموالهم" (٨).
(١) سيأتي تخريج قول ابن عباس ومن ذكر قبله.
(٢) رواه الثعلبي ٦/ ١٠٠ أ.
(٣) رواه ابن جرير ١٠/ ١١٨، والثعلبي ٦/ ١٠٠ أ.
(٤) رواه الصنعاني في "المصنف"، كتاب الزكاة، باب إذا أديت زكاته فليس بكنز، رقم (٧١٤١) ٤/ ١٠٧، وابن جرير ١٠/ ١١٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٨، والثعلبي ٦/ ١٠٠ أ، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الزكاة، باب تفسير الكنز رقم (٧٢٣٠) ٤/ ١٣٩، ورواه مختصرًا مالك في "الموطأ"، كتاب الزكاة، باب ما جاء في الكنز ١/ ٢١٨، وابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب الزكاة، باب ما قالوا في المال الذي تؤدى زكاته فليس بكنز ٣/ ١٩٠.
(٥) في (ى): (ما أدري).
(٦) رواه الصنعاني وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والثعلبي في المصادر السابقة، نفس المواضع.
(٧) المصادر السابقة، نفس المواضع، عدا ابن جرير وابن أبي حاتم، ورواه أيضًا البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الزكاة، باب الدليل على أن من أدى فرض الله... إلخ رقم (٧٢٣٩) ٤/ ١٤١.
(٨) رواه ابن جرير ١٠/ ١٢١، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤١٧، وهو من رواية علي بن أبي طلحة.
396
وذهب آخرون إلى أن المراد بهذا جمع المال وإن أديت الزكاة، قال (١) علي -رضي الله عنه-: "كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه (٢) الزكاة أو لم تؤد" (٣)، وقال عبد الواحد بن زيد (٤): "كل ما فضل من المال عن حاجته (٥) صاحبه إليه فهو كنز" (٦)، وروى ثوبان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لما نزلت هذه الآية: "تبًا للذهب تبًا للفضة يقولها ثلاثًا" قالوا: يا رسول الله: فأي المال نتخذ؟ قال: "لسانا ذاكرًا، وقلبا شاكرًا، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه" (٧).
(١) في (ى): (وقال)، وهو خطأ.
(٢) في (ح): (عنه).
(٣) رواه الصنعاني في "المصنف"، كتاب الزكاة، باب كم الكنز؟ رقم (٧١٥٠) ٤/ ١٠٩، وابن جرير ١٠/ ١١٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٨٨، والثعلبي ٦/ ١٠٠ ب.
(٤) هو: عبد الواحد بن زيد القاص، أبو عبيدة البصري، عابد قاص مشهور، له حكايات في الزهد والرقائق، لكنه لبس له علم بالحديث، قال البخاري: منكر الحديث، يذكر بالقدر، وقال الجوزجاني: سيء المذهب، ليس من معادن الصدق، وقال ابن عبد البر: أجمعوا على ضعفه. انظر: "حلية الأولياء" ٦/ ١٥٥، و"صفة الصفوة" ٣/ ٢١٧، و"تعجيل المنفعة" ١/ ٨٣٠.
(٥) ساقط من (ح).
(٦) "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٠٠ ب.
(٧) رواه الترمذي (٣٠٩٤)، كتاب تفسير القرآن، سورة براءة، وابن ماجه، (١٨٥٦) كتاب النكاح، باب أفضل النساء، وأحمد في "المسند" (٥/ ٢٧٨، ٢٨٢، ٣٦٦)، وابن جرير ١٠/ ١١٩، والواحدي في "أسباب النزول" (ص ٢٥٠)، وصححه الألباني كما في "صحيح ابن ماجه" (١٥٠٥)، وقال الترمذي: حديث حسن، وقال الزيلعي في "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف" ٢/ ٧١: حديث ضعيف لما فيه من الاضطراب.
397
وعن أبي ذر قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في ظل الكعبة، فلما رآني قد أقبلت قال: "هم الأخسرون ورب الكعبة، [هم الأخسرون ورب الكعبة] (١) " قلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: "الأكثرون، إلا من قال بالمال في عباد الله هكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، وقليل ما هم" (٢).
وروي هنا أيضًا عن جماعة من الصحابة أنهم ذهبوا إلى أن (٣) هذه الآية فيمن ادخر المال عن الإنفاق في سبيل الله بعد الزكاة أيضًا (٤).
والصواب: القول الأول؛ لأنه لا وعيد لمن جمع المال من الحلال وأدى الزكاة لقوله - ﷺ -: "من أدى زكاة ماله فقد أدى الحق الذي عليه" (٥)، وقوله - ﷺ -: "نعما بالمال الصالح للرجل الصالح" (٦)، وقول ابن عمر
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) رواه البخاري (٦٦٣٨)، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي؟ ومسلم (٩٩٠)، كتاب الزكاة، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة، والترمذي (٦١٧)، كتاب الزكاة، باب ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منع الزكاة من التشديد، والنسائي، كتاب الزكاة، باب التغليظ في حبس الزكاة ٥/ ١٠، ١١.
(٣) ساقط من (ى).
(٤) ذكر منهم علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو هريرة وعمار بن ياسر. انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٠١ أ، وابن كثير ٢/ ٣٨٨، وبعض الأسانيد إليهم ضعيفة.
(٥) حديث ضعيف، رواه أبو داود في "المراسيل" عن الحسن عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في "تلخيص الحبير" ٢/ ١٦٠، ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الزكاة، باب الدليل على أن من أدى فرض الله... إلخ رقم (٧٢٤١) ٤/ ١٤٢، وانظر "ضعيف الجامع الصغير"، رقم (٥٣٧٩).
(٦) رواه الإمام أحمد في "المسند" ٤/ ٢٠٢، وذكره البغوي في "شرح السنة"، كتاب الرقاق، باب استحباب طول العمر... ٧/ ٣١٩ بغير سند.
398
-وسئل عن هذه الآية-، فقال: "من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، وما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبًا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله فيه" (١)، فعلى هذا من كان له دراهم أو دنانير فدفنها تحت الأرض وهو (٢) يؤدي زكاتها فهو بمعزل عن (٣) الوعيد المذكور في هذه الآية، ولا يطلق اسم الكنز بالشرع على ذلك المال (٤)، وإن كان له مال فوق الأرض وهو لا يؤدي زكاته فذلك المال بالشرع يسمى (٥) كنزًا، ولحقه الوعيد.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قال الفراء والزجاج: "إن شئت جعلت الكناية (٦) راجعة إلى مدلول عليه، وهو الكنوز كأنه قال: ولا
(١) رواه ابن ماجه (١٧٨٧)، كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز، والبيهقي في "السنن الكبرى"، باب تفسير الكنز.. رقم (٧٢٢٩) ٤/ ١٣٩، ورواه البخاري (١٤٠٤) مختصرًا، كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز.
(٢) من (م).
(٣) في (ى): (من).
(٤) ومما يؤيد ذلك ما يأتي:
أ- أن الله تعالى شرع الوصية والمواريث، ولو كان انفاق جميع المال واجبًا لما كان لمشروعية ذلك فائدة.
ب- نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- سعدًا أن يتصدق بجميع ماله، بل وأن يتصدق بأكثر من الثلث وذلك في مرضه الذي غلب على ظنه موته فيه، ثم تعليل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله: ".. فالثلث والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم" رواه البخاري في "صحيحه"، كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير.. ٤/ ٤٧، وهذا الحديث كان بعد فتح مكة كما جاء في أوله، فهو مبين ما استقر عليه الإسلام.
(٥) في (م): (يسمى بالشرع)... إ الخ.
(٦) يقصد الضمير في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا﴾ بالإفراد، وهو يعود إلى الذهب والفضة، وكان الظاهر أن يقول: ولا ينفقونهما.
399
ينفقون الكنوز" (١)، قال الزجاج: "ويجوز أن يكون محمولًا على الأموال (٢)؛ لأن الأموال هي الذهب والفضة، قال: ويجوز أن تكون: ولا ينفقون الفضة، وحذف الذهمب لأنه داخل في الفضة" (٣)، وهذا معنى قول الفراء: "وإن شئت اكتفيت بذكر أحدهما من صاحبه، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: ١١] فجعله (٤) للتجارة، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ [النساء: ١١٢] (٥) فجعله للإثم، وأنشدوا (٦):
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف (٧)
وأنشد الفراء للفرزدق:
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى وأبي (٨) وكان وكنت غير غدور (٩)
(١) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٣٤، و"معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٤٥.
(٢) اهـ. كلام الزجاج، المصدر السابق، نفس الموضع.
(٣) المصدر السابق، نفس الموضع.
(٤) في (ج): (فجعلها).
(٥) قد كرر ناسخ (ح) ذكر هذه الآية وزاد بعد الموضع الأول قوله: فجعله للتجارة.
(٦) عبارة الفراء: وقال الشاعر في مثل ذلك.
(٧) البيت لعمرو بن امرئ القيس الخزرجي كما في "مجاز القرآن" ١/ ٣٩، و"شرح أبيات سيبويه" ١/ ٢٧٩، و"شرح شواهد الإيضاح" ص١٢٨، و"اللسان" (فجر) وقيل: هو لقيس بن الخطيم، كما في "زيادات ديوانه" ص٢٣٩، و"تلخيص الشواهد" ص ٢٠٥، و"الدرر اللوامع" ٥/ ٣١٤، و"كتاب سيبويه" ١/ ٧٥، ونسب في "الإنصاف" ص ٨٥ لدرهم بن زيد الأنصاري.
(٨) في (ح): (وأتى).
(٩) البيت للفرزدق كما في: "الإنصاف" ٨٥٥٥، و"شرح أبيات سيبويه" ١/ ٢٢٦، و"كتاب سيبويه" ١/ ٧٦، و"لسان العرب" (قعد) ٦/ ٣٦٨٨ وليس في ديوانه.
400
ولم يقل غدورين، وذلك لاتفاق المعنى يكتفى بذكر الواحد" (١).
وهذا أيضًا مذهب أبي عبيدة قال: "صار الخبر عن أحدهما كالخبر (٢) عنهما، وأنشد قول ضابيء البرجمي (٣):
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب (٤) (٥)
وإلى هذا ذهب صاحب النظم وزاد بياناً فقال: "الذهب والفضة في أنهما جميعًا ثمنان للأشياء كلها (٦) ويكنزان، وهما جميعًا جوهران يدخران يجريان في عامة الأمور مجرى واحداً، فاقتصر في الكناية عن أحدهما دون الآخر؛ إذ (٧) في ذكر أحدهما ذكر لهما (٨) جميعًا"، وقال أبو بكر بن الأنباري: "اكتفى بإعادة الذكر على الفضة لأنها أقرب إلى العائد وأعم وأغلب، كقوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا﴾ [البقرة: ٤٥] ردّ الكناية إلى الأغلب والأقرب" (٩).
وقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي ضع الوعيد بالعذاب
(١) "معاني القرآن" ١/ ٤٣٤.
(٢) في (ى): (عن الآخر).
(٣) هو بن الحارث بن أرطاة البرجمي التميمي. تقدمت ترجمته.
(٤) البيت لضابىء البرجمي كما في "الأصمعيات" ص ١٨٤، و"الإنصاف" ص ٨٥، و"خزانة الأدب" ٩/ ٣٢٦، و"كتاب سيبويه" ١/ ٧٥، و"لسان العرب" (قير) ٦/ ٣٧٩٣، و"نوادر أبي زيد" ص ٢٠.
(٥) "مجاز القرآن" ١/ ٢٥٧ بنحوه.
(٦) ساقط من (ى).
(٧) ساقط من (ى).
(٨) في (ح) و (ى): (ذكرهما).
(٩) ذكر قول ابن الأنباري بلفظ مقارب الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٠٢ أ.
401
الأليم موضع (١) البشرى بالنعيم، ويجوز أن يكون المعنى: فأخبرهم؛ لأن أصل البشرى: ما يظهر في بشرة الوجه من فرح أو غم، إلا أنه أكثر (٢) في الفرح، وكلا القولين بما مضى الكلام فيه (٣).
٣٥ - وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ الآية، "يوم" ظرف للعذاب الأليم في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
وقوله: ﴿يَوْمَ يُحْمَى﴾: قال الأصمعي: "أحميت الحديدة في النار فأنا أحميها إحماءً حتى حميت تحمى (٤) حميا" (٥)، وذلك إذا أوقدت عليها، وقوله: ﴿عَلَيْهَا﴾ ليس منه (٦) صلة الإحماء؛ لأنه يقال: أحميت الحديدة ولا يقال: على الحديدة، إلا إذا جعل (على) من صلة معنى الإحماء، وهو الإيقاد فمعنى قوله: "يحمى عليها" أي يوقد عليها، أنشد ابن السكيت (٧):
إن كنت جلمود بصر (٨) لا أؤبسه أوقد عليه فأحميه فينصدع (٩)
(١) في (ى): (مع).
(٢) في (م): (كثر).
(٣) انظر: "تفسير البسيط" البقرة: ٩٧.
(٤) ساقط من: (ى).
(٥) اهـ. كلام الأصمعي، انظر: "تهذيب اللغة" (حمي) ١٠١٣.
(٦) ساقط من (ح).
(٧) انظر: "تهذيب إصلاح المنطق" ص٨٣، و"تهذيب اللغة" (أبس) ١/ ١٠٧.
(٨) في (ح): (نصرًا)، وهو خطأ.
(٩) البيت لعباس بن مرداس. انظر "ديوانه" ص ٨٦، و"تهذيب إصلاح المنطق" ص ٨٣، و"لسان العرب" (أبس) و (بصر).
والجلمود: الصخر الغليظ، والبصر: الحجارة الرخوة تضرب إلى البياض، =
402
والكناية (١) في ﴿عَلَيْهَا﴾ تعود إلى ما عادت في قوله: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا﴾ (٢)، قال ابن عباس: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا﴾ أي: على الكنوز" (٣)، وقوله تعالى: ﴿فَتُكْوَى بِهَا﴾ معنى الكي في اللغة: إلصاق الحار من نار (٤) أو حديدة بالعضو حتى يحترق الجلد، يقال: كوى البيطار (٥) بالمكواة يكوي كيًا، وقوله تعالى: ﴿جِبَاهُهُمْ﴾ جمع الجبهة وهي مستوى ما بين الحاجبين إلى الناصية، والأجبه: الرجل العريض الجبهة، وجبهت الرجل: إذا استقبلته بمكروه، كأنك ضربت به جبهته.
والجنوب: جمع الجنب، وهو الجانب المشبك بالعظام المقوسة، قال المفسرون: "من كان له مال في الدنيا لم يؤد زكاته أحمي دراهمه ودنانيره في نار جهنم وكوي بها في هذه المواضع، لا يوضع دينار مكان دينار ولا درهم مكان درهم، ولكن يوسع جلده، فيوضع بكل درهم ودينار
= ومعنى أؤبسه: أذللَه. انظر: "لسان العرب" (أبس، بصر، جلمد)، قال ابن السكيت: "يقول: إني أقدر عليك على كل وجه، ولو كنت حجرًا لا يذلل لأوقدت عليه حتى يتفتت". "تهذيب إصلاح المنطق" ص ٨٣.
(١) ساقط من (ح).
(٢) في (ى): (زيادة نصها: "إلصاق الحار من النار"، ولا معنى لها في هذا الموضع، وسيأتي موضعها عند قوله تعالى: ﴿فَتُكْوَى بِهَا﴾.
(٣) ذكره المصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٢، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٢.
(٤) في (ي): (بالنار).
(٥) البيطار: "معالج الدواب". انظر: "لسان العرب" (بطر) ١/ ٣٠١.
403
كية على جلده" (١)، وهذا معنى قول ابن مسعود (٢) وابن عباس (٣)، وكان أبو ذر يقول: "بشر الكانزين بكي في الجباه وكي في الجنوب وكي في الظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم" (٤)، ولهذا المعنى الذي أشار إليه أبو ذر خصت هذه المواضع [بالكي؛ لأن داخلها جوف بخلاف اليد والرجل، وكان أبو بكر الوراق (٥) يقول: خُصت هذه المواضع] (٦)؛ لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وزوى ما بين عينيه وطوى عنه كشحه (٧)، وولاه ظهره" (٨).
وقوله تعالى: ﴿هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي: يقال لهم: هذا الذي تكوون به ما جمعتم لأنفسكم وبخلتم به عن حق الله، وإضمار القول كثير في القرآن.
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٠٢ ب، والبغوي ٤/ ٤٤، و"الدر المنثور" ٣/ ٤١٩ - ٤٢٠.
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ١٢٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٩٠، والثعلبي ٦/ ١٠٢ ب، والطبراني وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤١٩. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١٠٤: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح".
(٣) رواه مختصرًا ابن المنذر، كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤١٩.
(٤) رواه بنحوه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٧٣، وابن جرير ١٠/ ١٢٣.
(٥) هو: محمد بن إسماعيل بن العباس، أبو بكر الوراق، الإمام المحدث، كان حافظًا ثقة من شيوخ الدارقطني والبرقاني، ولد سنة ٢٩٣ هـ، وتوفي سنة ٣٧٨ هـ. انظر: "تاريخ بغداد" ٢/ ٥٣، و"سير أعلام النبلاء" ١٦/ ٣٨٨، و"شذرات الذهب" ٣/ ٩٢.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٧) الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع من الخلف، وقيل غير ذلك، وطوى عنه كشحه: أي قاطعه وعاداه، وقيل: أعرض عنه وتباعد.
انظر: "مجمل اللغة" (كشح) ٣/ ٧٨٦، و"لسان العرب" (كشح) ٧/ ٣٨٨٠.
(٨) ذكره البغوي ٤/ ٤٤، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٣، وبمعناه الثعلبي ٦/ ١٠٢ ب.
404
وقوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ من باب حذف المضاف، أي: ذوقوا عذاب ما كنتم تكنزون، وحديث أبي هريرة يفسّر هذه الآية، وهو ما أخبرنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم (١) [رحمه الله قال (٢): أنا (٣) أبو محمد عبد الله بن حامد الأصفهاني قال: أخبرنا (٤) أبو يحيى أحمد بن محمد بن إبراهيم] (٥) السمرقندي (٦) قال: ثنا محمد بن نصر المروزي (٧) قال: ثنا محمد بن عبد الملك ابن أبي الشوارب (٨) قال: ثنا عبد العزيز بن المختار (٩) قال: ثنا
(١) هو الثعلبي، شيخ المؤلف، وقد تقدمت ترجمته عند ذكر شيوخه.
(٢) سقطت كلمة: (قال) من (ح) و (م) في جميع السند على عادة المحدثين.
(٣) في (م): (حدثنا) في جميع السند دون اختصار الكلمة.
(٤) في (ى): (أنا)، على عادة المحدثين.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٦) هو: أحمد بن محمد بن إبراهيم بن حازم أبو يحيى السمرقندي الكرابيسي، روى عن محمد بن نصر وابن خزيمة، اتهم في إكثاره من الرواية عن ابن نصر، وقد ثبت أن ابن نصر أجاز له بما صح عنده عنه.
انظر: "ميزان الاعتدال" ١/ ١٢٩، و"لسان الميزان" ١/ ٢٥١.
(٧) هو: محمد بن نصر بن الحجاج المروزي، الإمام شيخ الإسلام أبو عبد الله الحافظ، إمام عصره في الحديث بلا مدافعة، وكان من أعلم أهل زمانه بالاختلاف، وأكثرهم صيانة في العلم، مع حسن العبادة، وجودة التصنيف، توفي سنة ٢٩٤ هـ.
انظر: "تذكرة الحفاظ" ٢/ ٦٥٠، و"البداية والنهاية" ١١/ ١٠٢، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٧١٧.
(٨) هو: محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب محمد بن عبد الله الأموي، أبو عبد الله البصري، إمام ثقة محدث فقيه، من رجال مسلم، توفي سنة ٢٤٤ هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" ٢/ ٣٤٤، و"سير أعلام النبلاء" ١١/ ١٠٣، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٦٣٤.
(٩) هو: عبد العزيز بن المختار الأنصاري، أبو إسحاق الدباغ البصري، مولى حفصة =
405
سهيل (١) عن أبيه (٢) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح، فتكوى بها جبينه وجنباه، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" (٣).
٣٦ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ الآية، قد ذكرنا معنى العدة والشهر في سورة البقرة (٤)، قال أبو إسحاق: "أعلم
= بنت سيرين، ثقة مكثر، من رجال البخاري ومسلم، وهو من الطبقة السابعة الذين توفوا بعد سنة ١٠٠ هـ. انظر: "الكاشف" ٢/ ٦٥٨، و"تقريب التهذيب" ٣٥٩/ ٤١٢٠، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٥٩٣.
(١) هو: سهيل بن أبي صالح ذكوان السمان، أبو يزيد المدني، محدث مكثر، وثقه الجمهور وضعفه ابن معين وغيره، وقد تغير حفظه بآخره، وهو من رجال مسلم، وروى له البخاري مقرونًا بغيره، توفي سنة ١٣٨ هـ.
انظر: "الكاشف" ٢/ ٤٧١، و"تقريب التهذيب" ٢٥٩/ ٢٦٧٥، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ١٢٨.
(٢) هو ذكوان، أبو صالح السمان الزيات، مولى جويرية بنت الأحمس الغطفاني، تابعي ثقة ثبت من أجل الناس وأوثقهم، كثير الحديث، مات سنة ١٠١هـ.
انظر: "الكاشف" ٢/ ٣٨٦، و"تقريب التهذيب" ٢٠٣ (١٨٤٢)، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٥٧٩.
(٣) رواه مسلم في "صحيحه" (٩٨٧)، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، وأبو داود في "سننه" (١٦٥٨)، كتاب الزكاة، باب في حقوق المال، وأحمد في "المسند" ٢/ ٢٦٢، ٣٨٣.
(٤) انظر النسخة الأزهرية: (١/ ١١٢ ب) وقد قال هنا: (والعدة: (فعله) من العد، وهو بمعنى المعدود، كالطحن بمعنى المطحون، ومنه يقال للجماعة المعدودة من الناس: عدة، وعدة المرأة من هذا) اهـ. وقال في نفس النسخة (١/ ١١٣ ب): (الشهر مأخوذ من الشهرة، تقول: شهر الشيء يشهره شهرًا، إذا أظهره، وسمي الشهر شهرًا لشهرة أمره في حاجة الناس إليه في معاملاتهم... إلخ).
406
الله -عز وجل- أن عدة شهور المسلمين التي تُعبدوا بأن يجعلوها لسنتهم اثنا عشر شهراً، على منازل القمر، واستهلال الأهلة، وكان أهل الكتاب يعملون على أن السنة ثلثمائة وخمس وستون يومًا وبعض يوم، على هذا يجري أمر النصارى واليهود، فأعلم الله -عز وجل- أن سني المسلمين على الأهلة" (١).
قوله تعالى: ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾، قال الواقدي: "يعني اللوح المحفوظ" (٢)، وهو قول عامة أهل التأويل (٣)، ونحو هذا يحكى عن ابن عباس ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ قال: "في الإمام (٤) الذي عند الله كتبه يوم خلق السموات والأرض" (٥).
قال أبو علي الفارسي: " [لا يجوز تعلق] (٦) الكتاب بالعدة؛ لأن فيه (٧) فصلاً بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو اثنا عشر، ولكنه يتعلق بمحذوف على أن يكون صفة للخبر تقديره: "اثنا عشر شهرًا مكتوبًا في كتاب الله"، قال: والكتاب لا يكون إلا مصدرًا، ولا يجوز أن يعني به كتاب من الكتب؛ وذلك لتعلق اليوم به، وسائر الظروف لا تتعلق بأسماء الأعيان؛ لأنه لا معاني في أسماء الأعيان للفعل، (لا تقول: غلامك يوم الجمعة)، على أن يتعلق اليوم بالغلام، فبهذا يعلم أنه
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٥ باختصار وتصرف.
(٢) لم أجده في كتابه "المغازي".
(٣) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٢٤ - ١٢٩، والثعلبي ٦/ ١٠٥ أ، وابن الجوزي ٣/ ٤٣٢.
(٤) في (م): (الأيام)، وهو خطأ.
(٥) ذكر، ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٣٢، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٤.
(٦) في (ح): (يجوز أن لا يعلق)، وما أثبته موافق لما في "الحجة للقراء السبعة".
(٧) في (ف): (فيها)، وما أثبته موافق لما في "الحجة".
407
مصدر" هذا كلامه (١).
ويمكن أن يكون الكتاب اسمًا على ما ذكره أهل التفسير (٢)، ويضمر للظرف ما (٣) يتعلق به على أن يكون المعنى: ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾: كتبه يوم خلق السموات والأرض، على ما يحكى عن ابن عباس (٤)، وذكر أبو علي هذه الآية في "المسائل الحلبية"، فقال: "الفائدة في قوله: ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ بعد قوله: ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ أن في ﴿كِتَابِ اللَّهِ﴾ من الاختصاص ما ليس في قوله: ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ألا ترى أنه قد توصف أشياء بأنها عنده ولا توصف بأنها في كتابه كقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ [لقمان: ٣٤] ففي ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ معنى زائد على ما في ﴿عِنْدِ اللَّهِ﴾ فجرى في هذا المعنى مجرى قولك: خرج من الدار من البيت (٥) و ﴿عِنْدِ اللَّهِ﴾ متعلق بالمصدر الذي هو العدة وهو العامل فيه.
وقوله تعالى: ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ متعلق بمحذوف لأنه صفة لـ (اثني عشر) قال: ويجوز أن يكون متعلقا بـ"حرم" على تقدير: منها أربعة حرم في كتاب الله، أي: فيما كتب الله يوم خلق السموات والأرض، والمعنى: أن الحرم منها في كتاب الله أي فيما فرض كونه (٦) حرمًا أربعة أشهر لا أكثر
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٤٥٨ بتصرف، والجملة التي بين القوسين مزيدة في كلام أبي علي.
(٢) سبق ذكر قول ابن عباس وعامة أهل التأويل.
(٣) في (ح): (وما).
(٤) سبق تخريجه عند ذكر أول الآية.
(٥) في (ى): (خرج من البيت)، والصواب ما في (ح) و (م)، وهو موافق لما في المسائل الحلبيات.
(٦) في (ى): (من كونه)، وما في (ح) و (م) موافق لما في "المسائل الحلبيات".
408
منه (١)، فإذا نسأتم أنتم المشهور فجعلتم (٢) أكثر من أربعة أشهر وحللتم ما حرم الله وحرمتم ما أحل الله كان ذلك زيادة في الكفر، كما ذمهم الله بفعل ذلك" (٣).
وقوله تعالى: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم (٤)، في قول الجميع، ومعنى الحرم: أنه يعظم انتهاك المحارم فيها بأشد (٥) مما يعظم في غيرها، وكانت العرب تعظمها حتى لو لقي الرجل منهم قاتل أبيه لم يهجه.
قال أهل المعاني: "وفي جعل بعض المشهور أعظم حرمة من بعض فوائد من المصلحة في الكف عن الظلم فيها لعظم منزلتها في حكم خالقها، فربما أدى ذلك إلى ترك الظلم رأسًا؛ لانطفاء الثائرة في تلك المدة" (٦).
(١) في "الحلبيات": منها.
(٢) هكذا في جميع النسخ، وفي "الحلبيات": جعلتم، وتصرف الواحدي يغيّر المعنى الذي يريده أبو علي؛ فمعنى عبارة أبي علي: إن الله حرّم أربعة أشهر فقط فإذا نسأتم المشهور كانت الحرم أكثر من أربعة، بينما جملة (فجعلتم أكثر من أربعة أشهر) في عبارة الواحدي تفسير لمعنى النسيء ولا يتم بها المعنى، ولذا اضطر لزيادة جملة (كان ذلك زيادة في الكفر) ليتم المعنى، وهذه الجملة بهذا المعنى مقحمة في كلام أبي علي.
(٣) "المسائل الحلبيات" ص ٣٠٧ بتصرف.
(٤) في (ح) و (ى): (رجب والمحرم... إلخ.
(٥) في (ى): (أشد)، وقد أثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لما في "الوسيط" ٢/ ٤٩٤.
(٦) ذكره بنحوه الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٦٠، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٣٤ دون نسبة، ولم أجده في كتب أهل المعاني التي بين يدي.
409
وقد ذكرنا هذا مستقصى عند قوله: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ [المائدة: ٩٧] (١) الآية.
وقوله: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ الدين له معان كثيرة في اللغة، ومناه ههنا (٢): الحساب، ومنه قيل: "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت" (٣) أي: حاسبها، و"القيم": معناه المستقيم، وقد ذكرناه عند قوله:
(١) انظر النسخة (ح) ٢/ ٧٤ أحيث قال: (اختلف المفسرون وأصحاب المعاني في هذه الآية، فقال ابن عباس في بعض الروايات: "قوله ﴿قيامًا للناس﴾ قيامًا لدينهم ومعالم لحجهم"، وقال سعيد بن جير: " ﴿قيامًا للناس﴾ صلاحًا لدينهم"
فعلى هذا، القيام مصدر قولك: قام قيامًا والمعنى: إن الله جعل الكعبة سببًا لقيام الناس إليها للحج وقضاء النسك، فيصلح بذلك دينهم، لأنه يحط عنهم الذنوب والأوزار عندها..
وقال جماعة من المفسرين وأكثر أصحاب المعاني: القيام ههنا يراد به القوام، وهو العماد الذي يقوم به الشيء، والتقدير فيه: جعل الله الحج للكعبة البيت الحرام قيامًا لمعاش الناس ومكاسبهم..) إلخ.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) هذا بعض حديث رواه الترمذي (٢٤٥٩)، كتاب صفة القيامة، وابن ماجه (٢٤٦٠) في "السنن"، كتاب الزهد، باب ذكر الموت، وأحمد في "المسند" ٤/ ١٢٤، والحاكم في "المستدرك"، كتاب الإيمان ١/ ٥٧، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الجنائز، باب ما ينبغي لكل مسلم.. رقم (٦٥١٤) ٣/ ٥١٧، والبغوي في "شرح السنة"، كتاب الرقاق، باب الاجتناب عن الشهوات، رقم (٤٠١١) ٧/ ٣٣٣.
قال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري، وتعقبه الذهبي بقوله: لا والله، أبو بكر واه.
قلت: والحديث في جميع المصادر السابقة يدور على هذا الراوي الضعيف وهو أبو بكر ابن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي، قال الحافظ في "تقريب التهذيب" ص ٦٢٣ (٧٩٧٤): "ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط".
410
﴿دِينًا قِيَمًا﴾ [الأنعام: ١٦١]. قال المفسرون وأهل المعاني: "ذلك الحساب المستقيم الصحيح، والعدد المستوي" (١). وقال الحسن: " ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾: الذي (٢) لا يبدل ولا يغير" (٣)، فالقيم على هذا بمعنى (٤): القائم الدائم الذي لا يزول.
قال أهل العلم: "فالواجب على المسلمين بدليل هذه الآية أن يعتبروا به في بيوعهم، ومُدد ديونهم، وأحوال زكاتهم، وسائر أحكامهم، السنة العربية بالأهلة، ولا يجوز لهم (٥) اعتبار السنة العجمية والرومية (٦) (٧).
قوله تعالى: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: "تحفّظوا من أنفسكم فيها واجتنبوا الخطايا، فإن الحسنات فيها
(١) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ١٩٤، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٢٠٦، و"النكت والعيون" ٢/ ٣٦٠، و"زاد المسير" ٣/ ٤٣٢.
(٢) في (ى): (أي).
(٣) ذكره الفخر الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٥٣.
(٤) في (ج): (معنى).
(٥) ساقط من: (ى).
(٦) السنة العجمية هي السنة الفارسية وهي اثنا عشر شهرًا، كل شهر ثلاثون يومًا عدا شهر واحد فإنه خمسة وثلاثون يومًا، وأما السنة الرومية فهي أيضًا اثنا عشر شهرًا، لكن الشهور مختلفة فشهر ثمانية وعشرون يومًا، وشهر ثلاثون يومًا وشهر واحد وثلاثون يومًا، وتعرف اليوم بالسنة الميلادية.
انظر تفصيل ما سبق في: "أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٩٣٦.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٤٤٥، و"أحكام القرآن" لإلكيا الهراسي ٤/ ١٩٩، و"تفسير الرازي" ١٦/ ٥٥، و"الجامع الأحكام القرآن" للقرطبي ٨/ ١٣٣.
411
تضعف والسيئات فيها تضعف (١) " (٢)، فعلى هذا القول: الكناية تعود إلى الحرم، وهو قول قتادة، قال: "الظلم في الأشهر الحرم أعظم وزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء، فاصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس، ومن الأرض والمساجد، والأيام والشهور والليالي، فعظموا ما عظم الله" (٣).
(١) السيئة لا تضعف بالمعنى المتبادر للتضعيف، وإنما يجزى بمثلها من غير زيادة كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ١٦٠]، ولكن السيئة تعظم لسبب من الأسباب فيعظم جزاؤها، ومن ذلك: حرمة الزمان كما في هذه الآية وحرمة المكان كالحرم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: ٢٥] ومن ذلك أيضًا مكانة الشخص، قال تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب: ٣٠]، وكون الشخص ممن يقتدى به، قال تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [النحل: ٢٥]، وغير ذلك من أسباب عظمة السيئة، وعلى هذا يحمل قول ابن عباس المذكور -ولا يصح عنه- وقد جاء ذلك مصرحًا به في رواية الوالبي الصحيحة، ونصها: "ثم خص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرمًا، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم". انظر تخريج الرواية في الهامش التالي.
(٢) "الوسيط" ٢/ ٤٩٤، وقد سبق بيان أن رواية عطاء مكذوبة ورواه بمعناه من رواية الوالبي الإمام ابن جرير ١٠/ ١٢٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٩٣، وابن المنذر والبيهقي في "شعب الإيمان" كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٢٥ وفيه زيادة.
(٣) ذكر المؤلف قول قتادة بمعناه، وقد أخرجه ابن جرير ١٠/ ١٢٧، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٢٥، ورواه مختصرًا ابن أبي حاتم ٦/ ١٧٩٣، والثعلبي ٦/ ١٠٥ ب.
412
وقال محمد بن إسحاق: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ بأن تجعلوا حرامها حلالاً، وحلالها حرامًا كما فعل أهل الشرك في النسيء" (١)، وعلى هذا: الكناية تعود إلى الشهور كلها [وقد روي عن ابن عباس أنه (٢) قال: " ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ (٣): في الشهور كلها" (٤)] (٥)، وحكى الزجاج القولين جميعًا، وقال: "من قال في الأربعة: أراد تعظيم شأن المعاصي فيهن كما قال تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٧]، وهذه الأشياء لا تجوز في غير الحج، ولكنه -عز وجل- عرّف الأيام التي تكون فيها المعاصي أكثر إثمًا وعقابًا" (٦)، واختار الفراء أن تكون الكناية راجعة إلى الأربعة لقوله: ﴿فِيهِنَّ﴾ ولم يقل (فيها) كما قال: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ لما عادت الكناية إلى كلها، قال: وكذلك كلام العرب لما بين الثلاثة إلى العشرة يقولون: لثلاث خلون، إلى العشرة [(فإذا جُزت العشرة) (٧) قالوا: خلت، ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة] (٨): (هن) و (هؤلاء) (٩) فإذا جزت العشرة قالوا: (هي) و (هذه) إرادة أن تُعرف
(١) "سيرة ابن هشام" ٢/ ٢٠٦.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) ساقط من (ح).
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٢٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٩٢، واللفظ له، وابن المنذر والبيهقي في "شعب الإيمان" كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٢٥.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٦ بنحوه.
(٧) ما بين القوسين ساقط من (ى).
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٩) من (م).
413
سمة القليل من الكثير، قال: "ويجوز في كل واحد ما جار في صاحبه"، وأنشد:
أصبحن في قُرح وفي داراتها سبع ليال غير معلوفاتها (١) (٢)
ولم يقل: غير معلوفاتهن وهي سبع، وكل صواب؛ إلا أن المؤْثر ما فسرت لك (٣).
والأصل في هذا أن جمع القلة يكنى عنه كما يكنى عن جماعة مؤنثة، ويكنى عن جمع الكثرة كما يكنى عن واحدة مؤنثة، كما قال حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى (٤) وأسيافنا يقطرن من نجدة (٥) دما (٦)
فقال: يلمعن ويقطرن؛ لأن الأسياف والجفنات جمع قلة، ولو جمع جمع (٧) الكثرة لقال: تلمع وتقطر، هذا هو الاختيار، ويجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر، كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب (٨)
(١) في (ى): (معروفاتها)، وهو خطأ.
(٢) سبق تخريج هذا الرجز عند تفسير الآية ٢٥ من سورة براءة.
وقد بين ابن منظور في "لسان العرب" ٦/ ٣٥٧٤ أن (قُرْح) بضم القاف وسكون الراء: اسم وادي القرى أو سوق فيه.
والدارات: جمع دارة وهي كل أرض واسعة بين جبال. المصدر نفسه (دور) ٤/ ٢٩٦.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤٣٥ باختصار.
(٤) في (ى): (في الضحى)، والمثبت موافق لديوانه.
(٥) في (م): (حدة)، والمثبت موافق لديوانه.
(٦) انظر: "شرح ديوان حسان" ص ٢٢١ وقال الشارح: الجفنات: القصاع، والغر: البيض من كثرة الشحم وبياض اللحم، يصف حسان قومه بالندى والبأس.
(٧) ساقط من (ى).
(٨) انظر: البيت في "ديوان النابغة" ص ٣٢، ونسب إليه أيضًا في "إصلاح المنطق" ص ٢٤، و"خزانة الأدب" ٣/ ٣٢٧، و"كتاب سيبويه" ٢/ ٣٢٦.
414
فقال: بهن والسيوف جمع كثرة، وروي عن ابن عباس أيضًا أنه قال: " ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ باستحلال القتل والغارة فيهن" (١)، وهذا يوجب ترك القتال في الأربعة الحرم، وبقاؤها على ما كانت قبل الإسلام، وقد ذكرنا الخلاف في هذا الحكم في سورة البقرة (٢)، في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٧].
وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾، قال ابن عباس: "كافة: جميعًا" (٣)، يريد: قاتلوهم كلهم ولا تُحابوا (٤) بعضهم بترك القتال؛ كما أنهم يستحلون قتال جميعكم، ويجوز أن يكون المعنى: قاتلوهم بأجمعكم، مجتمعين على قتالهم كما يفعلون هم، يريد:
(١) رواه الثعلبي ٦/ ١٠٥ ب، والبغوي ٤/ ٤٥.
(٢) انظر النسخة الأزهرية: ١/ ١٣٢ أحيث قال: (وأما حكم القتال في الشهر الحرام اليوم فالعلماء فيه مختلفون، قال ابن جريج: "حلف لي عطاء بالله ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام، إلا أن يقاتلوا"، وروى أبو الزبير عن جابر قال: "لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغزوا في الشهر الحرام إلا أن يغزا، فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ"، وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال: نعم، وقال ذلك سليمان بن يسار، وهو مذهب قتادة وغيره من العلماء، يرون القتال في الشهر الحرام، قال أبو عبيدة: والناس اليوم بالثغور جميعًا على هذا القول).
(٣) رواه ابن جرير ١٠/ ١٢٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٩٣، وابن المنذر والبيهقي في "شعب الإيمان" كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٢٥، وهو من رواية علي بن أبي طلحة.
(٤) في (ى): (تخافوا)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لـ"الوسيط" ٢/ ٤٩٤، و"تفسير الرازي" ١٦/ ٥٤، والمحاباة: قال الخليل في كتاب "العين" (حبو) ٣/ ٣٠٩: "الحباء: عطاء بلا مَنٍّ ولا جزاء، حبوته أحبوه حباء، ومنه أخذت المحاباة". وفي "لسان العرب" (حبو) ٢/ ٧٦٦: "حابى الرجل حباء: نصره واختصه ومال إليه".
415
تعاونوا وتناصروا على ذلك ولا تتجادلوا، وكلا المعنيين يحتمله قوله (١): جميعًا، والمعنى الثاني يوجب تعين فرض القتال على كل أحد، ونذكر الخلاف فيه في قوله -عز وجل-: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: ٤١] الآية.
قال الفراء: "كافة يقول: جميعًا، والكافة لا تكون مذكرة ولا مجموعة على عدد الرجال، فتقول: كافّين أو كافات للنسوة، ولكنها (كافة) بالهاء والتوحيد؛ لأنها وإن كانت على لفظ (فاعلة) فإنها في مذهب مصدر مثل: الخاصة والعاقبة والعافية (٢)؛ لذلك لم تُدخل فيها العرب الألف واللام؛ لأنها في (٣) مذهب قولك: قاموا معًا، [وقاموا جميعًا" (٤)] (٥).
وقال الزجاج: ﴿كَافَّةً﴾ منصوب على الحال، وهو مصدر على (فاعلة) كما قالوا: العاقبة والعافية، ولا يجوز أن يثنى ويجمع، كما أنك إذا قلت: قاتلوهم عامة لم تثن ولم تجمع، وكذلك (خاصة)، هذا مذهب النحويين" (٦).
(١) يعني ابن عباس.
(٢) من (ى).
(٣) في (ى): (من)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته و"معاني القرآن" للفراء.
(٤) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٣٦.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٤٦ باختصار.
انظر نسبة القول للنحويين في: "تهذيب اللغة" (كف) ٤/ ٣١٦٤، و"لسان العرب" (كفف) ٧/ ٣٩٠٥، وانظر توضيح المسألة في: "البحر المحيط" ٢/ ١٢٠، و"الكليات" لأبي البقاء ص ٧٧٥.
416
وقد أحكمنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨] (١).
وقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾، قال ابن عباس: "يريد مع أوليائه الذين يخافونه فيما كلفهم من أمره ونهيه" (٢)، قال الزجاج: "تأويله أنه ضامن لهم النصر" (٣).
٣٧ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ الآية، قال أبو زيد: "نسأت الإبل عن الحوض فأنا أنسأها نسأ: إذا أخرتها عنه (٤)، وأنساته الدين إنساءً: إذا أخرته عنه، واسم ذلك النسيئة والنسء" (٥).
قال (٦) [أبو عبيد عن الأصمعي: "أنسأ الله فلانا أجله [ونسأ في أجله] (٧): [أي أخره" (٨)] (٩)، [وذكر الزجاج في باب الوفاق: "نسأ الله في
(١) انظر: النسخة الأزهرية: ١/ ١٢٦ ب حيث قال: ومعنى (الكافة) في اللغة: الحاجزة المانعة، يقال: كففت فلانًا عن السوء فكفّ يكف كفًّا.. وقيل لطرف اليد كف لأنه يكف بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف: كف بصره من أن ينظر، فالكافة معناها المانعة، ثم صارت اسمًا للجملة الجامعة؛ لأنها تمنع من الشذوذ والتفرق.
(٢) "الوجيز" ٦/ ٤٨٦ مختصرًا.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٧، والمراد أن هذه معية خاصة لأوليائه، تستلزم النصر والتأييد والحفظ والرعاية.
(٤) ساقط من (ح).
(٥) "تهذيب اللغة" (نسأ) ٤/ ٣٥٦٦ بلفظ مقارب، وبعضه في "الحجة" ٤/ ١٩٣.
(٦) من (ى).
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٨) "تهذيب اللغة" (نسأ) ٤/ ٣٥٦٦، وهو في "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ٢٣ من غير نسبة.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (م) و (ى)، وهو كذلك غير موجود في المصدرين التاليين.
417
أجله وأنسأ أجله: أي أخره" (١)] (٢)، فالنسيء في اللغة: معناه: التأخير على ما ذكره أهل اللغة (٣).
وكان النسيء في الشهور: تأخير حرمةٍ لشهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة، قال الفراء: "النسيء: المصدر، ويكون المنسوء، مثل قتيل ومقتول" (٤).
وقال الأزهري: "النسيء في هذه الآية بمعنى الإنساء، اسم وضع موضع المصدر الحقيقي من أنسأت، قال: وقد قال بعضهم: نسأت في هذا الموضع بمعنى أنسأت، ومنه قول عمير بن قيس بن جذل الطعان (٥):
ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما (٦) (٧)
(١) اهـ. كلام الزجاج، انظر: كتاب "فعلت وأفعلت" ص ٤٠، و"معاني القرآن وإعرابه" ١/ ١٩٠ ولعل الزجاج ذكره في كتاب آخر فيه باب الوفاق، ولم أعثر عليه.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٣) انظر أيضًا: "الصحاح" (نسأ) ١/ ٧٦، و"مجمل اللغة" (نسى) ٣/ ٧٦٦.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٤٣٧.
(٥) هو: عمير بن قيس أحد بني علقمة بن فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة، وجذل الطعان: لقب لجده علقمة، وقيل: بل لقب له، والأول هو الظاهر من مصادر تخريج البيت، وسمي بذلك لثباته في الحرب كأنه جذل شجرة واقف، وقيل: لأنه كان يستشفى برأيه ويستراح إليه كما تستريح البهيمة الجرياء إلى الجذل تحتك به.
انظر: "سيرة ابن هشام" ١/ ٤٥، و"الروض الأنف" ١/ ٢٥١.
(٦) انظر البيت منسوبًا لعمير بن قيس في "سيرة ابن هشام" ١/ ٤٦، و"تهذيب اللغة" (نسأ) ٤/ ٣٥٥٦، و"لسان العرب" (نسأ) ٧/ ٤٤٠٣.
(٧) اهـ. كلام الأزهري، انظر: "تهذيب اللغة" (نسأ) ٤/ ٣٥٥٦.
418
قال أبو علي: "النسيء: مصدر كالنذير والنكير، ولا يجوز أن يكون (فعيلا) بمعنى (مفعول)؛ لأنه إن (١) حمل على ذلك كان معناه (٢): إنما المؤخَّر زيادة في الكفر (٣)، والمؤخر الشهر؛ وليس الشهر نفسه زيادة في الكفر إنما الزيادة في الكفر تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة، فأما نفس الشهر فلا" (٤)، فقد وافق أبو علي الأزهريَّ في أن النسيء موضوع (٥) موضع المصدر.
وهذا قراءة العامة (٦)، وروي عن ابن كثير (٧) من طريق شبل (٨):
(١) ساقط من: (ى).
(٢) في (ى): (المعنى).
(٣) في (ح): (بالكفر).
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٩٣.
(٥) ساقط من (ى).
(٦) "كتاب السبعة" (ص ٣١٤)، و"التبصرة في القراءات" ص ٢١٥، و"تقريب النشر" ص ٣٤، وقد أفاد المصدران الأخيران أن ورشًا وافق الجمهور في إحدى الروايتين عنه، وله رواية أخرى لفظها: (إنما النسىُّ) بغير همز ولا مد، والياء مشددة.
(٧) هو: عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله الداري أبو معبد المكي، إمام المكيين في القراءة، واحد القراء السبعة، كان فصيحًا بليغًا مفوهًا، عليه سكينة ووقار، توفي سنة ١٢٠هـ.
انظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ٨٦، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ٣١٨، و"تقريب التهذيب" ص٣١٨ (٣٥٥٠)، و"غاية النهاية" ١/ ٤٤٣.
(٨) في (ى): (ابن شبل)، والصواب ما في (ح) و (م) كما في كتاب "السبعة في القراءات" ص ٣١٤، و"الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٩٣، وهو شبل بن عباد المكي، صاحب ابن كثير، ومقرئ مكة، وأحد شيوخ حمزة الزيات، كان ثقة من رجال البخاري، توفي بعد سنة ١٥٠ هـ.
انظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ١٢٩، و"الكاشف" ١/ ٤٧٨، و"تقريب التهذيب" ص ٢٦٣ (٢٧٣٧).
419
(النَّسء) بوزن النسع (١)، وهو المصدر الحقيقي كقولهم: نَسَأت: أي أخرت، وروي عنه أيضًا (النسي) مخففة الياء (٢)، ولعله لغة في (النسء) بالهمز مثل: أرجيت وأرجأت (٣)، وروي عنه أيضًا (النسيُّ) مشددة الياء بغير همز (٤)، وهذا على التخفيف القياسي، كما أن (مقروة) في (مقرؤة) في (مقرؤة) تخفيف قياسي (٥).
فأما معنى "النسيء" في هذه الآية، قال العلماء وأهل التفسير: "إن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة، وكان ذلك ما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وكانت العرب أصحاب حروب وغارات، فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يُغيْرون فيها، وقالوا: لئن (٦) توالت علينا ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئًا لنهلكن، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمونه، ويستحلون المحرم، [وكانوا يمكثون بذلك زمانا يحرمون صفر وهم يريدون به المحرم] (٧)، ويقولون: هو أحد الصفرين" (٨).
(١) كتاب "السبعة" ص ٣١٤، و"الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٩١، و"إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه ١/ ٢٤٧.
(٢) انظر: المصادر السابقة، نفس المواضع، لكن ابن خالويه جعلها بالألف المقصورة على وزن: الدُّمى.
(٣) كررت الكلمة في (ى).
(٤) انظر: المصادر السابقة، نفس المواضع.
(٥) انظر: "الحجة" ٤/ ١٩٤، و"لسان العرب" (قرأ) ٦/ ٣٦١٨.
(٦) في (ح): (التي).
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٨) انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٤٨، والثعلبي ٦/ ١٠٦ ب، والبغوي ٤/ ٤٥، وابن الجوزي ٣/ ٤٣٥، والرازي ١٦/ ٥٧، وقد رواه ابن حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٧٩٤ بمعناه عن السدي.
420
ولقد تأول بعض الناس قوله - ﷺ -: "لا صفر" (١) على هذا (٢).
قال أبو عبيدة: "كانوا يؤخرون المحرم وذلك نسء الشهور، ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة، إذا اجتمعت العرب للموسم فينادي مناد: أن افعلوا ذلك، لحرب أو لحاجة وليس كل سنة يفعلون ذلك، فإذا أرادوا أن يحلوا المحرم نادوا: هذا صفر وإن المحرم الأكبر صفر (٣)، فيذهب الناس إلى منازلهم إذا نادى المنادي بذلك، وكانوا يسمون المحرم وصفر صفرين، ويقدمون صفرًا سنة ويؤخرونه" (٤).
قال ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد: "أول من نسأ النسيء: بنو مالك بن كنانة (٥)، وكانوا ثلاثة (٦): أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية
(١) رواه البخاري (٥٧١٧) في "صحيحه"، كتاب الطب، باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن، ومسلم (٢٢٢٠) في "صحيحه"، كتاب السلام، باب لا عدوى.. ، وتفسير البخاري للحديث هو المشهور عند العلماء، انظر: "فتح الباري" ١٠/ ١٧١.
(٢) هذا تأويل الإمام مالك -رحمه الله- انظر: "فتح الباري" ١٠/ ١٧١، وقد ذكر التأويل من غير نسبة أبو عبيد في غريب الحديث ١/ ٢٦، والثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٠٦ ب.
(٣) نص عبارة أبي عبيدة: (نادى مناد: إن المحرم في صفر، وكانوا يسمون المحرم وصفر: الصفرين، والمحرم صفر الأكبر، وصفر المحرم الأصغر).
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ٢٥٨ بمعناه مع الزيادة وتقديم بعض الجمل.
(٥) هم بنو مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص ١٠، و"نسب قريش" ص ١١.
(٦) لم يذكر من الثلاثة في هذه الرواية سوى واحد، وكذلك ابن جرير ١٠/ ١٣٠ - ١٣١، والثعلبي ٦/ ١٠٧ أ، والبغوي ٤/ ٤٦، وقد ذكر المفسرون والعلماء أكثر من ثلاثة منهم:
١ - عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، رواه الثعلبي ٦/ ١٠٧ ب، والبغوي ٤/ ٤٧ عن بن عباس بسند واه. =
421
الكناني (١)، كان يوافي الموسم على حمار فيقول: إني لا أعاب ولا أحاب (٢) ولا مردّ لما أقول: إن آلهتكم قد أقسمت لتحرمنّ -وربما قال: لتحلّن- هذا الشهر -يعني: المحرم-، فيحلونه (٣) ويحرمون صفرًا، وإن
= ٢ - أبو ثمامة صفوان بن أمية أحد بني الحارث بن مالك الكناني، رواه ابن جرير ١٠/ ١٣١ عن قتادة، وانظر: "المحبر" (ص ١٣٣)، و"أمالي القالي" ١/ ٢٤٠.
٣ - الحارث بن ثعلبة، ذكره عن مجاهد الحافظ ابن حجر في "الإصابة" ١/ ٢٧٥.
٤ - نعيم بن ثعلبة، رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" (ص ١٩٣) من رواية الكلبي عن ابن عباس، ورواه الثعلبي ٦/ ١٠٧ أ.
٥ - ٩ - القلمس، وهو حذيفة بن عبد بن فقيم الكناني، ثم ابنه عباد بن حذيفة، ثم ابنه قلع بن عباد، ثم ابنه أمية بن قلع، ثم ابنه عوف بن أمية، ذكرهم ابن إسحاق في "السيرة النبوية" ١/ ٤٥.
١٠ - أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية الكناني، وكان آخرهم وفي زمنه أبطل الله النسيء، انظر: "تفسير ابن جرير" ٧/ ١٣٠، و"السيرة النبوية" ١/ ٤٥، و"الإصابة في تمييز الصحابة" ١/ ٢٤٦.
(١) هو: جنادة بن عوف بن أمية بن قلع من بني فقيم ثم من بني مالك بن كنانة، أبو ثمامة الكناني، نسأ الشهور أربعين سنة، وكان أبعد النسأة ذكرًا، وأطولهم أمدًا، وقد أسلم، وأدرك زمن عمر-رضي الله عنهما-.
انظر: "السيرة النبوية" ١/ ٤٥، و"الإصابة" ١/ ٢٤٦.
(٢) أحاب: بالحاء المهملة في (ح) و (م)، وكذلك في "المحبر" ص ١٥٧، وهو من الحوب، أي الإثم، انظر: "لسان العرب" (حوب)، والمعنى: لا أنسب إلى الإثم، وفي النسخة (ى) و"معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٣٦: أجاب، وفي "تفسير الثعلبي": أخاب من الخيبة، أي: لا يُخيّب لي قول ولا يرد، أما معنى أجاب، فأقرب ما وجدت من معانيه أنه من المجاوبة: أي التحاور، والمعنى: لا أحاور ولا أجادل فيما أقول، وقد ذكر ابن منظور في "لسان العرب" (جوب): (أن المجاوبة والتجاوب: التحاور.
(٣) ساقط من: (ى).
422
حرموه أحلوا صفرًا" (١)، وقال الكلبي: "أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له: نُعيم بن ثعلبة (٢)، وكان من بعده جنادة بن عوف وهو الذي أدركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (٣)، ونحو هذا قال الفراء (٤)، وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: "أول من فعل ذلك عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق (٥) " (٦)، قال أبو بكر بن الأنباري: "وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرئاسة، ويشرف ولده والمنتمون إليه، بعلوه وترئيس (٧) العرب إياه.
قال الشاعر (٨) مفتخرًا بذلك:
وكان الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حرامًا
(١) ذكر الأثر عنهم جميعًا الثعلبي ٦/ ١٠٧ أوهو لفّقه من رواياتهم جميعًا، وذكر الإمام ابن جرير تلك الروايات مفصلة، انظر "تفسيره" ١٠/ ١٢٩ - ١٣٢.
(٢) لم أقف له على ترجمة، ولم يذكره سوى الكلبي وحاله لا تخفى.
(٣) ذكره الثعلبي ٦/ ١٠٦ أ، والبغوي ٤/ ٤٦.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٣٦.
(٥) جد جاهلي قديم، وزعيم من طواغيت العرب، وقد صح في شأنه أمور منها:
أ- أن اسمه عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، رواه البخاري في (٣٥٢٠)، كتاب المناقب، باب قصة خزاعة
ب- أنه جد خزاعة القبيلة العربية المعروفة، رواه البخاري في الموضع السابق، لكن بعض العلماء يرى أن الحديث تصحف على بعض الرواة فقال: أبو خزاعة، والصواب: أخو خزاعة وهذا هو المشهور، انظر: "البداية والنهاية" ٢/ ١٨٩.
ج- أنه أول من غير دين إبراهيم عليه السلام فقد روى مسلم في "صحيحه" أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب، وبحر البحيرة، وغير دين إسماعيل".
(٦) رواه الثعلبي ٦/ ١٠٧ ب، والبغوي ٤/ ٤٧.
(٧) في (م): (وتزيين)، ولا معنى له.
(٨) سبق تخريج هذا البيت عند تفسير أول الآية.
423
وقال آخر (١):
نسؤا المشهور بها وكانوا أهلها من قبلكم والعز لم يتحول
وأكثر العلماء على أن هذا التأخير كان من المحرم إلى صفر على ما ذكرنا (٢)، وقال جماعة من العلماء: "ربما كانوا يحتاجون إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم، فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله، ثم يحتاجون إلى مثله، ثم كذلك، وكذلك تتدافع شهرًا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به، وذلك بعد دهر طويل (٣) " (٤)، فذلك حين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في
(١) لم أهتد إليه، والبيت بلا نسبة في كتاب "الأمالي" للقالي ١/ ٤، و"تفسير ابن عطية" ٦/ ٤٨٩، و"البحر المحيط" ٥/ ٤٠، و"الدر المصون" ٦/ ٤٧.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١/ ١٣٠ - ١٣٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٩٤، والثعلبي ٦/ ١٠٦، والبغوي ٤/ ٤٥، وابن الجوزي ٣/ ٤٣٥، و"السيرة النبوية" لابن هشام ١/ ٤٤ - ٤٥.
(٣) في (ح): (دهور طويلة). والمثبت موافق لما في "تفسير الثعلبي".
(٤) هذا معنى قول عبد الله بن عمرو كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٢٦، وقول مجاهد كما في "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٣١، وقول ابن أبي نجيح كما في "تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٧٩٤، والعبارة للثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٠٦ ب، واعتبره الرازي ١٦/ ٥٧ هو الصحيح في تفسير الآية، وأقول: إن المتأمل في مجموع الروايات الواردة في هذه القضية يتبين له أن النسيء عند العرب على ضربين:
الأول: تأخير تحريم شهر محرم إلى صفر؛ لحاجتهم إلى الغزو والنهب، وهذا هو المذكور في هذه الآية بدلالة قوله تعالى: ﴿يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾.
الثاني: تأخيرهم الحج عن وقته، ليكون ثابتًا في فصل من فصول السنة، كالأشهر في السنة الشمسية، فقد روى الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٢٥ عن عبد الله بن عمرو "أن العرب كانوا لا يصيبون الحج -يعني =
424
حجة (١) الوداع: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاث (٢) متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" (٣)،
= في شهر ذي الحجة- إلا في كل ست وعشرين سنة مرة". وروى عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٧٥، وابن جرير ١٠/ ١٣١ عن مجاهد قال: ".. فكانوا يحجون في كل شهر عامين" ومما يدل على هذا النوع من النسيء ما روي أن حجة أبي بكر -رضي الله عنه- سنة تسع كانت في ذي القعدة، قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ٨/ ٨٢: ذكر ابن سعد وغيره بإسناد صحيح عن مجاهد أن حجة أبي بكر وقعت في ذي القعدة، ووافقه عكرمة بن خالد فيما أخرجه الحاكم في "الإكليل" ا. هـ وأنكر الإمام ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٩٣ ذلك بشدة.
هذا وقد بين الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٥٦ - ٥٧ أن غرضهم من ذلك هو المواءمة بين موسم الحج ومواسم التجارة في سائر البلدان.
واختار الإمام أبو عبيد القول الثاني؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض" وليس في التفسير الآخر استدارة. انظر: "غريب الحديث"، له ١/ ٢٩١، ٢٩٣.
(١) في (ى): (خطبة حجة الوداع).
(٢) هكذا في النسخ، وهو موافق لرواية البخاري (٧٤٤٧) كتاب التفسير، سورة براءة، ورواية أبي داود وأحمد، قال الحافظ ابن حجر: (قال ابن التين: الصواب: ثلاثة متوالية؛ يعني لأن المميز الشهر، قال: ولعله أعاده على المعنى، أي ثلاث مدد متواليات. انتهى، أو باعتبار العدة، مع أن الذي لا يذكر التمييز معه يجوز فيه التذكير والتأنيث). "فتح الباري" ٨/ ٣٢٥، والجدير بالتنبيه أن البخاري روى الحديث في موضع آخر بلفظ: ثلاثة.
(٣) رواه البخاري في "صحيحه" في عدة مواضع منها كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين (٤٦٦٢)، وكتاب التفسير، سورة براءة (٧٤٤٧)، وكتاب التوحيد، باب قوله الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، ورواه أيضًا مسلم (١٦٧٩)، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء، وأبو داود (١٩٤٧)، كتاب المناسك، باب الأشهر الحرم، وأحمد في "المسند" ٥/ ٣٧.
425
أراد إن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها، فهذا الذي ذكرنا أكثر قول (١) أهل اللغة في النسيء والمفسرين.
وقال قطرب: "معنى النسيء وأصله: من الزيادة يقال: نسأ في الأجل وأنسأ: إذا زاد فيه (٢)، وكذلك قيل للبن: النسيء؛ لزيادة الماء فيه ونُسئت المرأة: إذا حبلت، جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء في اللبن، وقيل للناقة: نسأتها: أي زجرتها ليزداد سيرها، وكل زيادة حدثت في شيء فهو نسيء" (٣)، وهذا مذهب قتادة من المفسرين قال: "إنهم عمدوا فزادوا صفرًا في الأشهر الحرم فقرنوه بالمحرم في التحريم، وأشركوا بينهما في الاسم فقالوا للمحرم وصفر: صفران" (٤)، والصحيح: القول الأول، وأن أصل النسيء: التأخير، ونُسِئت المرأة: إذا حبلت؛ لتأخر حيضها، ونَسَأتُ الناقة معناه: زجرتها عن التأخير، ونَسَأتُ اللبن: إذا أخرته حتى كثر الماء فيه (٥)، وقول قتادة: "أنهم زادوا صفرا في الحرم، فذلك يعود إلى تأخيرهم التحريم من المحرم إليه ولم يزيدوه (٦) زيادة أصل تبلغ به عدد الحرم خمسة أشهر؛ لأن الله تعالى قال: ﴿يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ فبين أنهم لم يزيدوا في العدد وإنما نقلوا التحريم من موضعه.
(١) هكذا في جميع النسخ.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) ذكر قول قطرب الرازي ١٦/ ٥٥ - ٥٦، وبنحوه الثعلبي ٦/ ١٠٦ أ.
(٤) رواه بمعناه مختصرًا ابن جرير ١٠/ ١٣١، والثعلبي ٦/ ١٠٦ أ، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ١٦/ ٤٢٦.
(٥) من عادة اللبن أن الماء يطفو فوقه إذا ترك فترة.
(٦) في (ي): (ولا يزيدونه).
426
وقوله تعالى: ﴿زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾، قال ابن عباس: يريد زيادة في كفرهم حيث أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله (١)، قال أهل المعاني: والزيادة في الكفر هو منه وفي معناه؛ لأنه كفر، كالزيادة في الدار هي منها؛ لأنها تصير معها دارًا واحدة (٢).
وقوله تعالى: ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهذه قراءة العامة (٣)، وهو حسن؛ لإسناد الضلال إلى الذين كفروا؛ لأنهم إن كانوا ضالين في أنفسهم حسن إسناد الضلال إليهم، وإن كانوا مضلين لغيرهم حسن أيضًا؛ لأن المضل لغيره ضال بفعله إضلال غيره.
وقرأ أهل الكوفة ﴿يُضَلُّ﴾ بضم الياء وفتح (٤) الضاد (٥)، ومعناه: أن كبراءهم يضلونهم بحملهم على هذا التأخير في الشهور، فأسند
(١) ذكره المصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٥، ورواه بمعناه مطولاً ابن جرير ١٠/ ١٣٠ من رواية علي بن أبي طلحة.
(٢) انظر: "تفسير الأصفهاني" ٤/ ٣٥ ب بمعناه ولم أجده في كتب أهل المعاني التي بين يدي، وقد زاد القرطبي هذا المعنى إيضاحًا فقال: قوله تعالى: ﴿زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ بيان لما فعلته العرب من جمعها أنواعًا من الكفر، فإنها أنكرت وجود الباري -تعالى- فقالت: (وما الرحمن) في أصح الوجوه، وأنكرت البعث فقالت: (من يحيى العظام وهي رميم) وأنكرت بعثه الرسل فقالوا: (أبشرًا واحدًا نتبعه).. إلخ. "تفسير القرطبي" ٨/ ١٣٩.
(٣) يعني بفتح الياء وكسر الضاد، وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر، انظر: "كتاب السبعة" ص ٣١٤، و"الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٥، و"تقريب النشر" ص١٢٠.
(٤) في (ي): (وضم)، وهو خطأ.
(٥) هذه قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص. انظر: المصادر السابقة، نفس المواضع.
427
الفعل إلى المفعول كقوله في هذه الآية: ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾ أي: زين لهم ذلك حاملوهم وداعوهم (١) إليه، وقرأ أبو عمرو في رواية أوقية (٢) من طريق ابن مقسم (٣): (يُضِلُّ بهِ الذين كَفَروا) بضم الياء وكسر الضاد (٤)، وله ثلاثة أوجه: أحدها: يضل الله به الذين كفروا، والثاني: يضل الشيطان (٥) به الذين كفروا، والثالث: وهو أقواها يضل به الذين كفروا تابعيهم والآخذين بذلك، وإنما كان هذا الوجه أقوى لأنه لم يجر ذكر الله ولا ذكر الشيطان فيبنى الفعل لهما، والكناية في (به) تعود إلى النسيء.
وقوله تعالى: ﴿يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾، قال ابن عباس: يريد: إذا قاتلوا فيه أحلوه وحرموا مكانه صفرًا، وإذا لم يقاتلوا فيه حرموه (٦)، والكناية في ﴿يُحِلُّونَهُ﴾ و ﴿وَيُحَرِّمُونَهُ﴾ تعود إلى النسيء (٧)، أي: يحلون التأخير عاما، وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم، ويحرمون
(١) في (ح): (ودعواهم)، وهو خطأ.
(٢) هو: عامر بن عمر بن صالح أبو الفتح الموصلي، المعروف بأوقية، مقرئ حاذق، وتولى قضاء الموصل، توفي سنة ٢٥٠ هـ. انظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ٢٢٠، و"غاية النهاية" ١/ ٣٥٠.
(٣) هو: محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن البغدادي، أبو بكر ابن مقسم العطار، كان إمامًا مقرئًا نحويًا، ثقة، ومن أحفظ الناس لنحو الكوفيين، وأعرفهم بالقراءات، وصنف في التفسير والمعاني، توفي سنة ٣٥٤ هـ. انظر: "تاريخ بغداد" ٢/ ٢٠٦، و"إنباه الرواة" ٣/ ١٠٠، و"غاية النهاية" ٢/ ١٢٣.
(٤) انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٥، و"البحر المحيط" ٥/ ٤٠.
(٥) في (م): (الشياطين).
(٦) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٥، و"الوجيز" ٦/ ٤٩١.
(٧) وإلى هذا ذهب أيضًا ابن جرير ١٠/ ١٣٠، والثعلبي ٦/ ١٠٨ أ، والبغوي ٤/ ٤٧.
428
التأخير عامًا، وهو العام الذي يدعون (١) المحرم على تحريمه.
وقوله تعالى: ﴿لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾، قال أهل اللغة: ليوافقوا. يقال: واطأت فلانًا على كذا: إذا وافقته عليه (٢)، قال الزجاج: المواطأة: الموافقة على الشيء (٣)، وقال المبرد: يقال: واطأت القوم على كذا، وتواطئوا (٤) هم: إذا اجتمعوا على أمر واحد، كأنّ كل واحد (٥) يطأ حيث يطأ صاحبه، والإيطاء (٦) في الشعر من هذا، وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد (٧).
قال ابن عباس: ليواطؤا أربعة أشهر؛ لأن الله حرم منها أربعة (٨).
قال المؤرج: هو أنهم لم يحلوا شهرًا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرًا من الحلال (٩)، [ولم يحرموا شهرًا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرًا
(١) في (ي): (الذي يريدون أن يدعوا.. إلخ). ولم أثبت هذه الزيادة لثلاثة أسباب:
أ- عدم وجودها في (ح) و (م).
ب- أن الرازي نقل الجملة منسوبة للواحدي وليس فيها هذه الزيادة، انظر: "مفاتيح الغيب" ١٦/ ٥٩.
جـ- كثرة الأخطاء والسقط في النسخة (ي).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (وطئ) ٤/ ٣٩١٢، و"الصحاح" (وطأ) ١/ ٨١.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٧ ولفظه: المواطأة: المماثلة والاتفاق على الشيء.
(٤) في (ي): (وواطؤهم).
(٥) في (ح): (أحد).
(٦) في (ح): (ولا يطأ)، وهو خطأ.
(٧) انظر معنى الإيطاء في "تهذيب اللغة" (وطئ) ٤/ ٣٩١٢، و"طبقات فحول الشعراء" ١/ ٧٢، ولم أقف على مصدر قول المبرد.
(٨) رواه بمعناه مطولاً ابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٢٦.
(٩) في (ح): (الحرم)، والصواب ما في (م) و (ي)، وهو موافق لما في "تفسير الثعلبي".
429
من الحرم] (١) لئلا تكون الحرم أكثر من الأربعة كما حرم الله، فتكون موافقة للعدد، فذلك المواطأة (٢). وقال الزجاج: يجعلون صفرًا كالمحرم في العدد، ويقولون: إن هذه أربعة (٣) بمنزلة أربعة (٤)، وقال الفراء: يقول (٥): لا يخرجون من تحريم أربعة أشهر (٦) (٧).
وقوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾، قال ابن عباس والحسن: يريد، زين لهم الشيطان هذا (٨).
وقوله (٩): ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾، قال: يريد: لا يرشد كل كفار أثيم.
٣٨ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية، أجمع المفسرون على أن هذه الآية حثٌ لمن تثاقل عن غزوة تبوك، وذلك كان في زمان (١٠) عسرة من الناس، وجدب من البلاد، وشدة من الحر، حين أخرفت النخل، وطابت الثمار، فعظم ذلك على الناس وشق عليهم الخروج إلى القتال، فأنزل الله هذه الآية (١١) يحرض
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٢) انظر: قول مؤرج في "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٠٨ أ.
(٣) في (ي): (الأربعة)، وما أثبته موافق لما في "معاني القرآن وإعرابه".
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٧.
(٥) في (ي): (يقولون)، وما أثبته موافق لما في "معاني القرآن".
(٦) ساقط من (م).
(٧) "معاني القرآن" ١/ ٤٣٧.
(٨) انظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٤٧، والرازي ١٦/ ٥٨، و"الوسيط" ٢/ ٤٩٥.
(٩) من (م).
(١٠) في (ي). (زمن)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لـ"الوسيط" و"تفسير الثعلبي".
(١١) ساقط من (ج).
430
أولياءه على ذلك (١)، وقوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ﴾ استفهام معناه التوبيخ، كقولك لمن تستبطئه في أمر: مالك متباطئًا عن هذا الأمر؟!.
وقوله تعالى: ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا﴾ يقال: استنفر الإمام الناس لجهاد (٢) العدو (٣) فنفروا ينفرون نفرًا ونفيرًا: إذا حثهم ودعاهم إليه، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وإذا استنفرتم فانفروا" (٤)، وأصل النفر: الخروج إلى مكان لأمر هاج عليه (٥)، واسم ذلك القوم الذين يخرجون: النفير، ومنه قولهم: فلان لا في العير ولا في النفير (٦).
(١) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٣٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٩٦، والسمرقندي ٢/ ٤٩، والثعلبي ٦/ ١٠٨أ، والبغوي ٤/ ٤٨، و"أسباب النزول" ص٢٥٠ - ٢٥١، و"الوسيط" للمؤلف ٢/ ٤٩٥، وذكر الزجاج أيضًا إجماع المفسرين على ذلك، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٧.
(٢) في (ي): (للجهاد).
(٣) ساقطة من (ي).
(٤) رواه البخاري (٢٨٢٥) في عدة مواضع، منها كتاب: الجهاد، باب: وجوب النفير، ورواه مسلم (١٣٥٣)، كتاب: الإمارة، باب: تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان وطنه، والنسائي في "سننه" كتاب: البيعة، باب: ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة ٧/ ١٤٦، والترمذي (١٥٩٠) كتاب: السير، باب: ما جاء في الهجرة، وأبو داود (١٤٧٩) كتاب: الجهاد، باب: الهجرة هل انقطعت، وأحمد في "المسند" ١/ ٢٢٦.
(٥) عبارة الطبري ١٠/ ١٣٣: لأمر هاجه على ذلك، وعبارة "الوسيط" ٢/ ٤٩٦: لأمر أوجب الخروج.
(٦) قال الأزهري: قيل هذا المثل لقريش من بين العرب، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة، ونهض منها ليلقى عير قريش سمع مشركو قريش بذلك فنهضوا ولقوه ببدر ليأمن عيرهم المقبل من الشام مع أبي سفيان، فكان من أمرهم بما كان، ولم يكن تخلف عن العير والقتال إلا زمن أو من لا خير فيه، فكانوا يقولون لمن لا =
431
وقوله تعالى: ﴿اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾، قال ابن عباس: يريد أحببتم المقام (١)، وقال الزجاج: معناه تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم، قال: ويجوز: اثاقلتم إلى شهوات الدنيا (٢)، وهذا نحو قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾ [الأعراف: ١٧٦] وقد مر.
واثاقلتم: أصله: تثاقلتم [ومعناه: تباطأتم] (٣)، وهو نحو قوله: ﴿فَادَّارَأْتُمْ﴾ [البقرة: ٧٢] و ﴿اطَّيَّرْنَا﴾ [النمل: ٤٧] وقد مرّ.
وقوله تعالى: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ﴾، قال ابن عباس: يريد: قدّمتم الدنيا على الآخرة (٤) يريد بالآخرة الجنّة، قال الزجاج: "أي رضيتم بنعيم الحياة الدنيا من نعيم الآخرة، وقال أبو علي الفارسي: المعنى (٥): أرضيتم بالحياة الدنيا بدلاً من الآخرة، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ (٦) أي بدلاً منكم (٧).
قال الراعي:
= يستصلحونه لمهم: فلان لا في العير ولا في النفير، فالعير من كان منهم مع أبي سفيان، والنفير: من كان منهم مع عتبة بن ربيعة قائدهم يوم بدر. "تهذيب اللغة" (نفر) ٤/ ٣٦٢٨.
(١) "تنوير المقالة" ص ١٩٣ بمعناه.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٧.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٤) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٦.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٧.
(٦) ساقط من (ح).
(٧) "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٢٤.
432
أخذوا المخاض من الفصيل غُلَّبة ظلمًا ويكتب للأمير فصيلاً (١)
أراد: بدلاً من الفصيل.
﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، قال ابن عباس: يريد: الدنيا كلها (٢). ﴿إِلَّا قَلِيلٌ﴾ عند شيء من الجنة (٣)، وقال الزجاج: أي ما يتمتع به في الدنيا قليل عند ما يتمتع به أولياء الله في الجنة (٤).
٣٩ - قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، قال مقاتل: إلا تنفروا مع نبيكم إلى الجهاد يعذبكم عذابًا أليمًا (٥)، وروي عن ابن عباس أنه قال: هذا العذاب المتوعد به على ترك النفير هو إمساك المطر (٦)، قال: استنفر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيًّا من الأحياء فتثاقلوا عنه فأمسك عنهم المطر (٧)، وقال الزجاج: هذا وعيد شديد في التخلف عن
(١) انظر: "ديوان الراعي" ص ١٤٥، و"جمهرة أشعار العرب" ص ٣٣٦، و"شرح أبيات المغني" الشاهد رقم (٥٢٩) ١/ ٣٤٢. والمخاض: الناقة الحامل. والفصيل: ولد الناقة المفصول عن الرضاعة. انظر: "لسان العرب" (مخض وفصل). والشاعر يشكو جباة الزكاة ويذكر ظلمهم.
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٦، ورواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٣.
(٣) روى مسلم في (٢٨٥٨)، كتاب: الجنة، باب: فناء الدنيا عن المستورد بن شداد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه -وأشار يحيى (أحد الرواة) بالسبابة- في اليم فلينظر بم ترجع".
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٨.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٢٩ أ، ولفظه: إلا تنفروا في غزاة تبوك إلى عدوكم يعذبكم عذابًا أليمًا.
(٦) هذا هو معنى أثر ابن عباس التالي.
(٧) رواه ابن جرير ١٠/ ١٣٤، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ١١٨، وصححه، ووافقه =
433
الجهاد (١)، قال عكرمة والحسن: هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢] (٢)، قال المفسرون: الصحيح أن هذه الآية خاصة فيمن استنفره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾، قال ابن عباس: يريد: من التابعين بإحسان (٤)، وهذا كالاستعتاب من الله تعالى لأولئك القوم، والتوعد لهم أنهم إن تركوا الغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أتى الله بقوم آخرين ينصر بهم الدين، وهم التابعون في قول ابن عباس (٥)، وقال سعيد بن
= الذهبي، ورواه أيضًا البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب: الجهاد، باب: النفير، رقم (١٧٩٤٣) ٩/ ٨٣، ورواه مختصرًا أبو داود (٢٥٠٦)، كتاب: الجهاد، باب: في نسخ نفير العامة بالخاصة.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٨.
(٢) رواه عنهما ابن جرير ١٠/ ١٣٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٩٧ - ١٧٩٨، والصواب أن هذه الآية، وكذلك الآية التالية ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ محكمتان غير منسوختين؛ لأنه لا تنافي بينهم وبين الآية المدعى أنها ناسخة، وذلك لإمكان توجيه كل آية لحالة غير التي للأخرى، فالآيتان الأوليان لبيان حكم النفير حالة كون الجهاد فرض عين كحالة غلبة العدو على بلاد الإسلام، أو استنفار الإمام قومًا معينين، أو احتيج للجميع، أو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- خارجاً للجهاد.
أما قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ فهي لبيان حكم النفير حالة كون الجهاد فرض كفاية، فالآية تبين أن النفر في هذه الحالة واجب على بعضهم دون بعض. انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٤٣٦، و"الناسخ والمنسوخ" لابن العربي ٢/ ٢٤٩، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي بن أبي طالب ص ٢٧٣، و"زاد المسير" ٣/ ٤٣٨، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ٣٩٥.
(٣) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٣٥، وابن الجوزي ٣/ ٤٣٨، والرازي ١٦/ ٥٩.
(٤) انظر: "تفسير الرازي" ١٦/ ٦١.
(٥) سبق ذكره وتخريجه.
434
جبير: هم أبناء فارس (١)، وقال أبو روق: هم أهل اليمن (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا﴾ الكناية في قول الحسن راجعة إلى الله تعالى (٣) أي: لا تضروا الله لأنه غني عنكم، وعن كل شيء، وفي قول الباقين: تعود إلى الرسول - ﷺ - (٤)، أي: لا تضروه لأن الله عصمه عن (٥) الناس، ولأنه لا يخذله إن تثاقلتم عنه.
٤٠ - قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية، قال أبو إسحاق: أعلمهم (٦) الله أنهم إن تركوا نصره فلن يضره ذلك شيئًا، كما لم يضره قلة ناصريه حين كان بمكة (٧)، وهم به الكفار ما هموا، فتولى الله تعالى نصريه ورد كيد من ناوأه خائبًا، ومعنى قوله: ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: أعانه على أعدائه حين مكر به المشركون، وهو أن بعث إليه جبريل حتى أمره بالخروج (٨)، وجعل كيدهم في تباب، وأراد بقوله: ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ حين قصدوا إهلاكه، وذكرنا ذلك في قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ﴾
(١) رواه الثعلبي ٦/ ١٠٩ أ، والبغوي ٤/ ٤٨.
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٠٩ أ، والبغوي ٤/ ٤٨، والرازي ١٦/ ٦١. قال الشوكاني في "فتح القدير" ٢/ ٥٢٦: ولا وجه للتعيين بدون دليل أقول: إن مراد السلف التمثيل لا الحصر، والله أعلم.
(٣) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٤٣٨، و"تفسير الرازي" ١٦/ ٦١، والماوردي ٢/ ٣٦٣.
(٤) انظر المصادر السابقة، نفس المواضع.
(٥) كذا، والأصح أن يقول: من.
(٦) في (م): (أعلم)، وما أثبته موافق للمصدر التالي.
(٧) اهـ. كلام أبي إسحاق الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٨.
(٨) رواه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" ٤/ ٢٠٦ وفي سنده راوٍ لم يسم.
435
[الأنفال: ٣٠] الآية، وأضاف إخراجه إلى الكفار لأنهم لما هموا بقتله صعب عليه المقام، واحتاج (١) إلى الخروج من مكة، فأضيف الإخراج إليهم لما كانوا السبب في خروجه، قال ابن عباس في قوله: ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: يريد: من مكة هاربًا منهم (٢)، وأما قوله: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ﴾ [الأنفال: ٥] يريد: أمره إياه بالخروج (٣).
وقوله تعالى: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾ أي واحد اثنين، قال الزجاج: وهو نصب على الحال، المعنى: فقد نصره الله أحد اثنين أي نصره منفردًا (٤) إلا من أبي بكر (٥) (٦)، وهذا معنى قول الشعبي: عاتب الله -عز وجل- أهل الأرض جميعًا في هذه الآية غير أبي بكر (٧)، قال ابن عباس: والجمع في قوله:
(١) في (ج): (فاحتاج).
(٢) "تنوير المقباس" ص ١٩٣ بمعناه.
(٣) عبارة المؤلف توحي بأنه يرى أن الإخراج المذكور في الآيتين واحد، وهو الإخراج من مكة، ومن ثم جمع بين الآيتين، والصحيح أن الإخراج المذكور في آية الأنفال إنما هو من المدينة إلى بدر. انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٨٢.
(٤) في (ي): (مفردًا)، وما أثبته موافق لما في "معاني القرآن وإعرابه".
(٥) في (ي): (هو أبو بكر)، وهو خطأ.
(٦) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٩.
(٧) رواه الثعلبي ٦/ ١١٠ أ، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٣٥، وفي سند الثعلبي داود بن المحبر وهو متروك، كما في "تقريب التهذيب" ٢٠٠ (١٨١١)، كما أن في متن هذا الأثر نظرًا من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الله تعالى هو الذي كف أيدي أصحاب نبيه - ﷺ - عن نصرته في مكة كما أفاد ذلك قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ [النساء: ٧٧].
الثاني: أنه ليس في الآية ما يفيد أن الصحابة -رضي الله عنهم- كلفوا بنصرة نبيهم بمكة فتخلوا عنه حتى تكون عتاباً، أما قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ﴾ فهو إخبار عن مستقبل، وقد قام الصحابة بذلك خير قيام وفدوه بالنفس والمال، ويكفي شاهدًا على ذلك أنه لم =
436
﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾ هو وأبو بكر (١)، ويقال: فلان ثاني اثنين أي هو أحدهما مضاف، ولا يقال: هو ثان اثنين بالتنوين، وقد مرّ تفسيره مشبعًا في قوله: ﴿ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣] (٢)، وقال صاحب النظم: (ثاني اثنين) أي: أحد اثنين ولو ذهب فيه مذهب الفعل كما تقول: كان واحداً فثنيته أي صيرته اثنين بنفسي لقيل: (ثاني واحد)، وكذلك قوله: (ثالث ثلاثة) أي: أحد ثلاثة، ولو ذهب به مذهب الفعل لقيل: (ثالث اثنين).
وقوله تعالى: ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾، الغار: نقب في الجبل عظيم، قال قتادة: هو غار في جبل بمكة يقال له: ثور (٣)، قال مجاهد: مكثا في
= يتخلف عنه في غزوة تبوك من المؤمنين الصادقين الذين لا عذر لهم سوى بضعة نفر على الرغم من بعد الشقة وحرج الموقف.
الثالث: أن هناك من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شارك أبا بكر في نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- أيام هجرته منهم علي بن أبي طالب الذي نام في فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- وتسجى ببردته، وعرض نفسه للخطر، وعبد الله بن أبي بكر الذي كان يتحسس أخبار المشركين ثم يخبر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، وكذلك بنتا أبي بكر اللتان جهزتا الراحلتين، وعامر ابن فهيرة الذي كان يرعى حولهما الغنم فيشربان من لبنها. انظر: "صحيح البخاري" (٣٩٠٥) كتاب: المناقب، باب: هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، و"مسند الإمام أحمد" ١/ ٣٣١.
(١) في (ي): (هو أبو بكر)، والصواب ما أثبته وهو موافق لما في "الوسيط" ٢/ ٤٩٧، ولم ينسبه فيه لأحد، وانظر: قول ابن عباس في "تنوير المقباس" ص ١٩٣ بنحوه.
(٢) انظر النسخة (ج) ٢/ ٦٥ أوقد قال هنا: قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾. قال الفراء: ثالث ثلاثة لا يكون إلا مضافًا ولا يجوز التنوين في (ثالث) فينصب الثلاثة، وكذلك قوله: (ثانى اثنين) لا يكون (اثنين) إلا مضافًا؛ لأن المعنى مذهب اسم، كأنك قلت: واحد من اثنين، وواحد من ثلاثة، ولو قلت أنت: ثالث اثنين، جاز الإضافة وجاز التنوين ونصب الاثنين... إلخ.
(٣) رواه ابن جرير١٠/ ١٣٦، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٣٥.
437
الغار ثلاثًا (١)، وقال عروة بن الزبير: وكان عامر بن فهيرة (٢) يروح عليهما بغنم لأبي بكر (٣)، وقال قتادة: كان عبد الرحمن بن أبي بكر (٤) يختلف إليهما (٥)، فلما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخروج جاءهما بناقتين (٦) (٧).
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ١٣٦، والثعلبي ٦/ ١٠٩ ب، وابن أبي شيبة كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٣٦.
(٢) هو: عامر بن فهيرة التيمي مولاهم، يقال: إن أصله من الأزد، أو من عنز بن وائل، استرق في الجاهلية فاشتراه أبو بكر الصديق، ثم أعتقه، وهو من السابقين إلى الإسلام وممن كان يعذب في الله، وقد هاجر وشهد بدرًا وأحدًا واستشهد يوم بئر معونة سنة ٤ هـ.
انظر: "سيرة ابن هشام" ١/ ٢٧٢، و"الإصابة" ٢/ ٢٥٦ (٤٤١٥)، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٧٠.
(٣) رواه ابن جرير ١٠/ ١٣٦، والثعلبي ٦/ ١٠٩ ب، وقد رواه موصولاً عن عروة عن عائشة الإمام البخاري (٣٩٠٥) في "صحيحه"، كتاب: المناقب، باب: هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ضمن حديث الهجرة الطويل.
(٤) هو: عبد الرحمن بن أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة عثمان القرشي التيمي، أبو محمد، أكبر ولد أبي بكر الصديق، تأخر إسلامه إلى أيام صلح الحديبية ثم أسلم وحسن إسلامه، كان رجلاً صالحًا شجاعًا راميًا لم يجرب عليه كذبة قط، توفي فجأة قرب مكة سنة ٥٨ هـ. انظر: "المعارف" ص ١٠٢، و"الإصابة" ٢/ ٣٩٢ (٢٥٨٨). وانظر التعليق التالي.
(٥) الثابت في "صحيح البخاري" (٣٩٠٥)، كتاب: المناقب، باب: هجرة النبي - ﷺ - أن الذي كان يختلف إليهما عبد الله بن أبي بكر، وهو الصواب، وقد أسلم قديمًا مع آل أبي بكر، أما أخوه عبد الرحمن فقد تأخر إسلامه، كما مر في ترجمته.
(٦) في "صحيح البخاري" في الموضع السابق، حديث الهجرة الطويل وفيه: واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلاً من بني الديل.. أمناه فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما.
(٧) رواه الثعلبي ٦/ ١٠٩ ب.
438
وقوله تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ﴾ خطب أبو بكر -رضي الله عنه-، فقال: أيكم يقرأ سورة التوبة؟ فقال رجل: أنا، [قال: اقرأ] (١) فلما بلغ: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ﴾ بكى أبو بكر، وقال: أنا صاحبه (٢)، قال المفسرون: وهذه الصحبة كانت بأمر الله؛ لأن جبريل لما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخروج قال: "ومن يخرج معي؟ " قال: أبو بكر (٣) (٤)، قال الحسين ابن الفضل: من أنكر أن يكون عمر أو عثمان أو أحد (٥) من الصحابة كان صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو كذاب مبتدع، ومن أنكر أن يكون (٦) أبو بكر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان كافرًا؛ لأنه رد نص القرآن (٧).
وقوله تعالى: ﴿لَا تَحْزَنْ﴾، قال ابن عباس: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر معه إلى الغار ليلاً، وأصبح المشركون يطلبونهما فاقتصوا الأثر إلى الغار، فحزن أبو بكر، وقال: أتينا يا رسول الله، فقال: "اللهم أعم أبصارهم" فعميت أبصارهم، وجعلوا يضربون يمينًا وشمالاً حول الغار (٨).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٢) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٠٠.
(٣) في (ج): تكررت جملة: (قال: أبو بكر).
(٤) ذكره الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ١٩٠ بصيغة التمريض، وذكره الزيلعي في "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف" ٣/ ٧٥ ولم يذكر من أخرجه.
(٥) في (ج): (واحد)، وما أثبته موافق لما في "الوسيط".
(٦) ساقط من (ي).
(٧) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩، و"الوسيط" ٢/ ٩٩.
(٨) أخرجه ابن عساكر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٣٣ بنحوه، وذكر الثعلبي ٦/ ١٠٩ ب قول الرسول - ﷺ - وما بعده، عن الزهري.
439
وقال المفسرون: قال أبو بكر لرسول الله - ﷺ - لما خاف (١) الطلب: يا رسول الله: إن قتلتُ فأنا رجل واحد، وإن قتلت هلكت الأمة، وكان حزنه شفقة (٢) على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخوفًا أن يُطِّلَع عليه (٣)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحزن إن الله معنا" (٤)، قال الزجاج: لما أصبح المشركون اجتازوا بالغار فبكى أبو بكر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ما يبكيك؟ " فقال: أخاف أن تقتل فلا يعبد الله بعد اليوم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا" أي إن الله -عز وجل- يمنعهم منا وينصرنا، قال: أهكذا يا رسول الله؟ قال: "نعم" فرقأ دمع أبي بكر وسكن (٥)، وقال أبو بكر: قلتُ للنبي - ﷺ - ونحن في الغار: لو [أن واحداً] (٦) نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" (٧) فهذا معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾.
(١) في (ي): (ضاق).
(٢) في (ج): (شفقته)، والصواب ما أثبته بدلالة السياق.
(٣) في هذا أبلغ الرد على الرافضة الذين ينتقصون أبا بكر بحزنه المذكور، وانظر تفصيل ذلك في: "أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٩٥٣.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٠٩ أ، والبغوي ٤/ ٤٩.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٨، وقد روى الأثر بمعناه مختصرًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٧٩٨ - ١٧٩٩ ولفظه: فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت، فقال: "ما يبكيك؟ " فقلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك. لكن هذا في مسيرهما إلى المدينة وليس في الغار.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٧) رواه بنحوه البخاري (٤٣٨١) كتاب التفسير، باب قوله ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾، ومسلم (٢٣٨١) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق.
440
وقوله تعالى: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ اختلفوا في رجوع الكناية من (عليه)، فقال أبو روق: على النبي -صلى الله عليه وسلم- (١)، قال الزجاج: لأن الله ألقى في قلبه ما سكن به وعلم أنهم غير واصلين إليه (٢)، وقال ابن عباس: على أبي بكر، فأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت (٣) السكينة عليه من (٤) قبل ذلك (٥)، قال أهل المعاني: وهذا أولى لأنه الخائف الذي احتاج إلى الأمن، والنبي - ﷺ - كان آمناً؛ لأنه كان قد وعد بالنصر، فكان ساكن القلب (٦)، وقال عطاء، عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ يريد: رحمته على نبيه وعلى صاحبه (٧)، وعلى هذا: الكناية راجعة إليهما، وهو مذهب المبرد، قال: ويجوز أن تكون عليهما فاكتفى بذكر أحدهما كقوله: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢] (٨).
وذكر ابن الأنباري هذه الأقوال في رجوع الكناية، ونصر مذهب المبرد، وقال: التقدير: فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما، فاكتفى بإعادة الذكر على أحدهما من إعادته عليهما جميعًا كما قال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ
(١) لم أجد من ذكره عنه، وقد رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٠١ عن حبيب بن أبي ثابت، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٤٤٠ عنه وعن علي وابن عباس.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٩، وهذا أولى لأن في القول الثاني تفكيك للضمائر.
(٣) في (ج): (كانت).
(٤) ساقط من (ج).
(٥) رواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٠١، والثعلبي ٦/ ١١٠ ب، وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل" وابن عساكر في "تاريخه" كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٣٩.
(٦) ذكره بمعناه ابن قتيبة في "غريب القرآن" ٢/ ١٢، والنحاس في "معاني القرآن الكريم" ٣/ ٢١٠، وفي "إعراب القرآن" ٢/ ٢١٥.
(٧) ذكره مختصرًا الماوردي في "النكت" ٢/ ٣٦٤، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ٤٣.
(٨) لم أجده في كتب المبرد التي بين يدي.
441
أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: ٦٢] الآية، وكما قال: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: ١١] (١).
وقوله تعالى: ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾، قال ابن عباس: يريد: وقواه بجنود لم تروها (٢)، يريد: الملائكة يدعون الله له (٣)، وقال الزجاج: أيده بملائكة يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه (٤)، وقال غيره: يعني ما كان من تقوية الملائكة لقلبه بالبشارة بالنصر من ربه، ومن إلقاء اليأس في قلوب المشركين حتى انصرفوا خائبين (٥)، وهذه الأقوال على أن هذا التأييد بالملائكة كان في الغار، والكلام في الكناية في قوله: (وأيده) كالكلام في الكناية في (عليه) غير أنه لا يجوز أن تكون الهاء في (وأيده) عائدة على أبي بكر خاصة؛ لأن المؤيد بالجنود هو رسول الله - ﷺ -، والاختيار أن تكون الكناية الأولى راجعة على أبي بكر، والثانية راجعة على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقال الكلبي: وأيده بجنود لم تروها أي: قواه وأعانه بالملائكة يوم بدر (٦)، ونحو هذا قال مجاهد، قال: ذكر الله ما كان في أول شأنه (٧)،
(١) ذكر قول ابن الأنباري باختصار ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٤٤١ ولم أجده في كتبه المطبوعة.
(٢) "الوسيط" ٢/ ٤٤٩، وبمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٣.
(٣) هذا التخصيص لا دليل عليه، وليس في سياق الرواية ما يشعر به.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٩.
(٥) ذكر معنى هذا القول مختصرا ابن عطية في "تفسيره" ٦/ ٥٠٠.
(٦) رواه البغوي في "تفسيره" ٤/ ٥٣، وانظر: "الوسيط" ٢/ ٤٤٩.
(٧) رواه ابن جرير ١٠/ ١٣٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٠١، وعزاه إلى السدي، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ولفظه عندهم: قال: ذكر=
442
ومعنى قول الكلبي: أن الله تعالى أخبر أنه صرف عنه كيد أعدائه ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر، ومعنى قول مجاهد: أن هذه السورة من آخر ما نزل في القرآن، ويوم بدر كان في حدثان قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم-المدينة، فذكر في هذه السورة (١) ما كان من نصره إياه في أول شأنه وهو يوم بدر (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾. قال ابن عباس: (السفلى) كلمة (٣) الشرك، و (العليا) لا إله إلا الله (٤)، وكان هذا يوم بدر، وهذا قول مقاتل (٥)، واختيار الفراء (٦)، وقال عطاء عن ابن عباس: يريد ما كادوا به النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكروا جعله في ضلالة وندامة ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ﴾: يريد: موعد الله ومكره هو
= ما كان في أول شأنه حين بعث يقول الله: فأنا فاعل ذلك به وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين، وهو في "تفسير مجاهد" ٣٦٩ بلفظ: قال: ذكر ما كان من أول شأنه حين أخرجوه، فالله ناصره كما نصره وهو ثاني اثنين.
(١) في (ي): (تكرار لبعض ما سبق ذكره، ولفظ الزيادة: من آخر ما نزل في القرآن، وذكر في هذه السورة.
(٢) هذا معنى قول مجاهد عند المؤلف، والمتأمل في لفظي قول مجاهد -وقد سبق ذكرهما في التعليق الأسبق- يظهر له أن معناه: لقد ذكر الله تعالى نصرته لعبده في أول شأنه حين بعث إذ كان ثاني اثنين في الغار، فالله ناصره بعد ذلك كما نصره في تلك الحادثة.
(٣) في (ج): (كلمة السفلى: الشرك).
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٣٧، وابن أبي حا تم ٦/ ١٨٠١، والثعلبي ١١٠/ ٦ ب، والبيهقي في كتاب: "الأسماء والصفات"، باب: ما جاء في فضل الكلمة الباقية.. ١/ ١٨٤ وهو من رواية علي بن أبي طلحة، ولفظ: "وكان هذا يوم بدر" ليس من كلام ابن عباس حسب المصادر السابقة.
(٥) انظر: "تفسيره" ٢٩ أ.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٣٨، ولم يذكر الفراء أن ذلك كان يوم بدر.
443
الأعلى (١)، وهذا اختيار ابن كيسان، قال: ﴿كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه فلم ينالوا أملهم، ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ﴾: وعد الله أنه ناصره هو الحق (٢) (٣).
والاختيار في قوله: ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ﴾ هو الرفع (٤)، وهو قراءة العامة (٥) على الائتناف من غير در الفعل الذي هو (جعل)، قال الفراء: ويجوز: ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ﴾ بالنصب (٦) ولست أستحب ذلك لظهور اسم الله؛ لأنه لو نصبها والفعل فعله كان أجود الكلام أن يقال: وكلمته هي العليا، ألا ترى أنك تقول: قد أعتق أبوك غلامه، ولا تكاد تقول: أعتق أبوك غلام أبيك، وقال الشاعر في إجازة ذلك:
متى تأتي زيدًا قاعدًا عند حوضه..... لتهدم ظلمًا حوض زيد تقارع (٧)
(١) ذكره مختصرًا ابن الجوزي في "الزاد" ٣/ ٤٤١، وأبو حيان في "البحر" ٥/ ٤٤، وأشار إليه المصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٩.
(٢) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: وهو الحق.
(٣) "الوسيط" ٢/ ٤٤٩ دون جملة: هو الحق.
(٤) على الابتداء و (هي) الخبر، أو تكون فصلاً والخبر (العليا).
(٥) قرأ بها العشرة غير يعقوب، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٥، و"تقريب النشر" ص ١٢٠، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٤٢، وهذه القراءة أبلغ لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت بخلاف الجملة الفعلية التي تدل على الحدوث والتجدد، ولأن كلمة الله في ذاتها عالية ثابتة فلا حاجة إلى جعلها كذلك.
(٦) وقرأ بها يعقوب والحسن والأعمش في رواية المطوعي. انظر: "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٤٢ عطفًا على (كلمة الذين كفروا)، والمعنى: وجعل كلمة الذين كفروا، وجعل كلمة الله هي العليا.
(٧) لم أهتد إلى قائله. وانظر البيت بلا نسبة في: "شرح أبيات معاني القرآن" ص ٢١٤.
444
فذكر زيدًا مرتين ولم يكن عنه في الثانية، والكناية وجه الكلام (١).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، قال ابن عباس: عزيز في ملكه، حكيم في خلقه (٢).
وقال ابن كيسان: عزيز في انتقامه من أهل الكفر، حكيم في تدبيره خلقه (٣).
٤١ - قوله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ الآية، اختلفوا في تفسير الخفاف والثقال، فقال ابن عباس في رواية عطاء: شبانا وكهولاً (٤)، وهو قول أنس والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة وشمر بن عطية (٥)، ومقاتل بن
(١) "معاني القرآن" ١/ ٤٣٨ وقد رد النحاس قول الفراء هذا فقال: قرأ الحسن ويعقوب (وكلمةَ الله) بالنصب عطفًا على الأول، وزعم الفراء أن هذا بعيد؛ قال: لأنك تقول: أعتق فلان غلام أبيه، ولا تقول: غلام أبي فلان. قال أبو جعفر: الذي ذكره الفراء لا يشبه الآية، ولكن يشبهها ما أنشده سيبوبه:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء..... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
وهذا جيد حسن؛ لأنه لا إشكال فيه، بل يقول النحويون الحذاق: إن في إعادة الذكر في مثل هذا فائدة وهي أن فيه معنى التعظيم، قال الله عز وجل: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [الزلزلة: ١ - ٢] فهذا لا إشكال فيه. "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٧٥٢.
(٢) لم أعثر على مصدره.
(٣) لم أعثر على مصدر هذا القول، وقد ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٤٤٢، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٩ من غير نسبة.
(٤) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٠٢ بغير سند وبصيغة التمريض.
(٥) هو: شمر بن عطية بن عبد الرحمن الأسدي الكاهلي الكوفي، راوٍ صدوق، له أحاديث صالحة، وثقه النسائي وابن معين وغيرهما، توفي بعد سنة ١٠٠ هـ. انظر: "الكاشف" ١/ ٤٩٠، و"تقريب التهذيب" ٢٦٨١ (٢٨٢١)، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ١٧٩.
445
حيان والحسن، هؤلاء قالوا: شبانًا وشيوخًا، وشبانا وشيبًا (١)، وروى عطاء عنه أيضًا: (رجّالة وركبانا) (٢) وهو قول عطية (٣)، وروى طاوس عنه: نشاطًا وغير نشاط (٤)، وروي عنه أيضًا: ﴿خِفَافًا﴾ أهل الميسرة من المال، ﴿وَثِقَالًا﴾: أهل العسرة (٥)، وهو اختيار الزجاج، قال: موسرين ومعسرين (٦).
وعلى العكس من هذا قال أبو صالح: ﴿خِفَافًا﴾ من المال، أي فقراء، ﴿وَثِقَالًا﴾ منه، أي أغنياء (٧)، وهو اختيار الفراء قال: "الخفاف: ذوو العسرة وقلة العيال، والثقال: ذوو العيال والميسرة (٨) ".
قال أهل المعاني: الأولى أن يقال: هذا عام في كل حال، وفي كل أحد؛ لأنه ما من أحد إلا وهو ممن تخف عليه الحركة أو تثقل، فهو ممن
(١) ذكره عنهم جميعًا الثعلبي ٦/ ١١٠ ب، وكذلك -عدا أنس- الإمام ابن جرير ١٠/ ١٣٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٠٢.
والجدير بالتنبيه أن في تفسير ابن جرير: بثمر بن عطية، وذكر المحقق أن في اسمه اضطرابًا ولم يهتد للصواب، والصواب: شمر بن عطية، ، كما ذكره الواحدي وابن أبي حاتم والثعلبي، فليصحح.
(٢) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٤٢، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٤٩.
(٣) ذكره الثعلبي ٦/ ١١١ أ، والبغوي ٤/ ٥٣.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٣٩، من وراية العوفي وكذلك ابن أبي حاتم ٣/ ١٨٠٣، وذكره الثعلبي ٦/ ١١١ أدون ذكر الراوي عنه.
(٥) ذكره البغوي ٤/ ٥٣ بصيغة التمريض، وكذلك ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٤٤٢، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٩.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٩٩.
(٧) رواه الثعلبي ٦/ ١١١ أ، وبنحوه ابن جرير ١٠/ ١٣٩، والبغوي ٤/ ٥٣.
(٨) "معاني القرآن" ١/ ٤٣٩.
446
أمر في هذه الآية بالنفير (١) ألا ترى إلى (٢) ما روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه شهد بدرًا ثم لم يتخلف عن غزوة للمسلمين (٣)، وكان يقول: قال الله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ ولا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلاً (٤)، وقيل للمقداد بن الأسود، وهو يريد الغزو وكان قد كبر وأسن: قد أعذر الله إليك، يعني: في القعود عن (٥) الغزو، فقال: أبت علينا سورة براءة ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ (٦) وروي أيضًا أن أبا طلحة (٧) قرأ هذه الآية فقال لبنيه: جهزوني جهزوني، فقالوا: لقد غزوت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومع أبي بكر وعمر حتى ماتوا فنحن نغزو عنك، فقال: لا، جهزوني جهزوني (٨)، ما أرى الله إلا يستنفرنا شبانا وشيوخًا (٩).
(١) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٩٩، وبمعناه النحاس في "معاني القرآن الكريم" ٣/ ٢١٢.
(٢) في (ج): (أن).
(٣) بل ذكرت المصادر التالية أن أبا أيوب -رضي الله عنه- تخلف عامًا واحداً، وذكر بعضها أنه ندم على ذلك.
(٤) رواه ابن جرير ١٤/ ١٣٨، والحاكم في "المستدرك"، كتاب "معرفة الصحابة" ٣/ ٤٥٨، وابن سعد في "الطبقات" ٣/ ٢/٤٩.
(٥) في (ج): (في).
(٦) رواه ابن جرير ١٠/ ١٣٩ - ١٤٠، والحاكم في "المستدرك" كتاب: معرفة الصحابة ٣/ ٣٤٩، وقال: صحيح الإسناد، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٠٢.
(٧) هو: زيد بن سهل بن الأسود النجاري الخزرجي، أبو طلحة الأنصاري صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بني أخواله، وأحد أعيان البدريين، واحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة، توفي سنة ٣٤ هـ. انظر: "المعارف" ١٥٤، و"سير أعلام النبلاء" ٢/ ٢٧، و"الإصابة" ١/ ٥٦٦.
(٨) ساقط من (ج) و (م).
(٩) رواه الحاكم في "المستدرك"، كتاب: معرفة الصحابة، ذكر مناقب أبي طلحة =
447
وهذه الآية مما دل بظاهره على وجوب (١) الجهاد بكل حال، قال عطاء الخراسانى عن ابن عباس في هذه الآية: نسختها ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢] (٢) الآية، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن الجهاد كان واجبًا على الأعيان، وهل ذلك يجب (٣) اليوم كما كان يجب؟ ذكرنا الاختلاف فيه في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] (٤).
= ٣/ ٣٥٣، وابن حبان في "صحيحه" (الإحسان) كتاب: المناقب، ذكر الموضع الذي مات فيه أبو طلحة، رقم (٧١٨٤) ١٦/ ٥١٢، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٠٢، وصححه الحاكم، وقال: على شرط مسلم، وقال الذهبي: على شرط الشيخين.
(١) في (ج): (وجود)، وهو خطأ.
(٢) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٠٣، والبغوي في "تفسيره" ٤/ ٥٤ بغير سند، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب: السير، باب: النفير.. رقم (١٧٩٣٨) ٩/ ٨١ وفي سنده عثمان بن عطاء الخرساني، قال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" ٣٨٥ (٤٥٠٢): (ضعيف. اهـ. وفيه علة أخرى وهي الإرسال؛ فإن عطاء الخرساني لم يسمع من ابن عباس كما في "العبر" ١/ ١٤٠، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٧١، ٧٢، وقد سبق بيان التحقيق في نسخ هذه الآية عند قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ﴾.
(٣) في (ي): (وهل يجب ذلك).
(٤) انظر: "النسخة الأزهرية" ١/ ١٣١ أوقد قال في هذا الموضع: اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فمذهب عطاء أن المعني بهذا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة دون غيرهم؛ لأنه قال: كان القتال مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فريضة.. وقال بعضهم: كان الجهاد في الابتداء من فرائض الأعيان، ثم صار فرض كفاية، لقوله عز وجل ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ ولو كان القاعد مضيعًا فرضًا ما كان موعوداً بالحسنى، وقال بعضهم: لم يزل الجهاد فرض كفاية، غير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا استنفرهم تعين عليهم النفير، لوجوب طاعته،.. والإجماع اليوم على أنه من فروض الكفاية، إلا أن =
448
وقوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قال أهل العلم: هذا يدل على أن الموسر يجب عليه الجهاد بالمال إذا عجز عن الجهاد ببدنه لزمانة (١) أو علة، فوجوب الجهاد بالمال كوجوب الجهاد بالبدن على الكفاية (٢)، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ قيل: ذلكم خير لكم من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم (٣)، وقيل: معناه: أن الخير فيه لا في تركه (٤)، فـ (خير) هاهنا ليس بالذي يصحبه (من)، وليس للتفضيل؛ لأن (خيرًا) (٥) تستعمل بمعنيين: أحدهما (٦) بمعنى: هذا خير من ذاك، والثاني أنه بمعنى: خير في نفسه، كقوله: ﴿إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: ٢٤]: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ﴾ [العاديات: ٨] ومثله كثير.
=أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين على كافة المسلمين إلى أن يقوم بكفايتهم من يصرف وجوههم.
(١) الزمانة: العاهة والبلوى، انظر: "القاموس المحيط"، فصل الزاي، باب: النون ص ١٢٠٣، و"مختار الصحاح" (ز م ن) ص ٢٧٥.
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٣/ ٤٤٣، والرازي ١٦/ ٧٠ - ٧١، والخازن ٢/ ٢٢٨، و"حاشية الروض المربع" ٤/ ٢٥٦، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله في أصح قولي العلماء.. فإن الله أمر بالجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام" ٢٨/ ٨٧.
(٣) هذا قول ابن جرير، انظر "تفسيره" ١٠/ ١٤٠.
(٤) ذكر هذا القول الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٦٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٤٤.
(٥) في (ج): (ص).
(٦) في (ج): (أحد).
449
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: قال ابن عباس: إن كنتم تعلمون ما لكم من الثواب (١) والجزاء، وقيل: [إن كنتم] (٢) تعلمون الخير في الجملة فاعلموا أن هذا خير (٣).
٤٢ - وقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا﴾ الآية، قال المفسرون: نزلت هذه الآية في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك (٤)، قال الكلبي: لما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تبوك أبدى الله نفاقهم، وأنزل هذه الآية (٥)، قال الزجاج والمبرد وغيرهما: لو كان ما دعوا إليه أو (٦) لو كان المدعو إليه سفرًا قاصدًا، فحذف اسم (كان) لدلالة ما تقدم من الكلام عليه (٧) و ﴿عَرَضًا قَرِيبًا﴾ يريد: من عرض الدنيا، قاله ابن عباس (٨)، وقال الضحاك: غنيمة قريبة (٩).
(١) لم أجد من ذكره سوى المؤلف في "الوجيز" ١/ ٤٦٥.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٣) لم أهتد إلى القائل.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٤١، والثعلبي ٦/ ١١١ ب، والبغوي ٤/ ٥٤، وابن الجوزي ٣/ ٤٤٤، و"أسباب النزول" للمؤلف ص ٢٥١.
(٥) ذكره بمعناه الهواري في "تفسيره" ٢/ ١٣٤.
(٦) في (ج): (و).
(٧) انظر: قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٩، وانظر أيضًا: "تفسير الطبري" ١٠/ ١٤١، والثعلبي ٦/ ١١١ ب، والبغوي ٤/ ٥٤، وابن الجوزي ٣/ ٤٤٤، وأبي حيان ٥/ ٤٥، ولم أجد مصدر قول المبرد، ولعله في كتابه "معاني القرآن" الذي لم أعثر عليه.
(٨) رواه بمعناه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٠٤، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٤.
(٩) لم أجد من ذكره عنه، وقد رواه ابن أبي حاتم في المصدر السابق، نفس الموضع عن الضحاك عن ابن عباس.
450
وقال الكلبي: مالاً قريبًا (١)، ومضى الكلام في العرض عند قوله: ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى﴾ [الأعراف: ١٦٩].
وقوله تعالى: ﴿وَسَفَرًا قَاصِدًا﴾، قال الليث: القصد (٢): استقامة الطريقة يقال: قصد يقصد قصدًا فهو قاصد (٣)، قال ابن عباس: سفرًا قاصدًا يريد: قريبًا (٤)، وقال الكلبي: هينا (٥)، وقال الزجاج: أي سهلاً قريبًا (٦)، وقال أهل المعاني: وسفرًا قاصدًا سهلاً باقتصاده من غير طول في أمره، وإنما قيل للعدل قصد لأنه مما ينبغي أن يقصد (٧)، وقال المبرد: قاصدًا: ذا قصد، أي ذا اعتدال في غير طول، أو ذا لين وسهولة واستقامة، كقولهم: لابن (٨) ورامح (٩) وتامر (١٠).
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾، قال الليث: الشقة: بعد مسير إلى أرض بعيدة، يقال: شقة شاقة (١١)، قال الضحاك: {بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ
(١) ذكره الهواري في "تفسيره" ١/ ١٣٤ بنحوه.
(٢) ساقط من (ج).
(٣) "تهذيب اللغة" (قصد) ٣/ ٢٩٧١، والنص في كتاب: "العين" (قصد) ٥/ ٥٤.
(٤) "تنوير المقباس" ١٩٤ بمعناه.
(٥) ذكره الهواري في "تفسيره" ٢/ ١٣٤.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٩.
(٧) ذكر نحو هذا القول الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٧٢، ولم أجد من ذكره من أهل المعاني.
(٨) لابن: أي ذو لبن. انظر: "لسان العرب" (لبن) ٧/ ٣٩٨٩، (رمح) ٣/ ١٧٢٤.
(٩) رامح: أي ذو رمح. انظر: المصدر السابق (رمح) ٣/ ١٧٢٤.
(١٠) الكلمة ساقطة من (ي)، ومعناها: ذو تمر. انظر: الممدر السابق، نفس الموضعين.
(١١) "تهذيب اللغة" (شق) ٢/ ١٩٠٦، والنص في كتاب: "العين" (شق) ٥/ ٧ دون قوله: يقال.. إلخ.
451
الشُّقَّةُ}: المسافة (١)، وقال الكلبي: يعني السفر إلى الشام (٢)، وقال الزجاج: بعدت عليهم الغاية التي تقصدها (٣)، ونحوه قال ابن كيسان (٤)، وقال قطرب: الشقة: السفر البعيد؛ لأنه يشق على الإنسان (٥)، وقال غيره: الشقة: القطعة من الأرض التي يشق ركوبها على صاحبها (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾، قال الكلبي: يعني: لو قدرنا وكان لنا سعة في المال (٧)، قال أهل المعاني: وفي هذا دلالة على نبوة محمد - ﷺ - لأنه أخبر أنهم سيحلفون، ثم جاءوا فحلفوا كما أخبر أنه سيكون منهم (٨).
وقوله تعالى: ﴿يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾، قال ابن عباس: بالكذب والنفاق (٩)، وقوله (١٠): ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، قال قتادة: لأنهم كانوا يستطيعون الخروج ولكن كانت تبطئة من عند أنفسهم زهادة في
(١) لم أعثر على من خرجه، وقد رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٠٤ عن الضحاك عن ابن عباس بلفظ: المسيرة.
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٠.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٠.
(٤) انظر قوله في "تفسير الثعلبي" ٦/ ١١١ ب.
(٥) انظر قوله في المصدر السابق، نفس الموضع.
(٦) هذا قول علي بن عيسى الرماني. انظر: "البحر المحيط" ٥/ ٤٥.
(٧) لم أجد من ذكره عنه، وقد ذكره من غير نسبة المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٠، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٤٤، والماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٦٧.
(٨) القول للحوفي في كتابه "البرهان" ١١/ ١٨٥ أ، وانظر: "الكشاف" ٢/ ١٩١، و"مفاتيح الغيب" ١٦/ ٧٥.
(٩) ذكره الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٤ بلفظ: بالحلف الكاذبة.
(١٠) من (م).
452
الخير (١)، وقال الحسن: لكاذبون: أي مستطيعون (٢) للخروج (٣) (٤)، وقال مجاهد: أي ذلك الذي قالوا بألسنتهم مخالف لما في قلوبهم (٥).
فإن قيل: أليس عندكم لو استطاعوا لخرجوا وإذ (٦) لم يخرجوا فلأنهم لم يستطيعوا، والله تعالى قد كذبهم في قولهم (٧) لم نستطيع، فبان أنهم استطاعوا ولم يخرجوا؟ (٨)
قلنا: الاستطاعة ههنا معناه: الزاد والسلاح والمركوب وكانوا مياسير ذوي عدة فاستطاعتهم كان بالعدة وكُذّبوا في قولهم: لم نستطع (٩).
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ١٤١، وعبد بن حميد وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٤١.
(٢) في (ي): (مستطيعين).
(٣) ساقط من (ج).
(٤) لم أقف عليه.
(٥) لم أعثر عليه في المصادر التي بين يدي.
(٦) في (ج): (فإذا).
(٧) في (ج) و (ي): (قوله)، وهو خطأ.
(٨) ذكر الرازي أن ممن اعترض هذا الاعتراض أبا على الجبائي والكعبي. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٦/ ٧٢ - ٧٣.
(٩) يشير المؤلف -رحمه الله- إلى خلاف محتدم بين المعتزلة والأشاعرة في باب الاستطاعة والقدرة، وفي المسألة عدة أقوال أبرزها:
الأول: قول المعتزلة، وهو أن الاستطاعة قبل الفعل، يقول عبد الجبار الهمداني: وجملة ذلك أن من مذهبنا أن القدرة متقدمة لمقدورها، وعند المجبرة أنها مقارنة له. "شرح الأصول الخمسة" ص ٣٩٨، وانظر أيضًا: "مقالات الإسلاميين" ١/ ٣٠٠، و"الفرق بين الفرق" ص ١٣٧، و"شرح العقيدة الطحاوية" ٢/ ٦٣٣.
الثاني: قول الأشاعرة ومن وافقهم، وهو أن الاستطاعة تكون مع الفعل، ولا يجوز أن تتقدمه البتة، يقول الجويني في "الإرشاد" ص ٢١٩. والدليل على أن الحادث =
453
٤٣ - وقوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾، قال المفسرون: أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لطائفة في التخلف عنه فأنزل الله هذه الآية (١)، قال الحسين بن الفضل: هذا من لطيف المعاتبة ولو لم يفتتح الخطاب بالعفو ما كان يقوم لقوله: ﴿لِمَ (٢) أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ فطيب الله نفسه بتصدير العفو، وذلك أنه أذن لهم من غير مؤامرة (٣)، ولم (٤) يكن (٥) له أن يمضي (٦) شيئاً
= مقدور، وأن الاستطاعة تقارن الفعل، أن نقول: القدرة من الصفات المتعلقة، ويستحيل تقديرها دون متعلق لها، فإن فرضنا قدرة متقدمة، وفرضنا مقدوراً بعدها في حالتين متعاقبتين فلا يتقرر على أصول المعتزلة تعلق القدرة بالمقدور، فإنا إذا نظرنا إلى الحالة الثانية فلا تعلق للقدرة فيها، فإذا لم يتحقق في الحالة الأولى إمكان، ولم يتقرر في الحالة الثانية اقتدار، فلا يبقى لتعلق القدرة معنى. أهـ. وانظر أيضًا: "غاية المرام من علوم الكلام" ص ٢٤٥، و"شرح العقيدة الطحاوية" ٢/ ٦٣٣.
الثالث: قول عامة أهل السنة ومحققي المتكلمين، وهو أن الاستطاعة قسمان:
أ- استطاعة للعبد بمعنى الصحة والوسع، وسلامة الآلات والتمكن وانتفاء الموانع، فهذه قد تتقدم الفعل، وهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧]، وكذا في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [المجادلة: ٤]، فالمراد من الاستطاعة في الآيتين استطاعة الأسباب والآلات وانتفاء المانع.
ب- استطاعة للعبد تكون موجبة للفعل، محققة له، فيها يتحقق وجوده، ويظهر كيانه، وهذه الاستطاعة مقارنة للفعل لا تتقدمه. انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" ٨/ ٣٧٢، و"شرح العقيدة الطحاوية" ٢/ ٦٣٣.
(١) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٤٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٠٥، والسمرقندي ٢/ ٥٣، وابن الجوزي ٣/ ٤٤٥.
(٢) ساقط من (ج).
(٣) يعني: من غير أمر الله له بذلك.
(٤) ساقط من (ج).
(٥) في (ج): (لكن).
(٦) في (ج): (ينهي).
454
إلا بوحي (١)، قال قتادة وعمرو بن ميمون (٢): اثنان فعلهما رسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى، فعاتبه الله كما تسمعون (٣)
وقوله تعالى: ﴿لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾، قال ابن عباس: يريد في التخلف (٤)، قال أهل المعاني: وهذا يدل على أنه فعل ما لم يؤذن له فيه، لأنه لا يقال: لم فعلت: فيما أذن له في فعله (٥). وقوله: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ أي: حتى تعرف من له العذر منهم في تخلفه ومن لا عذر له، فيكون إذنك لمن أذنت له على عذر، وقال ابن عباس: وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعرف يومئذ المنافقين، وما عرفهم إلا بعدما نزلت (٦) سورة (٧) براءة (٨)، وقال أهل المعاني: هذه الآية بيان عما توجبه العجلة في الأمر قبل التبين من التنبيه على ما ينبغي من التثبت حتى تظهر الحال فيعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو
(١) لم أجد من ذكره عنه، وكتاب الحسين بن الفضل في معان القرآن مفقود.
(٢) هو: عمرو بن ميمون الأودي، أبو عبد الله الكوفي، أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يلقه، كان ثقة عابداً كثير الحج، وتوفي سنة ٧٤ هـ. انظر: "الكاشف" ٢/ ٨٩، و"تهذيب التهذيب" /٣٠٧ - ٣٠٨.
(٣) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٤٢، والثعلبي ٦/ ١١١ ب، والبغوي ٤/ ٥٤، وابن الجوزي ٣/ ٤٤٥، والقرطبي ٨/ ١٥٤.
(٤) "تنوير المقباس" ١٩٤ بنحوه.
(٥) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢١.
(٦) في (ي): (بعد نزول).
(٧) ساقط من (ي).
(٨) ذكره بنحوه البغوي ٤/ ٥٥، وإبن الجوزي ٣/ ٤٤٥، والقرطبي ٨/ ١٥٥، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠١.
455
الإبعاد (١)، وذكر ابن الأنباري وغيره من أهل الحقائق في قوله: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ﴾ وجها آخر سوى ما ذكرنا، وهو أنه قال: لم يأت النبي -صلى الله عليه وسلم- مأثمًا ولم يخاطب بالذي خوطب به لجرم أجرمه، لكن الله تعالى وقره (٢) ورفع من شأنه بافتتاح الكلام بالدعاء له (٣) كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان كريمًا عنده: عفا الله عنك، ما صنعت في حاجتي؟ ورضي الله عنك، ألا زرتني؟ وعافاك الله، ألا عرفت حقي؟ فلا يقصد فيما يفتتح به من الدعاء إلا قصد التبجيل لمخاطبه والرفع لمحله (٤).
٤٤ - وقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الآية.
قال ابن عباس: هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد (٥)، [وقال الزجاج:] (٦) أعلم الله نبيه أن علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان (٧).
(١) ذكره الرازي بمعناه ولم ينسبه لأحد. انظر: "تفسيره" ١٦/ ٧٣.
(٢) في (ي): (وفقه)، وهو خطأ. وما أثبته موافق لـ"زاد المسير".
(٣) ساقط من (ج).
(٤) ذكر أكثره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٤٥ عن ابن الأنباري، واعتبره النحاس قولاً مرجوحًا في الآية. انظر: "إعراب القرآن" له ٢/ ٢١٧، وحكاه القرطبي في "تفسيره" ٨/ ١٥٤، عن مكي والمهدوي، وضعفه الشوكاني في "فتح القدير" ٢/ ٥٣٢، وقبله الكرماني في "غرائب القرآن" ١/ ٤٥٥.
(٥) رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٠٦، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٤٣٩.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٠، وبقية النص: في التخلف عن الجهاد.
456
وقوله تعالى: ﴿أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾، قال: موضع (أن) نصب، المعنى: لا يستأذنك هؤلاء في أن يجاهدوا (١)، ولكن (في) حذفت فأفضى الفعل فنصب (أن) (٢). قال سيبويه: ويجوز أن يكون موضعه (٣) جرًا لأن حذفها هاهنا جاز من ظهور (أن) فلو أظهرت المصدر لم تحذف (في)، لا يجوز: لا يستأذنك القوم الجهاد (٤) [حتى تقول: في الجهاد، ويجوز: لا يستأذنك القوم أن يجاهدوا] (٥) (٦).
(١) ذكر النحاس في "إعراب القرآن" ٢/ ٢١ هذا التقدير عن الزجاج ثم قال: قال غيره: هذا غلط، وإنما المعنى ضد هذا، ولكن التقدير: (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) في التخلف لئلا يجاهدوا، وحقيقته في العربية: كراهة أن يجاهدوا كما قال جل وعز: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦]. وانظر: "الكشاف" ٢/ ١٩٢ وحاشيته، فقد جوّز الزمخشري ما ذهب إليه الزجاج، وزاده إيضاحًا ابن المنير، واعتبره أدباً إسلاميًا يجب أن يقتفى فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه أن يسدي إليه معروفًا.
وأقول: إن أسباب النزول وسياق الآيات لا سيما قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ يدل على ضعف هذا القول، فما كان الله ليعاتب نبيه على إذنه لهم بالجهاد، بل على إذنه بالتخلف عن الجهاد، وهذا يدل على أنهم استأذنوه القعود لا في الجهاد.
(٢) القول للزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٠.
(٣) في "معاني القرآن وإعرابه": موضعها.
(٤) في (ج): (أن يجاهدوا)، والصواب ما أثبته وهو موافق لـ"معاني القرآن وإعرابه".
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٦) انظر قول سيبويه في "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٥٠ ولم أجده في مظانه في كتاب سيبويه، كما أن الأستاذين د/ محمد عبد الخالق عضيمة، وعبد السلام هارون لم يذكرا هذه الآية في فهرسيهما لكتاب سيبويه، وقد ذكر سيبويه النصب على نزع الخافض في عدة مواضع في كتابه منها: ١/ ٣٨، ١٥٩، ٣/ ١٢٧، ١٣٥، ١٣٧ ومن أقواله في كتابه ٣/ ١٥٤: واعلم أن اللام ونحوها من حروف =
457
قال أصحاب الحقائق (١): ليست هذه الآية على ظاهرها؛ لأن ترك الاستئذان عن (٢) الإمام في الجهاد مذموم، وهؤلاء محمودون في هذه الآية بترك الاستئذان (٣)، وهاهنا إضمار وهو أحد شيئين: أحدهما: أن يكون التقدير: لا يستأذنك هؤلاء أن يجاهدوا فحذف (لا)، والثاني: لا يستأذنك هؤلاء كراهية أن يجاهدوا (٤)، وقد ذكرنا نحو هذا في قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦] وفي غيره من المواضع، والذي دل على هذا المحذوف ذم المنافقين وسياق القصة، وهو قوله: ﴿لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ إنما كان ذلك إذنًا في القعود عن الجهاد لا في الجهاد، ويدل عليه أيضًا ما بعده من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ أي في القعود عن الجهاد.
وقال صاحب النظم: ظاهر نظم (٥) هذه الآية والتي بعدها يوهم أن الاستئذان في الجهاد مذموم، وهذا غير سائغ في المعنى؛ لأن الذم إنما وقع على من يستأذن في القعود عن الجهاد، فالتأويل: لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر في القعود عن الجهاد، فجاء هذا النظم على سبق
=الجر قد تحذف من (أن) كما حذفت من (أنَّ)، جعلوها بمنزلة المصدر حين قلت: فعلت ذلك حذر الشر، أي لحذر الشر، ويكون مجرورًا على التفسير الآخر.
(١) أهل الحقائق عند المؤلف هنا هم أهل المعاني كابن الأنباري كما بين ذلك من قبل.
(٢) هكذا في جميع النسخ، والصواب: (من)، عبارة المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٥٠١:.. وإلا فالاستئذان من الإمام في القعود عن الجهاد غير مذموم.
(٣) في (ي): (الإيذان).
(٤) ذكر بعض هذا القول النحاس في "إعراب القرآن" ٢/ ٢١، والرازي في "تفسيره" ١٦/ ٧٦.
(٥) ساقط من (ي).
458
العلم من الجميع إلى أنه (١) لا يقع الذم في مثل هذا إلا على من يستأذن (٢) في ترك الجهاد والقعود عنه، ومثله قوله: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ [النساء: ١٢٧] فهذا أيضًا ظاهره أنهم يرغبون في نكاحهن والمعنى على خلافه؛ لأن هذا ورد في عضل الولي (٣) عن التزويج وامتناعه من أن يتزوجها، والعرب تقول: رغبت أن أفعل كذا بمعنى: عن أن أفعله، ورغبت أن أفعله [بمعنى في أن أفعله] (٤) ولا يعرف ذلك إلا بالاعتبار بمكانه (٥) الذي وقع به، والقصة التي حدث فيها، من ذلك قول الخنساء:
يا صخر ورّاد ماء قد تناذره.... أهل الموارد ما في ورده عار (٦)
ظاهر قولها: ما (٧) في ورده عار، أن معناه [: ما على من ورده عار] (٨) ومعناه في الباطن: ما في ترك ورده مخافة عار؛ لأنها عنت: ماء ورده في موضع مخوف يتناذره الناس ويتحامونه، تقول: فهو يرد هذا الماء لشجاعته وجرأته، وإن ترك ورده تارك لم يكن عليه عار لهول ما فيه.
(١) في (ي): (لأنه).
(٢) في (ي): (يستأذنك).
(٣) في "الصحاح" (عضل) ٥/ ١٧٦٧: عضل الرجل أيمه: إذا منعها من التزويج.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٥) في (ج): (لمكانه)، وهو خطأ.
(٦) انظر: "ديوان الخنساء" ص ٤٨، ومعنى تناذره: أنذر بعضهم بعضًا، والموارد: جمع مورد، وهو المنهل والماء الذي يورد للسقيا. وهي تعني الموت، أي لإقدامه وشجاعته.
انظر: "الكامل" ٤/ ٤٨، و"أنيس الجلساء في شرح ديوان الخنساء" ص٧٥.
(٧) لفظ: (ما) ساقط من (ج).
(٨) نص ما بين المعقوفتين في (ي) هكذا: (على ما ورده عار)، وهو خطأ ظاهر.
459
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾، قال ابن عباس: يريد: ليس فيهم منافق (١).
قال أهل المعاني: لم يخرجهم من (٢) صفة المتقين إلا لأنه علم أنهم ليسوا منهم (٣).
٤٥ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ الآية، أجمعوا على أن هذا الاستئذان في القعود عن الجهاد، وإخبار أن من فعل ذلك غير مؤمن بالله (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ﴾، قال ابن عباس: يريد: شكوا في دينهم، ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾، قال: يريد في شكهم يتمادون (٥) (٦).
وقال أهل المعاني: هذه صفة الشاك المتحير في دينه الذي ليس (٧) على بصيرة من أمره، لا يجد ثقة الإيمان لما هو عليه من الحيرة
(١) في "تنوير المقباس" ص ١٩٤: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ الكفر والشرك.
(٢) ساقط من (ج).
(٣) "البرهان" للحوفي ١١/ ١٩٢ ب بنحوه.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٤٣، والسمرقندي ٢/ ٥٣، والبغوي ٤/ ٥٥، وقول المؤلف: وإخبار أن من فعل ذلك غير مؤمن بالله، ليس على إطلاقه، فإن الاستئذان في التخلف عن الجهاد قد يكون عن ريبة وشك ونفاق، وقد يكون جنباً أو كسلاً، وقد قيد بعض العلماء الآية بزمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٠: أعلمه -جل وعلا- أن علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان في التخلف عن الجهاد. وانظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٤٣، والرازي ١٦/ ٧٦ - ٧٧، والقرطبي ٨/ ١٥٥.
(٥) في (م): (يتمارون)، وما أثبته موافق لـ"الوسيط" و"الوجيز".
(٦) "الوسيط" ٢/ ٥٠١، و"الوجيز" ٦/ ٥٠٨ - ٥٠٩، ونحوه في "تنوير المقباس" ص ١٩٤.
(٧) في (ي): (ليس له).
والاضطراب حتى زهد في الجهاد، واستأذن في المقام بما لا يجوز من الاعتذار، وقال أبو إسحاق: أعلم الله -جل وعز- أن من ارتاب وشك في الله وفي البعث فهو كافر (١).
٤٦ - وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً﴾، قال ابن عباس: يريد: من الزاد والماء وما يركبون؛ لأن سفرهم بعيد، وفي زمان شديد (٢)، وقال الزجاج: فتركهم العدة دليل على إرادتهم التخلف (٣)، وقال غيره: هذا إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على أخذ العدة لو أرادوا الخروج إلى الجهاد (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ﴾ الانبعاث: الانطلاق في الأمر، يقال: بعثت (٥) البعير فانبعث، وبعثته لأمر كذا فانبعث: أي نفذ فيه (٦)، ومنه الحديث في عقر الناقة: "فانبعث لها رجل عارم (٧) " (٨).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٠.
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٧٨، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ٤٨، وبمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٤٦.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٠.
(٤) ذكر ذلك من غير تعيين الرازي في: "تفسيره" ١٦/ ٧٨، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠١، و"الوجيز" ٦/ ٥١٠ - ٥١١.
(٥) في (م): (بعث).
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (بعث) ١/ ٣٥٤، و"الصحاح" (بعث) ١/ ٢٧٣.
(٧) عارم: أي خبيث شرير، والعُرام: الشدة والقوة والبطش. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" (عرم) ٣/ ٢٢٣.
(٨) رواه مطولاً البخاريَ (٤٩٤٢)، كتاب: التفسير، سورة الشمس وضحاها، ومسلم (٢٨٥٥)، كتاب: الجنة، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، والترمذي (٣٣٤٣)، كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الشمس وضحاها، =
461
قال ابن عباس في تفسير ﴿انْبِعَاثَهُمْ﴾: يريد: خروجهم معك ونحوه قول (١) الزجاج: (كره الله أن يخرجوا معكم) (٢)، قال أصحابنا: معنى: (كره الله): لم يرد الله؛ لأن الكراهة للشيء ضد الإرادة له (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ التثبيط: ردُّك الإنسان عن الشيء يفعله، قال ابن عباس: يريد: فخذلهم وكسلهم عن الخروج (٤)، وعنه أيضًا: (فحبسهم) في رواية الضحاك (٥)، والأول في رواية عطاء، وقال الحسن: (خذلهم) (٦)، وهذا ظاهر في أن الله تعالى يخلق الخذلان والكفر، ألا
= وأحمد في "المسند" ٤/ ١٧.
(١) في (ج): (قال).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٠.
(٣) انظر: "رسالة إلى أهل الثغر" للأشعري ص٢٣١، وكتاب: "أصول الدين" للبغدادي ص ١٠٢.
وهذا القول من تأويل الأشاعرة لصفات الله الفعلية وردّها إلى الإرادة، ومذهب السلف إثبات صفة الكراهة، بناء على قاعدتهم بأن الله يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفيًا وإثباتًا، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
انظر: "عقيدة السلف" للصابوني ص ١٨٩، ٢٢٣، وكتاب: "الأسماء والصفات" للبيهقي ٢/ ١١٣، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ٣/ ٣، ١٧، و"شرح العقيدة الطحاوية" ٢/ ٦٨٥، و"مدارج السالكين" ١/ ٢٧٨، و"معارج القبول" ١/ ٣٤٦، ٣٥٦.
(٤) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠١، و"الوجيز" ١/ ٤٦٦، وبنحوه أبوحيان في "البحر المحيط" ٥/ ٤٨.
(٥) أخرجها ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٠٧، ومثلها رواية الكلبي كما في"تنوير المقباس" ص ١٩٤.
(٦) لم أعثر عليه.
462
تري (١) أنه (٢) أضاف حبسهم ومنعهم من الخروج إلى نفسه في قوله: ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾، قال ابن عباس: يعني: أولى الضرر والزمنى (٤)، وقال عطية: يعني الصبيان والنساء (٥)، واختلفوا في أن هذا القول ممن كان؟ فقال بعضهم: رسول الله قال لهم لما (٦) استأذنوا: اقعدوا مع الخالفين غضبًا منه عليهم، ولم يقصد بذلك سوى الوعيد فاغتنموا هذه اللفظة، وقالوا: قد أذن لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (٧)، فقال
(١) في (ج): (ألا تراه).
(٢) ساقط من (ج) و (م).
(٣) وهذا مذهب أهل السنة قاطبة، انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" ٢/ ٦٤٠، ولكن يجدر بالتنبيه أن الله تعالى لا يخلق الكفر في نفس إنسان إلا إذا باشر أسباب ذلك كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥].
(٤) لم أجد من ذكره إلا المؤلف في "الوجيز" ١/ ٤٦٦.
(٥) ذكره الثعلبي ٦/ ١٣٥، والبغوي ٤/ ٨١، عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ دون تعيين القائل.
(٦) في (ج): (كما)، وهو خطأ.
(٧) ذكر هذا القول مختصرًا النحاس في: "إعراب القرآن" ٢/ ٢٢، والماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٦٨، والخازن في "تفسيره" ٢/ ٢٣٠، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ١٥٦. ولا يخفى ضعف هذا القول لما يأتي:
أ- أن الأصل في اللفظ الحقيقة، ولا يجوز تجريد نفظ كلام الله من حقيقته إلا ببرهان قاطع، وليس ثمت برهان.
ب- أن الآية صُدّرت بقوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ﴾ المشعر بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالف الأولى، فدد ذلك على أنه أذن للمنافقين بالقعود إذنًا حققيًّا لا صوريًّا.
جـ- أن جميع من ذكر هذا القول لم يسنده إلى شاهد حال، وإنما قيل على وجه الظن والتخمين.
463
الله تعالى: ﴿لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ والمراد لفظ الإذن لا حقيقته (١)، وقال مقاتل: وحيًا إلى قلوبهم (٢)، يعني أن الله ألهمهم أسباب الخذلان، وأوحى إلى قلوبهم: ﴿اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ ويجوز أن يكون بعضهم قال لبعض (٣).
وقوله تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ﴾ الآية، قال ابن زيد: هذا تسلية للنبي - ﷺ - عن حزنه على تخلف من تخلف عنه من المنافقين فقال: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ (٤)، وقال الزجاج: أعلم الله تعالى لم كره خروجهم بقوله: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ﴾ الآية (٥)، قال ابن عباس: لو خرجوا معكم (٦).
وقوله تعالى: ﴿مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ الخبال: الفساد والشر في كل شيء (٧)، وهو مما ذكرناه في سورة آل عمران [١١٨]، والمراد بالخبال هاهنا: الاضطراب في الرأي، وذلك (٨) بتزيين أمر لفريق وتقبيحه عند فريق ليختلفوا فتفترق كلمتهم ولا تنتظم، يقول: لو خرجوا لأفسدوا عليكم أمركم، هذا معنى قول المفسرين (٩).
(١) في (ج): (لا حقيقة الإذن).
(٢) "تفسير مقاتل" ص ١٢٩.
(٣) وهذا ما اعتمده البغوي في "تفسيره" ٤/ ٥٥، وانظر: "الكشاف" ٢/ ١٩٣.
(٤) هذا معنى أثر ابن زيد، وقد رواه ابن جرير ١٠/ ١٤٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٠٧.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٠.
(٦) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ١٩٤ من رواية الكلبي، وسنده لا يخفى.
(٧) انظر: "الصحاح" (خبل) ٤/ ١٦٨٢، و"الكشاف" ٢/ ١٩٤.
(٨) ساقط من (ي).
(٩) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٤٤، والثعلبي ٦/ ١١٢ أ، والبغوي ٤/ ٥٦.
464
قال ابن عباس في قوله: ﴿مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ يريد: عجزًا وجبنا (١)، يعني: أنهم يجبنونهم (٢) عن لقاء العدو بتهويل الأمر عليهم، وقال الكلبي: "إلا شرًّا" (٣) وقال مرة (٤): "إلا غشًّا" (٥)، وقال يمان (٦): "إلا مكرًا" (٧)، وقال الضحاك: "إلا غدرًا" (٨).
قال أصحاب النحو والعربية: هذا أمر الاستثناء المنقطع بتقدير: ما زادوكم قوة لكن طلبوا لكم الخبال، وذلك أنهم لم يكونوا على خبال فيزداودا ذلك (٩)، ويجوز أن يكونوا (١٠) على تلون في الرأي لما يعرض في النفس، فكانوا يصيرونه خبالاً (١١) فلا يكون استثناء منقطعًا.
(١) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠١، وذكره أيضا الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٦٨ بلفظ: فسادًا.
(٢) في (م): (يجبنوهم).
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ١١٢ ب.
(٤) في (ي): (المرة) والصواب ما أثبته، وهو مرة الهمداني.
(٥) لم أجده.
(٦) هو: يمان بن رئاب (بكسر الراء) البصري الخراساني، وهو ضعيف في باب الرواية.
(٧) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٨٠.
(٨) رواه الثعلبي ٦/ ١١٢ ب.
(٩) انظر: "البحر المحيط" ٥/ ٤٩، و"الدر المصون" ٦/ ٥٩، وقد أنكر الزمخشري ذلك في "كشافه" ٢/ ١٩٤، فقال: ("إلا خبالاً": ليس من الاستثناء المنقطع في شيء كما يقولون؛ لأن الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستنثى منه، كقولك: ما زادوكم خيرًا إلا خبالاً، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء فكان استثناء متصلاً؛ لأن الخبال بعض أعم العام كأنه قال: ما زادوكم شيئًا إلى خبالاً).
(١٠) في (ي): (يكون).
(١١) المعنى: أنه قد يطرأ على نفوس الصحابة شيء من اختلاف الرأي ونحوه، فإذا =
465
وقوله تعالى: ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾، قال النضر: وضع البعير إذا عدا، وأوضعته أنا: إذا حملته عليه (١)، ونحو ذلك قال أبو زيد (٢)، وأنشد الليث (٣):
لماذا (٤) تردّين امرأ جاء لا يرى.... كودّك ودًا قد أكل (٥) وأوضعا (٦)
وقال الفراء: العرب تقول: أوضع الراكب، ووضعت الناقة، وربما قالوا للراكب: وضع، وأنشد:
إني إذا ما كان يوم ذو فزع.... ألفيتني محتملاً بزّي (٧) أضع (٨)
= وُجد هؤلاء المفسدون ضخموا هذا العارض، وتلونوا في آرائهم لتفريق الصف، وتصيير الخبال.
(١) انظر قول النضر بن شميل في: "تهذيب اللغة" (وضع) ٤/ ٣٩٠٥.
(٢) انظر: "النوادر في اللغة" لأبي زيد ص ٢٢١.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" (وضع) ٤/ ٣٩٠٥. ولم أجده في مادة (كل) و (وضع) من كتاب: العين.
(٤) في "تهذيب اللغة" بماذا.
(٥) في (ج): (أذل)، وأثبت ما في (م) و (ي) لموافقته ما في المصدر السابق.
(٦) لم أهتد إلى قائله، وانظر البيت بلا نسبة في: "تهذيب اللغة" (وضع) ١/ ٣٩٠٥، و"لسان العرب" (وضع) ٨/ ٤٨٥٩.
(٧) هكذا في جميع النسخ و"تهذيب اللغة"، وفي "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٤٠، و"لسان العرب" (وضع): (بذي. والبز: الثياب، انظر: "لسان العرب" (بزز) ١/ ٢٧٤.
أما علي رواية الفراء فقد قال المحقق في حاشية الموضع السابق: قوله: بذي، كأنه يريد: بذي الناقة، أو بذي الفرس، وقد يكون المراد: محتملاً رحلي -على صيغة اسم الفاعل- بالبعير الذي أضعه، فذي هنا موصول على لغة الطائيين.
(٨) لم أهتد لقائلهما، والبيت الثاني بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (وضع) ١/ ٣٩٠٥، و"لسان العرب" (وضع) ٨/ ٤٨٥٩، وهما بلا نسبة أيضًا في "شرح أبيات معاني القرآن" ص ٢٠١.
466
وقال الأخفش: يقال: أوضعت (١) وجئت موضعًا ولا توقعه على شيء، قال: وقد يقول بعض قيس (٢): أوضعت بعيري، فلا يكون لحنا (٣)، وقال أبو عبيد: فيما روي عنه - ﷺ - أنه أفاض من عرفة وعليه السكينة، وأوضع في وادي محسر (٤)، الإيضاع: سير مثل الخبب (٥)، فحصل من هذه الأقوال أن الإيضاع في قول أكثر أهل اللغة معناه حمل البعير على العدو، حتى لا يجوز أن يقال: أوضع الرجل: إذا سار بنفسه سيرًا حثيثًا، [وعند الأخفش وأبي عبيد يجوز أن يقال: أوضع بمعنى سار سيرًا حثيثًا] (٦) من غير أن يراد أوضع ناقته أو بعيره، وأكثر ما جاء في الشعر (أوضع) إنما جاء من غير إيقاع على شيء، قال لبيد (٧):
(١) في (ج): (وضعت)، وأثبت ما في (م) و (ي) لموافقته لـ"تهذيب اللغة".
(٢) هو جد قديم، وهو قيس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وبنوه قبائل كثيرة منه "هوازن" و"سليم" و"غطفان" و"باهلة". انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص ٢٣٢، و"الأعلام" ٥/ ٢٠٧.
(٣) انظر: قول الأخفش في "تهذيب اللغة" (وضع) ١/ ٣٩٠٥.
(٤) رواه النسائي في "سننه"، كتاب: مناسك الحج، باب: الأمر بالسكينة في الإفاضة ٥/ ٢٥٨، والدارمي في "سننه"، كتاب: المناسك، باب: الوضع في وادي محسر رقم (١٨٩١) ٢/ ٨٤، وأحمد في "المسند" ٣/ ٣٣٢، ٣٦٧، ٣٩١، وبنحوه الترمذي (٨٨٦) كتاب: الحج، باب: ما جاء في الإفاضة من عرفات.
(٥) "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ٤٦٠.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٧) لم أجد من ذكر البيت للبيد سوى الرازي ١٦/ ٨١ وهو ناقل النص من الواحدي بدلالة السياق، والمشهور أنه لامرئ القيس وهو في "ديوانه" ص ٤٣ ونسب إليه أيضاً في "الصحاح" (سحر) ٢/ ٦٧٩ مع الشك في ذلك، وعبارته: ويُنشد لامريء القيس، وذكر البيت، كما نسب إليه أيضًا في "البحر المحيط" ٥/ ٤٩، و"الدر المصون" ٢/ ٣١، و"لسان العرب" (سحر) ٤/ ١٩٥٢ وبعده في الديوان: =
467
أرانا موضعين لحتم غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
أرد: مسرعين، ولا يجوز أن يريد: موضعين (١) الإبل أو المطية؛ لأنه لم يرد السير في الطريق، وقال عمر بن أبي ربيعة:
تبالهن (٢) بالعرفان لما عرفنني..... وقُلن امرؤ باغ أكلَّ وأوضعا (٣)
والآية أيضًا تشهد لقول الأخفش وأبي عبيد.
وقوله تعالى: ﴿خِلَالَكُمْ﴾ أي: فيما بينكم، ومنه (٤) قوله: ﴿وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا﴾ [الكهف: ٣٣]، وقوله: ﴿فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ﴾ [الإسراء: ٥]، وأصله من الخلل وهو الفرجة بين الشيئين، وجمعه خلال (٥).
ومنه قوله: ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ [النور: ٤٣] (٦)، وقرئ:
= عصافير وذبان ودود.... وأجرأُ من مجلحة الذئاب
وينسب البيت أيضًا لزهير وهو في "ديوانه" ص ١٠٠ (طبعة دار صادر ودار بيروت عام ١٣٧٩ هـ) وبعده:
كما سحرت به إرم وعاد...... فأضحوا مثل أحلام النيام
ومعنى (نسحر): (نعلل، أو نخدع، وقوله: (لحتم غيب): (في المصادر السابقة: لأمر غيب، وهو يريد الموت، انظر: "البحر المحيط" و"لسان العرب"، نفس الموضع السابق.
(١) في (ي): (موضعين لحتم)، وهو خطأ.
(٢) في (ج): (تناهلن)، والصواب ما أثبته كما في "شرح الديوان"، وفيه: تباهلن: تصنعن البله وتكلفنه، وأكل: أتعب راحلته، وأوضع: أي سار أشد السير.
(٣) انظر: "شرح ديوانه" ص ١٧١.
(٤) ساقط من (ي).
(٥) في (ج): (خلا)، وهو سهو من الناسخ.
(٦) الودق: المطر. انظر: "تفسير البغوي" ٦/ ٥٤.
468
(من خَلله) (١) وهي مخارج مصب القطر، وقال الأصمعي: "تخللت القوم: إذا دخلت من (٢) خللهم وخلالهم" (٣)، ويقال: جلسنا خلال بيوت الحي، وخلال دورهم، أي جلسنا بين البيوت ووسط الدور.
قال أهل المعاني: ومعنى الإيضاع هاهنا: إسراعهم في الدخول بينهم للتضريب (٤) ينقل الكلام على التحريف (٥)، وعلى هذا المعنى دل كلام المفسرين، قال عطاء عن ابن عباس في قوله: ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾ يريد: أضعفوا شجاعتكم (٦)، يعني: بالتضريب بينهم لتفترق الكلمة فتجبنوا عن العدو، وقال الحسن: ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾ بالنميمة لإفساد ذات بينكم (٧)، هذا هو المعنى الصحيح، وقال الكلبي: يعني ساروا بينكم يبغونكم العنت (٨)، وعلى هذا قوله: ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾ عبارة عن سيرهم فيما بينهم
(١) بفتح الخاء وبلا ألف على الإفراد، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس والضحاك ومعاذ العنبري، عن أبي عمرو والزعفراني والأعمش، انظر: "مختصر في شواذ القرآن" ص ١٠٢، و"البحر المحيط" ٦/ ٤٦٤، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ٣٢٥.
(٢) في (م): (تخللت بين).
(٣) تهذيب اللغة" (خل) ١/ ١٠٩٧.
(٤) في"لسان العرب" (ضرب) ٥/ ٢٥٦٨: ضربت الشيء بالشيء وضربته: خلطته، وضربت بينهم بالشر: خلطت، والتضريب بين القوم: الإغراء.
(٥) ذكر معناه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٤٨ عن الحسن ولم أجده فيما بين يدي من كتب أهل المعاني.
(٦) لم أجده بهذا اللفظ، وانظر المعنى في: "الوجيز" ٦/ ٥١٢.
(٧) ذكره ابن الجوزي في: "زاد المسير" ٣/ ٤٤٨، وابن القيم كما في "التفسير القيم" ٢/ ٣٥٨.
(٨) رواه الثعلبي ٦/ ١١٢ ب، والبغوي ٣/ ٥٦، لكنه تصحف في "تفسير البغوي"، فقال: العيب.
469
فقط، وقوله تعالى: ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ حال لهذا السير ولهم، وقال أصحاب العربية في قوله: ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾: أي أوضعوا مراكبهم خلالكم (١)، وهو قول أبي الهيثم (٢)، ونحوه الكسائي: خيبوا (٣) ركائبهم فيما بينكم (٤).
ولا يكون في (٥) هذا ذمًا لهم إلا أن يحمل هذا على معنى قول الكلبي، وقال ابن الأعرابي: أي: لأسرعوا في الهرب خلالكم (٦)، ونحوه قال ابن الأنباري: أسرعوا الفرار في أوساطكم (٧)، وهذا قول بعيد؛ لأن لفظ الآية ليس يدل على معنى الهرب، [وأي فائدة لقوله في (٨) ﴿خِلَالَكُمْ﴾ لو أراد بالإيضاع: الهرب] (٩)، وقال أبو إسحاق: أي: ولأسرعوا فيما يخل بكم (١٠)، وهذا راجع إلى القول الأول وهو أنه إسراع بالنميمة، والنميمة (١١) مما يخل بهم.
(١) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٤٠، و"تهذيب اللغة" (وضع) ٤/ ٣٩٠٦، و"لسان العرب" (وضع) ٨/ ٤٨٥٩.
(٢) انظر: قوله في "تهذيب اللغة" (وضع) ٤/ ٣٩٠٦.
(٣) الخبب: ضرب من العدو. انظر: "مجمل اللغة" (خب) ٢/ ٢٧٧.
(٤) لم أجده فيما بين يدي من مصادر.
(٥) في (ي): (على).
(٦) لم أجده فيما بين يدي من مصادر.
(٧) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١١٢ ب، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ٤٩.
(٨) كذا. ولا معنى لذكر لفظ (في).
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(١٠) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥١.
(١١) ساقط من (ي).
470
وقوله (١): يخل بكم، ليس من لفظ الخلال (٢)، ولا بتفسير له، بل هو مضمن في الإيضاع يعني: ولأوضعوا مخلين بكم بالنميمة، وليس الخلال من الإخلال في شيء، هذا معنى قول أبي إسحاق (٣)، وكتب في المصاحف ﴿وَلَأَاوْضَعُوا﴾ بزيادة ألف ومثله: ﴿أَوْ لَأَاذْبَحَنَّهُ﴾ [النمل: ٢١] في بعضها، قال الفراء: وهو من سوء هجاء الأولين، وقال الزجاج: إنهم كانوا في ذلك الزمان يكتبون الفتحة ألفًا ولم يكن ذلك من هجاء العرب، والكتابة بالعربية ابتدئ به بقرب نزول القرآن فوقع فيه زيادات في أمكنة (٤)
(١) يعني الزجاج في قوله السابق.
(٢) في (ي): (الخيال)، وهو خطأ.
(٣) يعني الذي تقدم ذكره.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٢، ووافقه الزمخشري أيضاً في "الكشاف" ٢/ ١٩٤ وخالفهم الإمام أبو عمرو الداني الذي بين أن زيادة الألف هنا لفائدة فقال: أما زيادة الألف في (لأاوضعوا) و (لأاذبحنه) فلمعان أربعة، هذا إذا كانت الزائدة فيهما المنفصلة عن اللام، وكانت الهمزة هي المتصلة باللام، وهو قول أصحاب المصاحف: فأحدها: أن تكون صورة لفتحة الهمزة، من حيث كانت الفتحة مأخوذة منها.
والثاني: أن تكون الحركة نفسها، لا صورة لها، على مذهب العرب في تصوير الحركات حروفًا.
والثالث: أن تكون دليلًا على إشباع فتحة الهمزة وتمطيطها في اللفظ؛ لخفاء الهمزة، وبعد مخرجها، وفرقًا بين ما يحقق من الحركات، وبين ما يختلس منهن، وليس ذلك الإشباع والتمطيط بالمؤكد للحروف، إذ ليس من مذهب أحد من أئمة القراءة، وإنما هو إتمام الصوت بالحركة لا غير.
والرابع: أن تكون تقوية للهمزة وبيانًا لها.
وإذا كانت الزائدة من إحدق الألفين المتصلة في الرسم باللام، وكانت الهمزة هي المنفصلة عنها وهو قول الفراء وأحمد بن يحيي من النحاة -فزيادتها لمعنيين: =
471
وقوله تعالى: ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ أي: يبغون لكم، قال كعب بن زهير:
إذا ما نتجنا أربعًا عام كفأة بغاها خناسيرًا فأهلك أربعًا (١)
أي: بغى لها خناسير، وهي الدواهي، ومعنى بغى هاهنا: طلب.
الأصمعي: يقال ابغني كذا أي: اطلبه لي، ومعنى ابغني وابغ لي سواء، وإذا قال: أبغني فمعناه أعنيِّ على بُغائه (٢).
أبو عبيد عن الكسائي: أبغيتك (٣) الشيء، إذا أردت: أعنته على
= أحدهما: الدلالة على إشباع فتحة اللام وتمطيط اللفظ بها.
والثاني: تقوية للهمزة، وتأكيدًا لها وبيانًا. "المحكم في نقط المصاحف" للداني ص ١٧٦، ١٧٧.
(١) البيت في "شرح ديوان كعب بن زهير"، ونسب إليه أيضًا في "تهذيب اللغة" (بغى) ١/ ٣٦٧، و"تهذيب إصلاح المنطق" ص ٢٩٢.
وفي المصدر الأخير: نتج فلان إبله كَفأة وكُفأة: وهو أن يفرق إبله فرقتين، فيُضرب الفحل العام إحدى الفرقتين، ويدع الأخرى، فإذا كان العام المقبل أرسل الفحل في الفرقة التي لم يكن أضربها الفحل في العام الماضي، وترك التي أضربها في العام الماضي؛ لأن أفضل النتاج أن يُحمل على الإبل الفحول عاما، وتترك عامًا.. ونتج الرجل الناقة: إذا ولدت عنده، يقول: إذا نُتجت أربع من إبله أربعة أولاد، هلك من إبله الكبار أربع، فيكون ما هلك منه أعظم مما أصاب، والخناسير: الهُلاك، لا واحد له وفي (بغاها) ضمير من الجد -يعني: الحظ- هو الفاعل. "تهذيب إصلاح المنطق" ٢٩١ - ٢٩٢ مختصرًا.
وقال السكري في "شرح الديوان" ص ٢٢٧: يقول: إنه من شؤم حظه إذا نتج أربع نوق أتت الدواهي فأهلكتهن.
(٢) "تهذيب اللغة" (بغى) ١/ ٣٦٧.
(٣) في (ج) و (ي): (بغيتك)، هنا أثبته من (م) وهو موافق لمصدري تخريج القول.
472
طلبه، فإذا أردت أنك فعلت ذلك له (١) قلت: بغيته، وكذلك أعكمتك (٢)، وأحلبتك (٣): إذا أعنته، وعكمتك العكم (٤): أي فعلته لك (٥)، ونحو هذا قال الفراء (٦)، ومعنى الفتنة هاهنا: النفاق في قول ابن عباس (٧)، والشرك، في قول محمد بن مسلم (٨)، باختلاف كلمتهم وافتراقهم فيما بينهم وذلك شرك ونفاق، وهو أن يختلفوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- (٩)، وقال الكلبي: يبغونكم العنت، يبطئونكم (١٠) (١١).
(١) ساقط من (ي).
(٢) في (ج): (علمتك، وما في (ي): (موافق لما في "تهذيب اللغة" "لسان العرب"، يقال: عكم المتاع يعكمه عكمًا: شده بثوب، وهو أن يبسطه ويجعل فيه المتاع ويشده، ويسمى حينئذ عكمًا، والعكام، ما عكم به، وهو الحبل الذي يعكم عليه. "لسان العرب" (عكم) ٥/ ٣٠٦.
(٣) كذا في جميع النسخ، وكذلك في "تفسير الثعلبي"، ولفظ "تهذيب اللغة" و"لسان العرب":
أحملتك، أي: أعنتك على حمل المتاع، ومعنى أحلبتك: أعنتك على حلب الناقة ونحوها كما فسره الثعلبي في "الكشف والبيان" ٦/ ١١٢ ب.
(٤) في (ج): (علمتك العلم)، والصواب ما أثبته وهو موافق لمصدري تخريج القول.
(٥) انظر: قول الكسائي في "تهذيب اللغة" (بغى) ١/ ٣٦٧، و"لسان لعرب" (بغا) ١/ ٣٢٢.
(٦) انظر: "معاني القرآن" له ١/ ٤٤٠.
(٧) لم أقف على مصدر هذا القول.
(٨) يعني ابن قتيبة، انظر: "تفسير غريب القرآن"، له ص ١٩٦.
(٩) قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٩٧ - ٣٩٨ عند تفسير قول الله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾: فليحذر وليخشى من خالف شريعة الرسول باطنًا وظاهرًا (أن تصيبهم فتنة) أي: في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة.
(١٠) في (ي): (يبغونكم الفتنة يثبطونكم).
(١١) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١١٢ ب، والبغوي في "تفسيره" ٤/ ٥٦ بلفظ: العنت والشر.
473
وقوله تعالى: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ أي: عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم، هذا قول مجاهد (١) وابن زيد (٢) والكلبي (٣)، وقال قتادة: وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم (٤)، وقال ابن إسحاق: وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة [فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم (٥)، ومعناه على هذا: وفيكم أهل سمع لهم وطاعة] (٦) لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم (٧) بتثبيطهم إياهم عن (٨) السير معكم، وكل هذا إخبار عن حال المنافقين من حرصهم على خبال المؤمنين وطلب الغوائل لهم (٩).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾، قال ابن عباس: (يريد المنافقين) (١٠).
(١) رواه ابن جرير١٠/ ١٤٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٠٩، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٤٣.
(٢) رواه ابن جرير١٠/ ١٤٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٠٩.
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٤٦، والثعلبي ٦/ ١١٢ ب.
(٥) "السيرة النبوية" لابن هشام ٤/ ٢٠٨.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٧) في (ي): (عليك).
(٨) في (ي): (على).
(٩) المنافق لا يخرج للجهاد إلا تقية وخوفًا من المسلمين، أو طمعًا في غنيمة، ثم هو ذو قلب حائر يبث الخور والضعف في الصفوف، وذو نفس خائنة تمثل خطرًا على الجيش، فمثله لا يزيد المسلمين قوة، بل فوضى واضطرابًا، وفتنة وتفريقًا، وهي العامل الأساسي في انهيار الجيوش وهزيمتها.
(١٠) "تنوير المقباس" ص ١٩٤، و"الوسيط" ٢/ ٥٠١.
474
٤٨ - قوله تعالى: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ﴾، قال ابن عباس: "طلبوا لك العنت والشرمن قبل تبوك" (١)، قال العوفي وابن جريج: وهو أن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة (٢) ليفتكوا بالنبي - ﷺ - (٣).
وقال كثير من المفسرين: يعني: طلبوا صد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر وتخذيل الناس عنك قبل هذا، وهو ما فعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه (٤)، فمعنى الفتنة هاهنا: الاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة، وهو الذي طلبه المنافقون للمؤمنين فسلمهم الله منهم (٥).
(١) "تنوير المقباس" ص ١٩٥، بنحوه وهو في "زاد المسير" ٣/ ٤٤٨ مختصرًا.
(٢) المراد بذلك: ليلة هبوط العقبة في غزوة تبوك كما سيأتي.
(٣) ذكره عن ابن جريج الإمام القرطبي في "تفسيره" ٨/ ١٥٧، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ٥٠، وقد روى القصة الإمام أحمد في "المسند" ٥/ ٤٥٣ عن أبي الطفيل، قال: لما أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك، أمر مناديًا فنادى إن رسول الله - ﷺ - آخذ العقبة فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوده حذيفة، ويسوق به عمار إذا أقبل وهي متلثمون على الرواحل غشوا عمارًا وهو يسوق برسول الله - ﷺ - أو أقبل عمار يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحذيفة: "قد قد" حتى هبط رسول الله - ﷺ - فلما هبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نزل، ورجع عمار، فقال: "يا عمار هل عرفت القوم؟ " فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون، قال: "هل تدري ما أرادوا؟! " قال: الله ورسوله أعلم، قال: "أرادو اأن ينفروا برسول الله - ﷺ - فيطرحوه" الحديث، وأصله في "صحيح مسلم" (٢٧٧٩/ ١١)، كتاب: صفات المنافقين.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٤٧، والثعلبي /١١٣ أ، والبغوي ٤/ ٥٦، وكان عبد الله بن أبي انخزل عن رسول الله - ﷺ - يوم أحد بثلث الجيش. انظر: "السيرة النبوية" ٤/ ٢٠٨.
(٥) وهذا ما اعتمده الشوكاني في "تفسيره" ٢/ ٥٣٤، ويري ابن جرير أن الفتنة: صد =
وقوله تعالى: ﴿وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ﴾ تقليب الأمر: تصريفه وترديده للتدبير يعني: اجتهدوا في الحيلة عليك، والكيد بك، قال ابن عباس وابن إسحاق: "أداروا (١) لك الأمور، وبغوا لك الغوائل ليخذلوا عنك أصحابك ويردوا عليك أمرك" (٢).
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ﴾ إلى آخره، أي: حتي أخزاهم الله بإظهار الحق، وإعزاز الدين على رغم منهم وكره (٣).
٤٩ - وقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي﴾، قال ابن عباس والمفسرون كلهم: نزلت في جد بن قيس (٤) المنافق، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أرادوا غزو تبوك: "هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر -[يعني:
= المؤمنين عن دينهم، وحصرهم على رده إلى الكفر بالتخذيل عنه، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٤٧.
(١) في (ي): (إذا رأوا)، وسقط لفظ (لك) من (م).
(٢) لفظ ابن عباس: بغوا لك الغوائل، كما في "زاد المسير" ٣/ ٤٤٨، و"تنوير المقباس" ص ١٩٥، ولفظ ابن إسحاق: ﴿وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ﴾: أي: ليخذلوا عنك أصحابك، ويردوا عليك أمرك) كما في "السيرة النبوية" ٤/ ٢٠٨.
(٣) في (م): (على كره منهم ورغم).
(٤) هو: جد بن قيس بن صخر بن خنساء أحد بني جشم بن الخزرج ثم من بني سلمة، كان سيد بني سلمة، وروى الطبراني وابن منده بسند قوي -كما يقول الحافظ ابن حجر- أنه ممن شهد بيعة العقبة، وذكر عنه عدة روايات تصمه بالنفاق، لكن أسانيدها لا تخلو من ضعف، وروى عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة في قوله تعالى: ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ قال: هم نفر ممن تخلف عن غزوة تبوك منهم أبو لبابة ومنهم جد بن قيس ثم تيب عليهم، مات الجد في خلافة عثمان.
انظر: "تفسير عبد الرزاق" ١/ ٢/ ٢٨٦، و"الإصابة في تمييز الصحابة" ١/ ٢٢٨ (١١١٠).
476
الروم] (١) - تتخذ منهم سراري ووصفاء؟ " وكان (٢) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرض المؤمنين على غزاة بني الأصفر، وقال: "إن الله تعالى أمرني أن أغزوهم"، وقال (٣): "إنكم لن تغزوا أكرم أحسابًا (٤)، ولا أصبح وجوهًا، ولا أعذب أفواهًا منهم (٥) ". فقال جد: ائذن لي في القعود عنك، وأعينك بمالي فقد عرف قومي أني مغرم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بنات الأصفر ألا أصبر عنهن، فأنزل الله هذه الآية: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ﴾ (٦).
قال ابن عباس: يريد جد بن قيس، ﴿ائْذَنْ لِي﴾ في التخلف، ﴿وَلَا تَفْتِنِّي﴾، قال: يريد لصباحة وجوههم، وعذوبة أفواههم (٧)، يعني: لا تفتني ببنات الأصفر، [فإني مستهتر (٨) بالنساء، وهذا قول مجاهد (٩)،
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٢) في (ج): (قال).
(٣) في (ج): زيادة لا معنى لها، ونصها: (إن الله تعالى).
(٤) في (ج): (أجسامًا).
(٥) ساقط من (ج).
(٦) رواه بنحوه الطبراني في "الكبير" (١٢٦٥٤) ١٢/ ١٢٢ من طريق الضحاك عن ابن عباس، وإسناده ضعيف كما في "مجمع الزوائد" ٧/ ١٠٦، ورواه مختصرًا ابن جرير من طريق حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس. وفي سنده انقطاع بين ابن عباس وابن جريج، ورواه مختصرًا أيضًا الطبراني في "الكبير" رقم (١١٠٥٢) ١١/ ٦٣ دون ذكر الاسم، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١٠٦ فيه أبو شيبة إبراهيم بن عثمان، وهو ضعيف.
(٧) رواه بنحوه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٧٧ عن الكلبي.
(٨) في (م): (مشتهر)، ومعناهما متقارب، إذ الاستهتار، الولوع بالشيء والإفراط فيه انظر: "لسان العرب" (هتر) ٥/ ٢٤٩.
(٩) رواه ابن جرير ١٠/ ١٤٨ وهو مرسل.
477
وقتادة (١)، وابن جريج (٢)، واختيار الفراء (٣)، والزجاج (٤)، قال ابن عباس: اعتل جد بن قيس بقوله: ولا تفتني ببنات الأصفر] (٥) ولم يكن له علة إلا النفاق، وكراهة الخروج (٦)، وقال الحسن: ﴿وَلَا تَفْتِنِّي﴾ لا تهلكني في ضيعتي ومالي بالخروج معك (٧)، ونحو هذا قال ابن زيد: ﴿وَلَا تَفْتِنِّي﴾ أي: إن لم تأذن لي افتتنت وعصيت (٨)، وقال الضحاك: إلا تحرجني) (٩)، وقال قتادة: (لا تؤثمني) (١٠)، وقال أبو العالية: (لا تعرضني
(١) لم أجد من ذكره عن قتادة، لكن روى ابن جرير ١٠/ ١٤٨ عنه تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَفْتِنِّي﴾ قال: ولا تؤثمني، ألا في الإثم سقطوا، ولم يذكر الجد، وقد روى عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/٢٨٦ بسند صحيح ما يدل على أن قتادة يرى أن الجد بن قيس من المؤمنين الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا، وقد تيب عليه، وليس من المنافقين.
(٢) المذكور في "كتب التفسير" قول ابن جريج، عن ابن عباس، انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٤٨.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤٤٠.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥١ ولم يسم المنافق الذي قال ذلك.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٦) رواه البغوي ٤/ ٥٧ بنحوه، وفي تفسير البغوي إشكال علمي أفقده بعض قيمته العلمية، حيث أنه ذكر أسانيده في المقدمة فقط، فإذا كان المفسر كابن عباس مثلاً له عدة أسانيد بعضها صحيح، وبعضها ضعيف أو مكذوب، اختلطت الأقوال ببعضها، ولم يستطع الباحث الحكم على الأثر ما لم يرد في كتاب آخر الأسانيد مفصلة، ومثل البغوي أبو إسحاق الثعلبي.
(٧) أشار إلى معناه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٤٩.
(٨) رواه ابن جرير ١٠/ ١٤٩.
(٩) رواه أبو الشيخ مطولاً كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٤٥.
(١٠) رواه ابن جرير ١٠/ ١٤٩، والثعلبي ٦/ ١١٣ أ.
478
للفتنة) (١)، فقول قتادة وأبي العالية يحتمل الوجهين (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾، قال ابن كيسان: يريد أن اعتلالهم بالباطل هو الفتنة لأنها الشرك والكفر (٣)، وقال الزجاج: أعلم الله أنهم قد سقطوا في الإثم (٤)، وقال قتادة: فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والرغبة بنفسه عنه أعظم (٥)، قال المفسرون: أي في الشرك والإثم وقعوا بنفاقهم وخلافهم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (٦)، قال أهل المعاني: وهذا بيان عما يوجبه التعليل (٧) بالباطل من أنه ينقلب على صاحبه حتى يقع به (٨)، وجمع الكناية في قوله: ﴿سَقَطُوا﴾ لأنه أراد جدًّا وأصحابه من المنافقين المتخلفين.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ يقول (٩): هي من ورائهم يصيرون إليها بأعمالهم الخبيثة، وقال يمان: هي محدقة بمن كفر بالله جامعة لهم (١٠).
(١) لم أقف عليه.
(٢) يعني الفتنة بالنساء أو الفتنة بالتخلف وعصيان أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
(٣) ذكره في "الوسيط" ٢/ ٥٠٢.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٢.
(٥) هذا اللفظ رواه ابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ١٤٨ عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة وغيره، والنص في "سيرة ابن هشام"، أما ما روي عن قتادة في هذه الجملة فلفظه: "ألا في الإثم سقطوا". انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٤٩.
(٦) انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٥٤، والثعلبي ٦/ ١٣ أ، والبغوي ٤/ ٥٧.
(٧) في المصدر التالي: (التعلل)، وهو أصوب.
(٨) "البرهان في علوم القرآن" للحوفي ١١/ ١٩٧.
(٩) من (م).
(١٠) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٢.
479
٥٠ - قوله تعالى: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾، قال ابن عباس والمفسرون: يريد النصر والغنيمة ﴿وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ﴾ من القتل والهزيمة (١)، ﴿يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ﴾، قال ابن عباس: يريد: قد أخذنا حذرنا حين تخلفنا (٢)، ونحو ذلك قال مجاهد (٣)، ووَال الزجاج: أي قد عملنا بالحزم في التخلف (٤)، قال أهل المعاني: كأنه قيل: قد أخذنا أمرنا عن مواضع الهلكة، فسلمنا مما وقعوا (٥) فيه (٦).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل هذه المصيبة ﴿وَيَتَوَلَّوْا﴾، قال الكلبي: (عن الإيمان) (٧)، ﴿وَهُمْ فَرِحُونَ﴾: معجبون بذلك (٨) وهذا بيان عما توجبه العداوة من الاغتمام بتجدد النعمة والفرح بلحاق المصيبة.
٥١ - قوله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ أي: لن يصبنا خير وشر وشدة ورخاء إلا وهو مقدر علينا، مكتوب في اللوح
(١) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "التنوير المقباس" ص ١٩٥، وبمعناه ابن جرير ١٠/ ١٥٠، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٤٥، واعتمده الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣ ب، والبغوي ٤/ ٥٧، والسمرقندي ٢/ ٥٥ وغيرهم.
(٢) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٥، وانظر: "الوجيز" ٦/ ٥١٧.
(٣) رواه ابن جرير١٠/ ١٥٠ وابن أبي حاتم ٦/ ١٨١١، وهو في "تفسير مجاهد" ص ٣٧٠.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٢.
(٥) في (ج): (وقعنا)، وهو خطأ.
(٦) "البرهان" للحوفي ١١/ ٢٠١ بنحوه.
(٧) لم أقف عليه في مصدرآخر.
(٨) ساقط من (ي).
480
المحفوظ، وهذا معنى قول الحسن (١)، ومقاتل (٢)، ونظير هذه الآية قوله: (ما أَصابَ (٣) مِنْ مُصِيْبَةٍ في الأَرْضِ ولا في أَنْفُسِكُم (٤)) الآية [الحديد: ٢٢]، وقال ابن عباس: يريد: ما قضى الله لنا من الشهادة (٥)، وهذا كأنه جواب لهم عن شماتتهم بهم (٦) إذا أصابتهم مصيبة، أي إن أعظم ما يصيبنا القتل وهو شهادة لنا، فليس يصيبنا غير هذا، وعلى هذا القول ﴿مَا كَتَبَ اللَّهُ﴾ مخصوص هاهنا بالشهادة، وفي القول الأول عام في كل ما يصيب.
قال الزجاج: وفيه وجه آخر: ﴿لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ أي: بين الله لنا في كتابه من أنا نظفر فيكون ذلك حسنى لنا، أو نقتل فتكون الشهادة حسنى لنا أيضاً، أي فقد كتب الله ما يصيبنا وعلمنا ما لنا فيه من الحظ (٧).
والأكثرون من المفسرين على القول الأول (٨)، وقالوا: هذا يدل على أن أمر (٩) العباد يجري على تقدير قد أحكم، وتدبير قد أبرم (١٠)،
(١) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٧١.
(٢) انظر: "تفسيره" ص ١٣٠ أ.
(٣) في (ي): (ما أصابكم)، وهو خطأ.
(٤) في (ج): (ولا في السماء)، وهو خطأ.
(٥) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٥٠، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٥ مختصرًا.
(٦) من (م).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٢ بتصرف وهذا القول فيه بعد وتكلف، والظاهر هو القول الأول وأنه عام في كل مصيبة، وهو الذي تدل عليه نظائر الآية.
(٨) وهو ما اعتمده ابن جرير١٠/ ١٥٠، والثعلبي ٦/ ١٣ ب، والبغوي ٤/ ٥٧، وابن كثير ٢/ ٣٩٩.
(٩) في (ج): (من)، هو خطأ.
(١٠) في (في): (أدبر).
481
فلا يحدث في الكائنات شيء إلا وقد جرى به قضاء سابق.
وقوله تعالى: ﴿هُوَ مَوْلَانَا﴾، قال ابن عباس: (ناصرنا) (١)، وقيل: الذي يتولى حياطتنا ودفع الضرر عنا (٢)، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، أي: وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم على الرضا بتدبيره والثقة بحسن اختياره، قال أصحاب المعاني: وهذا بيان عما يوجبه إظهار شماتة الأعداء من الإقرار بأنه لا يصيب العبد إلا ما قضى (٣) عليه والتسليم لأمره، والتوكل عليه.
٥٢ - قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ الآية، يقال: فلان يتربص بفلان الدوائر: إذا كان ينتظر وقوع (٤) مكروه (٥) به، وهذا مما سبق الكلام فيه (٦)، وقال أهل المعاني: التربص: التمسك بما ينتظر به مجيء حينه، وكذلك قيل: تربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره (٧)، وابن عباس والمفسرون يقولون في التربص هاهنا: الانتظار (٨) والحسنى: تأنيث الأحسن.
(١) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٧١ من غير نسبة.
(٢) انظر: "الوسيط" ٢/ ٥٠٣، و"البحر المحيط" ٥/ ٥٢.
(٣) هكذا في جميع النسخ، والسياق يقتضي أن يقول: ما قضى الله عليه.
(٤) ساقط من (م).
(٥) في (ي): (المكروه).
(٦) انظر: "تفسير البسيط" المائدة: ٥٢.
(٧) انظر معنى التربص في: "تهذيب اللغة" (ربص) ٢/ ١٣٤٤، و"لسان العرب" (ربص) ٣/ ١٥٥٨.
(٨) "البرهان" للحوفي ١١/ ٢٠٣ أ، و"تنوير المقباس" ص ١٩٥، و"الوسيط" ٢/ ٥٠٣، عن ابن عباس، وانظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٥١، والثعلبي ٦/ ١١٤ أ، والبغوي ٤/ ٥٧.
482
قال ابن عباس وجميع المفسرين في: ﴿إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ يعني الغنيمة والفتح، أو (١) الشهادة والمغفرة (٢)، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرج إلا إيمانًا بالله وتصديقًا لرسوله أن يرزقه الشهادة، أو يرده إلى أهله مغفورًا نائلاً ما نال من أجر وغنيمة" (٣).
أخبرناه (٤) الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم (٥)، قال: أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسن المفسر (٦) قال (٧): أنبأ أبو بكر محمد ابن أحمد بن جعفر العدل (٨)، ثنا أبو (٩) عبد الله محمد بن إبراهيم
(١) في (ج): (و).
(٢) أخرجه ابن عباس الإمام ابن جرير ١٠/ ١٥١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨١٢، وهو قول مجاهد وقتادة وابن جريج.
انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٥١، والبغوي ٤/ ٥٧.
(٣) رواه بنحوه البخاري (٣١٢٣)، كتاب: الخمس، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أحلت لكم الغنائم" رقم، ومسلم (١٨٧٦) كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد، ورواه بلفظه الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١١٤ أ.
(٤) في (ج): (أخبرنا).
(٥) هو: الثعلبي المفسر.
(٦) هو: الحسن بن الحسن بن حبيب بن أيوب، أبو القاسم النيسابوري الواعظ المفسر، كان إمام عصره في معاني القرآن وعلومه، أديبًا نحويًّا، عارفًا بالمغازي والسير، وسمع الحديث الكثير، وله مصنفات في القراءات والتفسير والآداب، توفي سنة ٤٠٦ هـ.
انظر: "العبر" ٢/ ٢١٢، و"طبقات المفسرين" للداودي ١/ ١٤٤.
(٧) ساقط من (ج) و (م).
(٨) لم أقف على ترجمة له فيما بين يدي من مصادر.
(٩) ساقطة من (ي).
483
العبدي (١)، ثنا أبو بكر أمية بن بسطام (٢)، أنبأ يزيد بن زريع (٣)، عن روح ابن القاسم (٤)، عن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - فذكر الحديث.
وأخبرناه أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن إبراهيم بن يحيي التميمي (٥) أنبا أبو عمرو إسماعيل بن أبي أحمد السلمي (٦)، أنبا،
(١) هو: محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الرحمن العبدي، أبو عبد الله البوشنجي المالكي النيسابوري الإمام العلامة الحافظ، ذو الفنون، شيخ أهل الحديث في عصره بنيسابور، ارتحل في طلب الحديث ولقي الكبار، وصنف، وسار ذكره، وبعد صيته. توفي في غرة محرم سنة ٢٩١ هـ.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٥٨١، و"تذكرة الحفاظ" ٢/ ٦٥٧، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٤٨٩.
(٢) هو: أمية بن بسطام بن المنتثسر، أبو بكر العيشي البصري، الحافظ الثقة، حدث عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ومات سنة ٢٣١ هـ.
انظر: "التاريخ الكبير" ٢/ ١١، و"سير أعلام النبلاء" ١١/ ٩، و"تهذيب التهذيب" ١/ ١٨٧.
(٣) هو: يزيد بن زريع العيشي، أبو معاوية البصري، ثقة ثبت حافظ، إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وهو من رجال الصحيحين والسنن الأربع، توفي سنة ١٨٢ هـ. انظر: "الكاشف" ٢/ ٣٨٢، و"تقريب التهذيب" ٦٠١ (٧٧١٣)، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٤١١.
(٤) هو: روح بن القاسم التميمي العنبري، أبو غياث البصري، كان ثقة ثبتًا حافظًا متقنًا، وهو من رجال الكتب الستة، توفي سنة ١٤١ هـ. انظر: "الكاشف" ١/ ٣٩٩، و"تقريب التهذيب" ٢١١ (١٩٧٠)، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٦١٦.
(٥) تقدمت ترجمته عند ذكر شيوخ الواحدي.
(٦) هو: إسماعيل بن نُجيد بن أحمد بن يوسف السلمي، النيسابوري، الصوفي، كبير الطائفة، وصنمه الذهبي بقوله: شيخ عصره، ومسند مصره. سمع عبد الله بن أحمد ابن حنبل ومحمد بن إبراهيم العبدي وغيرهما، وروى عنه جماعة منهم أبو منصور =
484
العبدي فذكره بإسناده، وقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٧٤].
وقوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ﴾، قال ابن عباس: ننتظر بكم (١)، ﴿أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ (٢)، قال: يريد بقارعة من السماء (٣)، وقال الكلبي: بعذاب من عنده كما أصاب الأمم الخالية (٤).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ بِأَيْدِينَا﴾، قال ابن عباس: يريد بإذن الله لنا في قتلكم فنقتلكم (٥)، وقال ابن كيسان: أي إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلناكم (٦).
وقوله تعالى: ﴿فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾، قال ابن عباس: فانتظروا (٧) إنا معكم منتظرون (٨)، وقال الحسن: فتربصوا مواعيد الشيطان
= البغدادي وأبو عبد الله الحاكم، وتوفي سنة ٣٦٥ هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٦/ ١٤٦، و"تاريخ الإسلام" (وفيات سنة ٣٦٥ هـ) ص ٢٣٥، و"الإكمال" لابن ماكولا ١/ ١٨٨.
(١) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٣، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٥.
(٢) في (ي): (زيادة نصها: كما أصاب الأمم الخالية. اهـ. وهي التباس من الناسخ بسبب الجملة التالية.
(٣) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١١٤ أبلفظ: الصواعق، ومثله ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٥١.
(٤) لم أجد من نسبه للكلبي، وقد اعتمده الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١١٤ أ، والبغوي ٤/ ٥٨، والقرطبي ٨/ ١٦٠ وغيرهم.
(٥) ذكره ابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ١٥١، مختصرًا من رواية ابن جريج وهي منقطعة.
(٦) لم أجد من ذكره عنه، وقد اعتمده الثعلبي في"تفسيره" ٦/ ١١٤ أ.
(٧) في (ج): (وانتظروا).
(٨) "تنوير المقباس" ص ١٩٥.
485
إنا معكم متربصون مواعبد الله، من إظهاره دينه واستئصال من خالفه (١) وكان الشيطان يمني المنافقين موت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور: ٣٠].
وقال أبو إسحاق: يقول أنتم تربصون بنا إحدى الحسنيين، ونحن نتربص بكم إحدى السوأتين (٢) فبين ما تنتظرونه وننتظر (٣) فرق عظيم (٤).
وقال أهل المعاني: ومعنى صيغة الأمر في قوله: فتربصوا التهدد (٥)، وذلك أن تربصهم تمسك بما يؤدي إلى الهلاك، وتربص المؤمنين تمسك بما يؤدي إلى النجاة، وهذا بيان عما يوجبه اختلاف أحوال المحق والمُبطل.
٥٣ - قوله تعالى: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾، قال ابن عباس: نزلت في جد بن قيس حين قال للنبي - ﷺ -: ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به (٦)، قال الفراء والزجاج: هذا لفظ أمر، ومعناه معنى الشرط والجزاء، المعنى: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين لن يتقبل منكم، وأنشدا قول كُثّير:
(١) رواه الثعلبي ٦/ ١١٤ أ، والبغوي ٤/ ٥٨.
(٢) في "معاني القرآن وإعرابه": الشرتين. وفي "الوسيط" ٢/ ٠٥٠٣ السوأتين أيضاً لكن المحققين أبدلوا اللفظ إلى: الشرين.
(٣) في (ج): (وينتظرون)، وفي "معاني القرآن وإعرابه": وننتظره.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٢.
(٥) انظر: "مفاتيح الغيب" ١٦/ ٩٠ ولم أجده عند أهل المعاني.
(٦) رواه ابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ١٥٢ بسند منقطع. ورواه أيضًا الثعلبي ٦/ ١١٤ أ، والبغوي ٤/ ٥٨، وقد سبق بيان أن أسانيد الثعلبي والبغوي لا يتميز غثها من سمينها وصحيحها من ضعيفها بسبب اكتفائهما بذكر الأسانيد في المقدمة.
486
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة..... لدينا ولا مقلية إن تقّلت (١) (٢)
قال الزجاج: فلم يأمرها بالإساءة ولكن أعلمها أنها إن أساءت أو أحسنت فهو على عهدها (٣)، ووقوع الأمر في موقع الخبر كوقوع لفظ الخبر في معني الأمر في الدعاء كقولك: غفر الله لفلان ورحمه، ومعناه: اغفر له وارحمه. قال الفراء: ومثل هذه الآية في قوله: ﴿أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [المنافقون: ٦] الآية (٤)، ونذكره في موضعه إن شاء الله (٥)، وقال ابن عباس في قوله: ﴿طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ يريد: طائعين أو كارهين (٦).
وقوله تعالى: ﴿لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ﴾ الآية، قال (٧): يريد [أنه (٨) لا يتقبل من أعدائه صدقاتهم ونفقاتهم (٩)، ﴿إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ قال:
(١) انظر: "ديوانه" ١/ ٥٣، ونسب إليه في "لسان العرب" (قلا) ٦/ ٣٧٣١، و"زاد المسير" ٣/ ٤٥١، ومعنى (تقلت) أي: تقلبت بمعنى: تبغضت. انظر: "اللسان"، الموضع السابق.
(٢) الكلام السابق كله للزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٣، وللفراء نحوه في "معاني القرآن" ١/ ٤٤١.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه"، الموضع السابق.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٤٤١.
(٥) قال في هذا الموضع: (.. ثم ذكر أن استغفاره لا ينفعهم، فقال: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾. قال قتادة ومقاتل: نزلت هذه الآية بعد قوله: ﴿أَسْتَغْفَرَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ الآية، ولك أنها لما نزلت قال نبي الله - ﷺ -: "خيرني ربي فلأزيدنهم على السبعين"، فأنزل الله هذه الآية).
(٦) "تنوير المقباس" ص ١٩٥ بمعناه.
(٧) ساقط من (ج) والقائل ابن عباس.
(٨) ساقط من (ج).
(٩) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٤.
487
يريد] (١) عاصين لله على غير طريقة الإسلام (٢).
٥٤ - وقوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ﴾ وقرئ: يقبل بالياء (٣)، فمن قرأ بالتاء فلأن الفعل مسند إلى مؤنث، ومن قرأ بالياء ذهب إلى أن النفقات (٤) بمعنى الإنفاق (٥)، كقوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ﴾ [البقرة: ٢٧٥].
قال الفراء والزجاج وجميع النحويين: موضع (أن) الأولى نصب، والثانية في قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ رفع، والتقدير: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم (٦)، قال أهل العلم: وهذه الآية دليل على أن الكافر لا يقبل له عمل ولا يكتب له معروف، فإن أسلم كتب له ما أتاه من طاعة في الشرك (٧).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٢) "الوسيط"، الموضع السابق. وفي "تنوير المقباس" ص ١٩٥: منافقين.
(٣) قرأ حمزة والكسائي وخلف (أن يقبل) بالياء، والباقون بالتاء. انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٥، و"إرشاد المبتدي" ٣٥٣، و"تحبير التيسير" ص ١٢٠.
(٤) في (ي): (النفاق)، وهو خطأ.
(٥) ذكر أبو علي الفارسي في "الحجة" ٤/ ١٩٦ وجهًا آخر للقراءة بالياء وهو أن التأنيث غير حقيقي.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٤٢، و"معاني القرآن واعرابه" للزجاج ٢/ ٤٥٣، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢٥، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي ص ٣٣٠.
(٧) انظر: "المحرر الوجيز" ٦/ ٥٢٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ١٦١، و"صحيح مسلم بشرح النووي" ٢/ ١٤٠، و"فتح الباري" ١/ ٩٩، وقد ذكر النووي رحمه الله أقوالاً كثيرة ثم قال: (وذهب ابن بطال وغيره من المحققين إلى أن الحديث -يعني: حديث حكيم الذي ذكره المؤلف- على ظاهره، وأنه إذا أسلم الكافر ومات على الإسلام يثاب على ما فعله من الخير في حال الكفر واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه =
488
قال حكيم بن حزام لرسول (١) الله - ﷺ -: إنا كنا نتحنث بأعمال في الجاهلية، فقال رسول الله - ﷺ -: "أما أنت فقد أسلمت على ما قدمت من الخير" (٢).
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى﴾ مضى الكلام في (كسالى) في سورة النساء [١٤٢].
قال عطاء عن ابن عباس: يريد إن كان في جماعة صلى، وإن كان
= كتب الله تعالى له كل حسنة زلفها، ومحا عنه كل سيئة زلفها".. قال ابن بطال رحمه الله تعالى: بعد ذكره الحديث: "ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما يشاء، لا اعتراض لأحد عليه".. ثم قال النووي: وأما قول الفقهاء لا يصح من الكافر عبادة، يعتد بها، فمرادهم أنه لا يعتد له بها في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرض لثواب الآخرة، فإن أقدم قائل على التصريح بأنه إذا أسلم لا يثاب عليها في الآخرة رد قوله بهذه السنة الصحيحة)، و"صحيح مسلم بشرح النووي" ٢/ ١٤٠ - ١٤٣، وقال الحافظ ابن حجر: قال المازري: (الكافر لا يصح منه التقرب، فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه في شركه؛ لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفاً لمن يتقرب إليه والكافر ليس كذلك)، ثم نقل رد النووي هذا القول، ثم قال: والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه تفضلاً من الله وإحسانًا أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولاً، والحديث إنما تضمن كتابة الثواب ولم يتعرض للقبول، ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقًا على إسلامه فيقبل ويثاب إن أسلم وإلا فلا، وهذا قوي، و"فتح الباري" ١/ ٩٩. قلت: والقول الأخير سالم من الاعتراضات وما قيل في غيره من مخالفة القواعد، وله نظائر في الشريعة ككون الدعاء يرد القضاء، وصلة الرحم تزيد العمر أي أن ذلك معلق بذلك، فإن دعا رد عنه القضاء، وإن وصل رحمه زاد عمره وإلا فلا.
(١) في (ج): (يا رسول).
(٢) رواه البخاري في (١٤٣٦)، كتاب: الزكاة، باب: من تصدق في الشرك ثم أسلم، ومسلم (١٢٣)، كتاب: الإيمان، باب: بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده، وأحمد في "المسند" ٣/ ٤٠٢.
489
وحده لم يصل (١)، يريد إن صلى لم يرجُ لها ثوابًا، وإن تركها لم يخف عليها عقابًا، هذا معنى يأتونها (٢) كسالى، فإن قيل: أي صلاة تصح لهم حتى ذُموا بالكسل عنها؟
قيل: إنما ذمّوا بأنهم صلوها (٣) على غير الوجه الذي أمروا به من النفاق الذي يبعث على الكسل عنها، دون الإيمان الذي يبعث على النشاط لها (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾، قال المفسرون: وذلك أنهم يعدون الإنفاق مغرمًا ومنعه مغنمًا (٥)، وهذا يوجب أن تكون النفس طيبة عند أداء الزكاة والإنفاق في سبيل الله؛ لأن الله ذم المنافقين بكراهتهم الإنفاق وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم" (٦) فإن أداها وهو كاره لذلك كان من علامات الكفر والنفاق.
٥٥ - قوله تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ﴾ الآية، معنى الإعجاب،
(١) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٩٠ ونسبه للمفسرين.
(٢) في (ي): (يأتوها)، والصواب ما أثبته.
(٣) في (ي): (صلوا).
(٤) في (م): (بها).
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١١٤ ب، والبغوي ٤/ ٥٨، وابن الجوزي ٣/ ٤٥٢.
(٦) هذا الحديث جزء من خطبة خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، وقد رواه بلفظ المصنف الإمام أحمد في "المسند" ٥/ ٢٦٢، ورواه بنحوه الترمذي (٦١٦)، كتاب: أبواب الصلاة، باب: ما ذكر في فضل الصلاة، وابن حبان في "صحيحه" (الإحسان)، كتاب: السير، باب: طاعة الأئمة، رقم (٤٥٦٣) ١٠/ ٤٢٦، والحاكم في "المستدرك" كتاب: الزكاة ١/ ٣٨٩، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
490
السرور بما يتعجب منه، قال المفسرون: يقول لا تستحسن (١) ما أنعمنا عليه من الأموال الكثيرة والأولاد، فإن العبد إذا كان مستدرجًا كثر ماله وولده (٢)، قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ هو أن كثيراً من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء كحنظلة بن أبي (٣) عامر (٤)، غسلته الملائكة وعبد الله بن عبد الله بن أبيّ (٥)، شهد بدرًا وكان من الله بمكان، وهم بشرٌ كثيرٌ صالحون أبرياء من النفاق (٦)، يريد أن صلاح أولادهم لأنفسهم وهم لا يغنون عن هؤلاء شيئًا، وعلى هذا يحتمل (٧) أن يكون المعنى في أموالهم (٨) ما ينفقون منها في سبيل الله ولا ينفعهم ذلك فإنه لا يقبل منهم (٩).
(١) في (ي): (ما يستحسن).
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١١٤ ب، والبغوي ٤/ ٥٩.
(٣) ساقط من (ي).
(٤) هو: حنظلة بن أبي عامر بن صيفي الأوسي الأنصاري، المعروف بغسيل الملائكة، وكان أبوه في الجاهلية يعرف بالراهب، ويذكر البعث ودين الحنيفية، فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- حسده وعاداه، وخرج إلى مكة ثم إلى الروم للتأليب على المسلمين، وكان ابنه حنظلة حسن الإسلام، واستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتل أبيه فلم يأذن له، ولما سمع الهيعة يوم أحد خرج وعليه جنابة فقتل فغسلته الملائكة. انظر: "الاستيعاب" ١/ ٤٣٢، و"الإصابة" ١/ ٣٦٠ - ٣٦١.
(٥) هو: عبد الله بن عبد الله بن أبي بن مالك الخزرجي الأنصاري، والده رأس المنافقين المعروف بابن أُبي بن سلول، وكانت سلول جدة له فعرف بها. كان عبد الله الابن حسن الإسلام، وشهد بدرًا، واستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتل أبيه فنهاه، واستشهد باليمامة في قتال مسيلمة الكذاب سنة ١٢ هـ. انظر: "الاستيعاب" ٣/ ٧١، و"الإصابة" ٢/ ٣٣٥ - ٣٣٦.
(٦) لم أقف على مصدره.
(٧) في (ي): (محتمل).
(٨) في (ي). (أولادهم)، وهو وهم من الناسخ.
(٩) حكى هذا القول القشيري كما في "البحر المحيط" ٥/ ٥٤ والمعنى المشهور أن =
491
[وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا﴾، قال النحويون: في الآية مقدر كأنه قيل: إنما يريد الله أن يملي لهم فيها ليعذبهم، فتكون هذه اللام لام العاقبة (١)، ويجوز أن تكون هذه اللام بمعنى (أن) تعاقبها (٢)] (٣).
وقوله تعالى: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، قال مجاهد (٤)، وقتادة (٥)، والسدي (٦): المراد بهذا: التقديم، على تقدير: أموالهم (٧) وأولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، وهذا يروى عن ابن عباس أيضًا: رواه الوالبي (٨)، ومن المفسرين من أقره في موضعه (٩)، قال
= الآية كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٥٣، وابن عطية ٦/ ٥٢٥، وابن كثير ٢/ ٣٩٩.
(١) ذكر أبو حيان أن هذا القول للرماني المعتزلي، واستنكره. انظر: "البحر المحيط" ٥/ ٥٤.
(٢) يعني أن اللام و (أن) تعتقبان وتحل إحداهما مكان الأخرى، كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٢٦] أي: أن يبين لكم.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٤) رواه الثعلبي ٦/ ١١٤ ب، والبغوي ٤/ ٥٩.
(٥) رواه ابن جرير ١٠/ ١٥٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨١٣، والثعلبي والبغوي، نفس الموضعين السابقين.
(٦) رواه ابن أبي حاتم والثعلبي، نفس الموضعين السابقين.
(٧) اختصر المؤلف الجملة، وفي "تفسير الثعلبي" والبغوي وغيرهما: فلا تعجبك أموالهم... إلخ.
(٨) رواه ابن جرير ١٠/ ١٥٣، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٤٧.
(٩) منهم الإمام ابن جرير حيث قال في "تفسيره" ١٠/ ١٥٣: (وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا، التأويل الذي ذكرنا عن الحسن؛ لأن ذلك هو الظاهر من =
492
الحسن: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله (١)، وقال ابن زيد: يعذبهم بها في الحياة الدنيا بالمصائب فيها، فهي لهم عذاب وللمؤمن أجر (٢)، وقيل: بالتعب في جمعه والوجل في حفظه والكره في إنفاقه (٣)، والقولان ذكرهما الفراء (٤)، والزجاج (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد: وتموت أنفسهم) (٦)، يقال: زهقت نفسه فهي تزهق: أي تذهب (٧)، قال الكسائي: زهقت نفسه وزهقت لغتان (٨)، وقال أبو زيد: (زهقت نفسه وزهق الباطل، وزهق إذا سبق، ليس في شيء منه زهق) (٩)، قال الزجاج: المعنى وتخرج أنفسهم وهم على الكفر (١٠).
= التنزيل، فصرف تأويله إلى ما دل عليه ظاهره أولى من صرفه إلى باطن لا دلالة على صحته)، واختاره أيضًا ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٩٩، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ١٦٤.
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ١٥٣، والثعلبي ٦/ ١١٤ ب، والبغوي ٤/ ٥٩.
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ١٥٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٣.
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦٩/ ١١٥ أ، والبغوي ٤/ ٥٩، ولم يعينا القائل.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٤٤٢.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٤.
(٦) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٦.
(٧) انظر: "الصحاح" (زهق) ٤/ ١٤٩٣.
(٨) "تهذيب اللغة" (زهق) ٢/ ١٥٧١.
(٩) المصدر السابق، نفس الموضع، بنحوه، والمقصود أن الفعل (زهق) دائمًا مفتوح الهاء، وقال الجوهري في "الصحاح" (زهق) ٤/ ١٤٩٣ حكى بعضهم: زهقت نفسه تزهق زهوقًا بالكسر، لغة في زهقت.
(١٠) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٤، لكن بلفظ: وتخرج أنفسهم، أي: يغلظ عليهم المكروه حتى تزهق أنفسهم.
493
قال أصحابنا: وهذا نص في أن الله يريد أن يموتوا كافرين (١).
٥٦ - قوله تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ﴾، قال أبو إسحاق: أي يحلفون بالله أنهم مؤمنون كما أنتم مؤمنون فأكذبهم الله بقوله: ﴿وَمَا هُمْ مِنْكُمْ﴾ (٢)، قال ابن عباس: يريد أنهم ليسوا بأنصار ولا كرامة (٣)، وقال الزجاج: لأنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر (٤).
٥٧ - وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ أي: [يفرقون أن] (٥) يظهروا (٦) ما هم عليه فيقتلوا، قال الضحاك: أي إنما يحلفون تقية (٧)، والفرق: الخوف، ومنه قيل: رجل فروقة وهو الشديد الخوف.
قوله تعالى: ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً﴾ الملجأ: المكان الذي يتحصن فيه، ومثله اللجأ مقصور ومهموز (٨)، قال الزجاج (٩): وأصله من لجأ إلى
(١) انظر: معنى هذا القول في "رسالة إلى أهل الثغر" ص ٢٥٢، و"الغنية في أصول الدين" ص ١٣٠، وكتاب: "الإرشاد إلى قواطع الأدلة" ص١٩٢، و"تفسير الرازي" ١٦/ ٩٥، والإرادة المذكورة هي الإرادة الكونية التي تستلزم الوقوع، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، أما من ناحية الإرادة الشرعية فالله لا يريد الكفر، كما قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٥، ٥٦] وهذه الإرادة لا تستلزم الوقوع.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٤ بنحوه.
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٩٦ بمعناه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٤.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٦) في (ي): (نظهر).
(٧) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨١٤، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٤٧.
(٨) في (ي): (مقصور مهموز)، وما أثبته موافق لـ"معاني القرآن وإعرابه".
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٤.
494
كذا يلجأ لجأ، بفتح اللام وسكون الجيم، ومثله: إلتجأ (١)، وألجأته إلى كذا أي: اصطررته (٢) إليه، قال ابن عباس: يريد مهربًا (٣).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ مَغَارَاتٍ﴾ هي جمع مغارة، وهي الموضع الذي تغور فيه أي: تستتر، قال أبو عبيدة: كل شيء غرت فيه فغبت فهي مغارة (٤) لك (٥)، ومنه (٦) غار الماء في الأرض وغارت العين، قال عطاء، عن ابن عباس: يعني سراديب (٧).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ مُدَّخَلًا﴾، قال الزجاج: أصله مدتخل والتاء بعد الدال تبدل دالاً؛ لأن التاء مهموسة والدال مجهورة، وهما من مكان واحد (٨)، وهو (مفتعل) من الدخول كالمتلج (٩) من (١٠) الولوج، ومعناه
(١) كررت الكلمة في (ي).
(٢) في (ي): (أضررته)، وهو خطأ.
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٤، ورواه ابن جرير ١٠/ ١٥٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨١٤، بلفظ: الملجأ: الحرز في الجبال، كما رواه الثعلبي ٦/ ١١٥ أ، والبغوي ٤/ ٥٩، عن عطاء بلفظ المؤلف.
(٤) في (ي): (مغارات).
(٥) عبارة أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٦٢: (ما يغورون فيه فيدخلون فيه ويغيبون). اهـ. أما اللفظ الذي ذكره المؤلف فقد عزاه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١١٥ أإلى الأخفش.
(٦) في (ي): (مثله)، وما أثبته من (ح) و (م) موافق لما في "تفسير الثعلبي".
(٧) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٤، والقرطبي ٨/ ١٦٥، ورواه ابن جرير ١٠/ ١٥٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨١٤ بلفظ: (الغيران في الجبال)، كما رواه الثعلبي ٦/ ١١٥/ أ، والبغوي ٤/ ٥٩ بلفظ المؤلف عن عطاء.
(٨) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٥، وقد نقله الواحدي بمعناه.
(٩) في (ج): (المبتلج).
(١٠) في (ي): (في).
495
المسلك الذي يتدسس بالدخول فيه، قال قتادة: سربا (١)، وقال الكلبي وابن زيد: نفقا كنفق اليربوع (٢)، وقال الضحاك: مأوى (٣)، وقال الحسن: وجهاً يدخلونه (٤).
وقوله تعالى: ﴿لَوَلَّوْا إِلَيْهِ﴾، قال ابن قتيبة: لرجعوا إليه (٥) [وأدبروا إليه] (٦)، يقال: ولي إليه بنفسه إذا انصرف، وولى غيره: إذا صرفه (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ أي: يسرعون إسراعًا لا يرد وجوههم شيء، ومن هذا يقال: جمح الفرس، وهو فرس جموح وهو (٨) الذي إذا حمل لم (٩) يرده اللجام (١٠)، قال ابن عباس: ﴿وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ (١١): يريد مثل ما يجمع الفرس (١٢)، قال ابن كيسان والزجاج وغيرهما: معنى الآية
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ١٥٥، والثعلبي ٦/ ١١٥ أ، والبغوي ٤/ ٥٩.
(٢) رواه عنهما الثعلبي ٦/ ١١٥ أ، كما رواه عن الكلبي، البغوي ٤/ ٥٩.
(٣) رواه الثعلبي، في المصدر السابق، نفس الموضع، ورواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٨١٥ عن الضحاك عن ابن عباس.
(٤) رواه الثعلبي ٦/ ١١٥ ب، والبغوي ٤/ ٥٩ ولفظه عندهما: (وجهًا يدخلونه على خلاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم) اهـ. فالحسن -رحمه الله- يقصد أن هؤلاء المنافقين يتحينون الفرصة للخلاف والمشاقة والمعاندة، لا يقصد محسوسًا يسلكونه.
(٥) اهـ. كلام ابن قتيبة، انظر: "تفسير غريب القرآن" له ص ١٩٦.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٧) في (ي): (أصرفه).
(٨) في (ج): (وهذا)، وما أثبته موافق لما في "تهذيب اللغة".
(٩) في (ي): (لا)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لما في "تهذيب اللغة".
(١٠) انظر: "تهذيب اللغة" (جمح) ١/ ٦٤٥.
(١١) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(١٢) في "تنوير المقباس" ص ١٩٦: يهرولون هرولة.
496
أن هؤلاء المنافقين لا بصيرة لهم في الدين ولا احتساب، وإنما هم فيه كالمسخرين، حتى لو وجدوا أحد هذه الأشياء التي ذكرت لأسرعوا إليه طلبًا للفرار (١).
٥٨ - وقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ الآية، قال أبو سعيد الخدري: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم مالاً إذ جاءه ابن ذي (٢) الخويصرة التميمي وهو حرقوص بن زهير (٣)، أصل الخوارج، فقال:
(١) لم أعثر على هذا القول في مظانه من كتب التفسير، ولم يذكره الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه"، ومعناه في "البرهان" للحوفي ١١/ ٢٠٩ أمنسوبًا لابن عباس ومجاهد وقتادة.
(٢) في (ج) و (ي): (ابن الخويصرة. وآثرت ما في (م) لموافقته لما في "صحيح البخاري"، و"تفسير الثعلبي"، و"أسباب النزول" للمؤلف.
(٣) هو: حرقوص بن زهير السعدي التميمي، ذكره الطبري في "تاريخه" ٤/ ٧٦ فقال: (إن الهرمزان الفارسي -صاحب خوزستان- كفر ومنعه ما قبله، واستعان بالأكراد، فكثف جمعه، فكتب سلمى ومن معه بذلك إلى عتبة بن غزوان، فكتب عتبة إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر يأمره بقصده، وأمدّ المسلمين بحرقوص بن زهير السعدي، وكانت له صحبة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمَّره على القتال وعلى ما غلب عليه، فاقتتل المسلمون والهرمزان، وانهزم الهرمزان، وفتح حرقوص سوق الأهواز، ونزل بها، وله أثر كبير في قتال الهرمزان، وبقي حرقوص إلى أيام علي، وشهد معه صفين، ثم صار من الخوارج، ومن أشدهم على علي بن أبي طالب، وكان من الخوارج لما قاتلهم علي، فقتل يومئذ سنة ٣٧ هـ. اهـ. وانظر: "أسد الغابة" ١/ ٤٧٤، و"الإصابة" ١/ ٣٢٠. وعندي شك أن ابن ذي الخويصرة هو حرقوص المذكور، فقد روى البخاري في "صحيحه"، (٦٩٣٣) كتاب استتابة المرتدين، باب: من ترك قتال الخوارج للتألف ٩/ ٣٠ عن أبي سعيد قال: بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله - ﷺ -: فقال. "ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟! " قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال: "دعه، فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة.. "الحديث فهذا يفيد: =
497
اعدل يا رسول الله، فقال: "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟! " فنزلت هذه الآية (١). وقال الكلبي: نزلت في المؤلفة قلوبهم وهم المنافقون (٢)، قال رجل منهم يقال له أبو الجواظ (٣):
لم تقسم بالسوية فأنزل الله هذه الآية (٤). ونحو ذلك قال ابن زيد. هؤلاء المنافقون قالوا: والله (٥) ما يعطيها محمد إلا من (٦) أحب ولا يؤثر
= أولاً: أن اسم ابن ذي الخويصرة عبد الله.
ثانيًا: أن عمر -رضي الله عنه- كان حاضرًا القصة وكان شديدًا على الرجل، فهل يليق بالفاروق أن يوليه قيادة الجيوش، وإمرة ما فتح بعد أن سمع نعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!.
ويؤكد هذا الشك ما ذكر الحافظ ابن حجر عن الهيثم بن عدي قال: إن الخوارج تزعم أن حرقوص بن زهير كان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه قتل معهم يوم النهروان، قال: فسألت عن ذلك، فلم أجد أحدًا يعرفه. "الإصابة" ١/ ٣٢٠.
(١) رواه بنحوه مطولاً البخاري في "صحيحه" في عدة مواضع منها (٦٩٣٣) كتاب استتابة المرتدين.. باب: من ترك قتال الخوارج للتألف، ومسلم (١٤٨)، كتاب: الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم، وأحمد في "المسند" ٣/ ٥٦، ورواه بلفظ المؤلف مطولاً الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١١٦ أ، ومن طريقة المؤلف في "أسباب النزول" ص ٢٤٨.
(٢) المؤلفة قلوبهم في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليسوا منافقين، بل صنفان:
الأول: كفار صرحاء فأعطاهم النبي تأليفًا لهم على الإسلام كصفوان بن أمية. انظر: "الإصابة" ٢/ ١٨٧.
الثاني: حديثو عهد بإسلام ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم، كأبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وعيينة بن حصن وغيرهم. انظر: "المعارف" ص ١٩٢.
(٣) لم أجد له ترجمة، والكلبي كذاب لا يوثق بروايته، انظر: "تهذيب التهذيب" ٣/ ٥٦٩.
(٤) رواه الثعلبي ٦/ ١١٦ ب، والبغوي ٤/ ٦٠، وذكره المؤلف بغير سند في "أسباب النزول" ص ٢٥٣ - ٢٥٤.
(٥) ساقط من (ي)، وما أثبه موافق لـ "تفسير ابن جرير".
(٦) في (ي): (لمن)، وما أثبته موافق لـ"تفسير ابن جرير".
498
بها (١) إلا هواه (٢).
قال الليث: اللمز كالغمز في الوجه، رجل لمزة يعيبك في وجهك [ورجل همزة يعيبك بالغيب (٣)] (٤)، وقال الزجاج: يقال: لمزتُ الرجل ألمزه بكسر الميم، ولَمُزت بضم الميم (٥): [إذا عبته] (٦) وكذلك همزته أهمزه: إذا عبته، والهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس ويغضهم (٧)، وكذلك قال ابن السكيت، ولم يفرق بينهما (٨)، وكذلك قال الفراء (٩).
قال الأزهري: وأصل الهمزة واللمز الدفع، قال الكسائي: يقال: همزته ولمزته ولهزته (١٠): إذا دفعته (١١).
(١) ساقط من (ي). واللفظ ثابت في (ج) و (م) و"تفسير ابن جرير".
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ١٥٧.
(٣) "تهذيب اللغة" (لمز) ٤/ ٣٢٩٦، ونحوه في كتاب "العين" (لمز) ٧/ ٢٧٢.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٥) اضطرب قول الزجاج في النسخة (ج) ونصه فيها: (يقال: لمزه الرجل بكسر الميم، واللُمزة بضم الميم: إذا عبته) وما أثبته موافق لما في "معاني القرآن وإعرابه".
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٥، وتفسير الهمزة اللمزة ليس فيه، بل في "تهذيب اللغة" (لمز) ٤/ ٣٢٩٦.
(٨) انظر: "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم" (لمز) ٢/ ٦٨٢، و (همز) ٢/ ٨١٠ حيث لم يفرق ابن السكيت بينهما، وانظر أيضًا: "تهذيب اللغة" (لمز) ٤/ ٣٢٩٦.
(٩) "معاني القرآن" ٣/ ٢٨٩ وعبارته:.. يهمز الناس ويلمزهم: يغتابهم ويعيبهم.
(١٠) في (ي): (ونهرته)، والصواب ما أثبته وهو موافق لما في "تهذيب اللغة".
(١١) "تهذيب اللغة" (لمز) ٤/ ٣٢٩٦، والكسائي يعني أن أصل تلك الكلمات: =
499
قال ابن عباس في رواية عطاء: يلمزك يغتابك (١).
وقال قتادة: يطعن عليك (٢).
وقال الكلبي: ﴿يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ أي: يعيبك في أمرها، ويطعن عليك فيها (٣).
وقال أبو علي: المعنى في حذف الإضافة والتقدير: يعيبك في تفريق الصدقات (٤).
وقال أهل المعاني: هذه (٥) الآية بيان عما يوجبه الخلق الدني (٦) من الشره إلى الصدقة حتى يعيب ما لا عيب فيه إذا لم يعطه ما يرضيه (٧).
وقال جويبر عن الضحاك في هذه الآية: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم بينهم ما آتاه الله من قليل المال وكثيره، وكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله عليه، وأما المنافقون فإن أعطوا كثيراً فرحوا، وإن أعطوا قليلاً سخطوا (٨).
= الدفع كما بينه أبو منصور الأزهري في الموضع نفسه، ولا يعني أن معنى الآية كذلك.
(١) رواه الثعلبي ٦/ ١١٦ ب عن عطاء.
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ١٥٦.
(٣) ذكره مختصرًا الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٩٨، ونحوه في "تنوير المقباس" ص ١٩٦ عنه عن ابن عباس.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٩٨.
(٥) ساقط من (ج).
(٦) في (ج): (الذي)، وهو خطأ.
(٧) القول بنصه للحوفي في "البرهان" ١١/ ٢١١ أ.
(٨) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨١٦.
500
٥٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا﴾ الآية، جواب (لو) محذوف بتقدير: لكان خيرًا لهم، وأعود عليهم (١)، قال ابن عباس: ولكن غلب عليهم النفاق، ولم يحق الإيمان في قلوبهم، فيتوكلوا على الله حق توكله (٢).
ثم إن الله تعالى بين لمن الصدقات فقال:
٦٠ - ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ الآية، قال ابن عباس: يريد صدقات الأموال (٣). وذكرنا معنى الصدقة عند قوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: ٢٧١] الآية (٤).
واختلفوا في معنى الفقير والمسكين، والكلام في اشتقاقهما قد سبق (٥)، فأما معناهما: فقال ابن عباس والحسن وجابر بن زيد (٦) والزهري
(١) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨١٦. في "لسان العرب" (عود) ٥/ ٣١٥٧: قال الليثُ: هذا الأمر أعود عليك: أي أرفق بك وأنفع؛ لأنه يعود عليك برفق ويسر.
(٢) لم أقف على مصدره.
(٣) لم أقف على مصدره.
(٤) انظر: "النسخة الأزهرية" ١/ ١٦١ أحيث قال: الصدقة تطلق على الفرض والنفل، والزكاة لا تطلق إلا على القرض، قال الزجاجي: (ص د ق) على هذا الترتيب موضوع للصحة والكمال، من ذلك قولهم: رجل صدق النظر، وصدق اللقاء وصدقوهم القتال، وفلان صادق المودة.. وسمى الله تعالى الزكاة صدقة؛ لأن المال بها يصح ويكمل، فهي سبب لكمال المال.
(٥) ذكر الكلام في اشتقاق المسكنة عند تفسير الآية ٦١ من سورة البقرة، وذكر اشتقاق الفقير عند قوله تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾ [البقرة: ٢٦٨]، وأصله في اللغة: المفقور الذي نزعت فقرة من فقر ظهره، فكأنه انقطع ظهره من شدة الفقر، فصرف من مفقور إلى فقير، كما قيل: مجروح وجريح. انظر: "تهذيب اللغة" (فقر) ٣/ ٢٨١٢ - ٢٨١٣، و"اللسان" (فقر) ٦/ ٣٤٤٤.
(٦) هو: جابر بن زيد الأزدي اليحمدي مولاهم، البصري، المعروف بأبي الشعثاء، كان عالم أهل البصرة، في زمانه، وفي طبقة الحسن البصري وابن سيرين، ومن كبار تلاميذ ابن عباس، كان لبيبًا مجتهدًا في العبادة، توفي سنة ٩٣هـ. =
501
ومجاهد وابن زيد: الفقير: المتعفف الذي لا يسأل الناس (١)، والمسكين الذي يسأل (٢)، وهذا اختيار الفراء، قال: الفقراء أهل الصفة لم تكن لهم عشائر ولا مال كانوا يأوون إلى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمساكين: الطوافون على الأبواب (٣) (٤).
وسئل أبو العباس عن تفسير الفقير والمسكين فقال: قال أبو عمرو بن العلاء فيما روى عنه (٥) الأصمعي: الفقير [الذي له ما يأكل، والمسكين الذي لا شيء له (٦).
وقال يونس (٧):] (٨) الفقير يكون له بعض ما يقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، وقال (٩): قلت لأعرابي أفقير أنت؟ قال: لا والله بل مسكين، قال: فالمسكين أسوأ حالاً من الفقير، والفقير الذي له بلغة من العيش (١٠)،
= انظر: "التاريخ الكبير" ٢/ ٢٠٤، و"حلية الأولياء" ٣/ ٨٥، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٤٨١، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٧٩.
(١) ساقط من (م).
(٢) أخرج آثارهم بألفاظ متقاربة ابن جرير ١٠/ ١٥٨ - ١٦٠، والثعلبي ٦/ ١١٧ أ، كما خرج أكثرها السيوطي في "الدر المنثور" ٣/ ٤٤٩ - ٤٥٠.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤٤٣ بتصرف ويعني الفراء التمثيل بأهل الصفة لا الحصر.
(٤) رجح هذا القول أبو جعفر النحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٤٤٦ وأيده بالحجج النقلية واللغوية، ورد ما يمكن أن يعترض به عليه. وقد قال قبل ذلك: إن قول من قال: المسكين كذا، والفقير كذا، لم يقل إنه لا يقال لغيره مسكين ولا فقير. وانظر أيضًا: "تفسير الطبري" ١٠/ ١٥٩ - ١٦٠ فهو يؤيد هذا القول.
(٥) في (ج): (عن)، وما أثبته موافق لما في "تهذيب اللغة".
(٦) "تهذيب اللغة" (فقر) ٣/ ٢٨١٢.
(٧) هو: يونس بن حبيب البصري.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٩) ساقط من (ي)، والقائل يونس كما بينه الأزهري المصدر التالي.
(١٠) انظر أقوال يونس في "تهذيب اللغة" (فقير) ٣/ ٢٨١٣.
502
ونحو هذا قال ابن السكيت (١) وابن قتيبة (٢)، وهو مذهب أهل العراق (٣)، واحتجوا على هذا بقول الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد (٤)
فسماه فقيرًا، وله حلوبة تكفيه وعياله (٥).
وقال محمد بن مسلمة (٦) (٧): الفقير الذي له المسكن يسكنه والخادم
(١) انظر: "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم" (فقر) ٢/ ٥٧٢.
(٢) انظر: "تفسير غريب القرآن"، له ص ١٩٦.
(٣) انظر: "بدائع الصنائع" ٢/ ٩٠١، و"المغني" لابن قدامة ٩/ ٣٠٦، ٣٠٧، و"تفسير البغوي" ٤/ ٦٢، و"حاشية ابن عابدين" ٢/ ٣٣٩.
(٤) انظر: "ديوانه" ص ٦٤ ونسب إليه أيضاً في: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ٥١١، و"لسان العرب" (فقر)، و"المخصص" ١٢/ ٢٨٥.
والسبد: الوبر، والعرب تقول: ما له سبد ولا لبد، أي ماله ذو وبر ولا صوف متلبد، انظر: "لسان العرب" (سبد) ٤/ ١٩١٨، والشاعر يشكو السعاة والعاملين على الصدقات من قبل عبد الملك بن مروان، ويقول: إنهم لم يرحموا أحدًا حتى الفقير الذي لا يملك إلا ناقة حلوبًا على قد عياله، أخذت منه، ولم يترك له شيء.
(٥) ذكر الأزهري أنه لا حجة في هذا البيت؛ لأن المعنى: كانت لهذا الفقير حلوبة فيما مضى دون الحالة الحاضرة. انظر: "تهذيب اللغة" (فقر) ٣/ ٢٨١٣، وسبقه أبو بكر بن الأنباري في "الزاهر في معاني كلمات الناس" ١/ ١٢٨.
(٦) في (ي): (سلمة)، وما أثبته موافق لمصدري تخريج القول.
(٧) هو: محمد بن مسلمة بن الوليد، أبو جعفر الواسطي الطيالسي، محدث معمر، قال الدارقطني: لا بأس به، وقال الخطيب: رأيت أبا القاسم اللالكائي والحسن بن محمد الخلال يضعفانه، قال: وله مناكير، توفي سنة ٢٨٢ هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" ٣/ ٣٠٥، و"سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٣٩٥.
أقول: هذا ما ترجح لدي أنه المذكور، ولست على يقين بذلك وأستبعد أن يكون هو محمد بن مسلمة ألأنصاري الصحابي كما جزم بذلك مفهرس "تفسير القرطبي" ٢٢/ ٣٢٦؛ ألأن النص في "تفسير الثعلبي" طويل، وفيه تعليلات لم يعهد مثلها في =
503
يخدمه (١)، والمسكين الذي لا ملك له (٢)، وهؤلاء قالوا (٣): كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيًا عن غيره، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ [فاطر: ١٥] والمسكين المحتاج إلى كل شيء، ألا ترى كيف حض على إطعامه وجعل الكفارات من الأطعمة له ولا فاقة أعظم من سد الجوعة.
وقال الشافعي: الفقراء: الزمنى الضعاف الذي لا حرفة لهم وأهل الحرفة الضعيفة التي لا تقع حرفته من حاجتهم موقعًا، [والمساكين: السؤال ممن لهم حرفة تقع موقعًا] (٤) ولا تغنيه وعياله (٥)، فالفقير أشدهما حالاً عند الشافعي وإلى هذا ذهب جماعة (٦)، وقال أحمد بن عبيد (٧): المسكين أحسن
= كلام الصحابة، ونص قوله:.. (والمسكين: الذي لا ملك له، قال: وكل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه، وإن كان غنيًا عن غيره، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ [فاطر: ١٥]، والمسكين المحتاج إلى كل شيء، ألم تر كيف حض على إطعامه..) إلخ. انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١١٧ ب.
(١) هذا خلاف ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادمًا، قال: فأنت من الملوك. "صحيح مسلم" (٢٩٧٩) كتاب: الزهد.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٦/ ١١٧ ب، والقرطبي ٨/ ١٧١.
(٣) في "تفسير الثعلبي" القائل هو: محمد بن مسلمة.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٥) "الأم" ٢/ ١١٠.
(٦) ساقط من (ج). وانظر: "كتاب الأموال" ص ٧١٧ - ٧١٩؛ و"المغني" ٩/ ٣٠٦، و"لسان العرب" (فقر) ٦/ ٣٤٤٤ - ٣٤٤٥.
(٧) هو: أحمد بن عبيد بن ناصح الديلمي ثم البغدادي، أبو جعفر النحوي، المعروف =
504
حالاً من الفقير؛ لأن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقر ظهره، فصرف عن مفقور إلى فقير كما قيل: مطبوخ وطبيخ ومجروح وجريح (١). وقال خالد بن يزيد (٢): كأن الفقير إنما سمي فقيرًا لزمانة تصيبه مع حاجة شديدة، تمنعه الزمانة من التقلب في الكسب على نفسه فهذا هو الفقير (٣)، ولا حال في الإقلال والبؤس هي أوكد من هذه الحال، وأنشدوا للبيد:
لما رأى لبد النسور تطايرت رفع القوادم (٤) كالفقير الأعزل (٥)
= بأبي عصيدة، من نحاة الكوفة، كان نحويًّا محدثًا رأسًا في العربية من أهل الصدق، وهو من تلاميذ الأصمعي ومن شيوخ أبي بكر بن الأنباري، توفي سنة ٢٧٨ هـ. انظر: "تاريخ بغداد" ٤/ ٢٥٨، و"نزهة الألباء" ص ١٥٨، و"وإنباه الرواة" ١/ ١١٩.
(١) ذكره بنحوه أبو بكر بن الأنباري في كتابه "الزاهر في معاني كلمات الناس" ١/ ١٢٨، وانظر أيضًا: "تهذيب اللغة" (فقر) ٣/ ٢٨١٣، (سكن) ٢/ ١٧٢٤.
(٢) هو أبو الهيثم الرازي.
(٣) اهـ. كلام خالد بن يزيد في "تهذيب اللغة" (فقر) ٣/ ٢٨١٣.
(٤) في (ي): (الفقير)، وهو خطأ.
(٥) البيت في "ديوان لبيد" ص٣٤، وفي "شرحه" ص ٢٧٤، ونسب إليه أيضًا في "تهذيب اللغة" (فقر) ٣/ ٢٨١٣، و"لسان العرب" (فقر) ٦/ ٣٤٤٥. ولبد: هو النسر السابع من نسور لقمان بن عاد، والأعزل من الخيل: المائل الذنب.
والشاعر يذكر قصة متداولة عند العرب؛ إذ يقال أن لقمان بن عاد خُيّر في عمره، فاختار أن يكون كعمر سبعة أنسر، فكان يأخذ فرخ النسر فيجعله في فجوة في الجبل الذي هو في أصله، فيعيش الفرخ خمسمائة سنة أو أقل أو أكثر، فإذا مات أخذ آخر مكانه، حتى هلكت ستة، فأخذ السابع وسماه لبدًا، وكان أطولها عمرًا حتى ضرب به المخل، فقيل: طال الأبد على لبد، ثم هلك النسر، فمات لقمان، وقد زعموا أنه عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. انظر: "شرح ديوان لبيد" ص ٢٧٤، و"مجمع الأمثال" ١/ ٤٢٩.
505
قال ابن الأعرابي في هذا البيت: الفقير: المكسور الفقار يضرب مثلاً لكل ضعيف لا ينفذ في الأمور (١).
وقال قتادة: الفقير: الزمن المحتاج، والمسكين: الصحيح المحتاج (٢)، فجعل الفقير أسوأ حالاً، ومما يدل على صحة هذا القول أن الله ابتدأ بذكرهم، فدل أنهم أولى الأصناف بالصدقات لسوء حالهم، وما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعوذ من الفقر (٣)، وروي عنه أنه قال: "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا (٤)، واحشرني في زمرة المساكين" (٥).
(١) "تهذيب اللغة" (فقر) ٣/ ٢٨١٣.
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ١٥٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨١٩ - ١٨٢٠، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" ٣/ ٤٤٩، وزاد: عبد الرزاق وابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ.
(٣) رواه أبو داود (١٥٤٤) كتاب: الصلاة، باب: في الاستعاذة، والنسائي في "سننه" كتاب: الاستعاذة، الاستعاذة من القلة ٨/ ٢٦١، وابن ماجه (٢٨٤٢)، كتاب: الدعاء، باب: ما تعوذ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحمد في "المسند" ٢/ ٣٠٥، والحاكم في "المستدرك"، كتاب: الدعاء ١/ ٥٤١. وقال: صحيح الإسناد. اهـ. ولفظ الحديث عنده وعند أحمد: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة.. " الحديث.
(٤) قال ابن الأثير: أراد به التواضع والإخبات، وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين. "النهاية في غريب الحديث" (سكن) ٢/ ٣٨٥، ونحوه في "السنن الكبرى" للبيهقي ٧/ ١٩.
(٥) رواه الترمذي (٢٣٥٢) كتاب: الزهد، باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، وقال: حديث غريب، وابن ماجه (٤١٢٦)، كتاب: الزهد، باب. مجالسة الفقراء، والحاكم في "المستدرك" كتاب: الرقاق ٤/ ٣٢٢، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وهو وهم منهما؛ لأن جميع أسانيد الحديث لا تخلو من قادح، ولذا قال الألباني بعد أن ذكر من صححه: (وهذا عجيب منهم، خاصة الذهبي فقد أورد يزيد بن خالد هذا في "الضعفاء" ص ٢٠٧، =
506
فلو كان المسكين أسوأ حالاً من الفقير لتناقض الحديثان؛ لأنه يتعوذ من الفقر ثم يسأل حالاً أسوأ منه، ولا تناقض بينهما؛ لأنه تعوذ بالله من الضر (١)، وسوء الحال، وسأله الخضوع وأن لا يجعله من الجبارين.
والمسكنة حرف مأخوذ من السكون، يقال: تمسكن الرجل: إذا لان وتواضع وخشع، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تبأس وتمسكن" (٢) يريد: تواضع وتخشع، فيجوز أن يكون الرجل يملك شيئًا، وله حالة من الدنيا، ويكون مسكيناً على ما ذكرنا، ألا ترى أن الله تعالى استجاب دعاء نبيه -عليه السلام- وأعاذه من الفقر؛ لأنه قبضه موسرًا غنيًا بما أفاء عليه، وإن كان لم يضع درهمًا على درهم، والله -عز وجل- يقول: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: ٨]. هذا الذي ذكرنا كلام ابن قتيبة في هذين الحديثين (٣).
واحتد ابن الأنباري لهذه (٤) الطريقة بقوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ
= و"الميزان" ٦/ ٩٥، وساق أقوال الأئمة فيه، وكلها تتفق على تضعيفه، وساق له أحاديث فيما أنكرت عليه هذا أحدها).
ثم ساق الألباني شاهدين ضعيفين للحديث ثم قال: (والخلاصة: أن جميع طرق الحديث لا تخلو من قادح، إلا أن مجموعها يدل على أن للحديث أصلاً، فإن بعضها ليس شديد الضعف كحديث أبي سعيد وعبادة، والأحاديث تصل بمجموعها إلى درجة الحسن. يعني: الحسن لغيره). انظر: "إرواء الغليل" رقم (٨٦١١) ٣/ ٣٥٨ - ٣٦٣.
(١) في (ج): (الضرر).
(٢) هذا بعض حديث رواه أبو داود (١٢٩٦)، كتاب: الصلاة، باب: في صلاة النهار، وابن ماجه (١٣٢٥)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى.
(٣) انظر: "تأويل مختلف الحديث" ص ١٩٦.
(٤) في (ج): (بهذه).
507
لِمَسَاكِينَ} [الكهف: ٧٩] الآية، فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير (١)، وبقوله تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦)﴾ [البلد: ١٤ - ١٦]، ومسكين ذو متربة: هو الفقير الذي قد لصق بالتراب من شدة الفقر، والمسكين الذي ليس بذي متربة هو أحسن حالاً من الفقير؛ لأنه ذو مال، ونعت الله تعالى هذا المسكين بأنه ذو متربة يدل على أن ثم مسكينًا ليس بذي متربة يخالف المنعوت ولا يبلغ منزلته في شدة الفقر.
وأما احتجاجهم ببيت الراعي، قلنا: قد ذكر الفقير وحده وكل فقير أفردته بالاسم جاز إطلاق المسكين عليه، وكذلك إطلاق الفقير على المسكين، وإنما يتبين مقصود هذه المسألة عند الجمع بينهما وفائدة هذا الخلاف لا تبين في تفريق الصدقات، وإنما تبين في الوصايا، وهو أن رجلاً لو (٢) قال: أوصيت للفقراء بمائتين وللمساكين بخمسين وجب (٣) دفع المائتين إلى من هو أسوأ حالاً من الفريقين.
ومن الناس من سوى بين الفقير والمسكين وقال: هما واحد إلا أنه
(١) ليس في هذا دليل على ما ذكر؛ لأن العرب تطلق لفظ المسكين على الذليل الخاضع، فإن كان الذي أذله هو الفقر، كان فقيرًا مسكينًا، وإن كان الذي أذلة غير الفقر، فهو مسكين غير فقير، كما أشار إلى ذلك المؤلف، قال ابن عرفة بعد أن ذكر نحو ما سبق: "إذا كان مسكينًا قد أذله سوى الفقر فالصدقة لا تحل له، إذ كان شائعًا في اللغة أن يقال: ضرب فلان المسكين، وظلم المسكين، وهو من أهل الثروة واليسار". "لسان العرب" (فقر) ٦/ ٣٤٤٤.
(٢) ساقط من (ي).
(٣) في (ج): (يوجب).
508
ذكر (١) بالصفتين لتأكيد أمره (٢).
والظاهر من هذه الأقوال الذي يوافق اللغة قول قتادة، هو أن الفقير ذو الزمانة سنة من أهل الحاجة، والمسكين الصحيح منهم، وهو في اللغة (مفعيل) من السكون مثل المنطيق من النطق، ومضى الكلام فيه عند قوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ [البقرة: ٦١].
وحدّ الفقير والمسكين الذي يجوز دفع الزكاة إليه هو من لا يفي دخله بخرجه.
وقوله تعالى: ﴿وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾، قال ابن عباس: يريد الذين يستخرجونها (٣). وقال الزهري وابن زيد: هم السعاة لجباية الصدقة (٤).
وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أمثالهم، وهو مذهب الشافعي (٥)، وقول عبد الله بن عمرو (٦)، وابن زيد (٧)، وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثُّمُن من الصدقات (٨).
(١) في (ي): (ذكرنا).
(٢) ذكر القرطبي في "تفسيره" ٨/ ١٦٩، ١٧٠ أن هذا أحد قولي الشافعي، وإليه ذهب أبو يوسف وابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وانظر: "حاشية ابن عابدين" ٢/ ٣٣٩.
(٣) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٢١ بلفظ: السعاة أصحاب الصدقة.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٦٠ مختصرًا عن الزهري، وبمعناه عن ابن زيد.
(٥) انظر: "الأم" ٢/ ١١١.
(٦) في (ي): (عمر)، والصواب ما أثبته، وانظر قوله في "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٦١، والثعلبي ٦/ ١١٨ ب.
(٧) رواه ابن جرير ١٠/ ١٦١، والثعلبي ٦/ ١١٨ ب.
(٨) رواه ابن جرير ١٠/ ١٦٠ - ١٦١ بإسنادين ضعيفين، ففي سنده عن مجاهد مجهول، ومسلم بن خالد الزنجي قال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" ص ٥٢٩ (٦٦٢٥): صدوق كثير الأوهام، وفي سنده عن الضحاك ضعيف، وهو جويبر.
509
والصحيح أن الهاشمي والمطلبي (١) لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات [بعمالة منها؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبي أن يبعث أبا رافع (٢) عاملاً على الصدقات] (٣)، وقال: "أما علمت أن مولى القوم منهم؟! " (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾، قال ابن عباس: هم قوم من أشراف العرب استألفهم رسول الله - ﷺ - ليردوا عنه قومهم ويعينوه على عدوه، منهم عباس بن مرادس السلمي، وعيينة بن حصن الفزاري (٥)، والأقرع بن حابس
(١) الهاشمي: نشة إلى هاشم بن عبد مناف بن قصي، والمطلبي: نسبة إلى المطلب بن عبد مناف بن قصي. انظر: "السيرة النبوية" ١/ ١١٨.
(٢) للنبي - ﷺ - موليان بهذا الاسم، أبو رافع عبد أبي أحيحة، وقد أعتق كل من بنيه نصيبه منه سوى واحد فإنه وهب نصيبه للنبي - ﷺ - فأعتقه، والثاني أبو رافع القبطي وقد أفاد الذهبي أنه هو المذكور في حديث الصدقة، واختلف في اسمه، فقيل: أسلم، وقيل: إبراهيم، وقيل غير ذلك، والأول أشهر، كان عبدًا للعباس فوهبه للنبي - ﷺ -، فلما أن بشر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلام العباس أعتقه، وكان ذا علم وفضل، وقد شهد غزوة أحد وما بعدها، وتوفي بالكوفة سنة ٤٠ هـ. وقيل قبل ذلك: انظر: "المعارف" ص ٨٥، و"سير أعلام النبلاء" ٢/ ١٦، و"الإصابة" ٤/ ٦٧ - ٦٨ (٣٩٦).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٤) رواه النسائي في "سننه"، كتاب: الزكاة، باب: مولى القوم منهم ٥/ ١٠٧، والترمذي (٦٥٧)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في كراهية الصدقة للنبي.. ، وأبو داود (١٦٥٠)، كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على بني هاشم، وأحمد في "المسند" ٦/ ٨، والحديث بنحوه دون ذكر أبي رافع في "صحيح البخاري" (٦٧٦١)، كتاب: الفرائض، باب: مولى القوم من أنفسهم.
(٥) هو: عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، أبو مالك، زعيم فزارة وغطفان، أسلم قبل فتح مكة وشهدها، وشهد حنينًا والطائف، ثم ارتد في عهد أبي بكر ثم عاد إلى الإسلام، وكان من المؤلفة قلوبهم، وفيه جفاء البادية، مع حمق وتيه، توفي في خلافة عثمان -رضي الله عنه-.
510
التميمي (١)، والحارث بن هشام المخزومي، وأبو سفيان بن حرب الأموي، وجماعة (٢)، وهذا قول الكلبي (٣) والأكثرين (٤).
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيهم سهمًا من الزكاة، فأما اليوم فقد أغنى الله المسلمين عن ذلك إنما كانوا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة، وهذا قول الحسن (٥) والشعبي (٦)، فإن رأى الإمام على مقتضى الحال يريد أن يؤلف قلوب قوم على الإسلام فله الإعطاء إذا كانوا مسلمين، إذ لا يجوز صرف شيء من زكاة الأموال إلى المشركين، فأما المؤلفة من المشركين فإنما يعطون من مال الفيء لا من الصدقات (٧).
= انظر: "المعارف" ص ١٧١، و"الإصابة" ٣/ ٥٤ (٦١٥١).
(١) هو: الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد المجاشعي الدارمي التميمي، من زعماء بني تميم، أسلم قبل فتح مكة وشهد فتحها وحنينًا والطائف، وكان من المؤلفة قلوبهم، ثم حسن إسلامه، وكان حكيمًا شريفًا في الجاهلية والإسلام، قتل بجوزجان في خلافة عثمان رضي الله عنهما.
انظر: "السيرة النبوية" ٤/ ١٣٥، ١٤١، ١٤٣، و"الإصابة" ١/ ٥٨.
(٢) ذكر نحوه الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١١١، وروى ابن جرير ١٠/ ١٦١ عن ابن عباس قال: (هم قوم كانوا يأتون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أسلموا.. فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرًا قالوا: هذا دين صالح؛ وإن كان غير ذلك عابوه وتركوه). وانظر: "إرواء الغليل" ٣/ ٣٦٩.
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ١١٨.
(٤) مثل يحيي بن أبي كثير، ومجاهد. والحسن، وقتادة والضحاك وسعيد بن جبير والشعبي، انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٦١ - ١٦٢، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٥٠ - ٤٥١.
(٥) رواه ابن جرير ١٠/ ١٦٢، والثعلبي ٦/ ١١٦.
(٦) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٨٢٢.
(٧) انظر: كتاب "الأم" للإمام الشافعي ٢/ ٩٧، ومذهب الإمام أحمد جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة ولو كانوا مشركين، انظر: "المغني" ٩/ ٣١٨.
511
وقوله تعالى: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾، قال ابن عباس: (يريد المكاتبين) (١)، وقال الزجاج: (كأن يعاون المكاتب حتى يفك رقبته) (٢).
وهذا على حذف المضاف؛ لأن المعنى: وفي فك الرقاب، وقد مضى مثل هذا في سورة البقرة [١٧٧] في قوله تعالى: ﴿وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾.
وسهم الرقاب موضوع في المكاتبين (٣) ليعتقوا به، وهذا مذهب الشافعي (٤) والليث بن سعد (٥).
ومذهب مالك (٦) وأحمد (٧) وإسحاق (٨): أنه موضوع (٩) لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون.
ومذهب (١٠) أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة،
(١) "تنوير المقباس" ص ١٩٦، و"تفسير الرازي" ١٦/ ١١٢، و"الوسيط" ٢/ ٥٠٦.
(٢) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٦.
(٣) المكاتب: العبد يكاتب على نفسه بثمنه، فإذا دفع ثمنه لسيده عتق. انظر: "معجم مقاييس اللغة" (كتب) ٥/ ١٥٩، و"لسان العرب" (كتب) ٦/ ٣٨١٧.
(٤) انظر: كتاب "الأم" ٢/ ١١٣.
(٥) انظر: "فتح الباري" ٣/ ٣٣٢.
(٦) هذه إحدى الروايات عن الإمام مالك، انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٩٦٧، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي ٨/ ١٨٢.
(٧) هذه إحدى الروايات عن الإمام أحمد، لكن لا يعني ذلك أن المكاتبين لا يعانون من الزكاة عنده، بل يعان منها المكاتب ويعتق منها العبيد، واستحب أن لا يعتق الفرد من زكاته رقبة كاملة انظر: "المغني" ٩/ ٣٩١ - ٣٢١.
(٨) انظر قوله في: "المغني" ٩/ ٣٢٠، و"فتح الباري" ٣/ ٣٣٢، والمذكور هو إسحاق ابن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي أبو يعقوب المروزي.
(٩) في (ى): (موضع)، والصواب ما أثبته بدلالة ما قبله.
(١٠) من هنا إلى قوله: فيعتقون، مكرر في (ح).
512
ولكن يعطى منها رقبة ويعان بها مكاتب (١)، وهذا قول سعيد بن جبير (٢) والنخعي (٣).
وقال الزهري: (سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين المسلمين، ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم، فيعتقون، من الذكور والإناث) (٤).
قال أصحابنا: (والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السيد بإذن المكاتب (٥)) (٦)، وهذا معنى تغيير اللفظ على ما ذكره صاحب "النظم"، وهو أنه قال: قوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ﴾ إلى قوله: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ فصل جاء بنظم له معنى خاص دون ما بعده، وذلك أن الله تعالى قصد به دفع الصدقات إلى هؤلاء ليعملوا فيما يعطون ما شاؤوا في نفقاتهم وغيرها، ثم
(١) انظر: "بدائع الصنائع" ٢/ ٩٠٦.
(٢) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٣/ ١٧٩ كتاب: الزكاة، باب: في الرقبة تعتق من الزكاة، وأبو عبيد في كتاب "الأموال"، باب: سهم الرقاب والغارمين ص ٧٢٣، ولفظه عند أبي عبيد: (لا تعتق من زكاة مالك فإنه يجر الولاء).
(٣) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٣/ ١٧٩، كتاب: الزكاة، باب: في الرقبة تعتق من الزكاة، وأبو عبيد في كتاب "الأموال"، باب: سهم الرقاب والغارمين ص ٧٢٣، ولفظه عند أبي عبيد: (قال: يعان منها في الرقبة ولا يعتق منها)، ورواه ابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٥٢، ولفظه: (لا يعتق من الزكاة رقبة تامة، ويعطى في رقبة، ولا بأس أن يعين بها مكاتبًا).
(٤) ذكره عن الزهري، الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٠ أ، والصواب أن الزهري رواه عن عمر بن عبد العزيز كما في "تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٨٢٤، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٤٥١.
(٥) في (ح): (بإذن عبد المكاتب)، وهو خطأ ولا معنى له.
(٦) انظر: "روضة الطالبين" ٢/ ٣١٥.
513
قال: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ إلى آخر الآية (١) فجاء هذا بنظم غير ذلك النظم، فكأنه -عز وجل- أمر بأن يوضع ما يقدر لهم في المواضع التي بها استحقوا الصدقة دون أن يدفع إليهم فيصرفوه في غيره، فيجب أن يوضع في الرقاب بأن يؤدى عنهم، وكذلك: ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾ ويصرف ما أوجب للسبيل وابنه إلى ما يحتاجون إليه من آلة ونفقة، دون دفعه إليهم، وإنما قلنا هذا على ظاهر النظم لأنه لم يجعله فصلين بنظمين مختلفين إلا وقد قصد به معنيين متغايرين.
وقوله تعالى: ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾، قال ابن عباس: (يريد أهل الدين) (٢)، وقال مجاهد (٣) وقتادة (٤) والزهري (٥): (الغارمون: الذين لزمهم الديون في غير معصية ولا إسراف).
قال الشافعي: (وهم صنفان: صنف أدانوا في مصلحتهم أو معروف أو غير معصية ثم عجزوا عن أداء ذلك في العرض والنقد، فيعطون في غرمهم، وصنف أدانوا في حمالات وصلاح ذات بين، ولهم عروض إن بيعت أضر بهم فيعطى هؤلاء وتوفر عروضهم (٦)، وذلك إذا كان دينهم في غير فسق ولا تبذير ولا معصية، فأما من أدان في معصية الله فلا أرى أن
(١) في (ى): (آخرها).
(٢) "تنوير المقباس" ١٩٦.
(٣) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب: الزكاة، باب: ما قالوا في الغارمين منهم ٣/ ٢٠٧، وابن جرير ١٠/ ١٦٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٢٤.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٦٤، والثعلبي ٦/ ١٢٠ ب.
(٥) رواه ابن أبي شيبة، وابن جرير في المصدرين السابقين، نفس الموضع.
(٦) "الأم" ٢/ ٩٧ بتصرف يسير واختصار، والكلام التالي ذكره الشافعي في كتاب "الأم" ٢/ ١١٣.
514
يعطى)، قال الزجاج: (لأن ذا المعصية إن أدي عنه الدين كان ذلك تقوية له على المعاصي) (١).
وأصل الغرم في اللغة: لزوم ما يشق ويتعذر، والغرام: العذاب اللازم أو (٢) العشق أو الشر اللازم، وفلان مغرم بالنساء: -إذا كان مولعًا بهن- من هذا (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني: الغزاة والمرابطين، عند عامة المفسرين (٤)، قال الزجاج: (أي للمجاهدين حق في الصدقة) (٥).
ومذهب الشافعي في هذا: أن المغازي يجوز أن يعطى وإن كان غنيا إذا طلب (٦) وهو مذهب مالك (٧) وإسحق (٨) وأبي (٩) عبيد (١٠).
وقال أبو حنيفة وصاحباه (١١): (لا يعطى المغازي إلا أن يكون
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٦.
(٢) في (ح): (و).
(٣) انظر: "اللسان" (غرم) ٦/ ٣٢٤٧.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٦٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٢٤ - ١٨٢٥، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٥٢.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٦.
(٦) "الأم" ٢/ ٩٨.
(٧) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٩٦٩، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي ٨/ ١٨٥.
(٨) انظر: "المغني" ٩/ ٣٢٦.
(٩) في (ى): (ابن)، وهو خطأ.
(١٠) كتاب: "الأموال"، له ص ٧٢٦.
(١١) هما أبو يوسف ومحمد بن الحسن.
515
محتاجًا (١)، واحتج (٢) الشافعي بما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو في سبيل الله (٣)، أو ابن السبيل (٤)، أو رجل كان له جار فتصدق عليه فأهداها له" (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، قال ابن عباس: (يريد عابر السبيل) (٦)، قال المفسرون: (المسافر المنقطع يأخذ من الصدقة وإن كان
(١) انظر: "بدائع الصنائع" ٢/ ٩٠٧، و"المغني" ٩/ ٣٢٦.
(٢) في (ح): (واحتاج).
(٣) في (ح): (سبيل)، دون لفظ الجلالة.
(٤) هكذا ذكر الواحدي: (ابن السبيل) ومثله ابن جرير ١٠/ ١٦٥، والثعلبي ٦/ ١٢٠ ب، ولم يذكره الشافعي ولا غيره ممن أخرج الحديث ممن سيأتي ذكرهم، وإنما ذكروا مكانه (الغارم).
ورواية ابن جرير ضعيفة للإرسال ولضعف ابن وكيع، فهو ساقط الحديث كما بينه ابن حجر في "التقريب" ص ٢٤٥ (٢٤٥٦)، أما الثعلبي فقد ذكر الحديث بغير سند.
(٥) انظر: "الأم" ٢/ ٩٨، وقد ذكر الواحدي رواية ابن جرير، ولفظه عند الشافعي: (لا تحل الصدقة إلا لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني) ولفظه عند غيره: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة، لغاز..) إلخ، رواه أبو داود (١٦٣٥)، كتاب: الزكاة، باب: من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني، وابن ماجه (١٨٤١)، كتاب: الزكاة، باب: من تحل له الصدقة، وأحمد في "المسند" ٣/ ٥٦، والحاكم في "المستدرك"، كتاب: الزكاة ٢/ ٤٠٧، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(٦) في (ح): سبيل، وقد روى الأثر ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "الدر المنثور" بلفظ: المسافر.
516
غنيًا في بلده (١)، وهذا قول مجاهد (٢) والزهري (٣)، وقال الزجاج: (هو الذي قطع عليه الطريق) (٤).
قال الشافعي: (ابن السبيل المستحق للصدقة: هو الذي يريد السفر في غير معصية، فيعجز عن بلوغ سفره إلا بمعونة) (٥)، قال أصحابنا: (ومن أنشأ السفر من بلده لحاجة جاز أن يدفع إليه سهم ابن السبيل كالمجتاز ببلدك) (٦).
وقوله تعالى: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾، قال الزجاج: (منصوب على التوكيد؛ لأن قوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ﴾ لهؤلاء كقوله: فرض الله الصدقات (٧) لهؤلاء) (٨).
﴿فَرِيضَةً﴾، قال ابن عباس: (يريد أن الله تبارك وتعالى افترض هذا على الأغنياء في أموالهم) (٩) ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بخلقه ﴿حَكِيمٌ﴾ بما حكم فيهم (١٠).
(١) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٦٥، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٥٢.
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ١٦٦.
(٣) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب: الزكاة، باب: ما قالوا في الغارمين من هم ٣/ ٢٠٧، وابن جرير ١٠/ ١٦٦.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٦.
(٥) "الأم" ٢/ ٩٨.
(٦) انظر: "المهذب في فقه الإمام الشافعي" ١/ ١٧٣، و"روضة الطالبين" ٢/ ٣٢٥.
(٧) في (ى): (الصدقة الصدقات)، وهذه الزيادة لا معنى لها، وليست في "معاني القرآن وإعرابه".
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٧. ومراد الزجاج أن المعنى: فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة.
(٩) "الوجيز" ٦/ ٥٤٦.
(١٠) في (ح): (فيه).
517
فأما حكم هذه الآية فقال قوم: قاسم الصدقة له أن يضعها في أي هؤلاء الأصناف شاء، وإنما سمى (١) الله الأصناف الثمانية (٢) إعلاماً منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها، وهذا قول عمر وحذيفة وابن عباس وابن جبير وعطاء وأبي العالية وإبراهيم (٣)، ومذهب أبي حنيفة (٤) (٥).
(١) في (ى): أسمي، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لما في "تفسير الثعلبي".
(٢) في (ح): الثلاثة، وهو خطأ.
(٣) روى أثر إبراهيم ومن قبله ابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب: الزكاة، باب: ما قالوا إذا وضع الصدقة في صنف واحد ٣/ ١٨٢، وابن جرير ١٠/ ١٦٦ - ١٦٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨١٧، والثعلبي ٦/ ١٢١ أ، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب: قسم الصدقات، باب: من جعل الصدقة في صنف واحد ٧/ ١١، ١٢.
(٤) انظر: "بدائع الصنائع" ٢/ ٩٠٨. وهو أيضًا مذهب الحنابلة كما في "المغني" ٤/ ١٢٧.
(٥) قلت: ومن أقوى أدلة هذا القول حديث سلمة بن صخر الذي ظاهر من امرأته ثم واقعها، وفيه: (اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له: فليدفعها إليك)، رواه أبو داود رقم (٢٢١٣)، كتاب: الطلاق، باب: في الظهار، والترمذي رقم (٣٢٩٩)، كتاب التفسير، باب: ومن سورة المجادلة، وابن ماجه رقم (٢٠٦٢)، كتاب: الطلاق، باب: الظهار، وأحمد ٤/ ٣٧، والحاكم ٢/ ٢٠٣، وقد حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في "إراوء الغليل" ٧/ ١٧٩: (وبالجملة فالحديث بطرقه وشاهده صحيح).
والشاهد فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه صدقة بني زريق كلها ولم يقسمها على الأصناف الثمانية.
وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، رواه البخاري (١٣٩٥)، كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، فلم يأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم الزكاة على الأصناف الثمانية.
518
وكان الشافعي يجري الآية على ظاهرها ويقول: ذكر الله تعالى ثمانية أصناف فبين أن كل صنف منهم يستحق سهمه فلا يجوز حرمان صنف موجود، وكيف يجوز مع هذه القسمة (١) التي تولاها سبحانه ثم أكدها بقوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ فإذا تولى رب المال قسمها فإن عليه وضعها في ستة أصناف [لأن سهم] (٢) المؤلفة ساقط، وسهم العاملين (٣) يبطل بقسمة إياها، ولا يجزئه أن يعطي من كل صنف منهم أقل من ثلاثة أنفس، ولا يصرف منها سهم ولا شيء منه عن أهله ما دام من أهله أحد (٤) يستحقه، ولا يخرج من بلد وفيه أهله، وترد حصة من لم يوجد من أهل السهمان على من وجد منهم) (٥)، وهذا قول عمر (٦) بن عبد العزيز (٧) وعكرمة (٨) والزهري (٩).
(١) في (ى): (التسمية).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) في (ى): الغارمين، والصواب ما أثبته وهو موافق لما في كتاب: "الأم".
(٤) ساقط من (ح).
(٥) انظر: أول قول الشافعي إلى قوله (فريضة من الله) في كتاب: "الأم" ٢/ ٩٤ - ٩٦ بمعناه، وانظر: بقية قوله في المصدر نفسه ص ١٠٦ بتصرف.
(٦) هو: عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي، أبو حفص، أمير المؤمنين، وخامس الخلفاء الراشدين، ومضرب المثل في العدل وحسن السياسة، وكان أحد الأئمة المجتهدين، توفي سنة ١٠١هـ.
انظر: "العبر" ١/ ٩١، و"تقريب التهذيب" ص ٤١٥ (٤٩٤٠).
(٧) رواه ابن أبي حاتم مفرقًا في مواضع من "تفسيره"، انظر ٤/ ٥٩ أ- ٦٠ ب- ٦١ أ، وانظر أيضاً "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢١ ب.
(٨) ذكره الثعلبي ٦/ ١٢١ ب، والبغوي ٤/ ٦٥، وقد روى عنه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٣/ ١٨٣ مثل قول الجمهور.
(٩) ذكره الثعلبي ٦/ ١٢١ ب.
519
قال أصحابنا: (أقل عدد كل صنف ثلاثة فصاعدًا، للفظ الجمع في (١) الآية، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث، وهو ثلث سهم الفقراء، يضمنه لفقير واحد أو (٢) أكثر) (٣).
وأما كيفية قسمها فهو أن تنظر فإن وجدت خمسة أصناف وقد لزمك أن تتصدق بعشرة دراهم، جعلت العشرة خمسة أسهم، كل سهم درهمان، ولا يجوز التفاضل، ثم يلزمك أن تدفع إلى كل صنف درهمين، وأقل عددهم ثلاثة ولا تلزمك التسوية بينهم، ولك أن تعطي فقيرًا درهمًا، وفقيرًا خمسة أسداس، وفقيرًا سدس درهم، هذه صفة قسم الصدقات على مذهب الشافعي (٤).
٦١ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ﴾، قال المفسرون: (نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحارث (٥) وجماعة معه، كانوا يؤذون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويبلغون حديثه إلى المنافقين ويعيبونه، ويقولون فيما بينهم: نقول ما شئنا ثم نأتيه ونحلف له ونقول: ما قلنا فيصدقنا؛ لأنه أذن، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ﴾ (٦)
(١) ساقط من (ح).
(٢) في (ح): (و).
(٣) انظر: "المهذب في فقه الإمام الشافعي" ١/ ١٧٣، و"روضة الطالبين" ٢/ ٣٢٩.
(٤) انظر: "الأم"، كتاب: قسم الصدقات ٢/ ٩٤ وما بعدها، و"روضة الطالبين" ٢/ ٣٣٠.
(٥) هو: نبتل بن الحارث بن قيس الأوسي، أخو بني عمرو بن عوف، ذكره ابن إسحاق في المنافقين، على وجه الظن من غير سند واعتمد قوله من جاء بعده. وقال الحافظ ابن حجر: (يحتمل أن يكون أبو عبيدة اطلع على أنه تاب). انظر: "السيرة النبوية" ٤/ ٢٠٨، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٦٨، و"الإصابة" ٣/ ٥٤٩.
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٦٨، والثعلبي ٦/ ١٢٢ أ، والبغوي ٤/ ٦٧، و"السيرة النبوية" لابن هشام ٤/ ٢٠٨، و"أسباب النزول" للمؤلف ص ٢٥٤.
520
يعني (١) من المنافقين من يوذيه بنقل حديثه، وعيبه ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾ أي يسمع من كل أحد ما يقول ويقبله، وقال (٢) الحسن: (قالوا: ما هذا الرجل إلا أذن، من شاء صرفه كيف شاء، ليست له عزيمة (٣).
وقرأ نافعٌ (أذن) بالتخفيف (٤)، مثل عنق وظفر وطنب، وكل ذلك يجيء فيه (٥) التخفيف، والأذن في الأصل عبارة عن جارحة مخصوصة، ويجوز أن يطلق على الجملة، ويوصف به، كما قال الخليل في الناب من الإبل: (إنه سميت به لمكان الناب البازل (٦) فسميت الجملة كلها به (٧)) (٨).
وكما قالوا للربيئة (٩)، وهو عين القوم، ويجوز أن يجري الاسم وصفًا للشيء إذا وجد معنى ذلك الاسم فيه (١٠)، وذلك كما أنشد أبو عثمان (١١):
(١) ساقط من (ى).
(٢) في (ى): (قال).
(٣) ذكره عن الحسن، الشيخ هود بن محكم في "تفسيره" ٢/ ١٤٥، والرازي في "تفسيره" ١٦/ ١١٦، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٧.
(٤) انظر: "كتاب السبعة في القراءات" ص ٣١٥، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٤٣.
(٥) في (ى): (في).
(٦) قال الجوهري في "الصحاح" (بزل) ٤/ ١٦٣٣: (بزل البعير يبزل بزولاً: فطر نابه، أي انشق، فهو بازل، ذكرًا كان أو أنثى وذلك في السنة التاسعة، وربما بزل في السنة الثامنة، والبازل أيضًا: اسم للسن التي طلعت).
(٧) في (ح): (بها).
(٨) انظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ٤٨٣، و"الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٩٩.
(٩) قال ابن فارس في "مجمل اللغة" (ربو) ٢/ ٤١٧: (الربيئة: عين القوم، يكون فوق مربأ من الأرض)، ونحوه في "تهذيب اللغة" (ربا) ١/ ١٣٣٤.
(١٠) ساقط من (ح).
(١١) هو: بكر بن محمد، أبو عمان المازني.
521
مئبرة العرقوب إشفى المرفق (١)
فوصف المرفق بالإشفى لما أراد من الدقة (٢) والهزال، وخلاف الدرم (٣).
وقال آخر (٤):
فلولا الله والمهر المفدى لأبت وأنت غربال الإهاب
فجعله غربالًا لكثرة الخروق فيه من آثار الطعن، فكذلك ﴿هُوَ أُذُنٌ﴾ أجرى على الجملة اسم الجارحة لإرادة (٥) كثرة استعمالها (٦) في الاصغاء بها، ويجوز أن تكون (فعلا) من أذن يأذن: إذا استمع، ويكون معناه: إنه كثير الاستماع، وفي التنزيل: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ (٧) أي استمعت، وقالوا: ائذن لكلامي: أي استمع له، وفي الحديث: "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي
(١) لم أهتد إلى قائله، وانظر الرجز بلا نسبة في: "الخصائص" ٢/ ٢٢١، ٣/ ١٩٥، و"المخصص" ١٥/ ١٠٦، و"الممتع في التصريف" ١/ ٧٤.
والمئبر: ما رقّ من الرمل، وإبرة الفرس: ما انحد من عرقوبيه. اللسان (أبر).
والإشفى: المثقب. المصدر السابق (شفا).
يقول: إنها حادة العرقوب، حادة المرفق بسبب الهزال.
(٢) في (ى): (الذمة)، وهو خطأ.
(٣) الدرم في الكعب: أن يوازيه اللحم حتى لا يكون له حجم، ودرم الكعب والعرقوب والساق درمًا: استوى، والأدرم: الذي لا حجم لعظامه، وكل ما غطاه الشحم واللحم وخفي حجمه فقد درم. انظر: "اللسان" (درم) ٣/ ١٣٦٦.
(٤) البيت لمنذر بن حسان كما في "المقاصد النحوية" ٣/ ١٤٠، وهو بلا نسبة في "الخصائص" ٢/ ٢٢١، و"الدرر اللوامع" ٢/ ١٣٦، و"شرح الأشموني" ٢/ ٣٦٢، و"لسان العرب" (غربل) ٦/ ٣٢٣١، و"المخصص" ١٥/ ١٠٦.
(٥) في (ح) و (ي): (لإرادته).
(٦) في (م): (استعماله لها).
(٧) الآية: ٢ والآيه: ٥ من سورة الانشقاق.
522
يتغنى بالقرآن" (١)، ومنه قول عدي (٢):
في سماع يأذن الشيخ له وحديث مثل ماذي مشار (٣)
ويقوي هذا الوجه أن أبا زيد قال: رجل أُذُنٌ، ويَقَنٌ: إذا كان يصدق بكل ما يسمع (٤)، فكما أن يَقَنٌ صفة كبطل (٥)، كذلك أُذُن كأنُف.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ﴾ أي مستمع خير وصلاح ومصغ إليه، لا مستمع شر وفساد، وروى الأعشى (٦) والبرجمي (٧): (أذنٌ
(١) الحديث بهذا اللفظ رواه مسلم في "صحيحه"، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، (رقم ٢٣٤) ١/ ٥٤٦، وبنحوه رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب من لم يتغن بالقرآن، (رقم ٤٢) ٦/ ٣٢٨.
(٢) هو: عدي بن زيد بن حمار العبادي التميمي، شاعر جاهلي، من دهاة العرب، كان يسكن الحيرة، ويحسن الفارسية فاتخذه كسرى ترجمانًا بينه وبين العرب، وعلماء العربية لا يرون شعره حجة لتأثره بالعجم، قتله النعمان بن المنذر نحو سنة ٢٥ ق هـ. انظر: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ١٣٧، ١٤٠، و"الشعر والشعراء" ص ١٣٠، و"الأعلام" ٤/ ٢٢٠.
(٣) البيت لعدي بن زيد كما في "ديوانه" ص ٩٥، و"شرح حماسة التبريزي" ٤/ ٢٤، والمرزوقي ص ١٤٥١، و"اللسان" (شور) ٤/ ٢٣٥٦.
والماذي: العسل الأبيض، والمشار: المجتنى. انظر: "لسان العرب"، الموضع السابق.
(٤) "النوادر في اللغة"، له ص ٣٢١، و"الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٠١.
(٥) ساقط من (ى).
(٦) هو: يعقوب بن محمد بن خليفة الكوفي، أبو يوسف الأعشى، أجل تلاميذ شعبة، كان قارئًا مجيدًا ضابطًا، توفي نحو سنة ٢٠٠ هـ.
انظر: "معرفة الاقراء الكبار" ١/ ١٥٩، و"غاية النهاية" ٢/ ٣٩٠.
(٧) هو: عبد الحميد بن صالح بن عجلان البرجمي التميمي، أبو صالح الكوفي، مقرئ ثقة، من تلاميذ شعبة، توفي سنة٢٣٠هـ.
انظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ٢٠٢، و"غاية النهاية" ١/ ٣٦٠.
523
خيرٌ) (١) على وصف الأذن بـ (خير) ومعناه: أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم، و ﴿خَيْرٍ﴾ في القراءة الأولى بمعنى صلاح (٢)، وفي الثانية بمعنى أصلح، قال أبو إسحاق: (من قرأ (أذنٌ خيرٌ) بالتنوين، فالمعنى: قل من يسمع منكم، ويكون قريبًا منكم، قابلًا للعذر، خير لكم (٣).
والقراءة هي الأولى؛ لأن ما بعده يؤكده، وهو قوله: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي يسمع ما ينزله (٤) الله جل وعز عليه (٥) فيصدق به ويصدق المؤمنين فيما يخبرونه به، فهو أذن خير، لا أذن شر، وقال عطاء عن ابن عباس في قوله: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ﴾ (يريد: يسمع كلام جبريل فينهاكم عن معاصي الله، ويأمركم بطاعته، ولتطرحوا عنكم ما علم الله في قلوبكم من النفاق) (٦)، وقال الفراء في قوله: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾: أي يصدق بالله، و ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ويصدق المؤمنين أراد: لكنه لا يصدقكم إنما يصدق المؤمنين، قال: وهو كقوله: ﴿لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٤] أي يرهبون ربهم (٧).
(١) يعني بالرفع والتنوين في الكلمتين، وقد روى هذه القراءة الأعشى والبرجمي عن أبي بكر عن عاصم، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٥، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٣١٩، و"تفسير البغوي" ٤/ ٦٧.
(٢) في (ى): (صاد).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٧.
(٤) في (ح): (ما بين).
(٥) من (م).
(٦) هذا الأثر من رواية عطاء التي لم أعثر على مصدرها.
(٧) "معاني القرآن" ١/ ٤٤٤.
524
ويقال: آمن به وآمنه وآمن له، أي: صدقه، وقال أبو علي: اللام في ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ على حدها في قوله ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ [النمل: ٧٢] أو على المعنى؛ لأن معنى يؤمن: يصدق، فعدى باللام كما عدي مصدق به في نحو: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ [المائدة: ٤٦] (١).
قال المفسرون (٢): وهذا تكذيب من الله للمنافقين، كأنه قال: إن محمدًا يصدق الله ويصدق المؤمنين، قال: وهو كقوله: ﴿لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٤].
وتكلم صاحب "النظم" في هذه الآية فأفاد، وهو أنه قال: من قرأ بترك الإضافة فقوله: ﴿أُذُنٌ﴾ رفع بالابتداء في الظاهر، وموضعه في الباطن نصب على الحال؛ لأن تأويله: قل هو أذنًا خير لكم، أي: إذا كان أذنًا خير لكم، و (خير) بمنزلة (أفعل) لأنه يقبل منكم ما تقولون فيما تعتذرون به، وليس ذلك راجعًا عليه بعيب، ويكون قوله: (هو) -لو ظهر- مبتدأ، وقوله تعالى: (أذنًا) (٣) بعده حال.
وقوله تعالى: ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ خبر للمبتدأ، كما تقول في الكلام: هو حافظًا خير لك (٤)، [أي: في حال الحفظ خير لك] (٥)، فلما كف -عز وجل- ذكره (هو) وضع ما بعده من الحال موضعه فصار مبتدأ، كما تقول في الكلام: هو حافظ خير لك، والعرب تضمر (هو) في الكلام، كقوله: {سَيَقُولُونَ
(١) "الحجة" ٤/ ٢٠٤.
(٢) القول للإمام ابن جرير، انظر: "تفسيره" ١٠/ ١٦٩، وانظر معناه في: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٢٢ ب، والبغوي ٤/ ٦٧.
(٣) يعني في حالة التأويل.
(٤) في (ح): (لكم)، وأثبت ما في (م) و (ى) لموافقته للموضعين بعده.
(٥) ما بين المعقوفتين ساقط من (ى).
525
ثَلَاثَةٌ} [الكهف: ٢٢] الآية (١).
ومن قرأ بالإضافة في (خير) ليس على (أفعل) وتقديره (٢) تقدير (فضل) و (نفع) [بمعنى: قل هو أذن نفع] (٣) لكم، لما (٤) تجدون فيه وعنده من السهولة والمسامحة فيما يبلغه عنكم، ثم بين الله -عز وجل- ذلك بقوله: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي يصدقهم كما قال -عز وجل-: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ [آل عمران: ٧٣] أي: لا تصدقوا، والمؤمنون هاهنا: المنافقون (٥) الذين آمنوا بألسنتهم ولم (٦) يخلصوا بقلوبهم، فقبل - ﷺ - ظاهرهم، وخلطهم بالمؤمنين في الأحكام، ومنه قوله: ﴿إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ [الممتحنة: ١٠] [فسماهن مؤمنات بإقبالهن إلى الهجرة ثم قال: ﴿فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾] (٧) ولا يقع الامتحان إلا على من لا يُعرف إيمانه، ثم قال: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ أي بما يظهرن من الإيمان بألسنتهن.
وأما قوله: ﴿وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ فهم (٨) المخلصون؛ لأن الرحمة لا تنال إلا من أخلص إيمانه، وقد يحتمل أن يكون قوله: ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي يصدق المؤمنين المخلصين فأما غير المخلصين فإنه يسمع منهم
(١) انظر: قول صاحب النظم في "تفسير الرازي" ١٦/ ١١٧ - ١١٨ وقال: هذا الوجه شديد التكلف.
(٢) ساقط من (ح).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط عن (ح).
(٤) في (ح): (ما).
(٥) في (ى): (المنافقين)، وهو خطأ.
(٦) في (ح): (وإن لم).
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٨) ساقط من (ح).
526
ما يقولون ولا يظهر لهم التكذيب، ويكل أمرهم إلى الله -عز وجل (١) -، والله أعلم بما أراد من ذلك.
وقوله تعالى: ﴿وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾، قال الزجاج: (أي وهو رحمة؛ لأنه كان سبب إيمان المؤمنين) (٢)، فجعله الرحمة لكثرة هذا المعنى منه، وعلى هذا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧].
وقرأ حمزة (ورحمةٍ) بالجر (٣)، عطفا على خير، كأنه: أذن خير ورحمة، أي مستمع رحمة، وجاز هذا كما جاز مستمع خير، ألا ترى أن الرحمة من الخير، فإنه قيل: فهلا (٤) استغنى بشمول الخير للرحمة وغيرها عن (٥) تقدير عطف الرحمة عليه؟ فالقول: إن ذلك لا يمتنع، كما لم يمتنع ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١]، ثم خص فقال: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ [العلق: ٢] كذلك الرحمة، وإن كانت من الخير، لم يمتنع أن تُعطف عليه (٦) فتخصص (٧) الرحمة بالذكر من بين ضروب الخير لغلبة ذلك في وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- وكثرته، قال أبو عبيد: (هذه القراءة بعيدة في مذهب
(١) وهذا الوجه هو اختيار ابن جرير في تفسيره ١٠/ ١٦٩ حيث قال: يقول جل ثناؤه: إنما محمد - ﷺ - مستمع خير، يصدق بالله وبما جاء من عنده، ويصدق المؤمنين، لا أهل النفاق والكفر بالله.
(٢) اهـ. كلام الزجاج، كما في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٧.
(٣) كتاب: "السبعة" ص ٣١٥، وكتاب: "التيسير" ص ١١٨.
(٤) في (ى): (هلا)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقة لما في "الحجة للقراء السبعة"؛ لأن النص منقول منه حرفيًّا.
(٥) في (ى): (من)، وأثبت ما في (ح) للسبب السابق.
(٦) ساقط من (ى).
(٧) في (ح): (فتخص).
527
النحو (١)؛ لأنه تباعد عن الذي عطفته عليه) (٢).
قال أبو علي: (البعد بين (٣) الجار وما عطف عليه لا يمنع من العطف، ألا ترى أن من قرأ ﴿وَقِيلِهِ يَا رَبِّ﴾ [الزخرف: ٨٨] إنما يحمله على: (﴿وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ وعلم قيله (٤)) (٥).
٦٢ - قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ أي يحلف هؤلاء المنافقون فيما بلغكم عنهم من أذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والطعن عليه أنهم بما أتوا ذلك، قال الزجاج: (حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليرضوا المؤمنين بيمينهم) (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ ولم يقل: يرضوهما لأن المعنى يدل عليه، فحذف استخفافًا؛ لأن رضا الرسول - ﷺ - برضا الله -عز وجل-.
وهذه المسألة قد مضت عند قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ [التوبة: ٣٤] وفي (٧) غيرها من الآيات (٨).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾، قال الزجاج: (أي إن كانوا
(١) في (ى): (النحويين).
(٢) انظر: "تفسير الرازي" ١٦/ ١١٨ ولم أجد قول أبي عبيد في مصدر آخر، وانظر اختياره لقراءة الجمهور في "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٢٢ ب.
(٣) في (م): (من).
(٤) يعني أنه قد بعد ما بين المعطوف والمعطوف عليه، فإن قوله: ﴿وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ من الآية ٨٥ من السورة نفسها.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٠٤.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٨ مع تصرف يسير.
(٧) ساقط من (ى).
(٨) انظر مثلاً: تفسير الآية: ٢٠، والآية: ٢٤ من سورة الأنفال.
على ما يظهرون، فكان (١) ينبغي ألا يعيبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فيكونوا بقبولهم (٢) قوله، وترك عيبه مؤمنين (٣)) (٤)، وهذا تهجين لهؤلاء السفهاء بطلب مرضاة العباد مع ترك مرضاة رب العباد، والرسول المبعوث لصلاح العباد (٥).
٦٣ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ﴾ الآية، قال ابن عباس والكلبي: (نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك (٦)، قال أهل المعاني: معنى قولك: ألم تعلم [لمن لا يعلم] (٧): [الاستبطاء له] (٨) في تخلفه عن ذلك العلم (٩).
وقوله تعالى: ﴿أَنَّهُ﴾ (١٠) الكناية فيه ضمير الشأن والقصة، قال أبو علي الجرجاني: (وذلك أن (أن) يتضمن ما بعده من المبتدأ والخبر، ويشتمل عليهما (١١) حتى يصير معهما (١٢) قصة وشأنًا، مثل قولك: زيد
(١) ساقط من (م).
(٢) في (ى): (بقولهم)، وفي "معاني القرآن وإعرابه": بتوليهم النبي.
(٣) في (ى): (المؤمنين)، والصواب ما أثبته وهو موافق لما في "معاني القرآن وإعرابه".
(٤) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٨.
(٥) في (ى): (المبعوث من رب العباد).
(٦) ذكره عن الكلبي سببًا لنزول الآية السابقة الثعلبي ٦/ ١٢٣ أ، والبغوي ٤/ ٦٨، وابن الجوزي ٣/ ٤٦١، وفي "تنوير المقباس" ص ١٩٧: (ألم يعلموا): يعني جلاسًا وأصحابه.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٨) في (ح) و (ى): (الاستطالة).
(٩) ذكره بمعناه مع النسبة إلى أهل المعاني، الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١١٩، والخازن في "تفسيره" ٢/ ٢٣٨ ولم أجده في كتبهم التي بين يدي.
(١٠) ساقط من (ي).
(١١) في (ح): (عليها).
(١٢) في (ح): (معها)، وفي (ى): (معًا).
529
مريض، فإذا أردت أن تعلم غيرك مرضه قلت: اعلم أن زيدًا (١) مريض، ولو قلت: اعلم زيدًا مريضًا، كان العلم واقعًا على زيد نفسه دون المرض وانتقل المعنى عما كان عليه، فإذا قلت: اعلم أنه زيد مريض فقد تضمن (أن) ما بعده من المبتدأ والخبر، وجمع معناهما في الهاء التي وقع عليها (٢) (أن) وعمل (أن) فيها، وشغل بها عن غيرها، فصارت الهاء كناية عن القصة والشأن، وارتفع ما بعدها من المبتدأ والخبر لشغلك (أن) بالهاء، وصار ما بعد الهاء من المبتدأ والخبر بيانا لما في الهاء من نية تلك القصة لأنها مبهمة، فقوله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ﴾ الهاء (٣) قد تضمنت ما بعدها من المبتدأ وخبره، وما بعدها من قوله: ﴿مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ﴾ مبتدأ، ولذلك (٤) جزم لأنه شرطٌ مبتدأ (٥).
وقوله تعالى: ﴿مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ قال الليث: (حاددته أي: عاصيته (٦) وخالفته، والمحادة كالمجانبة والمخالفة والمعاداة، وذكر الزجاج اشتقاقه من الحد، قال: (ومعنى حاد فلان فلانًا: أي: صار في حد غير حده، كقولك: شاقه، ومعنى: ﴿مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ﴾ أي يصير في حد غير حد أولياء الله بالمخالفة) (٧).
(١) في (ى): (زيد)، وهو خطأ.
(٢) في (ح): (عليهما).
(٣) ساقط من (ح).
(٤) في (ح): (وكذلك)، وهو خطأ.
(٥) (من) الجازمة شرطية، وهي اسم باتفاق. انظر: "أوضح المسالك" ٣/ ١٨٩.
(٦) اهـ. الكلام المنسوب لليث، انظر: "تهذيب اللغة" (حد) ١/ ٧٦٠، والنص في كتاب: "العين" للخليل (حد) ٣/ ٢٠.
(٧) ذكر الزجاج بعفر معنى هذا القول في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٨، والبعض الآخر في المصدر السابق: نفسه ٥/ ١٣٦.
530
قال ابن عباس: (يعني من يخالف الله ورسوله بتكذيب نبيه، والإظهار باللسان خلاف ما في القلب) (١)، وقال الأخفش: ﴿يُحَادِدِ اللَّهَ﴾: يحارب الله) (٢)، وقال قطرب: (يعاند الله) (٣)، وقال الزجاج: (يعاد (٤) الله) (٥).
﴿فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ [المعنى: فله نار جهنم] (٦) ولكنه لما طال الكلام أعيد (أن) ليكون أوكد، ويجوز كسر (فإن) على الاستئناف بعد الفاء، والقراءة بالفتح (٧)، هذا معنى كلام أبي إسحاق (٨)، والكلام في إعراب هذه الآية يأتي (٩) في قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ﴾ [الحج: ٤] (١٠).
(١) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٤٦٢، و"الوسيط" ٢/ ٥٠٧.
(٢) لم أجده، وقد ذكره من غير تعيين القائل الرازي ١٦/ ١١٩ - ١٢٠، و"الخازن" ٢/ ٢٣٨.
(٣) انظر: المصدرين السابقين، نفس الموضع، دون تعيين القائل.
(٤) في (م): (يضاد)، وفي "معاني القرآن": يعادي، وذكره الرازي ١٦/ ١٢٠ بمثل ما أثبته.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٨.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٧) يعني القراءة المتواترة، وقد قرأ ابن أبي عبلة وأبو رزين وأبو عمران وغيرهما بالكسر، انظر: "المحرر الوجيز" ٦/ ٥٥٢ - ٥٥٣، و"زاد المسير" ٣/ ٤٦٢، و"البحر المحيط" ٥/ ٦٤.
(٨) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٩ لكنه قال: (القراءة بالفتح والكسر). وكذلك قال أبو البقاء العكبري في "التبيان في إعراب القرآن" ص ٤٢٣، وأنكر قراءة الكسر ابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ١٧٠ - ١٧١، ولا شك أنها شاذة، انظر التعليق السابق.
(٩) في (ح): (بأن).
(١٠) انظر: "النسخة الأزهرية" ٤/ ٣ أحيث قال: (قال أبو إسحاق: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ﴾ (أنه) في موضع رفع ﴿فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ﴾ عطف عليه، والفاء الأجود فيها أن =
531
٦٤ - قوله تعالى: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ﴾ الآية، قال مجاهد والكلبي: (كان المنافقون يعيبون رسول الله - ﷺ - فيما بينهم، يقولون: عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا، فأنزل الله هذه الآية) (١).
وقوله تعالى: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ﴾ إخبار عنهم بما كانوا يفرقون من هتكهم وفضيحتهم، قال الزجاج: (ويجوز أن يكون لفظه خبرًا ومعناه أمرًا) (٢)، وهذا بعيد، وآخر الآية دليل على أن المراد بقوله: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ﴾ (٣) الخبر وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾.
وقوله: ﴿أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ﴾ الظاهر أن الكناية عائدة على المنافقين، والوجه أن ترجع إلى المؤمنين، [والمعنى: أن تنزل على المؤمنين، (٤) سورة تنبئهم بما في قلوب المنافقين (٥)، [ونحو هذا قال الحسن (٦).
= تكون في معنى الجزاء، وجائز كسر (إن) مع الفاء، وتكون جزاء لا غير،.. وحقيقة (أن) الثانية أنها مكررة على جهة التوكيد؛ لأن المعنى: كتب عليه أنه من تولاه أضله) ثم ذكر رأي أبي علي الفارسي وأطال في ذلك.
(١) رواه عن مجاهد بنحوه ابن جرير ١٠/ ١٧١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٢٩، والثعلي ٦/ ١٢٣ أولم أجد من ذكره عن الكلبي.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٩ بنحوه.
(٣) من (ى).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٥) في (ى): (قلوبهم).
(٦) ذكر عن الحسن عدة أقوال بهذا المعنى، فروى عنه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٣ أأنه قال: (كان المسلمون يسمون هذه السورة الحفارة حفرت في قلوب المنافقين فأظهرته)، وذكره عنه الهواري في "تفسيره" ٢/ ١٤٧ بلفظ: (كانت تسمى حافرة، أنبأت بما في قلوب المنافقين)، وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٦٣: في =
532
وقوله تعالى: ﴿تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾] (١) قال ابن عباس: (يريد: ينزل الله في تلك السورة [ما استتروا به من الناس) والمعنى: يظهر] (٢) ما في قلوبهم من الحسد لرسول الله - ﷺ - والمؤمنين وما كانوا ينطوون (٣) عليه من العداوة لهم.
وقوله تعالى: ﴿قُلِ اسْتَهْزِئُوا﴾ أمر وعيد ﴿إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ﴾ مظهر ﴿مَا تَحْذَرُونَ﴾ ظهوره، قال عطاء عن ابن عباس: (أنزل الله أسماء المنافقين وكانوا سبعين رجلاً فأنزل الله أسماءهم، وأسماء آبائهم وعشائرهم في القرآن، ثم نسخ تلك الأسماء رأفة منه ورحمة؛ لأن أولادهم كانوا مسلمين، والناس يعير بعضهم بعضًا) (٤)، فعلى هذا قد أنجز الله وعده بإظهار ذلك في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾، وقال بعضهم: (إن الله أخرج ذلك حيث ألهم النبي -صلى الله عليه وسلم- معرفتهم فقال: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: ٣٠] (٥)، قال عطاء ومقاتل وقتادة: (كانت تسمى هذه السورة الفاضحة والمثيرة والمبعثرة، أثارت مخازي المنافقين وفضحتهم) (٦) فإن قيل: أكان
= قوله (يحذر المنافقون) قولان:
أحدهما: أنه إخبار من الله -عز وجل- عن حالهم، قاله الحسن.. إلخ.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) في (ى): (ينطون)، بلا نقط في جميع الحروف.
(٤) رواه البغوي في "تفسيره" ٤/ ٦٨ بنحوه.
(٥) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٨/ ١٩٦ ولم يعين القائل، واعتمد هذا القول المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٧.
(٦) رواه عن قتادة بلفظه الثعلبي ٦/ ١٢٣، والبغوي ٤/ ٦٨، وبنحوه ابن جرير ١٠/ ١٧١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٢٩، وانظر: قول مقاتل في "تفسيره" ١٣١ أمختصرًا، ولم أجد من ذكره عن عطاء.
533
المنافقون يحذرون هذا وهم ينطوون (١) على الكفر ومجانبة الإيمان؟.
قيل: هذا لا يلزم على مذهب الزجاج، حيث جعل (٢) قوله: (يحذر) بمعنى الأمر (٣)، وإن جعلته خبرًا فالمنافقون كانوا ينحرفون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حسدًا له (٤) وبغيًا، وقلوبهم تشهد بصدقه، وهم يخافون نزول سورة عليه يكشف فيها أمرهم، إذا كانوا لا يشكون في نزول الملائكة عليه، وأن الله يطلعه من الغيب على ما هو مستور عن غيره، هذا كلام ابن الأنباري (٥)، وقد أشار الزجاج إلى هذه الجملة حيمث قال في قوله: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ﴾: (ويجوز أن يكون خبرًا عنهم؛ لأنهم كانوا يكفرون عنادًا وحسدًا) (٦).
٦٥ - وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾، قال ابن عمر، وزيد بن أسلم والقرظي: (قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: ما رأيت مثل هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، فقال له عوف بن مالك (٧): كذبت، ولكنك منافق [لا خير فيك] (٨)، لأخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذهب عوف ليخبره فوجد القرآن قد
(١) في (ى): (يبطنون)، بلا نقط.
(٢) في (م): (يجعل).
(٣) انظر: "معاني القرآن واعرابه" ٢/ ٤٥٩.
(٤) ساقط من (ى).
(٥) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٤٦٣ بمعناه مختصرًا، وأشار إلى أن محمد بن القاسم بن الأنباري اختاره.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٩.
(٧) هو: عوف بن مالك بن أبي عوف الأشجعي، صحابي مشهور، من مسلمة الفتح، وقيل: إنه شهد الفتح، وكانت معه راية أشجع، توفي سنة ٧٣ هـ. انظر: "الكاشف" ٢/ ١٠١، و"الإصابة" ٣/ ١٨٢، و"تقريب التهذيب" ص ٤٣٣ (٥٢١٧).
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
534
سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إنما كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به عناء الطريق، قال ابن عمر: كأني انظر إليه متعلقًا بنسعة (١) ناقة رسول الله - ﷺ - وإن الحجارة لتنكب رجليه، وهو (٢) يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله - ﷺ - يقول: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ ما يلتفت إليه، وما يزيده عليه (٣).
وقال قتادة والحسن: "إن المنافقين قالوا في غزوة تبوك أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات هيهات (٤)، فأطلع الله (٥) نبيه على ما قالوا (٦) " (٧)، فقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾، قال الزجاج: (عما كانوا فيه من الاستهزاء) (٨).
(١) النسع: سير عريض، تشد به الرحال، والقطعة منه نسعة، وسمي نسعًا لطوله "القاموس المحيط"، فصل النون، باب: العين ص ٧٦٦.
(٢) ساقط من (م).
(٣) ذكره عنهم بنحو هذا اللفظ الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٣ ب، ورواه عنهم ابن جرير بألفاظ مختلفة. انظر: "تفسيره" ١٠/ ١٧٢ - ١٧٣، وانظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٨٢٩ - ١٨٣٠.
(٤) ساقط من (ح).
(٥) ساقط من (ى).
(٦) في (ح): (قاله).
(٧) ذكره عنهما بهذا اللفظ الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٧٨، ورواه عن قتادة مطولًا ابن جرير ١٠/ ١٧٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٣٠، والثعلبي ٦/ ١٢٤ أ.
(٨) لم يذكر الزجاج هذا القول عند تفسير هذه الآية في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٩.
535
وقال غيره: هذا سؤال تأنيب كقولك للإنسان: لم فعلت هذا القبيح (١)؟ وكذلك قيل لهم: لم طعنتم في الدين بالباطل والزور؟ فأجابوا بما لا عذر فيه، بل هو وبال على المجيب، وهو قولهم: ﴿إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ وأصل الخوض الدخول في مائع، مثل الماء والطين، ثم كثر حتى صار في كل دخول فيه تلويث وأذى، فمعنى ﴿نَخُوضُ﴾: أي: في الباطل من الكلام كما يخوض الركب يقطعون به الطريق، ﴿وَنَلْعَبُ﴾، فأجابهم الرسول - ﷺ - ﴿أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: حدوده وفرائضه ﴿كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾.
وذكر الكلبي ومقاتل بن سليمان وغيرهما في سبب نزول هذه الآية غير ما ذكرنا أولاً، وهو أنهم قالوا: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعًا من غزوة تبوك في مسيره، وثلاثة نفر (٢) يسيرون بين يديه، فجعل رجلان منهم يستهزآن بالقرآن ورسول [الله - ﷺ -] (٣) والثالث يضحك، فنزل جبريل وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمؤمنين: "أتدرون ما يتحدث به هؤلاء النفر الثلاثة (٤)؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنهم يستهزؤن بالله ورسوله وبالقرآن، نزل علي جبريل فأخبرني بذلك، ولئن أرسلت إليهم فسألتهم مم كانوا يضحكون؟ ليقولن: كنا نتحدث بحديث الركب ونضحك"، ثم قال لعمار بن ياسر: "انطلق فاسألهم عما كانوا (٥) يضحكون
(١) لم أعثر فيما بين يدي من المصادر على هذا القول.
(٢) في "تفسير مقاتل": النفر الأربعة، وقد جاء في السيرة النبوية ٤/ ٢٠٩ تسمية اثنين منهما هما وديعة بن ثابت، ومخشي بن حمير.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٤) في (ح): (الثلاثة النفر).
(٥) من (م).
536
ويتحدثون، وقل لهم: [احترقتم أحرقكم الله"، فأتبعهم عمار فلحقهم، وقال لهم:] (١) مم تضحكون وتتحدثون؟ قالوا: نتحدث بحديث الركب ونضحك بيننا، فقال: صدق الله ورسوله (٢)، احترقتم أحرقكم الله (٣).
٦٦ - قوله تعالى: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا﴾، قال المفضل بن سلمة: (معنى الاعتذار هو أثر الموجدة، من قولهم اعتذرت المنازل إذا درست) (٤)، يقال: مررت بمنزل معتذر بال. قال ابن أحمر في الاعتذار بمعنى الدروس:
قد كنت تعرف آيات فقد جَعَلت أطلال إلفك بالودكاء تعتذر (٥)
وأخذ الاعتذار من هذا؛ لأن من اعتذر شاب اعتذاره بكذب (٦) يعفي على ذنبه.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) في (ى): (صدق رسول الله).
(٣) "تفسير مقاتل" ١٣١ أبنحوه، وذكره بلفظ مقارب ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٤٦٤ عن أبي صالح عن ابن عباس، ورواه عن الكلبي مختصرًا عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٨٢، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٥٦، وروى بعضه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٣٠ عن كعب بن مالك، وانظر: "السيرة النبوية" ٤/ ٢٠٩.
(٤) اهـ. كلام المفضل، انظر: "تهذيب اللغة" (عذر) ٣/ ٢٣٦٨.
(٥) البيت لابن أحمر كما في "تهذيب اللغة" (عذر) ٣/ ٢٣٦٨، و"لسان العرب" ٥/ ٢٨٥٩، و (ودك) ١٠/ ٥٠٩.
والودكاء: موضع، أو رملة. انظر: "لسان العرب"، الموضع السابق الأخير.
والشاعر يذكر شيخوخته وزوال شبابه، إذ يقول في بيت سابق:
بان الشباب وأفنى ضعفه العمر لله درك، أي العيش تنتظر
يقول: عشت ضعف عمر رجل، فما معنى البقاء والانتظار، ثم إن الآيات والعلامات في بقايا وأطلال المكان الذي كنت آلفه قد بدأت تندرس وتزول.
(٦) في (ح): (بكدر)، وأتبت ما في (م) و (ى) لموافقته لما في "تهذيب اللغة" (عذر).
537
وقال ابن الأعرابي: (اعتذرت إليه: هو قطع ما في قلبه) (١)، ومنه عذرة الغلام لقُلفته، وهي ما يقطع عند الختان، وعذرة الجارية سميت عذرة بالعذر وهو القطع، قاله اللحياني (٢)، لأنها إذا خفضت (٣) قطعت نواتها، وإذا افترعت (٤) انقطع حاتم عذرتها، ومن هذا يقال: اعتذرت المياه إذا انقطعت، وعلى هذا معنى العذر (٥): قطع اللائمة عن الجاني، فالقولان قريبان من السواء لأن هو أثر الموجدة قطع له.
وقوله تعالى: ﴿قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾، قال أبو إسحاق: (تأويله: قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان) (٦).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً﴾، قال المفسرون: (الطائفتان كانوا ثلاثة نفر هزيء اثنان وضحك واحد على ما بينا) (٧)، فالطائفة الأولى الضاحك، والأخرى الهازئان، قال مجاهد في
(١) اهـ. كلام ابن الأعرابي، انظر: "تهذيب اللغة" (عذر) ٣/ ٢٣٦٨.
(٢) انظر قوله في: "تهذيب اللغة" (عذر) ٣/ ٢٣٦٨.
(٣) الخفض للجارية: كالختان للغلام. "لسان العرب" (خفض).
(٤) في "لسان العرب" (فرع) ٦/ ٣٣٩٥: افترع البكر: افتضها، والفرعة: دمها، وقيل له: افتراع لأنه أول جماعها.
(٥) ساقط من (ح).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٩، وقول الزجاج هذا بناء على أنهم كانوا كفارًا منافقين قبل هذا القول، لكن لفظ الآية أعم بما ذكره الزجاج، فالاستهزاء بالله أو رسوله أو شيء بما جاء به الإسلام يعد باب من أبواب الكفر الأكبر؛ لأنه يدل على الاستخفاف والاستصغار، وأساس الإيمان تعظيم الله تعالى وما يمت إليه بسبب بأقصى ما يمكن.
(٧) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٧٣، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٥٦ - ٤٥٧.
538
قوله، تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٢]، أقلها واحد (١)، وقال عطاء: أقلها اثنان (٢).
وقال أبو إسحاق: (الطائفة في اللغة: أصلها الجماعة؛ لأنها المقدار الذي يطيف بالشيء، وقد يجوز أن يقال (٣) للواحد: طائفة يراد نفسٌ طائفة) (٤).
وقال ابن الأنباري: (العرب توقع الجمع على الواحد فتقول: خرج فلان إلى مكة على الجمال، والله تعالى يقول (٥): ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ﴾ [آل عمران: ١٧٣] يعني نعيم بن مسعود. قال: ويجوز أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد يكون أصلها طائفا فتدخل الهاء للمبالغة) (٦).
وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس قال: (الطائفة: الواحد فما فوقه) (٧)، قال الكلبي: (الذي ضحك هو المعفو عنه) (٨)، وقال محمد بن
(١) رواه ابن جرير ١٨/ ٦٩ (ط. الحلبي) وعبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ٥٠، والبغوي في "تفسيره" ٦/ ٨، وابن المنذر وابن أبي حاتم، كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٥٧.
(٢) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ٥٠، والبغوي ٦/ ٨
(٣) في (ى): (تكون)، وهو خطأ.
(٤) "معاني القرآن واعرابه" ٢/ ٤٦٠.
(٥) ساقط من (ح).
(٦) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٤٦٦ مختصرًا.
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٢٤٥ وسنده واهٍ؛ إذ هو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
(٨) رواه بمعناه عبد الرزاق في"تفسيره" ١/ ٢/ ٢٨٢، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٥٦، وذكره بلفظ مقارب ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٦٤.
539
إسحاق: (الذي عفي عنه رجل واحد يقال له: مخشي (١) بن حُمير الأشجعي (٢)، أنكر (٣) عليهم بعض ما سمع، وجعل يسير مجانبًا لهم، فلما نزلت هذه الآية بريء من النفاق) (٤).
٦٧ - قوله تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾، قال ابن عباس: (أي على دين بعض) (٥).
قال أبو علي: (أي بعضهم يلابس بعضا، ويوالي بعضا، وليس المعنى على النسل (٦) والولادة؛ لأنه قد يكون من نسل المنافق مؤمن، ومن نسل المؤمن منافق) (٧).
وقال أبو إسحاق: (هذا يتلو قوله: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ﴾ [التوبة: ٥٦] أي ليس المنافقون من المؤمنين) (٨).
(١) في السيرة النبوية: مخشن، وقد أشار ابن هشام في موضع سابق ٤/ ٥٢٤ إلى الاختلاف في اسمه، وأثبت ابن حجر في "الإصابة" ٣/ ٣٩١ ما ذكره المؤلف، ولم يشر إلى الخلاف، بل إن ابن جرير رواه في "تفسيره" ١٠/ ١٧٣ عن ابن إسحاق بلفظ المؤلف، وهذا يدل على أنه الراجح في اسمه.
(٢) هو: مخشي بن حُمير -مصغرًا- الأشجعي، كان ممن نزل فيه قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ فكان ممن عفي عنه، فقال يا رسول الله: غير اسمي واسم أبي، فسماه عبد الله بن عبد الرحمن، فدعا ربه أن يقتل شهيداً حيث لا يعلم به، فقتل يوم اليمامة ولم يعلم له أثر.
انظر: "السيرة النبوية" ٤/ ٢٠٩، و"الإصابة" ٣/ ٣٩١.
(٣) في (ح): (نكر).
(٤) "السيرة النبوية" ٤/ ٢٠٩.
(٥) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٦٧، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٨.
(٦) في (ح): (النسك)، وهو خطأ.
(٧) "الحجة للقراء السبعة" ١/ ١٧٢.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٠.
540
وقال غيره من أهل المعاني: (معنى ﴿بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ يضاف إلى بعض بالاجتماع على النفاق (١)، كما تقول للإنسان (٢): أنت مني وأنا منك، أي أمرنا واحد لا ينفصل) (٣)، وقد ذكرنا هذا عند قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [النساء: ٢٥].
وقوله تعالى: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: بالنفاق والتثبيط عن الجهاد في سبيل الله، والتكذيب برسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (٤)، وقال الضحاك: (يأمرون بالكفر بمحمد) (٥)، ونحوه قال الزجاج (٦).
﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾، قال ابن عباس: (عن اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (٧)، وقال عطاء عنه: (الإخلاص لله بنية صادقة) (٨)، وقال الزجاج: (عن الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-) (٩). وقال الضحاك: (عن الإسلام وأداء الصدقات إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (١٠).
(١) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٧٩، والبغوي في "تفسيره" ٤/ ٧١، دون تعيين القائل.
(٢) في (ح): (يقول الإنسان).
(٣) لم أجده عند أهل المعاني، وانظر معناه في: "تفسير الرازي" ١٦/ ١٢٦.
(٤) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٣١ من رواية علي بن أبي طلحة بلفظ: التكذيب، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٧ من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه بلفظ: (بالكفر ومخالفة الرسول).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٠.
(٧) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٧ بلفظ: (عن الإيمان وموافقة الرسول).
(٨) رواه بمعناه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٣٢ من رواية علي بن أبي طلحة.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٠.
(١٠) لم أجد من أخرجه فيما بين يدي من المصادر.
541
وقوله تعالى: ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾، قال ابن عباس: (عن النفقة في سبيل الله) (١)، وهو قول الحسن (٢) ومجاهد (٣).
وقال قتادة: (لا يبسطونها بخير) (٤)، وقال القرظي: (يقبضون أيديهم عن كل خير) (٥).
وقال الزجاج: (أي: لا يصدقون ولا يزكون) (٦).
والأصل في هذا أن (٧) المعطي يمد يده ويبسطها بالعطاء، فقيل لمن بخل ومنع: قد قبض يده، وقد ذكرنا هذا المعنى (٨) مستقصى في (٩) قوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] (١٠).
(١) "زاد المسير" ٣/ ٤٦٧، و"تنوير المقباس" ص ١٩٧.
(٢) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٧٩، وابن الجوزي في "زاد المسير"
٣/ ٤٦٧.
(٣) رواه ابن جرير ١٠/ ١٧٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٣٢، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٤/ ٢٣٣.
(٤) رواه ابن جرير ١٤/ ٣٣٨، وابن أبي حاتم ٤/ ٦٥ أ، وبنحوه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/٢٨٣.
(٥) لم أجد من ذكره فيما بين يدي من المصادر.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٠.
(٧) ساقط من (ى).
(٨) ساقط من (ى).
(٩) في (ى): (عند).
(١٠) انظر النسخة (ج) ٢/ ٦١ ب وقد قال في هذا الموضع: (قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾: [قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد الإمساك عن الرزق) وقال في رواية الوالبي: ليسوا يعنون بذلك أن يده موثقة، ولكن يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده).. قال الفراء: (أرادوا ممسكة عن الإنفات والإسباغ علينا).
542
وقوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾، قال ابن عباس: (تركوا ما أمرهم [به من] (١) طاعته (٢)، وحضهم عليه من الجهاد في سبيله، فتركهم وخذلهم في الشك في قلوبهم) (٣)، وقال الضحاك: ([تركوا أمر الله فتركهم من كل خير) (٤)، وقال أهل المعاني: (معناه:] (٥): تركوا أمره حتى صار بمنزلة المنسي بالسهو عنه، فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته، وجاء هذا على مزاوجة الكلام) (٦).
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي: العاصون الله (٧) والخارجون عن أمره وطاعته.
٦٨ - قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾ الآية، يقال: وعده بالخير وعدًا، ووعده بالشر وعيدًا، وقوله تعالى: ﴿نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ﴾ [العامل في الحال محذوف بتقدير: أن يصلوها (٨) ﴿خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ﴾ (٩)، قال الزجاج وغيره: (هي كفاية (١٠) ذنوبهم، ووفاء
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) في (ى): (بطاعته).
(٣) رواه بنحوه ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٣٢ وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٥٨، ولفظ ابن أبي حاتم: (تركوا الله فتركهم من ثوابه وكرامته).
(٤) رواه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٥٨.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) انظر موضوع مزاوجة الكلام وتشابه الألفاظ مع اختلاف المعنى في: "تأويل مشكل إعراب القرآن" ص ٢٧٧، و"الحجة للقراء السبعة" ١/ ٣١٥.
(٧) في (ى): (لله).
(٨) في (ح): (أي يصلونها).
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(١٠) في (ى): (كناية)، والصواب ما في (ح) و (م).
لجزاء عملهم، كما يقال: عذبتك حسب فعلك، وحسب فلان ما نزل به، أي ذلك على قدر فعله) (١) (٢).
٦٩ - قوله تعالى: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ هذا الرجوع من الخبر إلى الخطاب، قال الفراء: (فعلتم كأفعال الذين من قبلكم) (٣)، يعني أن قوله: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ وصف لهم بهذه الأفعال، ثم قال: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي فعلتم هذه الأفعال [كأفعال الذين من قبلكم] (٤) فيكون المعنى على حذف المضاف، وقال الزجاج: (موضع الكاف نصب، أي وعدهم الله -عز وجل- على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم (٥)) (٦)، فعلى هذا: قوله: ﴿كَالَّذِينَ﴾ أي: كوعد الذين، والكاف متعلق بقوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ﴾.
وقال غيره (٧): (شبه المنافقون في عدولهم عن أمر الله للاستمتاع بلذات الدنيا بمن قبلهم) فعلى هذا: الكاف في محل الرفع بأنه خبر (٨) ابتداء محذوف على تقدير: أنتم كالذين من قبلكم (٩). قال ابن عباس: (يريد الأمم الخالية) (١٠).
(١) في (ح): (فعلك). وأثبت ما في (م) و (ى) لموافقته لما في "معاني القرآن وإعرابه".
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٠.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤٤٦.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٥) في المصدر التالي: قبلهم. وهو أولى لتناسق الضمائر.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٠.
(٧) هو الحوفي في "البرهان" ١١/ ٢٣٣ أ.
(٨) في (ح): (في خبر).
(٩) هذا أحد قولي الزمخشري في "كشافه" ٢/ ٢٠١، وانظر: "تفسير القرطبي" ٨/ ٢٠٠، و"البحر المحيط" ٥/ ٦٨
(١٠) رواه بمعناه ابن جرير ١٠/ ١٧٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٣٤.
544
وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ﴾، قال: (يريد: بنصيبهم في الدنيا) (١)، قال الفراء: (يقول رضوا بنصيبهم في الدنيا من (٢) أنصبائهم (٣) في الآخرة) (٤)، وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ﴾ يعني: أن هؤلاء استمتعوا بنصيبهم من الخير العاجل، وباعوا بذلك الخير الآجل فهلكوا بشر استبدال، وقال الفراء: (أي أردتم ما أراد الذين من قبلكم) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾، قال: يريد: كخوضهم الذي خاضوا (٦)، فـ (الذي) صفة مصدر محذوف، دل عليه الفعل، قال ابن عباس: (يريد في الطعن علي أنبيائهم)، وقال أهل المعاني: (يعني في كل باطل؛ لأن الخوض الدخول فيما يؤدي إلى تلويث صاحبه).
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أي: بطلت حسناتهم في الدنيا بأنها لا تقبل منهم، وفي الآخرة بأنهم لا (٧) يثابون عليها، وقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد في الدنيا مقتهم المؤمنون، وفي الآخرة العذاب والخزي) (٨)، ويروى عنه: الخاسرون أنفسهم ومنازلهم وخدمهم في الجنة، وورثها المؤمنون) (٨).
(١) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص١٩٨، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٤٦٧.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) في (ح): (أصابهم).
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٤٤٦.
(٥) المصدر السابق: السابق، نفس الموضع.
(٦) اهـ. كلام الفراء، المصدر السابق، نفس الموضع، وانظر: "المسائل العضديات" ص ١٧٠، حيث نسب هذا التقدير للبغداديين أيضاً.
(٧) ساقط من (ح).
(٨) لم أقف عليه.
545
٧٠ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ الآية، احتج الله -عز وجل- على الكفار والمنافقين بالكفار الماضية، أي أنهم إذا هلكوا بعلة التكذيب فلم يأمن هؤلاء أن ينزل بهم مثل ما نزل بمن قبلهم؟ قال الزجاج: (أي ألم يأتهم خبر الذين أهلكوا في الدنيا بذنوبهم (١) فيتعظوا؟) (٢) وهذا الاستفهام للتنبيه والتحذير والتوبيخ.
وقوله تعالى: ﴿وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: نمرود بن كنعان (٣)) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ﴾ مدين (٥): اسم البلد الذي كان فيه قوم شعيب [قال المفسرون: يعني قوم شعيب] (٦) أهلكوا بعذاب يوم الظلة (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتِ﴾ قال المفسرون: يعني (٨) قريات قوم لوط (٩)، وهي جمع مؤتفكة، ومعنى الائتفاك في اللغة: الانقلاب (١٠)،
(١) ساقط من (ى).
(٢) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦١.
(٣) يقال: إنه النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، وكان أحد ملوك إلى الدنيا، وقد طغا وبغى وتجبر، وادعى الربوبية، وأنكر الخالق جل جلاله وسعى لإحراق إبراهيم -عليه السلام-، ويذكر أن سبب هلاكه بعوضة دخلت في منخره. والله أعلم.
انظر: "تاريخ ابن جرير" ١/ ٢٣٣ - ٢٤٢، و"البداية والنهاية" ١/ ١٤٨.
(٤) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٦٨، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٩.
(٥) ساقط من (ح).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٧) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٧٧، والثعلبي ٦/ ١٢٦ أ، والبغوي ٤/ ٧٢.
(٨) ساقطة من (ى).
(٩) انظر المصادر السابقة، نغسر المواضع.
(١٠) قال ابن فارس: أئتفكت البلدة بأهلها: انقلبت. "مجمل اللغة" (أفك) ١/ ٩٩.
وتلك القرى ائتفكت بأهلها، أي انقلبت بأهلها (١) فصار أعلاها أسفلها و (المؤتفكات) معطوفة على (مدين) يعني: وأصحاب المؤتفكات.
ويقال: أفكه فائتفك أي: قلبه فانقلب (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: (لوط وحده) (٣) فعلى هذا قال المفسرون: (كان لوط قد بعث في كل قرية رسولاً يدعوهم إلى الله) (٤)، ويجوز أن يكون هذا من الجمع الذي أريد به الواحد كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ [المؤمنون: ٥١] ولم يكن في عصره سواه رسول، وقال آخرون: (الكناية في الرسل تعود إلى جميع الأمم المذكورة) (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد ليهلكهم حتى يبعث إليهم نبيا ينذرهم) (٦) ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [قال أبو إسحاق: (أعلم الله -عز وجل- أن تعذيبهم كان باستحقاقهم وأن ذلك عدل منه) (٧)] (٨).
٧١ - قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، قال ابن
(١) من (ى).
(٢) انظر: "لسان العرب" (أفك) ١/ ٩٧.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) ذكر هذا التوجيه ابن جرير ١٠/ ١٧٨، والقرطبي ٨/ ٢٠٢، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ٧٠.
(٥) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٧٨، وابن الجوزي ٣/ ٤٦٨، وهود بن محكم ٢/ ١٥٠، واستظهر هذا القول أبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ٤٥٨.
(٦) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٦٨، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٩.
(٧) "معاني والقرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٦١.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
547
عباس: (يريد في الرحمة والمحبة) (١).
قال أبو علي: (المعنى فيه أن بعضهم يوالي بعضًا ولا يبرأ بعضهم من بعض كما يبرؤون ممن خالفهم وشاقهم، ولكنهم يد واحدة في النصرة والموالاة، فهم أهل كلمة واحدة لا يفترقون، ومن ثم قالوا في خلاف الولاية: العداوة، ألا ترى أن العداوة من عدا الشيء: إذا جاوزه، فمن ثم كانت (٢) خلاف الولاية) (٣).
وقوله تعالى: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قال ابن عباس: (بأنه لا إله إلا الله) (٤) ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ يريد: عن الشرك بالله) (٤)، قال أبو العالية: (كل ما ذكر الله في كتابه من الأمر بالمعروف فهو الدعاء إلى الإسلام، والنهي عن المنكر: النهي عن عبادة الأوثان) (٥). وقال بعض أهل المعاني: [ذكر الله المنافقين] (٦)، فقال: ﴿بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ وذكر المؤمنين فقال: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ وذلك أن المعنى في المنافقين: أن بعضهم يضاف إلى بعض بالاجتماع على النفاق، ولا يكون بينهم موالاة؛ لأن قلوبهم تكون مختلفة، ولا تكون كقلوب المؤمنين في التواد والتعاطف) (٧).
(١) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٩، ورواه بمعناه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٥٩.
(٢) في (ح): (كأنه)، وما أثبته موافق للمصدر التالي.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٢٣٣.
(٤) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٩٨.
(٥) رواه بنحوه ابن جرير ١٠/ ١٧٩، والثعلبى ٦/ ١٢٦، والفيروزأبادي ص ١٩٨.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٧) ذكر هذا القول بنحوه القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٠٣، وبمعناه ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٣/ ٥٨، ولم ينساه لأحد.
548
٧٢ - قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾ قال عطاء عن ابن عباس: (يريد قصور الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام) (١)، ونحوه قال الحسن (٢).
وقوله تعالى: ﴿فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾، قال الأزهري: (العدن مأخوذ من قولك: عدن فلان بالمكان إذا أقام به يعدن عدونًا، قال ذلك أبو زيد وابن الأعرابي.
وقال شمر: تقول العرب: تركت إبل بني فلان عوادن بمكان كذا، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه، قال: ومنه المعدن لإنبات الله -عز وجل- الجوهر فيه وإنباته إياه في الأرض حتى عدن فيها أي ثبت) (٣)، ونحو هذا قال أبو عبيدة وغيره من أهل اللغة: (إن معنى: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾: جنات إقامة) (٤).
(١) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٠٩، كما ذكره من غير نسبة القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٠٤، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ٧١.
(٢) روى ابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ١٧٩، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٣٩ - ١٨٤٠ أثرًا نحو هذا الأثر عن الحسن عن عمران بن حصين وأبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي سنده جسر بن فرقد، قال البخاري في "التاريخ الكبير" ٢/ ٢٤٦: (ليس بذاك) وذكره الدارقطني في كتابه "الضعفاء والمتروكون"، رقم (١٤٦) ص ١٧١، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١٠٦ بعد أن ساق الخبر: رواه البزار والطبراني في الأوسط، وفيه: جسر بن فرقد، وهو ضعيف، وقد وثقه سعيد بن عامر، وبقية رجال الطبراني ثقات.
(٣) اهـ. كلام الأزهري، انظر: "تهذيب اللغة" (عدن) ٣/ ٢٣٦٢ - ٢٣٦٣ وقد تصرف الواحدي في عبارته.
(٤) انظر: قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٦٣، وانظر: "تهذيب إصلاح المنطق" (العدن) ص ١٥٦، و"مجمل اللغة" (عدن) ٣/ ٦٥٢.
549
قال ابن مسعود: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾: (بطنان الجنة) (١)، قال الأزهري: (وبطنانها وسطها، وبطنان الأودية: المواضع التي يستنقع فيها ماء السيل فيكرُم نباتها واحدها بطن) (٢).
وقال عطاء عن ابن عباس: (هي قصبة الجنة، وسقفها عرش الرحمن) (٣).
وقال الضحاك: (هي مدينة الجنة، وفيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد، والجنات حولها) (٤).
[وقال مقاتل والكلبي: (عدن: أعلى درجة في الجنة وفيها عين التسنيم، والجنان حولها] (٥) محدقة بها وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها (٦) أهلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، وفيها قصور الدر والياقوت والذهب، فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأبيض) (٧).
وقال عبد الله بن عمرو (٨): (إن في الجنة قصرًا يقال له: عدن، حوله
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ١٨١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٤٠.
(٢) "تهذيب اللغة" (عدن) ٣/ ٢٣٦٢ - ٢٣٦٣.
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٠، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٦٩، ورواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٧ أعن عطاء.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٨٢، والثعلبى ٦/ ١٢٧ أ.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٦) في (ى): (يتركها)، وهو خطأ مخالف للنسختين الآخرين ولمصادر تخريج الأثر التالية.
(٧) رواه عنهما الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٧ أ، والبغوي ٤/ ٧٣، وهو في "تفسير مقاتل" ص ١٣٢ أمختصرًا.
(٨) في (ح): (عمر). وما أثبته موافق لمصادر تخريج الأثر.
550
البروج والمروج (١)، له خمسة آلاف باب، على كل باب خمس آلاف حبرة (٢)، لا يدخله (٣) إلا نبي أو صديق أو شهيد) (٤)، فعلى قول المفسرين وأهل الأثر: جنات عدن مخصوصة من سائر الجنات، كما ذكرنا (٥)، وعلى قول أهل اللغة: هي عامة؛ لأن الجنات كلها جنات إقامة، إذ أهلها مخلدون فيها لا يظعنون عنها.
وقوله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾، قال ابن عباس: (أي أكبر مما يوصف) (٦)، وقال أبو إسحاق: (أي أكبر مما هم فيه من النعيم) (٧)، وقال أهل المعاني: (إنما صار الرضوان أكبر من الثواب؛ لأنه لا يوجد شيء منه إلا بالرضوان، إذ هو الداعي إليه، والموجب له) (٨)، وقال الحسن: (لأن ما يصل إلى قلبه من السرور برضوان الله -عز وجل- أكبر من جميع ذلك) (٩).
(١) في (ى): (المروح)، وفي (م): (البرج)، وفي "تفسير الطبري" (في كلا الطبعتين): (الروح). وما أثبته من (ح) وهو موافق لما في "تفسير الثعلبي والبغوي".
(٢) الحبرة: بكسر الحاء وفتح الباء، وبفتحهما: ضرب من برود اليمن منمر، والحبرة: الوشي، والحبير من البرود: ما كان موشيًا مخططًا. "لسان العرب" (حبر) ٢/ ٧٤٩، فكأن المراد: على كل باب ستور موشية، وفي (م): (خيرة).
(٣) في (ح): (لا يدخلها)، وما أثبته موافق لما في مصادر التخريج.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٨٢، والثعلبى ٦/ ١٢٦ ب، والبغوي ٤/ ٧٣.
(٥) في (ح) و (ى): (ذكروا).
(٦) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٦٩، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١١.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦١.
(٨) ذكره نحوه مختصرًا بن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٦٩، ولم أقف عليه عند أهل المعاني.
(٩) ذكره بنحوه هود بن محكم في "تفسيره" ٢/ ١٥٢.
551
٧٣ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾، قال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة: (أمره الله بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان) (١)، وزاد عطاء عنه بيانًا فقال: (يريد جاهد الكفار بالسيوف والرماح والنبل، والمنافقين باللسان وشدة الانتهار وترك الرفق) (٢)، ونحو هذا قال ابن جريج والضحاك: (بتغليظ الكلام) (٣).
وقال عبد الله (٤) في قوله: ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ قال: بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فمن لم يستطع فليكفهر في وجهه (٥) إذا لقيه (٦).
قال أبو إسحاق: (لما كشفت حال المنافقين أمر بجهادهم، والمعنى: جاهدهم بالحجة، فالحجة على المنافق جهاد لهم) (٧)، وعلى هذا الاحتجاج على المنافقين والملحدين والرادين للكتاب (٨) والسنة، والمخالفين لهما من الجهاد.
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ١٨٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٤١ - ١٨٤٢، وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٦٢.
(٢) ذكر بعض هذا الأثر ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٧٠، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٢.
(٣) رواه عنهما الثعلبي ٦/ ١٢٧ ب، ورواه عن الضحاك أيضًا البغوي ٤/ ٧٤، وبمعناه ابن جرير ١٠/ ١٨٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٤٢.
(٤) يعني ابن مسعود كما في مصادر تخريج قوله.
(٥) فليكفهر في وجهه: أي ليلقه بوجه عابس قطوب لا طلاقة فيه ولا انبساط. انظر: "لسان العرب" (كفهر) ٧/ ٣٩٠٧.
(٦) رواه ابن جرير ١٠/ ١٨٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٤١، والثعلبي ٦/ ١٢٧ ب، والبغوي ٤/ ٧٤، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٤٦٢.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦١.
(٨) في (ح): (الكتاب).
وقوله تعالى: ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ يقال: غلظ الشيء يغلظ غلظا في الخلقة، ثم يقال: رجل غليظ: إذا كان فظا، وغلظ له القول وأغلظ: إذا لم يرفق به، وهذا نحو قوله: ﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: ١٢٣]، قال أهل المعاني: (وهي قوة القلب على إحلال الألم بصاحبه، كما (١) أن الرقة ضعف القلب عن ذلك) (٢).
قال ابن عباس: (يريد شدة الانتهار، والنظر بالبغضة، والمقت) (٣).
وقال ابن مسعود: (هو أن تكفهر في وجوههم) (٤)، قال عطاء: (وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصفح) (٥).
٧٤ - قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا﴾ الآية، نزلت حين بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المنافقين يسيؤون فيه القول ويطعنون فيه، وفي الدين والقرآن، فأنكر ذلك عليهم فحلفوا ما قالوا فكذبهم الله تعالى فقال: ﴿وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ﴾ (٦) يعني سبهم الرسول، وطعنهم في الدين، وقال قتادة: (قالوا (٧): ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ [المنافقون:
(١) في (ى): (على).
(٢) "البرهان" للحوفي ١١/ ٢٣٤ مختصرًا.
(٣) "زاد المسير" ٣/ ٤٧٠.
(٤) سبق تخريجه عند تفسير أول هذه الآية.
(٥) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٧ ب، والبغوي ٤/ ٧٤، وذهب إلى هذا القول القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٠٥، والصواب عدم النسخ، وقد سبق بيان ذلك وذكر أقوال بعض العلماء عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: ٦١].
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٨٥، والثعلبي ٦/ ١٢٧ ب، و"أسباب النزول" للمؤلف ص ٢٥٦.
(٧) ساقطة من (ي).
553
٨] فسعي بها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدعاهم فحلفوا ما قالوا) (١)، وكان هذا في غزوة تبوك (٢)، وقال السدي: (قالوا: إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجًا يباهي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾، قال ابن عباس ومجاهد: (هم المنافقون بقتل المؤمن الذي أنكر عليهم طعنهم في الرسول (٤)، قال (٥): وهو عامر بن قيس (٦) الذي سعى بهم، وقال السدي: (هو أنهم لم ينالوا ما
(١) رواه بنحوه ابن جرير ١٠/ ١٨٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٤٢ - ١٨٤٣، والثعلبي ٦/ ١٢ ب.
(٢) قوله: (وكان هذا في غزوة تبوك) ليس من كلام قتادة وفيه نظر؛ لأن القائل: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) عبد الله بن أُبي كما في "صحيح البخاري" (٣٥١٨)، كتاب: المناقب، باب: ما ينهى عن دعوى الجاهلية، و"صحيح مسلم" (٢٧٧٢)، كتاب: صفات المنافقين، وقد بين الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ٦/ ٥٤٧ أن ذلك كان في غزوة المريسيع، وكذلك ابن إسحاق كما في "السيرة النبوية" ٣/ ٣٣٤ - ٣٣٦ ثم إن أبيا كان ممن تخلف عن غزوة تبوك، كما في المصدر السابق ٤/ ٤٠٧ - ٢٠٨.
(٣) رواه الثعلي في "تفسيره" ٦/ ١٢ ب، وبنحوه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٤٣ - ١٨٤٤.
(٤) ذكره عن ابن عباس -رضي الله عنه- ابن الجوزي ٣/ ٤٧٠، ورواه الثعلبي ٦/ ١٢٨ أعن الكلبي، كما رواه عن مجاهد الإمام ابن جرير ١٠/ ١٨٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٥٤، والثعلبي ٦/ ١٢ ب، والبغوي ٤/ ٧٥.
(٥) ساقط من (ى): والقائل ابن عباس كما في تفسير الثعلبي وابن الجوزي، ولم يصح عنه لأنه من رواية الكلبي.
(٦) هكذا رواه الكلبي عن ابن عباس، وقد روى ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٤٣، ٧٠/ أعن ابن عباس، وكعب بن مالك أن المؤمن هو: عمير بن سعد، وكذلك أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وأبو الشيخ عن عروة، كما في "الدر المنثور" ٤/ ٤٦٤، وانظر: "السيرة النبوية" ٤/ ٢٠٨، قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" ٢/ ٢٥٦: =
554
هموا به من عقد التاج على رأس عبد الله بن أبي) (١)، وقال الكلبي: (هموا أن يفتكوا بالنبي - ﷺ - ليلاً ويغتالوه فأعلمه الله ذلك فأمر من نحاهم عن طريقه وسماهم رجلاً رجلاً، وكانوا خمسة عشر رجلاً) (٢)، وهذا اختيار أبي إسحاق (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، قال ابن عباس: (يريد مما كانوا غنموا حتى صارت لهم العقد (٤) والأموال من العين (٥) والحيوان) (٦).
= (عامر بن قيس الأنصاري، ابن عم الجلاس بن سويد، ذكره موسى بن عقبة في "المغازي"، وأنه أحد من سمع الجلاس بن سويد يقول: إن كان ما يقول محمد حقًا لنحن شر من الحمر، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فحلف الجلاس ما قال ذلك، فنزلت ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ﴾ الآية، وكذلك ذكره أبو الأسود عن عروة، ونقله الثعلبي عن قتادة والسدي، والقصة مشهورة لعمير بن سعد).
وعمير بن سعد هو: عمير بن سعد بن عبيد الأوسي الأنصاري، كان يتيمًا في حجر الجلاس بن سويد، وشهد فتوح الشام، وكان يعجب عمر بن الخطاب، ويسميه نسيج وحده، وولاه حمص، فقام بعمله خير قيام مع الزهد والورع، وتوفي في خلافة عمر وقيل غير ذلك.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ٢/ ١٠٣، و"الإصابة" ٣/ ٣٢.
(١) رواه بمعناه الثعلبي ٦/ ١٢ ب.
(٢) رواه الثعلبي ٦/ ١٢ ب، وذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٢.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦١.
(٤) في"تهذيب اللغة" (عقد) ٣/ ٢٥١٢. العقد: كل ما يعتقده الإنسان من العقار فهو عقدة له. وفي "القاموس المحيط" فصل العين، باب: الدال ص٣٠٠: العقدة: الولاية على البلد، ج: كصرد، والضيعة والعقار الذي اعتقده صاحبه ملكًا.
(٥) العين: الدينار والذهب. انظر: "القاموس المحيط" (عين) ص ١٢١٨، و"لسان العرب" (عين) ٦/ ٣١٩٨.
(٦) ذكره المؤلف فى "الوسيط" ٢/ ٥١٢
555
وقال الكلبي: (كانوا قبل قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم-، في ضنك من عيشهم لا يركبون الخيل، ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، استغنوا بالغنائم) (١)، وذكرنا معنى ﴿نَقَمُوا﴾ عند قوله: ﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا﴾ [المائدة: ٥٩] (٢).
قال أهل المعاني في هذه الآية: (إنهم عملوا بضد الواجب فجعلوا موضع شكر الغني أن نقموه فهذا معنى قوله: ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ﴾ (٣) ويجوز أن يكون المعنى: إنهم بطروا النعمة (٤) بالغني فنقموا بطرُا وأشرًا (٥)، وقال ابن قتيبة: (أي: ليس ينقمون شيئًا ولا يتعرفون من الله إلا الصنع (٦)، [وهذا كقول الشاعر:
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا] (٧)
وهذا ليس مما ينقم، وإنما أراد: إن الناس لا ينقمون عليهم (٨) شيئا كقول النابغة:
(١) رواه الثعلبي ٦/ ١٢٩ أ، والبغوي ٤/ ٧٥، وذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٢، وابن الجوزي ٣/ ٤٧٢، والقرطبي ٨/ ٢٠٨.
(٢) انظر: النسخة (ح) ٢/ ٤٠ أوقد قال في هذا الموضع: (قوله تعالى: ﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا﴾ يقال: نقمت على الرجل أنقم، ونقمت عليه أنقم، والأجود فتح الماضي، وهو الأكثر في القراءة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ﴾ [البروج: ٨] ومعنى نقمت: بالغت في كراهة الشيء، فمعنى (تنقمون) أي تكرهون وتنكرون).
(٣) "البرهان" للحوفي ١١/ ٢٤٥ بمعناه.
(٤) في (ح): (ذو النعمة).
(٥) في (ى): (شرًّا).
(٦) في (ح): (لصنيع)، وما في (ى) موافق لما في "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة، والصنع: مصدر قولك: صنع إليه معروفًا وجميلًا. انظر: "اللسان" (صنع).
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) والبيت لابن قيس الرقيات.
(٨) في (ح): (عليه)، وما أثبته موافق لما في "تفسير غريب القرآن".
556
ولا عيب فيهم غير إن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب (١)
أي ليس فيهم عيب) (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ﴾، قال الكلبي: (لما نزلت هذه الآية قام (٣) الجلاس بن سويد (٤)، وكان ممن طعن علي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: أسمع الله قد عرض علي التوبة، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه بما قلته فقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توبته) (٥)، ونحو هذا روى عطاء عن ابن عباس.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَوَلَّوْا﴾ أي يعرضوا عن الإيمان، قال ابن عباس: ([يريد كما تولى ابن أبي) (٦). ﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا﴾ بالقتل، قال الزجاج] (٧): (لأنهم (٨) أمر بقتلهم) (٩) وفي ﴿الْآخِرَةِ﴾: بالنار، ﴿وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾، قال عطاء: (يريد لا يتولاهم أحد من الأنصار) (١٠).
(١) انظر: "ديوان النابغة الذبياني" ص ٤٤، و"إصلاح المنطق" ص ٢٩، و"خزانة الأدب" ٣/ ٣٢٧.
(٢) "تفسير غريب القرآن" ص ١٩٨.
(٣) في (ى): (قال).
(٤) هو: جلاس بن سويد بن الصامت الأنصاري، كان من المنافقين ثم تاب وحسنت توبته، وكان زوج أم عمير بن سعد، وكان عمير في حجره، فسمعه يقول: لئن كان محمد صادقًا لنحن شر من الحمير، فبلغ عمير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونزل في الجلاس قرآن، ثم تاب وأحسن لعمير. انظر: "الاستيعاب" ١/ ٣٣٠، و"الإصابة" ١/ ٢٤١.
(٥) رواه الثعلبي ٦/ ١٢٨ أ، والبغوي ٤/ ٧٤.
(٦) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٧٢، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٢.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٨) في (م): (لأنه). وما أثبته موافق للمصدر التالي.
(٩) اهـ. كلام الزجاج، و"معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٢، وعذاب الله في الدنيا أشمل من القتل، ولعل مراد الزجاج أن المنافق إذا أظهر كفره جاز قتله.
(١٠) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٢ عن ابن عباس.
557
٧٥ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ﴾ الآية، المعاهدة: معاقدة بعزيمة تتحقق بذكر الله، نحو: علي عهد (١) الله لأفعلن كذا، قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: (أتى ثعلبة بن حاطب (٢) مجلسًا من الأنصار
(١) في (ح): (عبد)، وهو خطأ جلي.
(٢) هو: ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن عوف بن عمرو بن عوف الأوسي الأنصاري صحابي جليل شهد بدرًا وأحدًا، واختلف في وفاته فقيل: إنه قتل يوم أحد، وقيل: يوم خيبر، وقيل: مات بعد ذلك، وهو بريء من هذه القصة المفتراة، وللعلماء في تبرئته منها طريقتان:
الأولى: بيان زيف هذه القصة، وهذا دليل على براءة هذا الصحابي البدري منها، وسيأتي بيان ذلك.
الثانية: أن صاحب هذه القصة رجل آخر غير البدري موافق له في الاسم، وهذا رأي الحافظ ابن حجر حيث ذكر في "الإصابة" ١/ ١٩٨ رجلين بهذا الاسم، أحدهما البدري، والآخر صحاب القصة وهو ممن شارك في بناء مسجد الضرار، ثم قال: (وفي كون صاحب القصة إن صح الخبر ولا أظنه يصح هو البدري قبله نظر، وقد تأكدت المغايرة بينهما بقول ابن الكلبي: (إن البدري استشهد بأحد، ويقوي ذلك أيضًا أن ابن مردويه روى في "تفسيره" من طريق عطية عن ابن عباس في الآية المذكورة، قال: وذلك أن رجلاً يقال له ثعلبة بن أبي حاطب من الأنصار أتى مجلسًا فأشهدهم فقال: ﴿لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ﴾ الآية، فذكر القصة بطولها، فقال: إنه ثعلبة بن أبي حاطب، والبدري اتفقوا على أنه ثعلبة بن حاطب، وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل النار أحد شهد بدرًا والحديبية"، وحكى عن ربه أنه قال لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم) فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله نفاقًا في قلبه، وينزل فيه ما نزل؟ فالظاهر أنه غيره).
ومحاولة الحافظ ابن حجر إثبات شخصية تلصق بها القصة إنما هو لتبرئة البدري، وهو بريء منها دون هذه المحاولة التي لم تستند إلى برهان علمي لما يأتي:
١ - أن الحافظ ابن حجر قال في الكلام السابق: (إن صح الخبر وما أظنه يصح)، وجزم بعدم صحته في "تخريج أحاديث الكشاف" فقال: (هذا إسناد ضعيف جداً) اهـ. والخبر الضعيف جدًا لا يثبت شيئاً. =
558
فأشهدهم وقال: (لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه، وتصدقت منه، ووصلت منه القرابة، فابتلاه الله، فلم يف بما قال) (١).
= ٢ - أن حديث ابن عباس الذي ذكره باطل كما سيأتي، فكيف يؤكد المغايرة بين الشخصين.
٣ - أن ابن الكلبي -وهو هشام بن محمد المؤرخ النسابة- متروك. انظر: "المغني في الضعفاء" ٢/ ٧١١ بل متهم بالوضع والاختلاق، كما في كتاب "التنبيه على حدوث التصحيف" ص ١١٨، ١١٩ فخبر مثله لا يؤكد شيئًا ولا يقويه.
وبهذا يتأكد أنه لا يوجد إلا شخص واحد بهذا الاسم، وقد جزم بذلك الإمام الذهبي فلم يذكر في كتابه "تجريد أسماء الصحابة" ١/ ٦٦ سوى البدري، ونسبة القصة إليه محض اختلاق كما سيأتي بيان ذلك.
(١) الأثر عن ابن عباس رواه ابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ١٨٩، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٤٧، بسند مسلسل بالضعفاء وبعضهم أشد ضعفًا من بعض، ومنهم:
أ- الحسين بن الحسن بن عطية العوفي، قال ابن معين والنسائي وأبو حاتم: ضعيف، وقال ابن حبان: يروي أشياء لا يتابع عليها.. لا يجوز الاحتجاج بخبره، وقال الجوزجاني: واهي الحديث، وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في الحديث.
انظر: "تاريخ بغداد" ٨/ ٢٩، وضعفاء العقيلي ١/ ٢٥٠، و"المجروحين" لابن حبان ١/ ٢٤٦، و"الكامل" ٣/ ٢٣٧ (٤٩٢)، و"طبقات ابن سعد" ٧/ ٣٣١، و"لسان الميزان" ٢/ ٢٧٨.
ب- الحسن بن عطية بن سعد العوفي، قال ابن حبان في كتاب "المجروحين" ١/ ٢٣٤: (منكر الحديث، فلا أدري البلية في أحاديثه منه أو من أبيه أو منهما معًا؟ لأن أباه ليس بشيء في الحديث، وأكثر روايته عن أبيه، فمن هنا اشتبه أمره، ووجب تركه).
وقال البخاري في "التاريخ الكبير" ٢/ ٣٠١: (ليس بذاك).
وقال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" ص ١٦٢ (١٢٥٦): (ضعيف).
جـ- عطية بن سعد العوفي قال ابن حبان في كتاب "المجروحين" ٢/ ١٧٦: (لا يحل الاحتجاج به، ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب) اهـ. =
559
وقال أبو أمامة الباهلي: (عاود ثعلبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرارًا كل ذلك يقول: ادع الله أن يرزقني مالاً ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له: "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" حتى قال: والذي بعثك بالحق نبيًا (١) لئن رزقني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم ارزق ثعلبة مالًا" فاتخذ غنمًا وكثر ماله حتى اشتغل به عن الصلاة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخرج عن المدينة، ومنع الزكاة، وبلغ من أمره ما قص الله في كتابه) (٢).
= ومن عجائبه أنه كنى الكلبي المتهم بالكذب أبا سعيد، ثم حدث عنه بهذه الكنية فيتوهم من يسمعه أنه يحدث عن أبي سعيد الخدري، ذكر ذلك عنه الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" ٣/ ١١٤، ثم ذكر من ضعفه ومنهم علي بن المديني وأحمد وأبو داود والساجي وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وابن عدي، وشذ ابن سعد فقال: (ثقة إن شاء الله، وله أحاديث صالحة ومن الناس من لا يحتج به). وبهذا يتبين أن خبر ابن عباس هذا ضعيف جدًّا.
وأما أثر سعيد بن جبير فقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٠ ب بغير سند، إذ أن الثعلبي ذكر أسانيده في المقدمة ولم يذكر سنده إلى سعيد بن جبير.
وأما أثر قتادة فقد رواه ابن جرير ١٠/ ١٩٠ بلفظ: (ذكر لنا أن رجلاً من الأنصار أتى على مجلس من الأنصار فقال: لئن آتاه الله مالاً ليؤدين إلى كل ذي حق حقه، فأتاه الله مالاً فصنع فيه ما تسمعون). وفي هذا الأثر مجهول، إذ لم يسم قتادة من حدثه به، ثم إنه ليس في هذا الأثر ذكر لثعلبة ولا لغيره.
(١) ساقط من (ى).
(٢) هذا بعض أثر طويل رواه ابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ١٨٩، والبيهقي في "دلائل النبوة" ٥/ ٢٨٩، والطبراني في "المعجم الكبير" ٨/ ٢٦٠ رقم (٧٨٧٣)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٤٧ - ١٨٤٩، وغيرهم كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٦٧ وفي سنده عدة رجال مجروحين منهم:
أ- معان بن رفاعة السلامي الدمشقي، وثقه أحمد وعلي بن المديني ودحيم، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال ابن معين: ضعيف، وقال الجوزجاني: ليس بحجة، وقال ابن حبان: منكر الحديث، يروي مراسيل كثيرة، ويحدث عن أقوام =
560
........................
= مجاهيل، لا يشبه حديثه حديث الأثبات، فلما صار الغالب في رواياته ما ينكره القلب استحق ترك الاحتجاج به، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. ولخص الحافظ ابن حجر حاله فقال في "التقريب": (لين الحديث، كثير الإرسال). انظر ترجمته في: "الضعفاء" للعقيلي ٤/ ٢٥٦، و"الكامل" ٨/ ١٨٠٨، و"الميزان" ٥/ ٢٥٩ (٨٦١٩)، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ١٠٤.
ب- علي بن يزيد الألهاني الشامي، قال البخاري: (منكر الحديث) وقال النسائي: (متروك) وكذلك قال الأزدي والدارقطني والبرقي، وقال الحاكم أبو أحمد: (ذاهب الحديث) وقال الساجي: (اتفق أهل العلم على ضعفه). وقال ابن حبان: (إذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن لم يكن متن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم) اهـ. وعلق الحافظ ابن حجر على هذا القول بقوله: (وليس في الثلاثة من اتهم إلا علي بن يزيد).
انظر: "التاريخ الكبير" ٢/ ٣/ ٣٠١، و"الكامل" ٦/ ١٣٣٨، و"المجروحين" ٢/ ١١٠، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ١٩٩، ٣٣٤.
جـ- القاسم بن عبد الرحمن الشامي أبو عبد الرحمن الدمشقي، كان عابدًا متقشفًا وثقه البخاري وابن معين والترمذي وغيرهم، وقال الإمام أحمد: (منكر الحديث، ما أرى البلاء إلا من قبل القاسم)، وقال ابن حبان: (يروي عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المعضلات، ويأتي عن الثقات بالأشاء المقلوبات حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها).
انظر: "الضعفاء" للعقيلي ٣/ ٤٧٦، و"المجروحين" ٢/ ٢١١، و"تهذيب التهذيب" ٨/ ٢٨٠.
وبهذا يتين تهافت هذا الخبر، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١٠٨ (فيه علي بن يزيد الألهاني وهو متروك).
وقال الحافظ ابن حجر في "الكافي الشافي" ص ٧٧: (رواه الطبراني والبيهقي في "الدلائل" و"الشعب" وابن أبي حاتم، والطبري وابن مردويه كلهم من طريق علي ابن يزيد الألهانى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة، وهذا إسناد ضعيف جداً). =
561
وقوله تعالى: ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾، قال الزجاج: (الأصل: لنتصدقن ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها) (١).
قال الليث: (المتصدق: المعطي والمتصدق: السائل) (٢)، وأنكر ذلك (٣) أهل اللغة، ولم يجيزوا أن يقال للسائل: متصدق، قال ذلك الفراء (٤) والأصمعي (٥) وغيرهما، فالمتصدق المعطي، قال الله تعالى: ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ [يوسف: ٨٨].
وقوله تعالى: ﴿وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي لنعملن ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم، والنفقة في الخير، وقال عطاء عن ابن عباس: (يريد الحج) (٦)، لأن ثعلبة كان مسكينًا فعاهد الله لئن وسع الله عليه (٧) ليصدقن وليحجن.
= وقال القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢١٠: (ثعلبة بدري أنصاري، وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان.. فما روي عنه غير صحيح).
وقال العلامة محمود شاكر في تعليقه على "تفسير ابن جرير" ١٤/ ٣٧٣: (ضعيف كل الضعف، وليس له شاهد من غيره، وفي بعض رواته ضعف شديد).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٢.
(٢) "تهذيب اللغة" (صدق) ٢/ ١٩٩١ وقد وهم الأزهري في فهم عبارة كتاب "العين"، إذ نص العبارة فيه: والمتصدق: المعطى للصدقة، وأصدق: أخذ الصدقات من الغنم، قال الأعشى:
ودَّ المصَدّق من بني عمرو أن القبائل كلها غنم
كتاب "العين" (صدق) ٥/ ٥٧. فهو يريد بالمصدق العامل على الصدقات وليس السائل بدلالة استشهاده ببيت الشعر، ثم هو لم يقل المتصدق، كما قال الأزهري.
(٣) ساقط من (ى).
(٤) "تهذيب اللغة" (صدق) ٢/ ١٩٩١.
(٥) المصدر السابق، نفس الموضوع.
(٦) ذكره الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٢٠٣.
(٧) في (ي): (علينا).
562
وقال الضحاك: (نزلت هذه الآيات في رجال من المنافقين سماهم، بسط الله لهم الدنيا فبخلوا بها بعدما عاهدوا أن يتصدقوا) (١).
٧٧ - قوله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ الآية، قال الليث: (يقال أعقبت (٢) فلانًا ندامة: إذا صيرت عاقبة أمره ذلك، وأنشد للهذلي (٣):
أودى (٤) بني وأعقبوني حسرة..... بعد الرقاد وعبرة لا (٥) تقلع (٦)
قال الأزهري: (ويقال: أكل فلان أكلة أعقبته سقمًا، وأعقبه الله خيرًا بإحسانه (٧) بمعنى عوضه وأبدله، وهو معنى قول النابغة (٨):
ومن أطاع فأبدله (٩) بطاعته...... كما أطاعك واد لله على الرشد (١٠)
(١) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣١ أ.
(٢) في (ح): (أعقب).
(٣) هو: أبو ذؤيب. انظر: "شرح أشعار الهذليين" ١/ ٦، و"خزانة الأدب" ١/ ٤٢٠، و"كتاب العين" (عقب) ١/ ١٧٩، و"لسان العرب" (عقب) ٥/ ٣٠٢٤.
(٤) أودى: هلك، و"لسان العرب" (ودى) ١/ ٣٨٩٥.
(٥) في (م) و (ى): (ما)، وما أثبته موافق لـ"الشرح" و"الخزانة".
(٦) لم أجد هذا النص المنسوب لليث في "تهذيب اللغة" (عقب) ولا في كتاب "العين" (عقب)، وقد استشهد الخليل بالبيت المذكور في نفس الموضع على أن (أعقب) لغة في (عقب) وقال في نفس الموضع: (أعقب هذا ذاك: أي صار مكانه، وأعقب عزه ذلًا: أي: أبدل منه). كتاب: "العين" (عقب) ١/ ١٨٠ فلعل المؤلف فهم من هذا القول ما ذكره عن الليث، وأغلب النحاة -لاسيما البصريين- ينسبون كتاب "العين" لليث بن المظفر، انظر: مقدمة كتاب "العين" ١/ ١٩.
(٧) في (ح): (بإحسانًا)، وما أثبته موافق للمصدر.
(٨) هو الذبياني، انظر "ديوانه" ص ٢١ والشاعر يخاطب النعمان بن المنذر ممدوحه.
(٩) في (ح): (فأعقبهم)، وفي "الديوان"، و"تهذيب اللغة": (فأعقبه).
(١٠) أهـ. كلام الأزهري، وقد جمع المؤلف بين قولين له، انظر: "تهذيب اللغة" (عقب) ٣/ ٢٥٠٦، ٢٥٠٨.
563
فإن (١) شئت قلت في قوله: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا﴾ صير عاقبة أمرهم ذلك، وإن شئت قلت (٢): عوضهم وأبدلهم والمعنى واحد؛ لأنه التصيير إلى حالة (٣) مخصوصة في العاقبة بخير أو بشر، فالخير ما ذكره النابغة، والشر ما ذكره الله في هذه الآية، قال عطاء عن ابن عباس: (فأعقبه الله نفاقًا حتى مات) (٤).
وقال مجاهد: (أعقبهم الله ذلك بحرمان التوبة كما حرم إبليس) (٥).
قال الزجاج: ([والمعنى: أضلهم بفعلهم، قال: ويجوز أن يكون لما قال: ﴿بَخِلُوا بِهِ﴾ قال: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا﴾، (٦) أي فأعقبهم بخلهم نفاقًا) (٧).
وقوله تعالى: ﴿إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ هذا دليل على أنه مات منافقا، فقد روي أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدقته فقال: "إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك" ثم لم يقبلها أبو بكر ولا عمر ولا عثمان، ومات في خلافته (٨)، فمن قال:
(١) في (ى): و (إن).
(٢) في (ح): (قلت في قوله ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا﴾ وعوضهم.. إلخ).
(٣) في (ى): (حالة واحدة).
(٤) ذكره بمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٧٥، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ١٩٩.
(٥) لم أجد من ذكره عن مجاهد سوى المؤلف هنا وفي "الوسيط" ٢/ ٥١٤، وقد رواه بلفظ مقارب ابن جرير ١٠/ ١٩١ عن عبد الرحمن بن زيد.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٢ بمعناه.
(٨) هذا بعض حديث أبي أمامة الذي سبق تخريجه وبيان ضعفه الشديد، وهذا النص يؤكد بطلان القصة إذ أن الله تعالى يقول: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨].
564
أعقبهم الله (١) رد الضمير في ﴿يَلْقَوْنَهُ﴾ إلى اسم الله عز وجل، ومن قال: أعقبهم بخلهم، رد الضمير إليه، بمعنى: يلقون جزاء بخلهم (٢).
وقوله تعالى: ﴿بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ هذا بيان عما يوجبه الكذب مع إخلاف الوعد من النفاق، فمن أخلف في المواثيق مع الله فقد تعرض للنفاق، وكان جزاؤه من الله إفساد قلبه بما يكسبه (٣) النفاق، فأما ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" (٤)، فقد أجرى هذا الخبر على ظاهره الحسن (٥) وعبد الله بن عمرو (٦) ومحمد بن كعب (٧)، وقال عطاء بن أبي (٨) رباح: (حدثني جابر بن
(١) في (ى): (بخلهم)، وهو خطأ واضح بدلالة السياق.
(٢) قال ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٧٥: في الضمير في (أعقبهم) قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله، فالمعنى: جازاهم الله بالنفاق، وهذا قول ابن عباس ومجاهد. والثاني: أنها ترجع إلى البخل، فالمعنى: أعقبهم بخلهم بما نذروا إانفاقًا. قاله الحسن.
(٣) في (ى): (كسبه)، وفي (م): (يكسب).
(٤) رواه مسلم (١٠٩)، كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، وأحمد في "المسند" ٢/ ٣٩٧، ورواه مختصرًا البخاري (٣٣)، كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق، والترمذي (٢٦٣١)، كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في علامة المنافق.
(٥) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٩٢ - ١٩٣، والثعلبي ٦/ ١٣٢ وفي سنده محمد المحرم، منكر الحديث كما قال البخاري في "التاريخ الكبير" ١/ ٢٤٨، ثم إن في آخر الحديث ما يفيد رجوع الحسن عن رأيه.
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٩١ - ١٩٢ وليس في خبره ما يشعر أن عبد الله بن عمرو أجراه على ظاهره، بل ذكر آية المنافق، واستشهد على قوله بالآية المذكورة.
(٧) انظر: المصدر السابق، الصفحة التالية.
(٨) ساقط من (ح).
565
عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصة، الذين حدثوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فكذبوه، وائتمنهم على سره (١) فخانوه، ووعدوا أن يخرجوا معه في الغزو فأخلفوه) (٢) فعنده هذا الحديث خاص في المنافقين (٣).
(١) ساقط من (ى).
(٢) رواه ابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ١٩٢، والثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٣ أ، وفي سنده محمد المحرم، وهو منكر الحديث كما قال البخاري في "التاريخ الكبير" ١/ ٢٤٨.
وقد قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ١/ ٩١: (منهم من ادعى أنها للعهد -يعني ال في المنافق- فقال: إنه ورد في حق شخص معين، أو في حق المنافقين في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة).
(٣) للعلماء في توجيه الحديث عدة أجوبة منها:
أولًا: قال النووي في "شرح صحيح مسلم" ٢/ ٤٧: (هذا الحديث ليس فيه بحمد الله إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: إن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر).
ثانيًا: ذهب بعض العلماء إلى أن هذا الحديث من أحاديث الوعيد التي قصد بها الترهيب، وظاهرها غير مراد، وهذا ما ارتضاه الخطابي كما في "فتح الباري" ١/ ٩٠.
ثالثًا: أن النفاق قسمان، نفاق العمل، وهو المذكور في الحديث، وهو غير مخرج من الإسلام، ونفاق الاعتقاد وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر وهو مخرج من الإسلام، وهذا الوجه عليه كثير من المحققين، قال الترمذي في "سننه" ٥/ ٢٠ بعد إيراد الحديث: (وإنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل، وإنما كان نفاق =
566
٧٩ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ﴾ الآية، مضى الكلام في اللمز عند قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ [التوبة: ٥٨].
والمطوعون: المتطوعون (١)، والتطوع التنفل، وهو الطاعة لله عز وجل فيما ليس بواجب، ومضى الكلام في إدغام التاء في الطاء عند قوله: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ [البقرة: ١٥٨] (٢)، وقوله: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٢] (٣)، قال المفسرون: حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصدقة فجاء عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، بصدقة عظيمة، وجاء رجل يقال له: أبو عقيل الأنصاري (٤) بصاع من تمر وكان قد أجر نفسه ليلة إلى الصبح يسقي نخل رجل، فأخذ أجرته فجعل نصفها صدقة لوجه الله تعالى ونصفها
= التكذيب على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هكذا روي عن الحسن البصري شيئًا من هذا أنه قال: النفاق نفاقان: نفاق العمل، ونفاق التكذيب) اهـ.
وانظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" ١١/ ١٤٠، ٢٨/ ٤٣٥، و"فتح الباري" ١/ ٩٠.
(١) في (م): (والمطوعين المتطوعين).
(٢) انظر: "النسخة الأزهرية" ١/ ١٠٠ أوقد قال هنا: (الوجه الثاني من القراءة (يطوع) بالياء وجزم العين، وتقديره يتطوع، إلا أن التاء أدغم في الطاء لتقاربهما).
(٣) انظر: "النسخة الأزهرية" ١/ ١٣٥ ب وقد قال في هذا الموضع: (حتى يطهرن) أي: يتطهرن، ومعناه يغتسلن بالماء بعد النقاء من الدم، فأدغمت الثاني بالطاء، هذه قراءة أهل الكوفة).
(٤) أبو عقيل الأنصاري، صحابي أنصاري معروف بكنيته، واختلف في اسمه اختلافًا كثيراً، فقيل: الحبحاب، وقيل: الحثحاث، وقيل: هذا لقب له واسمه سهل بن رافع، وقيل: هو عبد الرحمن بن بيحان، وقيل: هو أبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة البلوي شهد بدراً، واستشهد باليمامة، وقيل غير ذلك.
انظر: "فتح الباري" ٨/ ٣٣١، و"الأصابة" ٤/ ١٣٦ (٧٧٦).
567
لعياله، فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر نفسه، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاعه، فأنزل الله هذه الآية (١).
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾ يعني أبا عقيل، وقال عطاء عن ابن عباس: هو سهل بن نافع (٢).
قال الليث: الجهد شيء قليل يعيش به المقل (٣).
وقال الزجاج: (إلا جهدهم) و (جهدهم) بالفتح والضم (٤).
(١) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٩٤ - ١٩٨، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٦٩ - ٤٧٢، وقد روى نحوه البخاري (٤٦٦٨)، كتاب: التفسير، باب: قوله الذين يلمزون المطوعين، ومسلم (١٠١٨)، كتاب: الزكاة، باب: الحمل أجرة يتصدق بها، والنسائي، كتاب: الزكاة، [باب] جهد المقل ٥/ ٥٩.
(٢) هكذا في النسخ التي بين يدي، ولم يذكر ابن حجر في "الإصابة" أحدًا من الصحابة بهذا الاسم، فلعل في اسمه تصحيف والصواب سهل بن رافع، أحد بني النجار الأنصاري الخزرجي، فقد قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في "الإصابة" ٢/ ٨٧: (يقال: إنه صاحب الصاع قال ابن منده: شهد أحدًا، ومات في خلافة عمر، وروى عيسى بن يونس عن سعيد بن عثمان البلوي عن جدته بنت عدي عن أمها عميرة بنت سهل بن رافع صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون، خرج بزكاته صاع تمر وبابنته عميرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله لي ولها بالبركة فما لي غيرها فوضع يده عليها فدعا له). وقد رجح الحافظ في "فتح الباري" ٨/ ٣٣١ تعدد من جاء بالصاع فلمزه المنافقون.
(٣) "تهذيب اللغة" (جهد) ١/ ٦٧٥ والنص في كتاب: "العين" للخليل بن أحمد (جهد) ٣/ ٣٨٦.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٢، والقراة بالفتح شاذة قرأ بها الأعرج وعطاء ومجاهد.
انظر: "مختصر في شواذ القرآن" من كتاب "البديع" لابن خالويه ص ٥٤.
568
قال الفراء: الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم (١)، وحكى (٢) ابن السكيت عنه الفرق بينهما فقال: الجُهد: الطاقة، تقول: هذا جهدي أي طاقتي، والجهد: المشقة، تقول: اجهد جهدك (٣). وقال الشعبي: الجهد في العمل، والجهل في القوت (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ الكناية تعود إلى الذين لا يجدون إلا جهدهم، وقوله تعالى: ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ خبر الابتداء الذي هو قوله: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ﴾ ومعناه: جازاهم جزاء سخريتهم، ومضى الكلام في هذا (٥)، قال ابن عباس: (يريد حيث صاروا إلى النار) (٦).
وقال صاحب "النظم": قوله: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ﴾ صفة للمكني المتصل بقوله في الآية التي قبل هذه: ﴿سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾ [التوبة: ٧٨] ولا يحتمل أن يكون قوله: (الَّذِينَ (٧) يَلْمِزُونَ) مبتدأ؛ لأنه لم يجيء له جواب، وقوله تعالى: ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ لا يحتمل أن يكون جوابًا لأنه فعل ماض (٨)، وهذه السخرية لا تكون إلا في الآخرة، فكان هذا القول دعاء،
(١) "معاني القرآن" ١/ ٤٤٧ بمعناه.
(٢) في (م): (وقال).
(٣) "تهذيب إصلاح المنطق" (جهد) ص ٢٢٧، و"المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم" (جهد) ١/ ١٧١ بنحوه.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٩٨، وبمعناه ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٥٣.
(٥) انظر: "البسيط" البقرة: ٢١٢.
(٦) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢١٥.
(٧) ساقط من (ى).
(٨) ذهب النحاس في "إعراب القرآن" ٢/ ٢٠٦، والقرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢١٥ إلى أن (الذين يلمزون) مبتدأ و (سخر الله منهم) خبره، وذكر أبو البقاء العكيري عدة وجوه في الخبر: =
569
وقد قال بعضهم (١): ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ منقطع مما قبله وقوله: ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ خبره، دعاء كان أو خبرًا، في الدنيا كان أو في الآخرة.
٨٠ - قوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ الآية، قال الفراء: (ظاهر الآية أنه أمر ونهي، خيره بينهما، وإنما (٢) هو على تأويل الجزاء، بمعنى إن تستغفر لهم أو لا تستغفر لهم) (٣)، وقد ذكرنا هذا عند قوله: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ [التوبة: ٥٣] الآية، وقال غيره من أهل المعاني: (معنى صيغة الأمر والنهي في هذه الآية: المبالغة في اليأس من المغفرة بأنه لو طلبها طلب المأمور بها، أو (٤) تركها ترك المنهي عنها لكان ذلك سواء في أن الله لا يوقعها (٥)) (٦).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ قال المتأخرون من أهل التفسير: (السبعون عند العرب غاية مستقصاة؛ لأنه جمع سبعة والسبعة تتمة عدد الخلق كالسماوات والأرض والبحار (٧)
= الأول: (فيسخرون) ودخلت الفاء لما في (الذين) من الشبه بالشرط.
الثاني: أن الخبر (سخر الله منهم).
الثالث: أن الخبر محذوف، تقديره: منهم الذين يلمزون.
انظر: "التبيان في إعراب القرآن" ص ٤٢٥.
(١) انظر التعليق السابق.
(٢) في (ى): (وانهما)، وهو خطأ.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤٤١ بمعناه.
(٤) في (ح): (و).
(٥) في (م): (يرفعها).
(٦) لم أقف عليه.
(٧) لم يتبين لي مراده بذلك، والبحار المعروفة أكثر من سبعة.
570
والأقاليم (١) والنجوم (٢) والأعضاء (٣)) (٤)، وذكر في بعض الكتب (٥): (إن تستغفر لهم سبعين مرة) إنما خص هذا العدد لأنه يروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى على حمزة سبعين تكبيرة، فكأنه قيل: إن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء صلاتك على حمزة) (٦).
وقال الأزهري: (العرب تضع التسبيع (٧) في موضع التضعيف، حكى أبو عمرو أن رجلاً أعطى أعرابيًا درهمًا، فقال (٨): سبع الله له الأجر، قال: أراد التضعيف، وفي نوادر الأعراب: سبع الله لفلان تسبيعًا وتبع له تتبيعًا، أي: تابع له الشيء [بعد الشيء] (٩).
(١) لم يتين لي المراد بذلك، ولا يمكن أن يقال: إن مراده القارات السبع؛ لأن ثلاثًا منها على الأقل لم تكشف إلا بعد وفاة المؤلف بدهر.
(٢) يعني النجوم السيارة في المجموعة الشمسية، وقد كان المعروف منها زمن المؤلف سبع.
انظر: "تفسير الرازي" ١٦/ ١٤٨. وقد اكتشف فيما بعد غيرها.
(٣) لعله يعني الأعضاء السبعة التي يسجد عليها المصلي، وذكر ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٦/ ٥٨٢ - ٥٨٣ نحو هذا القول، وفسر الأعضاء بالجوارح التي بها يطيع الإنسان ربه ويعصيه، وهي عيناه وأذناه ولسانه وبطنه وفرجه ويداه ورجلاه، وفيه نظر لأن الطاعة والمعصية ليست محصورة بهذه الأعضاء فالأنف قد يشم ما حرم الله، والقلب قد يحمل حقدًا وحسدًا واحتقارًا لمسلم، والمرأة قد تعصي ربها بإبداء زينتها ووجهها لأجنبي.
(٤) هذا القول للثعلبي، انظر: "تفسيره" ٦/ ١٣٤ ب.
(٥) في (ى): (بعض أهل الكتب)، وهو خطأ.
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٣٤ ب، ولم يذكر سنده.
(٧) في (ح): (السبع).
(٨) في (ى): (فقال له)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لما في "تهذيب اللعة".
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
571
قال: والأصل في هذا: قول الله عز وجل: ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: ٢٦١]، وقال عليه السلام "الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة" (١) فلما ذكر الله تعالى ورسوله هذا العدد في موضع التضعيف صار أصلاً فيه، فقوله: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ من باب التكثير والتضعيف لا من باب حصر العدد، ولم يرد الله أنه (٢) إن زاد على السبعين غفر لهم، ولكن المعنى: إن استكثرت من الدعاء بالاستغفار للمنافقين لم يغفر الله لهم (٣).
هذا الذي ذكرنا في هذه الآية مذهب أهل اللغة وأصحاب المعاني (٤)، وأما المفسرون فإنهم أجروا الآية على ظاهرها، فقالوا: إن قوله: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ تخيير، وقوله: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ حصر بهذا العدد (٥)، ورووا في هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يوافق هذا
(١) رواه البخاري (٤١، ٤٢)، كتاب: الإيمان، باب: حسن إسلام المرء، ومسلم (١٦٤)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، والنسائي في "سننه"، كتاب: الإيمان، باب: حسن إسلام المرء ٨/ ١٠٥، وابن ماجه (١٦٣٨)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في فضل الصيام، وأحمد في "المسند" ١/ ٤٤٦.
(٢) ساقط من (ى) و (م).
(٣) اهـ. كلام الأزهري، انظر: "تهذيب اللغة" (سبع) ٢/ ١٦١٧.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (سبع) ٢/ ١٦١٧، و"لسان العرب" (سبع) ٣/ ١٩٢٤.
(٥) نسبة المؤلف هذا القول للمفسرين على وجه العموم فيه نظر، إذ هم فريقان في هذه المسألة، فبعضهم ذهب إليه، وقد ذكر القرطبي بعضهم في "تفسيره" ٨/ ٢٢٠ حيث قال. (وقالت طائفة - منهم الحسن وقتادة وعروة: إن شئت استغفر لهم، وإن شئت لا تستغفر) اهـ. واعتمد هذا القول السمرقندي في "تفسيره" ٢/ ٦٥، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٥، وابن عطية في "المحرر الوجيز" ٦/ ٥٨٠، وابن العربي في "أحكام القرآن" ٢/ ٩٩٠ ولم تذكر كتب الرواية كـ"تفسير ابن جرير" وابن أبي حاتم =
572
المذهب، وهو ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أراد الصلاة علي عبدالله بن أبي قال له عمر: أتصلي على عدو الله القائل يوم كذا: كذا وكذا؟! فقال: "إني خيرت فاخترت، قد قيل لي: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ " (١).
= و"الدر المنثور" قولاً لأحد المفسرين السابقين بهذا المعنى، وإنما ذكرت عن جمع من مفسري السلف -منهم عروة وقتادة- رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتخيير، فلعل من نسب هذا القول إلى الرواة بناء على أن الراوي لا يخالف روايته، وهذا ليس على إطلاقه.
وقد خالف هذا القول كثير من المفسرين، فابن جرير قال في تفسير الآية ١٠/ ١٩٨ هذا كلام خرج مخرج الأمر، وتأويله الخبر، ومعاه: إن استغفرت لهم يا محمد أو لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم، وقال الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٤/ ب: (لفظه أمر، ومعاه جزاء، تقديره: إن استغفرت لهم أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم).
وقال البغوي في "تفسيره" ٤/ ٧٩: (لفظه أمر، ومعاه خبر، تقديره: استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم.. وذكر عدد السبعين للمبالغة في اليأس عن طمع المغفرة).
وقال الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٨٦: (قوله ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ ليس بحد لوقوع المغفرة بعدها، وإنما هو على وجه المبالغة بذكر هذا العدد). وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ١٩٥، ٢٠٤، وابن كثير ٢/ ٤١٤.
وعلى أي حال فالقول بأن قوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ تخيير للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الصحيح؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إني خيرت فاخترت"، وهذا الحديث نص في هذه المسألة فلا ينبغي العدول عنه.
(١) رواه البخاري (٤٦٧٠)، كتاب: التفسير، باب: قوله ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾، ومسلم (٢٤٠٠)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر، والنسائي، كتاب: الجنائز، [باب] الصلاة على المنافقين ٤/ ٦٧، والترمذي (٣٠٩٧)، كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة ٥/ ٢٧٩، وأحمد في "المسند" ١/ ١٦.
573
وقال الضحاك: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله رخص لي فسأزيدن (١) على السبعين لعل الله أن يغفر لهم" (٢)، ونحو هذا قال عروة بن الزبير والحسن وقتادة: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأزيدن علي السبعين" فأنزل الله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [المنافقون: ٦] (٣)، قال مقاتل: (فصار قوله: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ منسوخًا بقوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ﴾ (٤).
فهذا الذي ذكرنا من قولهم يدل على أنهم جعلوا قوله: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ [أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ] (٥)﴾ تخييرًا، وقوله تعالى: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ حصرًا لهذا العدد لا تكثرًا.
٨١ - قوله تعالى: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ﴾، قال ابن عباس وغيره: (يريد المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك) (٦)، والمخلف:
(١) في "تفسير البغوي": (فلأزيدن)، وفي "تفسير الثعلبي": (فسأزيد).
(٢) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٤ ب، والبغوي في "تفسيره" ٤/ ٧٩، وهو ضعيف لإرساله، وقال القشيري: لم يثبت أنه قال: "لأزيدن على السبعين". "تفسير القرطبي" ٨/ ٢١٩.
(٣) رواه ابن جرير ١٠/ ١٩٨ - ٢٠٠ عن عروة وقتادة، ورواه عن عروة أيضًا ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٥٤، وأشار القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٢٠ إلى قول الحسن، وأقوالهم هذه مراسيل.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٣٣ أبنحوه.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) "تنوير المقباس" ص ٢٠٠، وبنحوه قال قتادة والضحاك وابن الجوزي وغيرهم. انظر: "زاد المسير" ٣/ ٤٧٨، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٧٤.
574
المتروك خلف (١) من مضى.
وقوله تعالى: ﴿بِمَقْعَدِهِمْ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: المدينة) (٢) فعلى هذا، المقعد: اسم المكان، وقال مقاتل: (بمقعدهم: بقعودهم) (٣)، وعلى هذا هو اسم للمصدر، قال أبو علي: (المقعد هاهنا: مصدر في معنى القعود ولا يكون اسمًا للمكان؛ لأن أسماء الأماكن لا يتعلق بها شيء) (٤).
وقوله تعالى: ﴿خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ﴾، قال قطرب والمؤرج: (يعني مخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سار وأقاموا) (٥)، واختاره الزجاج، فقال: (معناه: مخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: وهو منصوب؛ لأنه مفعول له، المعنى: بأن قعدوا لمخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (٦)، وعلى هذا القول: فالخلاف مصدر مضاف (٧) إلى المفعول به.
وزعم أبو عبيدة: أن معناه: بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (٨)، ونحو هذا قال الأخفش: إن (خلاف): في معنى (٩): خلف، وأن يونس روى ذلك عن
(١) في (ح): (وخلف).
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٤٩.
(٣) المصدر السابق، نفس الموضع، ولعل هذا القول لمقاتل بن حيان؛ لأن مقاتل بن سليمان لم يذكره في "تفسيره".
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١١٤.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٣٥ أ، و"البحر المحيط" ٥/ ٧٩، و"الدر المصون" ٦/ ٩١.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٣.
(٧) في (م): (يضاف).
(٨) "مجاز القرآن" ١/ ٢٦٤.
(٩) في (ح): (بمعنى).
575
عيسى (١) قال: ومعناه: بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (٢)، ولقوي هذا الوجه قراءة من قرأ (خَلْفْ رَسُولِ اللهِ) (٣) وعلى هذا القول، الخلاف (٤): اسم للجملة كالخلف، وهو على حذف المضاف كأنه خلاف خروج (٥) رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحو هذا قال ابن عباس في رواية عطاء قال: (يريد بعد خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك) ففسر الخلاف ببعد، وذكر المضاف المحذوف، و (خلاف) بمعنى (خلف) مستعمل، أنشد أبو عبيدة (٦) للأحوص (٧):
(١) هو: عيسى بن عمر الثقفي، أبو عمر البصري، العلامة، إمام النحو، وشيخ الخليل بن أحمد، كان مقرئًا نحويًّا عالمًا ثقة، وهو من أوائل من وضع النحو وصنف فيه، توفي سنة ١٤٩ هـ على قول القفطي، وقال الذهبي: لعله بقي إلى بعد سنة١٦٠ هـ.
انظر: "أخبار النحويين البصريين" ص ٤٩، و"إنباه الرواة" ٢/ ٣٧٤، و"سير أعلام النبلاء" ٧/ ٢٠٠.
(٢) ذكر قول الأخفش هذا وروايته الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٤٩، وأشار إليه أبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ٧٩، والسمين الحلبي في "الدر المصون" ٦/ ٩١، أما الأخفش في "معاني القرآن" ١/ ٣٦٢ فقد نسب هذا القول إلى غيره، ورجح هو أن (خلاف) بمعنى خالفة، وأنه مصدر (خالفوا).
(٣) هي قراءة شاذة قرأ بها ابن عباس وأبو حيوة وعمرو بن ميمون، انظر: "مختصر في شواذ القرآن" ص ٥٤، و"البحر المحيط" ٥/ ٧٩.
(٤) ساقط من (ح).
(٥) ساقط من (ح).
(٦) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٦٤.
(٧) هو: عبد الله بن محمد بن عبد الله الأنصاري، الملقب بالأحوص لضيق مؤخر عينيه، كان شاعر هجاء وغزل، وجعله ابن سلام في الطبقة السادسة من الإسلاميين، وكان معاصرًا لجرير والفرزدق، وتوفي سنة ١٠٥ هـ.
انظر: "طبقات فحول الشعراء" ٢/ ١٤٨، ٦٥٥، و"الشعر والشعراء" ص ٣٤٥، و"الأعلام" ٤/ ١١٦.
576
عَقَبَ الربيعُ خلافهم فكأنما..... بَسَطَ الشواطبُ بينهن حصيرًا (١)
وقوله تعالى: ﴿لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ﴾ يعني مع محمد إلى تبوك: ﴿لْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: يفهمون ويعقلون أن مصير المنافقين إليها) (٢)، وهذا ذم للمنافقين بفرحهم بالقعود عن الجهاد، والفرار من حر الشمس إلى حر الجمر.
٨٢ - قوله تعالى: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾، قال أبو رزين (٣): (يقول الله تعالى: مقامهم (٤) في الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا، فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا (٥) بكاء (٦) لا ينفعهم فذلك الكثير) (٧).
وقال الحسن: (قوله: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا﴾ وعيد من الله لهم، يقول: فإن ذلك منهم قليل لأن الدنيا كلها قليل يفنى وينقطع، [فضحكهم قليل فيها،
(١) نسب المؤلف البيت للأحوص، والصحيح أنه للحارث بن خالد المخزومي كما في "ديوانه" ص ٦٣، و"مجاز القرآن" ١/ ١٦٤، و"الأغاني" ١٥/ ١٢٨، و"لسان العرب" (خلف) ٢/ ١٢٣٧. ورواية "الديوان": عقب الرذاذ.
والشواطب: النساء اللواتي يشققن الخوص، ويقشرن العسب، ليتخذن منه الحصر. انظر: "اللسان" (شطب) ٤/ ٢٢٦١.
(٢) "تنوير المقباس" ص ٢٠٠ مختصرًا.
(٣) هو: مسعود بن مالك الأسدي مولاهم، أبو رزين الكوفي، تابعي ثقة، من رجال مسلم، توفي سنة ٨٥ هـ.
انظر: "الكاشف" ٢/ ٢٥٧، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٦٣، و"تقريب التهذيب" ص ٥٢٨ (٦٦١٢).
(٤) ساقط من (ح).
(٥) في (ح): (يكون)، وهو خطأ.
(٦) في (ح): (نكالًا)، وهو وهم من الناسخ.
(٧) رواه بنحوه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٥٥، وابن جرير١٠/ ٢٠٢ وابن أبي شيبة كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٧٤.
577
وسرورهم وفرحهم قليل لأنه ينقطع] (١)، وكل شيء ينقطع فهو قليل. ﴿وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾ في النار لا انقطاع له (٢)، قال ابن عباس: (إن أهل النفاق ليبكون (٣) في النار عمر الدنيا فلا يرقأ لهم دمع) (٤)، وقال أبو موسى: (حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت) (٥).
قال صاحب "النظم": (هذا فصل (٦) جاء مجيء الأمر وتأويله الخبر، أي (٧): أنهم سيضحكون قليلا وسيبكون كثيراً، يدل (٨) على ذلك قوله تعالى: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
وقال أبو إسحاق: (﴿جَزَاءً﴾ مفعول له، المعنى: وليبكوا لهذا الفعل) (٩).
وقال ابن عباس: في قوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (أي: في الدنيا من النفاق والتكذيب) (١٠).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ٢٠٢ مختصرًا، وذكر بعضه ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٥٦ بغير سند، ورواه بمعناه مختصرًا عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٨٤.
(٣) في (ى): (ليبكوا).
(٤) رواه الثعلبى ٦/ ١٣٥ ب.
(٥) رواه أحمد في كتاب: "الزهد" ٢/ ١٥٢، وأبو نعيم في "الحلية" ١/ ٢٦١، ورواه الحاكم عنه مرفوعًا "المستدرك" ٤/ ٦٠٥، وقال: صحيح الإسناد، قلت: في سنده محمد بن الفضل عارم، قال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" ص٥٠٢ (٦٢٢٦): ثقة ثبت تغير، في آخر عمره.
(٦) هكذا في النسخ ولعل الصواب: (فعل).
(٧) ساقط من (ى).
(٨) في (م): (دل).
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٣، وعبارته: جزاء لهذا الفعل.
(١٠) "تنوير المقباس" ص ٢٠٠ بمعناه.
578
٨٣ - قال تعالى: ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ﴾، قال ابن عباس: (يريد: إن ردك الله إلى المدينة) (١) ومعنى الرجع: تصيير الشيء إلى المكان الذي كان فيه، يقال: رجعته رجعًا، كقولك: رددته ردًّا.
وقوله تعالى: ﴿إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد المنافقين خاصة) (٢)، قال المفسرون: (إنما خصص لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين بل كان بعضهم مسلمين (٣) مخلصين معذورين، وبعضهم لا عذر له (٤) ثم عفى الله عنه) (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ﴾، قال (٦): (يريد للغزو معك).
وقوله (٧): ﴿فَقُلْ (٨) لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا﴾ إلى غزاة. قال ابن عباس: (وذلك أنه لم يكن يومئذ بقي أحد من المشركين إلا لحق بالشام، وصار في مملكة الروم، ودخل في الإسلام سائرهم) (٩)، ﴿وَلَنْ (١٠) تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا﴾ قال: (يريد: من أهل الكتاب) (١١)، ﴿إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يعني
(١) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٦، وبمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٠.
(٢) "تنوير المقباس" ص ٢٠٠ بنحوه.
(٣) من (م).
(٤) في (ح): (لهم)، وما أثبته موائم لما بعده.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٣٥ ب، والبغوي ٤/ ٨١، وابن الجوزي ٣/ ٤٧٩، والقرطبي ٨/ ٢١٧.
(٦) القائل ابن عباس، وانظر: "الوسيط" ٢/ ٥١٦، و"تنوير المقباس" ص ٢٠٠.
(٧) من (م).
(٨) في (ى) و (م): (قل).
(٩) لم أقف عليه.
(١٠) في (ح): (ولم)، وهو خطأ.
(١١) "الوسيط" ٢/ ٥١٦ ولا دليل على هذا التخصيص.
579
لم (١) تخرجوا إلى تبوك.
وقوله تعالى: ﴿فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ ذكروا في المخالفين قولين:
قال الأخفش وأبو عبيدة: (الخالف الذي خلفني فقعد بعدي) (٢)، ومنه قولهم: (اللهم اخلفني في أهلي) (٣).
وقال المؤرج: (الخالف من يخلف) (٤).
وقال ابن قتيبة: (﴿مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ واحدهم خالف، وهو من يخلف الرجل (٥) في قومه وماله) (٦).
وقال الفراء: (﴿مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ من الرجال) (٧)، يريد الذين يخلفون في البيت فلا يبرحون، وهذا القول هو معنى ما ذكره المفسرون.
قال ابن عباس: (﴿مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ [مع الرجال] (٨) الذين تخلفوا بغير (٩) عذر) (١٠)، يريد الذين خلفوا من سار فأقاموا بعدهم.
(١) في (ى): (لن)، وهو خطأ.
(٢) انظر: قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٦٥، وذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٥١ عن الأخفش، ولم أجده في كتابه "معاني القرآن".
(٣) روى الدارمي في "سننه" ٢/ ٣٧٣ حديث دعاء المسافر وفيه: (اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا بخير).
(٤) لم أجد من ذكره.
(٥) ساقط من (ى).
(٦) "تفسير غريب القرآن"، له ص ١٩٩.
(٧) "معاني القرآن" ١/ ٤٤٧.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٩) في (ى): (من غير)، وما أثبته موافق لرواية الثعلبي.
(١٠) رواه الثعلبي ٦/ ١٣٥ ب، والبغوي ٤/ ٨١، وبنحوه ابن المنذر كما في "الدر المنثور"، ورواه مختصرًا ابن جرير١٠/ ٢٠٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٥٧.
580
وقال الحسن (١) والضحاك (٢) وقتادة (٣): (يعني النساء والصبيان)، وهؤلاء هم الذين يخلفون الذاهبين إلى السفر والغزو فعلى هذا القول، الخالف: كل من تأخر عن الشاخص.
القول الثاني في المخالفين: أن معناه: المخالفين، قال الفراء: (يقال: عبد (٤) خالف وصاحب خالف: إذا كان مخالفًا) (٥).
وقال الأخفش: (فلان خالفة أهل بيته: إذا كان فاسدًاً) (٦).
وقال أبو عبيدة: (فلان خالفة أهله أي: مخالفهم لا خير فيه) (٧).
وقال الليث: (هذا رجل خالفةٌ: أي مخالف كثير الخلاف، وقوم خالفون، وكذلك رجل راوية ولحانة ونسابة ونحو ذلك، فإذا جمعت (٨) قلت: الخالفون والراوون) (٩).
(١) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٣٨٨، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٨٠، وذكره القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢١٨ بلفظ: مع النساء والضعفاء من الرجال، وذكره هود بن محكم في "تفسيره" ٢/ ١٥٨ بلفظ: مع النساء.
(٢) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٥ ب.
(٣) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٣٨٨، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٦، وقد رواه ابن جرير ١٠/ ٢٠٤ بلفظ: مع النساء.
(٤) في (ى): (عبده)، وما أثبته موافق للمصدر التالي.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٤٤٧.
(٦) لم أجده عن الأخفش، وانظر: المعنى في "لسان العرب" (خلف) ٢/ ١٢٤٠.
(٧) "مجاز القرآن" ١/ ٢٦٥.
(٨) في (ى): (اجتمعت)، وما أثبته موافق لكتاب "العين".
(٩) كتاب "العين" (خلف) ٤/ ٢٦٩ وذكره باختصار الأزهري في "تهذيب اللغة" (خلف) ١/ ١٠٩١.
581
وقال الأصمعي: (يقال: خلف فلان عن كل خير، فهو يخلف خلوفًا إذا فسد ولم يفلح (١) فهو خالف وخالفة (٢)) (٣)، فجاء من هذه الأقوال أن الخالف يكون بمعنى المخالف وبمعنى الفاسد، وكلاهما يجوز في الآية، وقول ابن عباس في هذه الآية: ﴿مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ مع الرجال الذين تخلفوا) (٤)، يجوز أن يكون من هذا؛ لأن من تخلف عنك فقد خالفك، وقال جماعة من المفسرين: (يريد مع أهل الفساد) (٥)، وهذا معنى ما ذكرنا من قولهم خلف فلان: إذا فسد، ومثله خلف اللبن وخلف النبيذ.
وهذه الآية دليل على أن من ظهر منه نفاق وتخذيل لا يجوز للإمام أن يستصحبه في الغزو، اقتداءً برسول الله - ﷺ - فيما أمره الله به (٦) من مباعدتهم عن الجماعة التي تصحب في السفر وتنصر على العدو من أهل الطاعة (٧).
٨٤ - وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا﴾، ﴿مَات﴾ (٨) في موضع جر؛ لأنه صفة للنكرة كأنه قيل: على أحد منهم ميت، و ﴿أَبَدًا﴾ ظرف لـ ﴿تُصَلِّ﴾، كأنه قيل: ولا تصل أبدًا على أحد منهم.
(١) في (ى): (يخلف)، وما أثبته موافق لـ"تهذيب اللغة".
(٢) في "تهذيب اللغة": وهي (خالفة).
(٣) "تهذيب اللغة" (خلف) ١/ ١٠٨٨.
(٤) سبق تخريجه قبل عدة أسطر.
(٥) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢٠٤، والثعلبي ٦/ ١٣٥ ب، والرازي ١٦/ ١٥١.
(٦) ساقط من (ح).
(٧) انظر: "المغني" لابن قدامة ١٣/ ١٥، و"حاشية الروض" ٤/ ٢٦٣.
(٨) ساقط من (ح).
582
قال عامة المفسرين: (لما مرض عبد الله بن أبي أرسل (١) إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأله أن يكفنه في قميصه الذي يلي بدنه ويصلي عليه، فلما مات فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشهد دفنه، ودلاه في قبره، فما لبث إلا يسيرًا حتى نزلت هذه الآية، ثم كُلم رسول -صلى الله عليه وسلم- فيما فعل بعبد الله بن أبي، فقال: "وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله، والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه" فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (٢).
قال أبو إسحاق: ويروى أنه -صلى الله عليه وسلم- إنما أجاز الصلاة عليه لأن ظاهره كان الإسلام فأعلمه الله عز وجل أنه إذا علم منه النفاق فلا صلاة عليه) (٣)، وقال
(١) هذه رواية قتادة كما في "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢٠٦ورواية "الصحيحين" عن ابن عمر أن السائل عبد الله بن عبد الله بن أبي، وجمع الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣ أبين الأمرين بأن عبد الله بن أبي طلب ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما مات عبد الله انطلق ابنه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعاه إلى جنازة أبيه. اهـ. ويؤيد ذلك ما رواه ابن جرير وابن ماجه والبزار وأبو الشيخ وابن مردويه (كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٧٥). عن جابر قال: مات رأس المنافقين بالمدينة، فأوصى أن يصلي عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن يكفنه في قميصه، فجاء ابنه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبي أوصى أن يكفن في قميصك..) إلخ، فتبين من مجموع الروايات أن ابن أبي طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وحرص عليه، وأوصى به، وأن ابنه نفذ وصيته، وشفع له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تم الأمر.
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٣، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢٠٤ - ٢٠٦، والثعلبي ٦/ ١٣٦ أ، والبغوي ٤/ ٨١، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٧٦، وأصل القصة في "صحيح البخاري" (٤٦٧٠)، كتاب: التفسير، باب: قوله ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾، و"صحيح مسلم" (٢٤٠٠)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٤.
583
أنس: (أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصلي عليه فأخذ جبريل بثوبه (١)، وقال: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ (٢) مَاتَ أَبَدًا﴾ الآية (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾، قال الزجاج: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له) (٤)، وقال الكلبي: (لا تدفنه ولا تله) (٥)، وهذا من قولهم: قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وتولاه.
٨٥ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ﴾ قد تقدم تفسير هذه الآية في قوله تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ [التوبة: ٥٥].
قال أهل المعاني: (إنما كرر هذه الآية للبيان عن قوة هذا المعنى فيما ينبغي أن يحذر منه مع أنه للتذكير به في موطنين يبعد أحدهما عن الآخر فتجب العناية بأمره، قالوا: ويجوز أن يكون في فريقين من المنافقين، فيجري مجرى قول القائل: (لا تعجبك حال زيد، لا تعجبك حال عمرو) (٦).
(١) ساقط من (ح).
(٢) ساقط من (ى).
(٣) رواه ابن جرير ١٠/ ٢٠٥، وأبو يعلى وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٧٦، وفي سند ابن جرير ضعيف بل متروك، وهو يزيد بن أبان الرقاشي كما في "تهذيب التهذيب" ٤/ ٤٠٣، ثم إن في الأثر علة قادحة لمخالفته رواية "الصحيحين" السابقة وفيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى عليه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٤، والحديث رواه أبو داود (٣٢٢١)، كتاب: الجنائز، باب: الاستغفار عن القبر للميت، وهو حديث صحيح كما في "صحيح الجامع وزياداته"، رقم (٤٧٦٠) ٢/ ٨٦٥.
(٥) ذكره بنحوه الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٥٣.
(٦) انظر: "تفسير الرازي" ١٦/ ١٥٥ - ١٥٦، و"الخازن" ٢/ ٢٥١، ولم أجده في كتب أهل المعاني.
٨٦ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ﴾ موضع (أن) نصب بحذف حرف الجر على تقدير: بأن آمنوا، كأنه قيل بالإيمان.
قال أهل المعاني: (ومعنى الأمر للمؤمنين بالإيمان: الدوام عليه والتمسك به في مستقبل الأوقات) (١)، مع أن هذا أمر عام يدخل فيه أمر المنافقين بالإيمان، ثم الجهاد؛ لأنه لا ينفعهم ذاك مع النفاق.
وقوله تعالى: ﴿أُولُو الطَّوْلِ﴾، قال ابن عباس والحسن: (استأذنك أهل الغنى في التخلف) (٢).
وقال مقاتل: (أهل السعة في المال) (٣).
وقال ابن كيسان: (يعني الكبراء المنظور إليهم) (٤)، وخص هؤلاء بالذكر لأن الذم لهم ألزم بكونهم قادرين على الجهاد والسفر، ومضى الكلام في الطول (٥)، والصحيح أنه ذكر ﴿أُولُو الطَّوْلِ﴾ لأن من لا مال له ولا قدرة على السفر لا يحتاج إلى الاستئذان في القعود؛ لأنه معذور، وهؤلاء لا عذر لهم في القعود، فيستأذنون ويقعدون، وقد فضح الله عز وجل المنافقين بهذه الصفات التي ذكرهم بها أشد الفضيحة.
٨٧ - قوله تعالى: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾، قال المفسرون:
(١) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ١١٩، و"معاني القرآن الكريم" للنحاس ٢/ ٢١٥.
(٢) رواه عن ابن عباس بنحوه ابن جرير ١٠/ ٢٠٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٥٨، وذكره عن الحسن بمعناه الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٥٦، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ٨٢.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٣٣ ب.
(٤) انظر: "تفسير الرازي" ١٦/ ١٥٦، و"البحر المحيط" ٥/ ٨٢.
(٥) انظر: "تفسير البسيط" النساء: ٢٥.
585
(يعني النساء) (١)، قال الفراء: (النساء الخوالف: اللاتي يخلفن في البيت ولا يبرحن) (٢).
[وقال الزجاج] (٣): (أي رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء، قال: وقد (٤) يجوز أن يكون جمع خالفة في الرجال والخالفة: الذي هو غير نجيب (٥)، ولم يأت (فاعل) صفة جمعه (فواعل) إلا حرفان، قالوا: فارس وفوارس، وهالك وهوالك (٦) (٧).
وذكرنا الكلام في الخالف مستقصى في قوله تعالى: ﴿فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ [التوبة: ٨٣].
وقوله تعالى: ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد بالنفاق) (٨)، ﴿فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾، قال الضحاك: (لا يعلمون أمر الله) (٩).
(١) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢٠٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٥٩، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٧٧.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٤٤٧.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٤) ساقط من (ى).
(٥) في "معاني القرآن وإعرابه": منجب. وفي "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٤ مثل ما ذكره المؤلف. والنجيب: الكريم الفاضل. انظر: "لسان العرب" (نجب) ٧/ ٤٣٤٢
(٦) زاد الأزهري في "تهذيب اللغة" (خلف) ١/ ١٠٩٠، نقلاً عن بعض النحويين: خالف وخوالف. ويرى النحاس أن (خوالف) في الآية جمع (خالفة) ولا يجمع (فاعل) صفة على (فواعل) إلا في الشعر إلا في الحرفين المذكورين. انظر: "إعراب القرآن"، له ٢/ ٣٤.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٥.
(٨) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٧.
(٩) لم أعثر على من ذكره عنه.
586
وقال الحسن: (ليسوا بفقهاء ولا علماء، ولو كانوا فقهاء لما تخلفوا عن الجهاد معه) (١)، وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥]، وقوله: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: ٧].
٨٨ - قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ﴾ (٢)، قال الأخفش (٣) وأبو عبيدة (٤) والمبرد (٥): (الخيرات جمع خيرة، وهن الجواري الفاضلات الحسان)، أبو زيد: يقال: (هي خيرة النساء، وشرة النساء) (٦)، وأنشد أبو عبيدة:
ربلات هند خيرة الملكات (٧)
٩٠ - قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ﴾ الآية، ذكرنا معنى العذر والاعتذار وأصله في اللغة عند قوله: ﴿قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا﴾
(١) لم أجده.
(٢) هذه الجملة بعض قول الله تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ الآية، وإتيان المؤلف ببعض الآية لا ينسجم مع ما قبلها.
(٣) كتاب: "معاني القرآن"، له ١/ ١٣٥.
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ٢٦٧.
(٥) لم أقف على قوله.
(٦) "تهذيب اللغة" (خار) ١/ ٩٥٩.
(٧) هذا عجز بيت، وصدره:
ولقد طعنت مجامع الربلات
ذكره أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٦٧، ونسبه لرجل جاهلي من بني عدي، عدي تميم، ومثله ابن منظور في "لسان العرب" (خير) ٤/ ١٢٩٨، ومعنى الربلات: جمع ربلة، بتسكين الباء وتحريكها وهي كل لحمة غليظة، وقيل: هي باطن الفخذ، وقيل: أصول الأفخاذ. انظر: "لسان العرب" (ربل) ٣/ ١٥٧١.
587
[التوبة: ٦٦]، وتقول: أعذر (١) فلان أي كان منه ما يُعذر به، ومنه قولهم: قد أعذر من أنذر، واعتذر اعتذارًا: إذا أتى بعذر صدق فيه أو كذب، وعذر تعذيرًا: أي قصر ولم يبالغ. يقال: قام فلان قيام (٢) تعذير فيما استكفتيه: إذا لم يبالغ، وقصر فيما اعتمد عليه، فمن قرأ (المُعَذِرُون) بالتخفيف وهو قراءة جماعة من الصحابة والتابعين (٣)، فمعناه المجتهدون المبالغون في العذر، روى الضحاك عن ابن عباس أنه قرأ: (وجاء المعذرون) (٤)، وقال (لعن الله المعذرين) (٥) ذهب إلى أن المعذرين هم الذين لا عذر لهم (٦).
(١) في (ح): (عذر). وأثبت ما في (م) و (ى) لموافقته لما في "تهذيب اللغة" (عذر) ٣/ ٢٣٦٦.
(٢) في (ح): (مقام). وأثبت ما في (م) و (ى) لموافقته لما في "تهذيب اللغة" (عذر) ٣/ ٢٣٦٦ إذ النص منقول منه.
(٣) روى هذه القراءة ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد، وهي أيضًا قراءة زيد بن علي والضحاك والأعرج وأبو صالح وعيسى بن هلال، ومن العشرة يعقوب والكسائي في رواية، وقرأ الباقون بالتشديد. انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢٠٩ - ٢١١، و"الغاية في القراءات العشر" ١٦٦، و"تقريب النشر" ص ١٢١، و"البحر المحيط" ٥/ ٨٣ - ٨٤.
(٤) "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢١٠، وابن أبي حاتم ٤٦/ ١٨٦٠، وفي سنده بشر بن عمارة، قال البخاري: يُعرف وينكر، وقال الدارقطني: متروك. انظر: "كتاب الضعفاء الصغير" ص٤٦، و"الضعفاء والمتروكون" ص ١٦٠، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٢٣٠، ثم إن في الأثر علة أخرى حيث إن الضحاك لم يلق ابن عباس على القول الصحيح، انظر: "تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٢٦.
(٥) رواه الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٤٤٨ وعنه ابن الأنباري في "كتاب الأضداد" ص ٣٢١ بإسنادين شديدي الضعف، إذ في أحدهما الكلبي وهو متهم بالكذب كما في "التقريب" ص٤٧٩ (٥٩٠١)، وفي الثاني جويبر البلخي، وهو ضعيف جدًّا كما في "المصدر السابق" ص ١٤٣ (٩٨٧).
(٦) في (م): (الذين لهم عذر)، وهو خطأ.
588
و ﴿الْمُعَذِّرُونَ﴾ (١) بالتشديد: الذين يعتذرون بلا عذر، كأنهم المقصرون الذين لا عذر لهم، وعلى هذه القراءة، معنى الآية: إن الله تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكاذبين، قال ابن عباس: (هم الذين تخلفوا بعذر بإذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (٢).
وقال عطاء عنه: (يريد الأعراب [الذين يعتذرون] (٣) إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في تخلفهم ليؤذن لهم في التخلف) (٤).
وقال الضحاك: (هم وهي عامر بن الطفيل (٥) جاؤا (٦) إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقالوا: إن نحن غزونا معك تُغير أعراب طيء على حلائلنا (٧) وأولادنا ومواشينا فعذرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (٨).
ونحو هذا قال مجاهد: (هم أهل العذر) (٩)، ومن قرأ: ﴿الْمُعَذِّرُونَ﴾
(١) في (ى): (والمعذر).
(٢) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٧ أ، وبنحوه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٦٠، وابن جرير ١٠/ ٢١٠.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٤) "تنوير المقباس" ص ٢٠١ بنحوه من رواية الكلبىِ.
(٥) هو: عامر بن الطفيل بن مالك العامري سيد بني عامر بن صعصعة، كان من فرسان العرب وفتاكها وشعرائها، وهو الذي فتك بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بئر معونة، ثم حال الغدر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وظل جادًا في سعيه لإطفاء نور الله، حتى هلك سنة ١١هـ. انظر: "السيرة النبوية" ٣/ ١٨٥، ٤/ ٢٣٣، و"الشعر والشعراء" ص ٢٠٧، و"الإصابة" ٣/ ١٢٥.
(٦) في (ح): (جاء).
(٧) الحلائل: جمع حليلة وهي الزوجة. انظر: "الصحاح" (حلل) ٤/ ١٦٧٣.
(٨) رواه الثعلبي ٦/ ١٣٧ أ، والبغوي ٤/ ٨٣.
(٩) رواه ابن جرير ١٠/ ٢١٠.
589
بالتشديد وهو قراءة العامة (١) فله وجهان من العربية والتأويل:
أحدهما: ما ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري: (وهو أن الأصل في هذا اللفظ عند النحويين: المعتذرون فحولت فتحة التاء إلى العين وأبدلت الذال من التاء، وأدغمت في الذال التي بعدها فصارتا ذالًا مشددة (٢)) (٣).
والاعتذار ينقسم في كلام العرب على قسمين، يقال: اعتذر (٤): إذا كذب في عذره، قال الله تعالى: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾، فدل على فساد عذرهم بقوله (٥): ﴿قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا﴾ [التوبة: ٩٤]، ويقال: اعتذر: إذا جاء بعذر صحيح، ومنه قول لبيد:
ومن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر (٦)
(١) هي قراءة العشرة عدا يعقوب، وقتيبة عن الكسائي. انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٦، و"تقريب النشر" ص ١٢١.
(٢) في (م): (مشدودة).
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٤٧، و"معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٦٤، و"كتاب الأضداد" لابن الأنباري ص ٣٢١.
(٤) في (ح): (اعتذرت).
(٥) في (ح): (لقوله).
(٦) هذا عجز بيت، وصدره:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
وهو للبيد بن ربيعة العامري في "ديوانه" ص ٢١٤، و"كتاب الأضداد" لابن الأنباري ص ٣٢١، و"تهذيب اللغة" (عذر)، و"الخصائص" ٣/ ٢٩، و"لسان العرب" (عذر) ٥/ ٢٨٥٥.
والشاعر يوصي ابنتيه بالبكاء عليه بعد موته حولًا كاملاً، وقبل هذا البيت قال:
590
يريد فقد جاء بعذر صحيح.
(الوجه الثاني من العربية - أن يكون ﴿الْمُعَذِّرُونَ﴾ (١) على (مفعلين) من التعذير الذي هو التقصير على ما بينا، فإن قلنا: المعذرون (٢) [معناه: المعتذرون بعذر] (٣) صحيح فوجهه من التأويل ما ذكرنا في قراءة من خفف، وإن قلنا أن معناه: المعتذرون بعذر باطل، أو أخذناه من التعذير فوجهه من التأويل ما قال قتادة) (٤): (هم الذين اعتذروا بالكذب) (٥)، ونحو هذا قال محمد بن إسحاق: (هم أعراب من غفار، اعتذروا فلم يعذرهم الله) (٦).
فإن قيل على هذا: إذا كانوا مقصرين فلم أفردوا من الكاذبين الله ورسوله؟
والجواب عن هذا ما أخبرني العروضي (٧) عن الأزهري قال أخبرني
فقوما فقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجهًا ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا خليله أضاع، ولا خان الصديق ولا غدر
إلى الحول.. إلخ.
(١) في (ى): (المعذورون)، وهو خطأ.
(٢) في (ى): (المعذورون)، وهو خطأ.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ى).
(٤) ما بين القوسين مضطرب في النسخة (ح) وفيه تقديم وتأخير ونقص ضاع معه المعنى، ونصه: (الوجه الثاني من العربية أن يكون المعذرون صحيح فوجهه من التأويل ما ذكرنا في قراءة من خفف وإن قلنا إن معناه المعتذرون بعذر باطل على (مفعلين) من التعذير الذي هو التقصير على ما بينا، فإن قلنا: المعذرون باطل أو أخذنا من التعذير فوجهه من التأويل ما قال قتادة).
(٥) رواه ابن جرير ١٠/ ٢١٠.
(٦) "السيرة النبوية" لابن هشام، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢١١.
(٧) هو: أحمد بن محمد النيسابوري، تقدمت ترجمته عند ذكر شيوخ المؤلف.
591
المنذري عن ابن فهم (١) عن محمد بن سلام (٢) عن يونس النحوي أنه سأله عن قوله: ﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ﴾، قال: قلت ليونس (المعذرون) مخففة كأنها أقيس؛ لأن المعذر الذي له عذر، والمعذر الذي يعتذر ولا عذر له، فقال يونس: (قال أبو عمرو (٣) بن العلاء: كلا الفريقين كان (٤) مسيئًا، جاء قوم فعذروا، وجلح (٥) آخرون فقعدوا) (٦)، يريد أن قومًا تكلفوا عذرًا بالباطل، فهم الذين عناهم (٧) الله بقوله: ﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ﴾ وتخلف آخرون (٨) من غير تكلف عذر وإظهار علة جرأة على الله ورسوله، وهو معنى قوله: وجلح آخرون فقعدوا).
(١) هو: الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن فهم البغدادي، حافظ علامة نسابة أخباري، وكان متفننًا في العلوم، كثير الحفظ للحديث، ولأصناف الأخبار والنسب والشعر، والمعرفة بالرجال، وتوفي سنة ٢٨٩ هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" ٨/ ٩٢، و"سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٤٢٧، و"البداية والنهاية" ١١/ ٩٥، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي ص ٢٩٩
(٢) هو: محمد بن سلام بن عبيد الله الجمحي مولاهم، أبو عبد الله البصري، كان عالمًا أخباريًّا، أديبًا بارعًا، إمامًا في رواية الشعر، من أهل الصدق، وهو صاحب "طبقات فحول الشعراء" المشهور، توفي سنة ٢٣١ هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" ٥/ ٣٢٧، و"مراتب النحويين" ص٦٧، و"طبقات النحويين واللغويين" ص ١٨٠، و"سير أعلام النبلاء" ١٠/ ٦٥١.
(٣) في (ى): (قال عمرو)، وهو خطأ.
(٤) في (ى): (جاء)، وفي (ح): (كانا).
(٥) في (ى): صلح، وما أثبته موافق لما في "تهذيب اللغة"، ومعنى جلح: ركب رأسه، والتجليح: الإقدام الشديد والتصميم في الأمر والمضي، والمجالح: المكابر. انظر: "لسان العرب" (جلح) ٢/ ٦٥٢.
(٦) "تهذيب اللغة" (عذر) ٣/ ٢٣٦٦.
(٧) في (ى): (أغناهم)، وهو خطأ.
(٨) في (ح): (الآخرون).
592
وقوله تعالى: ﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد لم يصدقوا نبيه واتخذوا إسلامهم جنة) (١)، فبان بهذا أنه ليس يريد الكذب في العذر إنما يريد كذبهم في قولهم (٢): إنا مؤمنون.
٩١ - ثم ذكر الله تعالى أهل العذر فقال: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ﴾، قال ابن عباس: (يريد الزمنى والمشايخ والعجزة) (٣)، ﴿وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ﴾ يعني المقلين من المؤمنين، ﴿إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، قال ابن عباس: (يريد لم يعدلوا بالله شيئاً، وعرفوا الله بتوحيده، وأن ما جاء به محمد - ﷺ - حق وصدق، وغضبوا لله ورسوله، وأبغضوا من أبغض الله وأحبوا أولياء (٤) الله) (٥)، ففسر ابن عباس النصح لله ورسوله بما ذكر.
وقال أهل المعاني: (معنى النصح إخلاص العمل من الغش) (٦)، ومنه التوبة النصوح، فمعنى: ﴿نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أخلصوا أعمالهم من الغش والنفاق لهما.
وفائدة قوله: ﴿إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ بعدما ذكر عذرهم أن المعذور يكون على قسمين: أحدهما فريق منهم يغتنمون عذرهم، فهؤلاء [ليسوا ممن نصح لله ورسوله، وفريق يتمنون أن لم يكن لهم عذر فيتمكنوا من
(١) "تنوير المقباس" ص ٢٠١ بمعناه من رواية الكلبي.
(٢) في (ى): (قوله).
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ١٣٧ ب، والبغوي ٤/ ٨٤.
(٤) في (ى): (وأحبوا من أحب الملة).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (نصح ٤/ ٥/ ٨٥، و"تفسير القرطبي" ٨/ ٢٢٧.
الجهاد، فهؤلاء] (١) هم (٢) الذين نصحوا لله ورسوله، وهم الذين أرادهم الله بقوله: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾، قال ابن عباس: (من إثم) (٣).
وقال أهل المعاني: (من طريق العقاب) (٤)، يعني أنه قد سد بإحسانه طريق العقاب على نفسه.
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، قال ابن عباس: (يريد لمن كان على هذه الخصال) (٥).
٩٢ - قوله تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾، قال المفسرون: (نزلت هذه الآية في البكائين) (٦)، قال ابن عباس (٧) ومقاتل (٨) ومحمد بن كعب (٩) ومحمد بن إسحاق (١٠): (هم سبعة نفر من قبائل شتى، وذكروا أسماءهم (١١).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٢) ساقط من (م) و (ى).
(٣) "تنوير المقباس" ص ٢٠١ بمعناه.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٤٨٥، و"البحر المحيط" ٥/ ٨٥، ولم أجده في كتب أهل المعاني.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢١٢ - ٢١٣، والثعلبي ٦/ ١٣٧ ب، والبغوي ٤/ ٨٤.
(٧) رواه ابن جرير ١٠/ ٢١٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٦٣، لكن من غير ذكر العدد.
(٨) "تفسيره" ١٣٣ ب.
(٩) هو القرظي، وانظر قوله في: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢١٣.
(١٠) انظر: "السيرة النبوية" ٤/ ١٧٢، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢١٣.
(١١) هناك خلاف في أسمائهم، وقد روى ابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ٢١٣ عن محمد بن كعب وغيره أنهم سبعة نفر وهم: سالم بن عمير، وهرمي بن عمرو، وعبد الرحمن=
594
وقال مجاهد (١): (هم ثلاثة إخوة: معقل (٢) وسويد (٣) والنعمان (٤) بنو مقرن، سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة ليغزوا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا وهم يبكون) (٥)، وقال ابن عباس: (سألوه أن يحملهم على الدواب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا أجد ما أحملكم عليه" (٦) لأن الشقة بعيدة، والرجل يحتاج إلى بعيرين بعير يركبه، وبعير يحمل ماءه وزاده.
وقال الحسن: نزلت في أبي موسى الأشعري وأصحابه أتوا رسول
= ابن كعب، وسلمان بن صخر، وعبد الرحمن بن يزيد، وعمرو بن غنمة، وعبد الله ابن عمرو المزني.
واتفق معه ابن إسحاق في أربعة أسماءهم: سالم بن عمير، وعبد الرحمن بن كعب، وعبد الله بن عمرو المزني، وهرمي بن معمرو، واختلف معه في الباقين فذكر بدلاً منهم: عُلبة بن زيد، وعمرو بن حمام بن الجموح، وعرباض بن سارية. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام ٤/ ١٧٢.
(١) في (ى): (محمد).
(٢) هو: معقل بن مقرن بن عائذ المزني، أبو عمرة، صحابي أعرابي، ثم سكن الكوفة، انظر: "الاستيعاب" ٣/ ٤٨٤، و"الإصابة" ٣/ ٤٤٧.
(٣) هو: سويد بن مقرن بن عائذ المزني، أبو عدي، صحابي مشهور، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وحديثه عند مسلم وأصحاب السنن.
انظر: " الاستيعاب" ٢/ ٢٣٩، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ١٣٦، و"الإصابة" ٢/ ١٠٠.
(٤) هو: النعمان بن مقرن المزني، أبو حكيم، أو أبو عمرو، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أسند إليه لواء قومه يوم فتح مكة، ثم ولاه عمر قيادة الجيش الذي فتح نهاوند، واستشهد يومئذٍ سنة ٢١ هـ. وكان -رضي الله عنه- شجاعًا مجاب الدعوة. انظر: "الاستيعاب" ٤/ ٦٧ - ٦٩، و"سير أعلام النبلاء" ٢/ ٢٥٦، و"الإصابة" ٣/ ٥٦٥.
(٥) رواه مختصرًا ابن جرير ١٠/ ٢١٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٦٣، والثعلبي ٦/ ١٣٨ أ.
(٦) "معالم التنزيل" ٤/ ٨٤، و"زاد المسير" ٣/ ٤٨٦.
595
الله - ﷺ - يستحملونه، ووافق ذلك منه غضبًا فقال: "والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا يبكون، فدعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعطاهم ذودًا (١) غر الذرى (٢)، فقال أبو موسى: ألست حلفت (٣) يا رسول الله؟ فقال: "أما إني [إن شاء الله] (٤) لا أحلف بيمين (٥) فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" (٦).
وقوله تعالى: ﴿قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ﴾ [قال صاحب "النظم": (جاء قوله: ﴿قُلْتَ لَا أَجِدُ﴾ مجيء الخبر لقوله: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ﴾ وليس بخبر، وإنما هو منسوق على ما قبله، وتأويله: ولا على الذين إذا ما
(١) الذود: القطيع من الإبل ما بين الثلاثة إلى التسع، وقيل: أكثر من ذلك. انظر: "لسان العرب" (ذود) ٣/ ١٥٢٥.
(٢) غر الذرى: قال النووي في "شرح صحيح مسلم" ١١/ ١٠٩: (أما الذرى: فبضم الذال وكسرها، وفتح الراء المخففة: جمع ذروة، بكسر الذال وضمها، وذروة كل شيء أعلاه، والمراد هنا الأسنمة، وأما الغر: فهي البيض،.. ومعناه: أمر لنا بإبل بيض الأسنمة).
(٣) ساقط من (ى).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٥) في (ى): (يمينًا).
(٦) رواه بنحوه البخاري في عدة مواضع في "صحيحه" (٦٦٢١)، منها كتاب الإيمان والنذور، باب: قول الله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾، ومسلم (١٦٤٩)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا.. الخ، والنسائي في "سننه"، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الكفارة قبل الحنث ٧/ ٩، وابن ماجه (١٢٠٧)، كتاب: الكفارات، باب: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، ولم يذكره أحد من هؤلاء عن الحسن، ولا ذكروا بكاء الأشعريين ولا نزول الآية فيهم، وذكره عز الحسن الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٦٢، والقرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٢٨.
596
أتوك لتحملهم وقلت لا أجد ما أحملكم عليه] (١) فهو مبتدأ منسوق على ما قبله بغير واو، والجواب في قوله: ﴿تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا﴾ ومعناه جرت أعينهم من (٢) امتلاء من (٣) حزن في قلوبهم).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) في (م): (عن).
(٣) ساقط من (ى).
597
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من آية (٩٣) من سورة التوبة إلى آخر سورة يونس
تحقيق
د. إبراهيم بن علي الحسن
سورة هود
تحقيق
د. عبد الله بن إبراهيم الريس
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود أ. د. تركي بن سهو العتيبي
الجزء الحادي عشر
1
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
[١١]
2
جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية ١٤٣٠ هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الواحدي، علي بن أحمد
التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)./ علي ن أحمد الواحدي، إبراهيم بن علي الحسن،
عبد الله بن إبراهيم الريس، الرياض ١٤٣٠ هـ.
٢٥ مج. (سلسلة الرسائل الجامعية)
ردمك: ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٠ - ٨٦٨ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج ١١)
١ - القرآن تفسير... ٢ - الواحدي، علي بن أحمد
أ- العنوان... ب- السلسلة
ديوي ٢٢٧. ٣... ٨٦٨/ ١٤٣٠
رقم الإيداع: ٨٦٨/ ١٤٣٠ هـ
ردمك ٤: - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٠ - ٨٦٨ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج ١١)
3
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
سلسله الرسائل الجامعية
- ١٠٦، ١٠٧ -
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من آية (٩٣) من سورة التوبة إلى آخر سورة يونس
تحقيق
د. إبراهيم بن علي الحسن
سورة هود
تحقيق
د. عبد الله إبراهيم الريس
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود أ. د. تركي بن سهو العتيبي
الجزء الحادي عشر
4

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

5
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من آية (٩٣) من سورة التوبة إلى آخر سورة يونس
تحقيق
د. إبراهيم بن علي الحسن
6
٩٤ - قوله تعالى: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد بالأباطيل (١)) (٢) ﴿إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾ من غزوة تبوك، ﴿قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ﴾ لن نصدقكم ﴿قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾ يريد: قد أخبرنا الله بسرائركم وما تخفي صدوركم ﴿وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ أي فيما تستأنفون، تبتم عن النفاق أو أقمتم عليه ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ يريد: يعلم ما غاب عنا من ضمائركم ونياتكم، ومعنى: ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ﴾ أي للجزاء ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ قال (٣): يريد: يخبركم بما كنتم (٤) تكتمون وتسرون.
٩٥ - قوله تعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾ أي إذا (٥) رجعتم إليهم من تبوك، والمحلوف عليه محذوف من الآية على معنى: يحلفون بالله لكم أنهم ما قدروا على الخروج، أو ما أشبه هذا ﴿لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ أي: لتصفحوا عنهم فلا تؤنبوهم (٦). والمعنى: لتعرضوا عن لائمتهم، فهو من باب حذف المضاف.
قال الله تعالى: ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد ترك الكلام والسلام والموالاة) (٧).
(١) في (م): (بالباطل).
(٢) ذكره بمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٨٦.
(٣) يعني ابن عباس، وانظر قوله بمعناه في: "تنوير المقباس" ص ٢٠٢.
(٤) قوله: (تعملون. قال يريد يخبركم بما كنتم) ساقط من (ح).
(٥) ساقط من (ى).
(٦) في (ح): (تؤنبهم)، وفي (ى): (تونههم) بلا نقطة على النون.
(٧) رواه الثعلبي ٦/ ١٣٨ أ، والبغوي ٤/ ٨٥.
7
وقال مقاتل: (قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدم المدينة: "لا تجالسوهم ولا تكلموهم" (١). وقال أهل المعاني: (هؤلاء طلبوا إعراض الصفح، فأعطوا إعراض المقت) (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾، قال ابن عباس: (يريد: إن عملهم رجس من عمل الشيطان ليس لله برضى) (٣)، فعلى هذا يكون التقدير: إنهم ذوو رجس أي ذوو عمل قبيح، وذكرنا الكلام في معنى الرجس عند قوله: ﴿رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [المائدة: ٩٠] (٤).
(١) "تفسير مقاتل" ١٣٤ أ، وقد روى الحديث ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٦٥ مرسلًا عن السدي، ثم هو من رواية أسباط بن نصر عنه، وهو ضعيف عند أكثر الأئمة، ولخص الإمام ابن حجر حاله فقال: صدوق كثير الخطأ يغرب) انظر: "تقريب التهذيب" ص٩٨ (٣٢١)، و"تهذيب التهذيب" ١/ ١٠٩، ثم إن في المتن نكارة وهو مخالفته لحديث كعب بن مالك المتفق عليه، ولفظه عند البخاري: (ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا)، ولفظه عند مسلم: (ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه). انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب: وعلى الثلاثة.. ٦/ ١٣٤، و"صحيح مسلم" (٢٧٦٩)، كتاب: التوبة، رقم (٢٧٦٩) ٤/ ٢١٢٤.
(٢) "تفسير الرازي" ١٦/ ١٦٤، و"الخازن" ٢/ ٢٥٤. منسوبًا لأهل المعاني، ولم أجده فيما بين يدي من كتبهم.
(٣) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٨ أمختصرًا عن عطاء.
(٤) انظر "النسخة" (ح) ٢/ ٦٩ أحيث قال: (الرجس في اللغة: اسم لكل ما استقذر من عمل، يقال: رجس الرجل رجسًا، ورجس: إذا عمل عملًا قبيحًا، وأصله من الرجسر -بفتح الراء- وهو شدة الصوت، يقال: سحاب رجاس: إذا كان شديد الصوت بالرعد.. فكأن الرجس العمل الذي يقبح ذكره جدًا، ويرتفع في القبح).
8
٩٦ - قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ﴾، قال مقاتل: (وذلك أن عبد الله بن أبي حلف للنبي - ﷺ - بالله الذي لا إله إلا هو أن لا يتخلف عنه وليكونن (١) معه على عدوه، وطلب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرضى عنه) (٢) [وحلف عبد الله بن سعد بن أبي سرح (٣) لعمر بن الخطاب أن يرضى عنه] (٤) فأنزل الله هذه الآية (٥)، قال عطاء عن ابن عباس في هذه الآية: (يريد أن المؤمن إذا حلف له بالله اطمأن قلبه، فأحب الله أن يخبر المؤمنين بما في قلوبهم حتى لا يصدقوهم) (٦).
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اعتذر إليه أحد بعذر وإن كان كاذبًا قبل علانيته، ووكل سريرته إلى الله، حتى أخبره الله بنفاق المنافقين وأسمائهم
(١) في (ى): (وليكون)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لتفسير مقاتل.
(٢) أهـ. كلام مقاتل، انظر: "تفسيره" ١٣٤ أ، و"تفسير الثعلبي" ٦/ ١٣٦ أ، والبغوي ٤/ ٨٥.
(٣) هو: عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري القرشي، أبو يحيى، كان أخًا لعثمان من الرضاعة، وأسلم وجعله النبي -صلى الله عليه وسلم- من كتابه، ثم أزله الشيطان فارتد ولحق بالمشركين، وأهدر النبي -صلى الله عليه وسلم- دمه يوم الفتح، وشفع له عثمان وقبلت شفاعته، فأسلم وحسن إسلامه، وتولى إمرة الصعيد في خلافة عمر، وضم إليه عثمان مصر كلها، وكان محمودًا في ولايته، كثير الغزو، وهو الذي فتح بلاد النوبة وغزا أفريقيا، ونازل الروم في وقعة ذات الصواري، ثم اعتزل أيام الفتنة، وتوفي سنة ٥٩ هـ.
انظر: "التاريخ الكبير" ٥/ ٢٩، و"سير أعلام النبلاء" ٣/ ٣٣، و"الإصابة" ٢/ ٣١٦ - ٣١٧.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٥) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٤٨٧.
(٦) لم أقف عليه.
وأسماء آبائهم وقبائلهم (١).
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾، قال ابن عباس: (يريد الذين ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم) (٢)، والله لا يرضى أن يكون ما في اللسان غير ما في القلب، وقال أهل المعاني: (هذا بيان عن التفصيل الذي يحتاج إليه لئلا يتوهم متوهم أن رضي المؤمنين عنهم يقتضي أن يرضي الله تعالى عنهم، فجاء على اليأس من هذا) (٣)، وهذه الآية وما قبلها دليل على أن المنافقين تحقن دماؤهم بسبب الشهادتين، ولا تجوز موالاتهم والرضا عنهم.
٩٧ - قوله تعالى: ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا﴾، قال ابن عباس: (نزلت في أعاريب أسد وغطفان وأعراب من حوالي المدينة) (٤).
قال العلماء من أهل اللغة: (يقال رجل عربي إذا كان نسبه في العرب ثابتًا، وجمعه العرب، كما يقال: مجوسي ويهودي، ثم تحذف ياء النسبة في الجمع فيقال: المجوس واليهود، ورجل أعرابي -بالألف- إذا كان بدويًا صاحب نجعة وانتواء (٥)، وارتياد للكلأ، وتتبع لمساقط الغيث، وسواء كان من العرب أو من مواليهم، ويجمع الأعرابي على الأعراب
(١) ساقط من (ى).
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٩، ومعناه في "تنوير المقباس" ص ٢٠٢.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٨٨، رواه بنحوه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٨١ عن الكلبي، وانظر "تنوير المقباس" ص ٢٠٢.
(٥) النجعة: المذهب في طلب الكلأ في موضعه، والانتواء: البعد. انظر: "لسان العرب" (نجع) ٧/ ٤٣٥٣ و (نأى) ٧/ ٤٣١٤.
10
والأعاريب، والأعرابي إذا قيل له: يا عربي فرح بذلك، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب له، فمن نزل البادية أو جاور البادين وظعن بظعنهم فهم أعراب، ومن استوطن القرى العربية فهم عرب) (١).
قال الأزهري: (والذي لا يفرق بين الأعراب والعرب والأعرابي والعربي (٢) ربما تحامل على العرب بما يتأوله في هذه الآية، ولا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب) (٣)، وهم مقدمون في مراتب الدين على الأعراب، ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَؤُمَّنَّ امرأة رجلاً، ولا فاسق مؤمنًا، ولا أعرابي مهاجرًا" (٤).
وقال أهل العلم: (إنما سمي العرب عربًا؛ لأن أولاد إسماعيل نشأوا بعربة (٥) وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم، وكل من سكن بلاد العرب وجزيرتها ونطق بلسان أهلها فهو منهم، وسموا عربًا باسم بلدهم عربة) (٦).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" (عرب) ٣/ ٢٣٨١ والنص منقول منه، وانظر أيضًا: "مجمل اللغة" (عرب) ٣/ ٦٦٤، و "مختار الصحاح" (عرب) ص ٤٢١، و"لسان العرب" (عرب) ٥/ ٢٨٦٤.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) أهـ. كلام الأزهري، انظر: "تهذيب اللغة" (عرب) ٣/ ٢٣٨١.
(٤) رواه مطولًا ابن ماجه (١٠٨١)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: فرض الجمعة، وفي سنده متهم بوضع الحديث وآخر ضعيف كما في "التلخيص الحبير"، رقم (٥٦٩) ٢/ ٣٢.
(٥) عربة هي مكة المكرمة، انظر: "معجم البلدان" ٤/ ١٠٩.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (عرب) ٣/ ٢٣٨١، و"لسان العرب" (عرب) ٥/ ٢٨٦٤، وذكره القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٣٣ عن القشيري.
11
قال إسحاق بن الفرج (١): عربة باحة العرب ودار إسماعيل بن إبراهيم، وفيها يقول قائلهم (٢):
وعربة أرض ما يُحل حرامها من الناس إلا اللوذعي الحُلاحل
يعني النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أحلت له مكة ساعة من النهار) (٣).
واضطر الشاعر إلى شيئين: سكون الراء من عربة وهي مفتوحة، وكان [يجب أن يقول أحلت له فقال يُحل هو (٤).
وقال (٥): أقامت قريش بعربة وانتشر سائر] (٦) العرب في جزيرتها،
(١) هو: إسحاق بن الفرج، أبو تراب الخراساني لغوي معروف بكنيته، وهو من تلاميذ شِمْر الهروي، وله تصانيف في اللغة منها "الاعتقاب" و"الاستدراك على الخليل". قال الأزهري: (أملى بهراة من كتاب الاعتقاب أجزاء ثم عاد إلى نيسابور وأملى بها باقي الكتاب، وقد قرأت كتابه فاستحسنته) أ. هـ وذكر ابن النديم أنه ممن لا يعرف اسمه وخبره على استقصاء.
انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٤٥، و"الفهرست" لابن النديم ص ١٢٤، و"إنباه الرواة" ٤/ ١٠٢، و"معجم البلدان" لياقوت ٤/ ١٠٩ وهو الذي نص على اسمه.
(٢) البيت لأبي طالب بن عبد المطلب كما يقول ياقوت الحموي في "معجم البلدان" ٤/ ١٠٩، وعندي شك في ذلك لأن أبا طالب توفي قبل الهجرة، ومكة إنما أحلت للنبي - ﷺ - في سنة ٨ هـ. وانظر البيت بلا نسبة في: "الدر المصون" ٦/ ٤٣٠، و"لسان العرب" (عرب) ٥/ ٢٨٦٤.
واللوذعي: الذكي الظريف، والحلاحل: السيد الركين. انظر: "الصحاح" (الذع) و (حلل).
(٣) انظر: "صحيح البخاري" (١١٢) كتاب: العلم، باب: كتابة العلم.
(٤) "تهذيب اللغة" (عرب) ٣/ ٢٣٨١.
(٥) يعني إسحاق بن الفرج، وانظر قوله في المصدر السابق، نفس الموضع.
(٦) ما بيق المعقوفيق ساقط من (ى).
12
فنسبوا كلهم إلى عربة؛ لأن أباهم إسماعيل -عليه السلام- بها (١) نشأ وربل (٢) أولاده بها (٣) وكثروا فلما لم تحتملهم البلد انتشروا وأقامت قريش بها.
وقال أهل المعاني: (هذه الآية دليل على أن اللفظ العام يرد للخاص؛ لأن الأعراب لفظ عام (٤) وليس المراد به جميع الأعراب) (٥).
وقوله تعالى: ﴿أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا﴾، قال أبو إسحاق: (كفرهم أشد لأنهم أقسى وأجفى من أهل المدر (٦)، وهم أيضاً أبعد عن سماع التنزيل، وإنذار الرسول -صلى الله عليه وسلم-) (٧). والمعنى: أشد كفرًا من أهل الحضر لجفاء صدورهم [ونبو طباعهم (٨)، وكذلك الأكراد والأتراك، وسائر أهل الخباء (٩) أو العمد (١٠)] (١١).
(١) ساقط من (ى).
(٢) في (ح) و (ى): (ربا) أي نما وزاد، وأثبت ما في (م) لموافقته لمصدر القول إذ فيه: وربل أولاده: أي كثروا.
(٣) ساقط من (ى).
(٤) في (ى): (العام).
(٥) انظر: "المحرر الوجيز" ٧/ ٦، ولم أجده في كتب أهل المعاني.
(٦) في (ى): (المدن). وما أثبته موافق للمصدر التالي، وهما بمعنى واحد كما في "اللسان" (مدر).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٥.
(٨) في (ح): (باطنكم عنهم)، وهو وهم من الناسخ.
(٩) في (ح): الخبت، وهي المفازة كما في "مجمل اللغة" (خبت) ٢/ ٣١٠، والخباء: من بيوت الأعراب، وهو ما كان من وبر أو صوف، ولا يكون من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة. انظر: "لسان العرب" (خبا) ٢/ ١٠٩٨.
(١٠) العمد -بفتح العين- اسم للجمع، وأهل العمد: أصحاب الأخبية الذين ينتقلون إلى الكلأ حيث كان، والعمود: الخشبة التي تقوم عليها الخيمة وبيت الشعر.
انظر: "لسان العرب" (عمد) ٥/ ٣٠٩٧.
(١١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
13
وقوله تعالى: ﴿وَأَجْدَرُ﴾: أي أولى وأخلق، قال الليث: (يقال فلان جدير لذلك الأمر: أي خليق له، وما كان جديرًا، ولقد جدر جدارة، وأجدر به) (١)، وإنه لجدير، وإنهما لجديران، وإنهم لجديرون، قال زهير:
جديرون يومًا أن ينالوا ويستعلوا (٢) (٣)
[والمرأة جديرة، والنساء جديرات وجدائر قاله اللحياني (٤)، وهو مأخوذ من حيدر الحائط وهو رفعه بالبناء له، فقولهم: ذاك أجدر أن تظفر] (٥) بحاجتك: أي أقرب أن تستعلي عليها، فكذلك هؤلاء أقرب أن يستعلوا على الجهل بالتمكن فيه، وقوله تعالى: ﴿أَلَّا يَعْلَمُوا﴾، قال الفراء والزجاج: (أن) في موضع نصب لأن الباء محذوفة (٦).
وقوله تعالى: ﴿حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [قال ابن عباس: (يريد
(١) اهـ. الكلام المنسوب لليث، انظر: "تهذيب اللغة" (جدر) ١/ ٥٥٨، والنص بنحوه في كتاب: العين (جدر) ٦/ ٧٥.
(٢) في (م): (فيستعلوا). وما أثبته موافق لرواية الديوان.
(٣) هذا عجز بيت، وصدره:
بخيل عليها جنة عبقرية
انظر: "ديوان زهير" ص١٠٣، و"المحتسب" ٢/ ٣٠٦، و"لسان العرب" (عبقر) ٥/ ٢٧٨٨. وجنة: جمع جن. وعبقرية: أي منسوبة إلى عبقر وهو موضع بالبادية تكثر فيه الجن كما تقول العرب. انظر: "اللسان" (عبقر) ٥/ ٢٧٨٨.
(٤) "تهذيب اللغة" (جدر) ١/ ٤٢، وبدايته من نهاية الكلام المنسوب لليث. واللحياني هو: علي بن حازم أبو الحسن اللحياني، من كبار أهل اللغة ومن مشهوري نحاة الكوفة، كان معاصرًا للفراء وتصدر في أيامه، وله كتاب حسن في "النوادر".
(٥) ما بين المعقوفين مكرر في (ى).
(٦) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٩٩، و"معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٦٥.
14
فرائض ما أنزل الله على رسوله) (١)] (٢) ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بما في قلوب خلقه، ﴿حَكِيمٌ﴾ بما فرض من فرائضه.
وقال يمان: وأجدر ألا يعلموا الحلال والحرام (٣)، وقال ابن كيسان: (يعني حجج الله في توحيده وتثبيت رسالة (٤) رسوله - ﷺ -؛ لأنهم لا ينظرون فيها) (٥).
٩٨ - قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا﴾ الآية، المغرم مصدر كالغرم، ومعنى الغرم لزوم نائبة في المال من غير جناية (٦) فيثقل ذلك على الإنسان، ومضى الكلام في هذا عند قوله: ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾ [التوبة: ٦٠] يعني: يتخذ ما ينفق في الجهاد والغزو مغرمًا، قال ابن عباس: (يريد: لا يرجو له ثوابًا، ولا يخاف على إمساكه عقابًا) (٧).
وقوله تعالي: ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ﴾ الدوائر (٨): جمع دائرة، وهي الحال المنقلبة عن (٩) النعمة إلى البلية، وخصت بانقلاب النعمة دون انقلاب النقمة لأن النعمة أغلب وأعم، إذ كل أحد فعليه نعمة من الله، وليس كذلك النقمة؛ لأنها خاصة، مع أنه قد يقال: (دارت [الدوائر:
(١) ذكره السمرقندي في "تفسيره" ٢/ ٦٩ عن الكلبي.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) ومكرر في (م).
(٣) لم أجده فيما بين يدي من المراجع.
(٤) ساقط من (ى).
(٥) ذكره بنحوه القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٣٢.
(٦) في (ح): (خيانة).
(٧) رواه الثعلبي ٦/ ١٣٨ ب، والبغوي ٤/ ٨٦.
(٨) ساقط من (ح).
(٩) في (م): (من).
15
أي) (١) دارت لهم] (٢) الدنيا، بخلاف ما دامت عليهم، ومضى الكلام في هذا عند قوله: ﴿نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ [المائدة: ٥٢] (٣).
قال ابن عباس في قوله: ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ﴾ يعني الموت أو القتل (٤)، ونحوه قال الفراء (٥) والزجاج (٦).
وقال يمان: (أي ينتظر أن تقلب الأمور عليكم، فيموت الرسول ويظهر (٧) عليكم المشركون) (٨).
﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ الدائرة هاهنا: يجوز أن تكون [واحدة الدوائر، وتكون صفة غالبة، ويجوز أن تكون] (٩) مصدرًا، كالعاقبة والعافية، قال أبو علي: (والصفة أكثر في الكلام فينبغي أن يحمل عليها، والمعنى فيها: أنها خلة تحيط بالإنسان حتى لا يكون له منها مخلص) (١٠).
(١) ما بين القوسين ساقط من (م).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٣) انظر: النسخة (ح) ٢/ ٥٧ ب وقد قال في هذا الموضع: (الدائرة: من دوائر الدهر كالدولة، وهي التي تدور من قوم إلى قوم، والدائرة التي تخشى كالهزيمة والدبرة والقحط والحوادث المخوفة، قال عبد الله بن مسلم: نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه، ويعنون الجدب فلا تميروننا).
(٤) "تنوير المقباس" ص ٢٠٢ بنحوه.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٤٤٩.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٥.
(٧) في (ح): (ويذهب)، وهو خطأ.
(٨) ذكره بنحوه الثعلبي ٦/ ١٣٨ ب، والبغوي ٤/ ٨٦
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(١٠) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٠٧.
16
وقوله: ﴿السَّوْءِ﴾ قرئ بفتح السين وضمه (١)، قال الفراء: (فتح السين هو وجه الكلام؛ لأنه مصدر قولك: سؤته سوءًا ومسائية ومساءة (٢) وسوائية، فهذه مصادر (٣)، ومن رفع السين جعله اسمًا كقولك: عليهم دائرة البلاء والعذاب، ولا يجوز ضم السين في قوله: ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ﴾ [مريم: ٢٨] ولا في قوله: ﴿وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ [الفتح: ١٢] لأنه ضد لقولك: هذا رجل صدق، وثوب صدق، فليس للسوء هاهنا معنى في عذاب ولا بلاء فيضم) (٤).
وقال الأخفش وأبو عبيد: (من فتح السين فهو كقولك: رجل سوء، وامرأة سوء، ثم تدخل الألف واللام فتقول: رجل السوء، وأنشد الأخفش:
وكنت كذئب السوء لما رأى دمًا بصاحبه يوما أحال (٥) على الدم (٦)
(١) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين، وباقي العشرة بفتحها. انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٦، وكتاب "إرشاد المبتدي" ص ٣٥٥، و"تقريب النشر" ص ١٢١.
(٢) كررت في (خ).
(٣) ذكر هذه المصادر ابن منظور في "لسان العرب" (سوأ)، وزاد: سوءا -بضم السين- وسواء وسواءة وسواية ومساية ومساء.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٤٥٠.
(٥) في (ح): (أخاك).
(٦) البيت للفرزدق، انظر: ديوانه ٢/ ١٨٧، و"طبقات فحول الشعراء" ١/ ٣٦٢، و"كتاب الحيوان" ٦/ ٢٩٨.
وقوله: أحال على الدم: قال الجاحظ: (الذئبان ربما أقبلا على الإنسان إقبالًا واحداً، وهما سواء على عداوته، والجزم على أكله، فإذا أدمي أحدهما وثب على صاحبه المدمي فمزقه وأكله، وترك الإنسان). انظر: "كتاب الحيوان" ٦/ ٢٩٨.
17
ومن ضم السين أراد بالسوء: المضرة والشر والمكروه والبلاء، كأنه قيل: عليهم دائرة الهزيمة والمكروه، وبهم يحيق ذلك) (١)، وعلى هذا القياس تقول: رجل السوء (٢)، [قال (٣): وذا (٤) ضعيف، ودائرة السوء أحسن من رجل السوء (٥)] (٦) [والرجل لا يضاف إلى السوء كما يضاف هذا (٧).
(١) انظر: قول الأخفش في كتاب "معاني القرآن"، له ١/ ٣٦٣، وقول أبي عبيد في "تفسير الرازي" ١٦/ ١٦٧، وقد دمج المؤلف قول الأخفش في قول أبي عبيد.
(٢) قوله: وعلى هذا القياس تقول: رجل السوء، ليس في كتاب "معاني القرآن" وهو في "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٠٩.
(٣) يعني: الأخفش.
(٤) عبارة الأخفش: (وقد قرئت (دائرة السوء) وذا ضعيف) أهـ. فالإشارة تعود إلى القراءة بضم السين لا إلى قول القائل: رجل السوء، كما يوهم صنيع أبي علي الفارسي الذي نقل المؤلف عبارته علمًا أن هذا القول ضعيف أيضاً عند الأخفش كما في التعليق التالي، والجدير بالتنبيه أن القراءة بضم السين قراءة سبعية فلا يصح الطعن فيها.
(٥) ضُبطت في كتاب "معاني القرآن" بفتح السين، ولعل الصواب الضم، قال ابن بري: قد أجاز الأخفش أن يقال: (رجل السوء، ورجل سَوء، فتح السين فيهما، ولم يجوز رجل سُوء، بضم السين لأن السوء اسم للضر وسوء الحال، وإنما يضاف إلى المصدر السابق: الذي هو فعله، كما يقال: رجل الضرب والطعن، فيقوم مقام قولك: رجلٌ ضراب وطعان، فلهذا جاز أن يقال: رجل السوء، بالفتح، ولم يجز أن يقال: هذا رجل السوء، بالضم). "لسان العرب" (سوأ) ٤/ ٢١٦٠.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٧) "كتاب معاني القرآن" ١/ ٣٦٤ وبقية عبارته: الآن هذا يفسر به الخير والشر). وقد جعلت المحققة اسم الإشارة (هذا) بين علامتي تنصيص مما زاد في غموض العبارة، واسم الإشارة يعود إلى الدائرة.
18
قال أبو علي الفارسي: (الدائرة لو لم تضف إلى السوء] (١) أو السوء عرف منها معنى الشر؛ لأن الدائرة من دوائر الدهر تستعمل للمكروه، ووجه الإضافة هاهنا التوكيد والزيادة في التبيين، كقولك لَحْيَا رأسه، وشمس النهار، فأما السوء فإنه يراد به الرداءة والفساد، ودائرة السوء: دائرة الضرر والمكروه (٢)) (٣).
وقال يمان: (عليهم يدور النبلاء والحزن فلا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوؤهم) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، قال ابن عباس: (يريد: سميع لقولهم عليم بنياتهم) (٥).
٩٩ - قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، قال ابن عباس: (يعني من أسلم من أعراب أسد وجهينة وغفار) (٦)، وقال مجاهد: (هم بنو مقرن من مزينة) (٧)، وقال الضحاك:
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٢) قال المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٩: السوء بالفتح: الرداءة والفساد، وبالضم: الضرر والمكروه.
(٣) أهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" ٤/ ٢٠٧، ٢٠٨، وقد اختصر المؤلف عبارته وتصرف فيها.
(٤) ذكره البغوي في "تفسيره" ٤/ ٨٦.
(٥) "تنوير المقباس" ص ٢٠٢ بنحوه.
(٦) "زاد المسير" ٣/ ٤٨٩، وبنحوه رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٩ أ، والبغوي في "تفسيره" ٤/ ٨٦ عن الكلبي.
(٧) رواه ابن جرير ١١/ ٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٦٧، وسنيد وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٨٢.
19
(يعني عبد الله ذا البجادين (١) ورهطه) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [قال ابن عباس] (٣): (يريد: يتقرب بذلك من الله) (٤)، قال الزجاج: (يجوز (٥) في القربات ثلاثة أوجه: ضم الراء وإسكانها وفتحها) (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾، قال قتادة: (يعني دعاءه بالخير والبركة) (٧)، وقال ابن عباس والحسن: (يعني استغفار الرسول لهم) (٨).
وقال عطاء: (يريد: يرغب (٩) في دعاء الرسول (١٠) - ﷺ -) (١١)، ويجوز
(١) هو: عبد الله بن عبد نهم بن عفيف المزني، المشهور بلقبه ذي البجادين؛ لأنه لما أسلم ضيق عليه قومه حتى لم يتركوا معه شيئًا فأخذ بجادًا من شعر -وهو الكساء- فقطعه نصفين فاتزر نصفًا، وارتدى نصفًا، وهاجر ولزم النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مات في غزوة تبوك، وكان من الأواهين، كثير الذكر وتلاوة القرآن.
انظر: "حلية الأولياء" ١/ ١٢١، و"صفة الصفوة" ١/ ٦٧٧، و"الإصابة" ٣٣٨ - ٣٣٩.
(٢) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٩ أ.
(٣) ما بين المعقوين ساقط من (ى).
(٤) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٩.
(٥) ساقط من (ى).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٥.
(٧) رواه مختصرًا بن جرير ١١/ ٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٦٧.
(٨) رواه عن ابن عباس الإمام ابن جرير ١١/ ٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٦٧، وابن المنذر وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٨٢، ولم أجد من ذكره عن الحسن.
(٩) في (ى): (ترغيب)، وفي المصدرين التاليين: يرغبون.
(١٠) في (م): (رسول الله).
(١١) "تفسير البغوي" ٤/ ٨٧، و"الوسيط" ٢/ ٥١٩.
20
عطف الصلوات على (ما) في قوله: ﴿وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ﴾ [والمعنى أنه] (١) يتقرب بصدقته ودعاء الرسول إلى الله، ويجوز عطفها (٢) على (القربات)، كأنه يتخذ إنفاقه قربة، ويلتمس به (٣) صلوات الرسول ودعاءه كما يلتمس القربات.
وقوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ﴾ القربة: ما يدني من رحمة الله من فعل خير وإسداء عرف، وقرأ نافع في بعض الروايات (قربة) بضم الراء (٤)، وهو الأصل، ثم تخفف نحو كتُب ورسُل وطنُب، فالأصل الضم، والإسكان تخفيف، ومثله ما حكاه محمد بن يزيد (٥): بُسْرة وبُسُرة وهُدْبة وهُدُبة، قال أبو علي الفارسي: (ولا يجوز أن يكون الأصل التخفيف ثم يثقل لأن ذلك إنما يجوز إما في الوقف كقوله (٦):
أنا ابن ماوية إذ جد النُّقُرْ
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ح)، وقد وضع الناسخ مكانه ما نصه: (قربات عند الله)، قال ابن عباس: يريد.. وهو خطأ من الناسخ والتباس بما ذكره المؤلف في الجملة المذكورة.
(٢) في (ى): (عطفًا).
(٣) ساقط من (ح).
(٤) هي رواية ورش وابن جماز وإسماعيل بن جعفر وغيرهم عنه، أما رواية قالون وابن أبي أويس والمسيبي عنه فبالتخفيف كباقي العشرة، انظر "كتاب السبعة" ص ٣١٧، و"الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٦، و"تقريب النشر" ص ١١٩.
(٥) هو: المبرد، وانظر قوله في: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢١٢.
(٦) البيت من الرجز، وبعده:
وجاءت الخيل أثابي زمر
وقد اختلف في قائله، ففي "لسان العرب" (نقر) نسب لعبيد بن ماوية الطائي، =
21
حرك القاف بالحركة التي كانت تكون للام في الإدراج، وإما في إتباعٍ (١) لما قبلها للضرورة نحو قول الشاعر (٢):
إذا تجرد نوح قامتا معه ضربا أليمًا بسبتٍ يلعج الجِلِدا
كسر اللام إتباعًا لحركة فاء الفعل للضرورة، ولا يجوز واحد من الوجهين في الآية؛ لأن قوله: (قُربة) ليس موقوفًا عليه، ولا يجوز أن تحمل حركة الراء على إتباع ما قبلها؛ لأن ذلك إنما يجوز في الضرورة، وإذا لم يجز الحمل على واحد من الأمرين علمت أن الحركة هي الأصل (٣). قال ابن عباس في قوله: ﴿أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ﴾، يريد نور (٤) لهم ومكرمة (٥) عند الله (٦).
= ونسب له أو لفدكي بن عبد الله في "الدرر اللوامع" ٦/ ٣٠٠، ولفدكي المنقري في القاموس (فصل النون، باب الراء) ٤٨٦، ولبعض السعديين في "كتاب سيبويه" ٤/ ١٧٣.
والنقر: قال الفيروزأبادي في الموضع السابق: (أن تلزق طرف لسانك بحنكك ثم تصوت، أو هو اضطراب اللسان، أو هو صويت تزعج به الفرس).
أما الأثابي: فهي الجماعات. انظر: "لسان العرب" (ثبا) ١/ ٤٧٠.
(١) هذا هو الوجه الثاني في جواز أن يكون الأصل التخفيف ثم يثقل.
(٢) هو: عبد مناف بن ربع الهذلي، كما في "شرح أشعار الهذليين" ٢/ ٦٧٢، و"جمهرة اللغة" (علج) ١/ ٤٨٣، و"لسان العرب" (لعج) ٧/ ٤٠٤١، و"نوادر أبي زيد" ص ٣٠.
(٣) "الحجة" ٤/ ٢٠٩ - ٢١٢ باختصار وتصرف.
(٤) ساقط من (ح).
(٥) في (م): (تكرمة).
(٦) "الوسيط" ٢/ ٥١٩.
22
قوله تعالى: ﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ قال يريد: (في جنته) (١)، ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لذنوبهم ﴿رَحِيمٌ﴾ بأوليائه وأهل طاعته.
١٠٠ - قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد الذين صدقوا النبي وهاجروا إلى المدينة) (٢).
وقال أبو موسى وسعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين: هم الذين صلوا القبلتين (٣).
وقال عطاء بن أبي رباح: هم الذين شهدوا بدرًا (٤).
وقال الشعبي: (هم الذين شهدوا بيعة الرضوان) (٥) فهؤلاء السباق من المهاجرين (٦)، وسباق الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى [وكانوا سبعة،
(١) "زاد المسير" ٣/ ٤٩٠، و"تنوير المقباس" ص ٢٠٢.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) ذكر آثارهم ابن جرير ١١/ ٦ - ٨، وابن أبي حاتم ١٦ - ١٨٦٨، والثعلبي ٦/ ١٣٩ ب، والبغوي ٤/ ٨٧، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥١٩.
(٤) ذكره البغوي ٤/ ٨٧، وابن الجوزي ٣/ ٤٩٠، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٠.
(٥) رواه ابن جرير ١١/ ٦، وابن أبي حاتم ١٦/ ١٨٦٨، والبغوي ٤/ ٨٧. وبيعة الرضوان هي البيعة التي تمت في الحديبية لما أشيع أن المشركين قتلوا عثمان -رضي الله عنه-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا نبرح حتى نناجز القوم"، ودعا الناس إلى البيعة على الموت أو عدم الفرار، وفي هذه البيعة نزل قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: ١٨]. انظر: السيرة النبوية ٣/ ٣٦٤.
(٦) في تخصيص المهاجرين بما ذكر نظر فإن جميع الأقوال التي ذكرها المؤلف عدا قول ابن عباس يشترك فيها المهاجرون والأنصار، فكثير من الأنصار صلوا القبلتين، وشهدوا بدرًا، وبايعوا بيعة الرضوان، وقد ذكر ابن جرير أقوال المفسرين في السابقين بعد قوله: اختلف أهل التأويل في المعنى بقوله: (والسابقون الأولون) أ. هـ ثم ذكر الأقوال جميعًا سواء ذكرت المهاجرين =
23
والثانية] (١) وكانوا سبعين، والذين آمنوا بالمدينة حين قدم عليهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن. قاله ابن عباس وغيره (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم، ويذكرون محاسنهم ويسألون الله أن يجمع بينهم) (٣)، وقال في رواية أخرى: (والذين اتبعوهم على دينهم من أهل الإيمان إلى أن تقوم الساعة) (٤)، ونحوه قال الزجاج: (أي من اتبعهم إلى يوم القيامة) (٥).
وقال الفراء: (ومن أحسن من بعدهم إلى يوم القيامة) (٦).
= والأنصار، أو المهاجرين وحدهم. وكذلك فعل البغوي ٤/ ٨٧، والماوردي ٢/ ٣٩٤، وابن الجوزي ٣/ ٤٩٠، وابن كثير ٢/ ٤٢١ فما قيل في السابقين من المهاجرين يقال في السابقين من الأنصار، أما ما ذكره المؤلف عن سباق الأنصار فإن غيره ذكره في مبحث أول الناس إسلامًا وهو أخص من السبق المذكور في الآية، انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٤١ ب، والبغوي ٤/ ٨٨.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) ذكره بمعناه الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٣٩٥، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٩١، دون تعيين القائل، وانظر قصة بيعة العقبة الأولى والثانية، وعلام كانتا، ومن بايع فيهما في "السيرة النبوية" ٢/ ٣٩ - ٧٤، و"زاد المعاد" ٣/ ٤٤ - ٤٩.
(٣) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٩ أ، والبغوي في "تفسيره" ٤/ ٨٨، وانظر: "الوسيط" ٢/ ٥٢١، و"زاد المسير" ٣/ ٤٩١.
(٤) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٧٢، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٩١، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢١.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٦.
(٦) "معاني القرآن" ١/ ٤٥٠.
24
وقال الكلبي: (السابقون من الفريقين الذين سبقوا بالإيمان والهجرة والجهاد والنصرة، ثم من اتبعهم على منهاجهم إلى قيام الساعة) (١).
وقوله تعالى: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ يريد: رضي الله أعمالهم ورضوا ثواب الله [قاله ابن عباس (٢)، ونحوه قال الزجاج: (رضي الله أفعالهم (٣) ورضوا ما جازاهم به) (٤)] (٥).
وروي عن أبي صخر حميد (٦) بن زياد (٧) أنه قال: قلت يوما لمحمد ابن كعب القرظي: ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله (٨) -صلى الله عليه وسلم- فيما كان بينهم، وإنما أريد الفتن (٩)، فقال لي: إن الله -عز وجل- قد غفر لجميع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-[وأوجب لهم الجنة، (في كتابه محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة؟) (١٠) قال: سبحان الله! ألا
(١) "تنوير المقباس" ص ٢٠٣ بنحوه عن الكلبي عن ابن عباس.
(٢) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٣.
(٣) في (ى): (رضي أفعالهم).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٦.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٦) ساقط من (ح).
(٧) هو: حميد بن صخر بن أبي المخارق، أبو صخر المدني الخراط، اختلف في توثيقه، فقال الإمام أحمد: لا بأس به، وقال الحافظ ابن حجر: صدوق يهم، وتوفي سنة ١٨٩ هـ.
انظر: "الكاشف" ١/ ٣٥٣، و"تقريب التهذيب" ص ١٨١ (١٥٤٦)، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٤٩٥.
(٨) في (ى): (محمد).
(٩) يعني وقعة الجمل وصفين ونحو ذلك.
(١٠) ما بين القوسين من (م).
25
تقرأ قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ إلى آخرها (١)، فأوجب الله لجميع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-] (٢) الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطًا لم يشرطه عليهم، قلت: وما ذلك الشرط؟ قال: اشترط عليهم (٣) أن يتبعوهم بإحسان، يقول: فاقتدوا بأعمالهم الحسنة ولا تقتدوا بهم في غير ذلك، قال أبو صخر (٤): (فوالله لكأني لم أقرأها قط، وما عرفت تفسيرها حتى قرأها علي محمد بن كعب) (٥)، فعلى هذا يراد بالسابقين الأولين جميع (٦) أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار، وهم أول هذه الأمة، والأولية لجميعهم ثابتة بإدراكهم النبي -صلى الله عليه وسلم-[وصحبتهم معه.
١٠١ - قوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ﴾] (٧)، قال ابن عباس والمفسرون: (يريد: مزينة وأسلم وجهينة وغفار ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾ يريد الأوس والخزرج (٨).
(١) ساقط من (م).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) إلى قوله (الأعراب).
(٣) ساقط من (ح).
(٤) في (م): (ابن صخر)، وفي (ح): (أصحاب صخر)، وكلاهما خطأ.
(٥) أخرجه أبو الشيخ وابن عساكر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٨٥ - ٤٨٦، وذكره البغوي في "تفسيره" ٤/ ٨٨ بغير سند.
(٦) في (ى): (من).
(٧) ما بين المعقوفين بياض في (ح).
(٨) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٩١، عن ابن عباس، وانظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٤٢ ب، والبغوي ٤/ ٨٩، والقرطبي ٨/ ٢٤٠.
26
وقوله (١): ﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾، قال الزجاج: ﴿مَرَدُوا﴾ متصل بقوله: ﴿مُنَافِقُونَ﴾ على التقديم والتأخير) (٢)، بتقدير: وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون (٣) مردوا على النفاق، قال ابن الأنباري: (ويجوز أن يكون التقدير: ومن أهل المدينة من مردوا على النفاق، فأضمر (مَن) لدلالة (٤) (مِن) عليها، كما قال تعالى: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤]: يريد: إلا من) (٥)، ومضت نظائر هذا (٦).
ومعنى: ﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾ يقال: مرد يمرد مرودًا فهو مارد ومريدٌ: إذا عتا وطغى وأعيا خبثًا، قال الليث: (والمرادة: مصدر المارد، والمريد من شياطين الإنس والجن، وقد تمرد علينا أي عتا ومرد على الشر، وتمرد: أي عتا وطغى) (٧).
وقال ابن الأعرابي: (المرد: التطاول بالكبر والمعاصي، ومنه قوله: ﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾ أي تطاولوا (٨).
(١) من (م).
(٢) أهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٧.
(٣) ساقط من (ى).
(٤) في (ح) و (ى): (بدلالة).
(٥) "زاد المسير" ٣/ ٤٩٢، وتفسير الرازي ١٦/ ١٧٣.
(٦) انظر مثلًا: "تفسير البسيط" تفسير الآية: ٣ من سورة التوبة
(٧) "تهذيب اللغة" (مرد) ٤/ ٣٣٧٣، والنص بنحوه في "كتاب العين"، مادة: (مرد) ٨/ ٣٧.
(٨) "تهذيب اللغة" (مرد) ٤/ ٣٣٧٣.
27
وقال الفراء: (يريد: مرنوا عليه وجرنوا (١)، كقولك: تمردوا) (٢).
وأصل الحرف اللين والملاسة، ومنه صرح ممرد، وغلام أمرد، والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئًا (٣)، قال محمد بن إسحاق: (لجوا فيه وأبوا غيره) (٤)، وقال ابن زيد: (أقاموا (٥) عليه ولم يتوبوا كما تاب الآخرون) (٦)، وقوله تعالى: ﴿لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ هو كقوله: ﴿لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠].
﴿سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: الأمراض في الدنيا، وعذاب الآخرة، وذلك (٧) أن من مرض من المؤمنين كفر الله سيئاته، ومحص ذنوبه، وأبدله لحمًا ودمًا خيرًا بما ذهب منه، وأعقبه ثوابًا عظيمًا، ومن مرض من المنافقين زاده نفاقًا وإثمًا (٨) وضعفًا) (٩).
(١) هكذا في جميع النسخ، وهو موافق لما في "تهذيب اللغة" (مرد) ٤/ ٣٣٧٣، وفي "معاني القرآن" للفراء: جرؤوا. ويبدو أنه تصحيف من النساخ أو المحقق، ومعنى جرنوا: قال في "لسان العرب" (جرن) ١/ ٦٠٨: (جرن فلان على العذال ومرن ومرد بمعنى واحد، ويقال للرجل والدابة إذا تعود الأمر ومرن عليه: قد جرن يجرُن جرونا).
(٢) كلام الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٤٥٠.
(٣) في الصحاح (مرد): (رملة مرداء: لا نبت فيها.. وتمريد البناء: تمليسه).
(٤) "السيرة النبوية" لابن هشام ٤/ ٢١٢.
(٥) في (ى): (نالوا).
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ٩، وابن أبي حاتم ١٦/ ١٨٦٩.
(٧) ساقطة من (ى).
(٨) من (م).
(٩) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٤٣ ب عن عطاء.
28
وقال في رواية السدي عن أبي مالك عنه: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطيباً (١) يوم (٢) الجمعة فقال: اخرج يا فلان فإنك منافق [اخرج يا فلان فإنك منافق] (٣) فأخرج من المسجد ناسًا وفضحهم، فهذا العذاب الأول، والثاني عذاب القبر) (٤).
[وقال مجاهد: (بالقتل والسبي وعذاب القبر) (٥).
وقال قتادة: (بالدبيلة (٦) وعذاب القبر) (٧)] (٨) وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسر
(١) ساقط من (ح).
(٢) في (ى): (بعد)، وما أثبته موافق لمصادر تخريج القول.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٤) رواه ابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ١١، وابن أبي حاتم ١٦/ ١٨٧٠، والثعلبي ٦/ ١٤٣ أ، والطبراني في "الأوسط" رقم (٧٩٦) ١/ ٤٤١ وفي سنده الحسين بن عمرو العنقزي وهو ضعيف كما قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١١١ ثم إنه لم يروه عن السدي إلا أسباط بن نصر كما ذكر الزيلعي في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في "تفسير الكشاف" ٢/ ٩٧، وأسباط صدوق كثير الخطأ يغرب كما قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" ١/ ٥٣ فمثله لا يحتمل تفرده، ولا يقويه رواية الكلبي للأثر كما في "تفسير البغوي" ٦/ ٨٩، و"الوسيط" ٢/ ٥٢١، لأن الكلبي متهم بالكذب.
(٥) رواه الثعلبي ٦/ ١٤٣ أ، ورواه ابن جرير ١٠/ ١١، وابن أبي حاتم ١٦/ ١٨٧١، والبغوي ٤/ ٨٩ بلفظ: (القتل والسبي)، ولابن جرير رواية أخرى لفظها: (بالجوع وعذاب القبر).
(٦) الدبيلة في عرف العرب: خراج ودمل كبير يظهر في الجوف، ويقتل غالبًا. انظر: "لسان العرب" (دبل) ٣/ ١٣٢٤.
(٧) رواه الثعلبي ٦/ ١٤٣ أ، والبغوي ٤/ ٨٩.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
29
إلى حذيفة اثني عشر رجلاً من المنافقين وقال: "ستة يكفيهم الله بالدبيلة، سراج من نار تأخذ أحدهم حتى تخرج من صدره، وستة يموتون موتًا" (١).
وقال الحسن: (بأخذ الزكاة من أموالهم وعذاب القبر) (٢).
وقال محمد بن إسحاق: (هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسبة (٣)، ثم عذابهم في القبور) (٤).
وقال إسماعيل بن أبي زياد (٥): (أحد العذابين ضرب الملائكة الوجوه والأدبار، والثاني عند البعث، يوكل بهم عنق من نار) (٦).
﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ يعني: الخلود في النار.
١٠٢ - قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ﴾ أي ومن أهل المدينة آخرون ﴿اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ الاعتراف: الإقرار [بالذنب أو بالذل والمهانة والرضا به، واعترف فلان] (٧) إذا ذل وانقاد، قال أصحاب العربية: (ومعناه الإقرار
(١) رواه ابن جرير ١١/ ١١ عن قتادة، وفي سنده مجهول.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١١، والثعلبي ٦/ ١٤٣ أ.
(٣) في (ح): (خشيتهم)، وهو خطأ.
(٤) "السيرة النبوية" لابن هشام ٤/ ٢١٢.
(٥) هو: إسماعيل بن أبي زياد الكوفي الشامي قاضي الموصل، واسم أبيه مسلم، وقيل زياد، له كتاب في التفسير شحنه بأحاديث لا يتابع عليها، قال الدارقطني: يضع الحديث، كذاب، متروك، وقال ابن حجر: متروك كذبوه.
انظر: "الضعفاء والمتروكون" ص ١٣٩، "تهذيب الكمال" ٣/ ٢٠٦، و"تقريب التهذيب" ص ١٠٧ (٤٤٦)، و"تهذيب التهذيب" ١/ ١٥١ - ١٥٢، و"طبقات المفسرين" للداودي ١/ ١٠٨.
(٦) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٤٣ ب.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
30
بالشيء عن معرفة (١) (٢).
وقال أهل التفسير: (نزلت في قوم من المؤمنين، كانوا تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن (٣) غزوة تبوك ثم ندموا على ذلك، وتذمموا، وقالوا نكون في الكن (٤) والظلال مع النساء ورسول الله - ﷺ - وأصحابه في الجهاد، والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله - ﷺ - هو يطلقنا ويعذرنا، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد، فلما رجع رسول الله - ﷺ - أقسم لا يطلقهم ولا يعذرهم حتى يؤمر بذلك، فأنزل الله هذه الآية، فأطلقهم وعذرهم) (٥).
وقوله تعالى: ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا﴾، قال ابن عباس: (يريد نية صادقة وبراءة من النفاق) (٦)، وقال الكلبي: ﴿اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ يعني التخلف عن الغزو، و ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا﴾ يعني التوبة، ﴿وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ تقاعدهم عن الغزو) (٧).
(١) في (ى): (معروفه)، وهو خطأ.
(٢) انظر: "المفردات في غريب القرآن" ص٣٣٢، و"لسان العرب" (عرف) ٥/ ٢٨٩٩، والقول بنصه للزهري كما في "زاد المسير" ٣/ ٤٩٥.
(٣) في (ح): (في).
(٤) الكن: البيت ووقاء كل شىء وستره. انظر: "القاموس المحيط"، فصل الكاف، باب: النون.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ١/ ٢/ ٢٨٦، وابن جرير ١١/ ١٢ - ١٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٧٢، و"دلائل النبوة" للبيهقي ٥/ ٢٧٢، و"أسباب النزول" للمؤلف ص ٢٦٣، و"لباب النقول" ص ١٢٣، ١٢٤.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) ذكره الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٢١٢ بنحوه.
31
وقال الحسن: (العمل الصالح: خروجهم إلى الجهاد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل هذا، والسيء: تخلفهم عن تبوك) (١)، وذكر الفراء القولين جميعًا (٢).
والعرب تقول: خلطت الماء باللبن، وخلطت الماء واللبن.
[قال أهل المعاني: (من قال بالواو فلأنه أراد معنى الجمع كأنه يقول: جمعت بينهما] (٣) كما تقول: جمعت زيدًا وعمرًا، والواو في الآية أحسن من الباء؛ لأنه أريد معنى الجمع لا حقيقة الخلط، ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسيء كما يختلط الماء باللبن، ولكن قد يجمع بينهما.
وقوله تعالى: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾، قال ابن عباس والمفسرون: ((عسى) من الله واجب) (٤). لأنه قال: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ﴾ [المائدة: ٥٢] ففعل ذلك، وكذلك تاب على هؤلاء، وقال أهل المعاني: (لفظ (عسى) هاهنا بيان عن أنه ينبغي أن يكونوا على الطمع والإشفاق؛ لأنه أبعد من الاتكال والإهمال) (٥).
(١) المصدر السابق: نفس الموضع.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٤٥٠، ٤٥١.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٤) رواه عن ابن عباس الإمام ابن جرير ١١/ ١٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٧٤، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب: السير، باب: ما جاء في عذر المستضعفين رقم (١٧٧٥٣) ٩/ ٢٣ وهو قول الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك، كما في "الدر المنثور" ١/ ٤٣٨، ٣/ ٤٨٩ وقول الضحاك كما في "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٤.
(٥) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٤٩٥، و"تفسير الرازي" ١٦/ ١٧٦ ولم أجده في كتب أهل المعاني.
32
١٠٣ - قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾، قال المفسرون: (لما عذر رسول الله - ﷺ - هؤلاء وأطلقهم قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا، فقال رسول الله - ﷺ -: "ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا" فأنزل الله هذه الآية (١)، فأخذ رسول الله - ﷺ - ثلث أموالهم وترك الثلثين؛ لأن الله تعالى قال: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ ولم يقل (٢) أموالهم) (٣).
قال الحسن: (هذه الصدقة هي كفارة الذنوب التي أصابوها وليست بالزكاة المفروضة) (٤)، ونحو هذا قال ابن كيسان (٥)، وقال عكرمة: (هي صدقة الفرض) (٦)، وقال أهل العلم: (الآية وإن كانت نازلة في صدقة التطوع، فهي عامة الحكم) (٧).
والإمام أولى بأن يتولى أخذ الصدقات [ومعنى الجمع في الأموال يقتضي أنه يأخذ بعض كل صنف من المال: الثمار والمواشي والنقود.
(١) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٦ - ١٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٧٤ - ١٨٧٥، والثعلبي ٦/ ١٤٤ أ، والبغوي ٤/ ٩٠، وأسباب النزول للمؤلف ص ٢٥٨.
(٢) في (ى): (ولم يقل خذ)، والمثبت موافق لتفسير الثعلبي.
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٤٥ أ، والبغوي ٤/ ٩١، وروى نحوه مطولاً عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٨٦، وابن جرير في "تفسيره" ١١/ ١٥ عن الزهري لكنه مرسل.
(٤) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٧٧، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٢.
(٥) انظر قوله في: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٤٥ ب، والبغوي ٤/ ٩٢.
(٦) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٩٨، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٩٦، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٢، والقرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٤٤.
(٧) انظر: "أحكام القرآن" للإمام الشافعي ١/ ١٢٠، و"فقه الزكاة" للقرضاوي ١/ ٢٤.
33
وقوله] (١) تعالى: ﴿تُطَهِّرُهُمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد: تطهرهم من الذنوب) (٢)، قال أبو إسحاق: (يصلح (٣) أن يكون: ﴿تُطَهِّرُهُمْ﴾ [نعتاً للصدقة كأنه قال خذ من أموالهم صدقة مطهرة، والأجود أن يكون ﴿تُطَهِّرُهُمْ﴾] (٤) للنبي - ﷺ -؛ المعنى خذ من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم بها) (٥).
قال أبو علي: (من جعل (التاء) في ﴿تُطَهِّرُهُمْ﴾ ضمير الصدقة ولم يجعله ضمير (٦) فعل المخاطب فلِما جاء من أن الصدقة أوساخ الناس (٧)، فإذا أخذت منهم كان كالدفع (٨) لذلك، ودفعه (٩) تطهيره) (١٠)، ويجوز أن
(١) ما بين المعقوفين بياض في (ح).
(٢) "زاد المسير" ٣/ ٤٩٦، و"تنوير المقباس" ص ٢٠٣.
(٣) في (ى): (يجوز)، وما أثبته موافق للمصدر.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٧.
(٦) في (ى): (ضمير الصدقة)، وهو وهم من الناسخ.
(٧) وذلك في الحديث الذي رواه مسلم (١٠٧٢)، كتاب: الزكاة، باب: ترك استعمال آل النبي على الصدقة، ولفظه: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس".
(٨) في"الحجة": كالرفع. والمعنيان متقاربان، وقد اعتمد الرازي المعنى الذي ذكره المحؤلف فقال: (وإنما حسن جعل الصدقة مطهرة لما جاء أن الصدقة أوساخ الناس، فإذا أخذت الصدقة اندفعت تلك الأوساخ، فكان اندفاعها جاريًا مجرى التطهير). تفسير الرازي ١٦/ ١٧٩، والرازي كثير الاعتماد على "البسيط"، وعبارته تؤكد أن الواحدي أراد الدفع وليس الرفع.
(٩) في "الحجة": (ورفعه)، وانظر التعليق السابق.
(١٠) أهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٣٢٤.
34
تكون طهارة من جهة الحكم وإن لم تُزِل شيئاً نجسًا عن (١) أبدانهم كما (٢) أثبت نجاسة الحكم للمشركين في قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] أثبت طهارة الحكم للمسلمين بالصدقة، وعلى هذا الوجه في ﴿تُطَهِّرُهُمْ﴾ تجعل: ﴿وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [منقطعًا عن الأول، أي: وأنت تزكيهم بها] (٣)، ويجوز أن تجعل (التاء) في في ﴿تُطَهِّرُهُمْ﴾ ضمير المخاطب، ويكون المعنى: تطهرهم أنت أيها الآخذ بأخذها (٤) منهم، ويقوي هذا الوجه قوله تعالى: ﴿وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ لأن قوله: (تزكي) للآخذ (٥)، فكذلك (تطهير)، ولا يحسن الانقطاع مع إمكان الاتصال (٦).
وقوله: ﴿وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ أي: ترفعهم بهذه الصدقة من منازل المنافقين (٧) إلى منازل المخلصين، وإلى هذا المعنى أشار ابن عباس في تفسير هذا الحرف فقال: أقبل منهم (٨) وأتوب عليهم (٩).
(١) في (ح): (من).
(٢) السياق يقتضي أن يقول: (فكما).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٤) في (ح): (بما تأخذها).
(٥) في (ح): (الآخذ).
(٦) في (ح): (الانفصال)، وهو خطأ.
(٧) لم يثبت أن هؤلاء كانوا منافقين، بل من عصاة المؤمنين، كما أخبر الله عنهم بقوله في الآية السابقة ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ وليس في قول ابن عباس المذكور ما يؤيد ما ذكره المؤلف.
(٨) في (ح): (نبيهم)، وهو خطأ.
(٩) لم أجد من ذكره، ولفظ الأثر ومعناه غير متوافق مع الآية، وقد ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٩٦ عنه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَتُزَكِّيهِمْ﴾ قال: (تصلحهم).
35
﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾، قال يريد: (ادع لهم) (١)، وذكرنا أن معنى الصلاة في اللغة: الدعاء، وهذا دليل على أن السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق فيقول: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت (٢)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم صل على آل أبي أوفى" (٣) [لما أتاه أبو أوفى] (٤) بصدقته (٥).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ وقرئ (صلاتك) على واحدة (٦)، قال أبو عبيد (٧): (الصلاة عندي أكثر من الصلوات؛ لأن الصلوات للجمع القليل، كقولك: ثلاث صلوات، وأربع (٨) وخمس) (٩).
(١) رواه بمعناه ابن جرير ١١/ ١٦، ١٧، ١٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٧٦.
(٢) روى أبو داود (١٥٨٣)، كتاب: الزكاة، باب: في زكاة السائمة، حديثًا طويلًا في الزكاة، وفيه: (فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبضها -يعني زكاة ماله- ودعا له في ماله بالبركة).
(٣) هو: عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد الأسلمي، صحابي شهد الحديبية وعُمّر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، مات سنة ٨٧ هـ وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة.
انظر: "الإصابة" ٢/ ٢٧٩، و"تقريب التهذيب" ٢٩٦ (٣٢١٩)
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٥) رواه البخاري (١٤٩٧)، كتاب: الزكاة، باب: صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، ومسلم (١٠٧٨)، كتاب: الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقته.
(٦) قرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص عن عاصم (إن صلاتك) بالتوحيد، وقرأ الباقون (إن صلواتك) بالجمع، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٦، و"تقريب النشر" ص ١٢١.
(٧) في (ى): (أبو عبيدة)، وهو خطأ.
(٨) في (ح): (أربع صلوات)، وهذه الزيادة ليست في المصدر التالي.
(٩) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٤٥ ب.
36
وقال أبو حاتم: (من زعم أن الجمع بالتاء تقليل فقد غلط؛ لأن الله تعالى قال: ﴿مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: ٢٧]، لم يرد القليل) (١).
قال أبو علي الفارسي: (الصلاة مصدر يقع على الجميع والمفرد بلفظ واحد كقوله سبحانه: ﴿لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان: ١٩] [فإذا اختلفت جاز أن يُجمع لاختلاف ضروبه كما قال: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾] (٢) [لقمان: ١٩] ومن المفرد الذي يراد به الجميع قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾ [الأنفال: ٣٥]، وقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ (٣) والمصدر إذا سمي به صار (٤) بالتسمية وكثرة الاستعمال كالخارجة (٥) عن حكم المصادر، وإذا (٦) جمعت (٧) المصادر إذا اختلفت نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ﴾ [لقمان: ١٩] فأن يجمع ما صار بالتسمية كالخارج عن حكم المصادر أجدر) (٨).
(١) انظر: المصدر السابق، نفس الموضوع.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٣) [البقرة: ٤٣، ٨٣، ١١٠، النساء: ٧٧، يونس: ٨٧، النور: ٥٦، الروم: ٣١، المزمل: ٢٠].
(٤) في (ى): (جاز)، وهو خطأ.
(٥) هكذا في جميع النسخ، والسياق يقتضي التذكير، وقد تصرف الواحدي في عبارة أبي علي ونصها: (وحسن ذلك جمعها حيث جمعت لأنه صار بالتسمية بها وكثرة الاستعمال لها كالخارجة عن..) الخ.
(٦) ساقط من (ح).
(٧) في (ح): (اجتمعت)، وهو خطأ.
(٨) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢١٤، ٢١٥ باختصار وتصرف.
37
وقال بعضهم: (الصلوات) في هذه السورة وفي هود (١) وفي المؤمنين (٢) مكتوبات (٣) في المصحف بالواو، والتي في (سأل سائل) مكتوبة بغير واو (٤)، فإذا اتجه الإفراد والجمع في العربية ورجح أحدَ (٥) الوجهين الموافقةُ لخط المصحف كان ذلك ترجيحًا يجعله أولى بالأخذ به، قال: (ومن زعم أن (الصلاة) أولى لأن (الصلاة) للكثرة (٦) و (الصلوات) للقليل (٧) فليس قوله بمتجه؛ لأن الجمع بالتاء قد يقع على الكثير كقوله: ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ﴾ [سبأ: ٣٧]، وقوله: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ﴾ [الأحزاب: ٣٥] (٨).
وقوله تعالى: ﴿سَكَنٌ لَهُمْ﴾ السكن في اللغة: ما سكنت إليه، فالمعنى: إن دعواتك مما تسكن إليه نفوسهم، قال ابن عباس: (يريد: دعاؤك رحمة لهم) (٩). وقال قتادة: (وقار لهم) (١٠).
(١) يعني قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ﴾ [هود: ٨٧].
(٢) في (ى): المؤمنون، وما أثبته موافق للمصدر التالي، والمقصود قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المؤمنون: ٩].
(٣) ساقط من (ى).
(٤) يعني قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المعارج: ٣٤].
(٥) في (ح): (إحدى).
(٦) في (ح): (لكثرة).
(٧) في (ح): (للتقليل).
(٨) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢١٧ ولم يعين القائل.
(٩) رواه مختصرًا دون قوله (دعاؤك) ابن جرير ١١/ ١٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٧٦، والثعلبي ٦/ ١٤٥ ب، ورواه بلفظ المؤلف البغوي في "تفسيره" ٤/ ٩١.
(١٠) رواه ابن جرير ١١/ ١٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٧٦، والثعلبي ٦/ ١٤٥ ب.
38
وقال الكلبي: (طمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم) (١).
وقال الكفراء: (استغفر لهم؛ فإن استغفارك لهم تسكن إليه قلوبهم، وتطمئن بأن قد تاب الله عليهم) (٢).
وقوله (٣): ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لقولهم ﴿عَلِيمٌ﴾ بندامتهم ورجوعهم.
١٠٤ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا﴾ الآية، قال أهل التفسير: (لما نزلت توبة هؤلاء، قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم؟ فقال الله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾ (٤).
ومعنى صيغة الاستفهام هاهنا: التنبيه على ما يجب أن يعلموا، وقوله تعالى: ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾، قال المفسرون وأهل المعاني: (معناه: يقبلها) (٥)، ولكن ذكر بلفظ الأخذ ترغيبًا في الصدقة ودعاء إليها.
قال بعض أهل (٦) المعاني: (معنى أخذ الله الصدقات تضمنه الجزاء عليها ولما كان هو المجازي بها والمثيب عليها أسند الأخذ إلى نفسه وإن كان السائل يأخذها كمن أهديت إليه شيئًا فأخذه بعض من أقامه لأخذ
(١) الثعلبي ٤/ ١٤٥ ب، وابن الجوزي ٣/ ٤٩٦، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٢.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٤٥١.
(٣) من (م).
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٧٦، والثعلبي ٦/ ١٤٥ ب.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٤٦٧، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٩٩، و"تأويل مشكل القرآن"، له ص ٥٠٢، و"معاني القرآن الكريم" للنحاس ٢/ ٢٥١، و"تفسير الثعلبي" ٦/ ١٤٦ أ، والبغوي ٤/ ٢٩.
(٦) في (م): (أصحاب)، ولم أجد قولهم هذا فيما بين يدي من مصادر.
الهدايا كان الأخذ منسوبًا إلى المهدي إليه وإن لم يتول الأخذ بنفسه لأنه هو المقصود بتلك الهدية).
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ يريد: يرجع إلى من رجع إليه بالرحمة والمغفرة، قاله ابن عباس (١).
١٠٥ - وقوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا﴾، قال عطاء عن ابن عباس يريد: (يا معشر عبادي المحسن والمسيء (٢)) (٣) ﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ يريد: إن الله تعالى يطلع (٤) المؤمنين على ما في قلوب إخوانهم من الخير والشر؛ إن كان خيرًا أوقع في قلوبهم لهم المحبة، وإن كان شرًا أوقع في قلوبهم لهم (٥) البغضة، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو (٦) أن رجلاً عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنًا ما كان" (٧) ومعنى: ﴿وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ سيحدث المرئي فتصح الصفة (برأى) (٨)
(١) انظر: "الوسيط" ٢/ ٥٢٣.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٣.
(٤) في (ح): (مطلع)، وما أثبته موافق لما في "الوسيط".
(٥) ساقط من (م) و (ى).
(٦) ساقط من (ح).
(٧) رواه أحمد في "المسند" ٣/ ٢٨، والحاكم في "المستدرك" ٤/ ٣١٤ وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ووراه أيضًا ابن حبان في "صحيحه" (الإحسان) رقم (٥٦٧٨) ١٢/ ٤٩١، وقد ضعف الحديث الشيخ الألباني، انظر: "ضعيف الجامع الصغير"، رقم (٤٨٠٢) ٥/ ٤٠، وكذلك الشيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه على "صحيح ابن حبان".
(٨) ساقط من (ح) وفي (ى): (يرى)، والمعنى: سيحدث المرئي فيرى الله ذلك، وحينئذٍ يصح وصف الله برأى فيقال: رأى الله ما حدث.
وإذا لم يحدث استحالت إذ كانت الرؤية تدل على وجود المرئي.
وقوله تعالى: ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، قال ابن عباس: (يوقفكم على أعمالكم فيثيب المحسن ويعاقب المسيء) (١)، كما (٢) قال تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا﴾ [النجم: ٣١] الآية، ومثل هذه الآية قد تقدم في هذه السورة (٣).
١٠٦ - وقوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾ الآية، ذكرنا الكلام في معنى الإرجاء في سورة الأعراف، وهو تأخير الأمر إلى وقت، وسميت المرجئة (٤) لأنهم لا يجزمون القول بمغفرة التائب ولكن يؤخرونها (٥) إلى مشيئة الله تعالى.
(١) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٣.
(٢) من (ى).
(٣) يعني الآية: ٩٤.
(٤) المرجئة فرق شتى ومذاهب مختلفة، وهم أربعة أصناف: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة، وإذا أطلق لفظ المرجئة فالمراد بهم الصنف الأخير، وهم القائلون إن فعل الأعمال الصالحة، وترك المحظورات البدنية لا يدخل في مسمى الإيمان، وقد افترقوا في تعريف الإيمان إلى اثنتي عشرة فرقة، كما ذكر الأشعري، وذكر ابن تيمية أنهم صاروا على ثلاثة أقوال:
الأول: قول علمائهم وأئمتهم إن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان.
الثاني: قول الجهمية إن الإيمان تصديق القلب فقط.
الثالث: قول الكرامية إن الإيمان قول اللسان فقط.
انظر: مقالات الإسلاميين ١/ ٢١٣، و"الملل والنحل" للشهرستاني ١/ ١٣٩، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ١٢/ ٤٧١، ١٣/ ٥٥.
(٥) في (ي): (يرجونها).
41
وقال الأوزاعي: (لأنهم يؤخرون (١) العمل من الإيمان) (٢)، قال ابن عباس وعامة المفسرين: (نزلت هذه الآية في ثلاثة نفر: كعب بن مالك (٣) من بني سلمة، وهلال بن أمية الواقفي (٤)، ومرارة بن الربيع الزبيدي (٥) كانوا تخلفوا عن غزوة تبوك وكانوا مياسير، ثم (٦) لم يتسع لهم العذر كما اتسع للآخرين الذي ذكروا قبل هذا (٧)، ولم يبالغوا في التنصل والاعتذار كما فعل الآخرون، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري، فوقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرهم، ونهى الناس عن مكالمتهم ومخالطتهم، حتى نزل قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ [التوبة: ١١٨] الآيات بعد خمسين ليلة (٨).
(١) في (ى): (لا يؤخرونها)، وهو خطأ مخالف لقول المرجئة.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (رجا) ٢/ ١٣٦٢.
(٣) هو: كعب بن مالك بن عمرو بن القين السلمي الأنصاري، شاعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه وممن بايع بيعة العقبة، وأحد الثلاثة الذين خلفوا، فتاب الله عليهم، وتوفي في خلافة علي.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ٢/ ٥٢٣، و"الإصابة" ٣/ ٣٠٢، و"تقريب التهذيب" ص ٤٦١ (٥٦٤٩).
(٤) هو: هلال بن أمية بن عامر بن قيس الواقفي الأنصاري صحابي جليل، شهد بدرًا وما بعدها، وتخلف عن غزوة تبوك ثم تاب الله عليه.
انظر: الاستيعاب ٤/ ١٠٣، و"الإصابة" ٣/ ٦٠٦.
(٥) هو: مرارة بن الربيع الأوسي الأنصاري، من بني عمرو بن عوف، ويقال إنه حليف لهم وأصله من قضاعة، شهد بدرًا، وتخلف عن غزوة تبوك ثم تاب الله عليه.
انظر: " الاستيعاب" ٣/ ٤٣٩، و"الإصابة" ٣/ ٣٩٦ - ٦٩٧.
(٦) ساقط من (م).
(٧) يعني الذين ربطوا أنفسهم بالسواري.
(٨) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٢١ - ٢٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٧٨، والثعلبي ٦/ ١٤٦ أ، والبغوي ٤/ ٩٢.
42
ومعنى: ﴿مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾، قال ابن عباس: (مؤخرون ليقضي فيهم ما هو قاضٍ) (١).
وقوله تعالى: ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾، قال أبو إسحاق: ((إما) لأحد الشيئين، والله -عز وجل- عالم بما يصير إليه أمرهم، إلا أن هذا للعباد، خوطبوا بما يعلمون، المعنى: ليكن أمرهم عندكم على هذا أي على الخوف والرجاء) (٢)، فجعل أناس يقولون: هلكوا إذ لم ينزل لهم (٣) عذر، وجعل آخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ أي بما تؤول إليه حالهم ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما يفعله بهم.
١٠٧ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا﴾ الآية، قرأ نافع وابن عامر: (الذين) بغير واو (٤)، وكذلك هي في مصاحف الشام والمدينة (٥)، فمن ألحق (٦) الواو جعله معطوفًا على ما قبله من قوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾ [التوبة: ١٠١] [(وآخرون اعترفوا)] (٧) ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ﴾ [التوبة: ١٠٦] أي ومنهم
(١) "تنوير المقباس" ص ٢٠٣ بمعناه.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٤٦٨ بتصرف.
(٣) في (ح): (بهم).
(٤) وكذلك قرأ أبو جعفر المدني، وقرأ الباقون بالواو، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٧، و"التبصرة في القراءات" ص ٢١٦، و"تقريب النشر" ص ١٢١.
(٥) انظر: "كتاب المصاحف" لأبي بكر ابن أبي داود ص ٤٩، و"كتاب السبعة في القراءات" ص ٣١٨.
(٦) في (ح): لحق.
(٧) [التوبة: ١٠٢] وهي ساقطة من النسخة (ح).
43
آخرون، ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾ أي: ومنهم الذين اتخذوا، ومن لم يلحق الواو لم (١) يجز أن يكون (الذين) بدلًا من قوله: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ﴾ كما تبدل المعرفة من النكرة؛ لأن أولئك غير هؤلاء الذين اتخذوا مسجدًا (٢)، وإذا لم يكونوا هم لم يجز أن يبدلوا منهم، ولكن من لم يلحق الواو جاز (٣) على أمرين أحدهما: أن تضمر: ومنهم الذين اتخذوا؛ كما أضمرت الحرف مع الفعل في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] أي فيقال لهم: أكفرتم؛ فكذلك حذف الخبر مع الحرف اللاحق له هاهنا.
والثاني: أن تضمر الخبر على تقدير: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ منهم، وحسن حذف الخبر لطول الكلام بالمبتدأ وصلته، ومثله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَالْبَادِ﴾ [الحج: ٢٥] والمعنى فيه: ينتقم منهم، أو يعذبون، ونحو ذلك مما يليق بهذا المبتدأ (٤).
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: (هؤلاء كانوا اثني (٥) عشر رجلًا من المنافقين بنوا مسجدًا يضارون به مسجد قباء) (٦).
(١) في (ح): (ولم)، وهو خطأ.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) في "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٤٠ الذي نقل منه هذا النص: جاز قوله على... إلخ.
(٤) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٤٠ - ٢٤١.
(٥) في (ح): (اثنا).
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٢٢ - ٢٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٩٨، والبغوي ٤/ ٩٣، وابن الجوزي ٣/ ٤٩٩، والرازي ١٦/ ١٩٣، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٩٤ - ٤٩٥.
44
والضرار محاولة التفسير، كما أن الشقاق محاولة ما يشق، قال أبو إسحاق: (وانتصب (ضرارًا) لأنه (١) مفعول له، المعنى: اتخذوه للضرار ولما ذكر بعده، فلما حذفت اللام أفضى الفعل فنصب، قال: وجائز أن يكون مصدرًا محمولًا على المعنى [لأن معنى] (٢) قوله: ﴿اتَّخَذُوا مَسْجِدًا﴾: ضاروا به ضرارًا (٣)) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَكُفْرًا﴾، قال ابن عباس: (يريد ضرارًا للمؤمنين وكفرًا بالنبي - ﷺ - وما جاء به) (٥)
وقال الزجاج: (لأن عناد النبي - ﷺ - كفر) (٦)، وقال غيره: (اتخذوه ليكفروا فيه بالطعن علي النبي - ﷺ - والإسلام) (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، قال المفسرون: (يفرقون به جماعتهم؛ لأنهم كانوا يصلون جميعًا في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيختلفوا (٨) بسبب (٩) ذلك، ويفترقوا عن النبي - ﷺ -،
(١) في (ى): (كأنه)، وهو خطأ.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) عبارة الزجاج: لأن اتخاذهم المسجد على غير التقوى معناه ضاروا به ضرارًا. أهـ. وعبارة الواحدي لا تؤدي هذا المعنى.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٨ بتصرف.
(٥) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٩٣، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٤.
(٦) " معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٩.
(٧) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٩٣ دون تعيين القائل ولم أجد من عينه.
(٨) في (ح): (فيتخلفوا)، والصواب ما في (م) و (ى) وهو موافق لما في "تفسير ابن جرير" والثعلبي.
(٩) في (ى): (بشرك)، وهو خطأ.
45
فيؤدي إلى التحزب، واختلاف الكلمة وبطلان الألفة) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ قالوا: يعني أبا عامر الراهب (٢) الذي سماه رسول الله - ﷺ - الفاسق، وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب، فلما خرج رسول الله - ﷺ - عاداه، وقال: لا أجد قوماً يقاتلونك (٣) إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح (٤) وابنوا لي مسجدًا فإني آتٍ من عند قيصر بجند فأخرج محمدًا وأصحابه، فبنوا هذا المسجد، وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد) (٥).
قال الزجاج: (والإرصاد: الانتظار) (٦).
وقال ابن قتيبة: (﴿وَإِرْصَادًا﴾ أي ترقبًا بالعداوة (٧)) (٨)، وقال
(١) انظر: "تفسير الطبري" ١١/ ٢٣، والثعلبي ٦/ ١٤٨ أ، والبغوي ٤/ ٩٢ بمعناه.
(٢) هو: عبد عمرو ويقال عمرو بن صيفي بن مالك بن أمية الأوسي، المعروف بأبي عامر الراهب، كان في الجاهلية يذكر البعث ودين الحنيفية، فلما بُعث الرسول - ﷺ - عانده وحسده وخرج عن المدينة، وشهد مع قريش وقعة أحد، ثم خرج إلى الروم فمات هناك سنة تسع أو عشر. انظر: "السيرة النبوية" ٣/ ١٢، و"الإصابة" ١/ ٣٦٠ - ٣٦١.
(٣) في (ى): (يقاتلونكم).
(٤) في (ى): (السلاح).
(٥) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٢٤، والبغوي ٤/ ٩٤، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٩٤.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه " ٢/ ٤٦٨.
(٧) في (ى): (للعداوة)، وما أثبته موافق للمصدر التالي.
(٨) "تفسير غريب القرآن" ص ١٩٩.
46
الأكثرون: (الإرصاد: الإعداد) (١)، روى أبو عبيد عن الأصمعي والكسائي: (رصدت فلانا أرصده: إذا ترقبته، وأرصدت له شيئًا أرصده: إذا أعددت له) (٢)، قال الأعشى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا (٣)
وقال الليث: (يقال أنا لك مُرصد بإحسانك حتى أكافئك به) (٤)، قال: (والإرصاد في المكافأة بالخير) (٥)، وقال ابن الأعرابي: (أرصدت في الخير والشر جميعًا بالألف) (٦).
[وقوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ يعني من قبل بناء مسجد الضرار] (٧)، وقوله تعالى: ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى﴾ أي: ليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المصير إلى مسجد رسول الله - ﷺ -[وذلك أنهم قالوا لرسول الله
(١) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٢٣، والثعلبي ٦/ ١٤٨ أ، والبغوي ٤/ ٩٤، والزمخشري ٢/ ٢١٤، و"المفردات في غريب القرآن" (رصد) ص ١٩٦، و"تهذيب اللغة" (رصد) ٢/ ١٤١٤.
(٢) "تهذيب اللغة" (رصد) ٢/ ١٤١٣.
(٣) البيتان في ديوان أعشي قيس ص ٤٦ من قصيدة طويلة يمدح بها النبي - ﷺ - ويذكر بعض أساسيات الدين، ومعالم الأخلاق.
(٤) ساقط من (ح).
(٥) "تهذيب اللغة" (رصد) ٢/ ١٤١٤، والنصان في كتاب: العين (رصد) ٧/ ٩٦.
(٦) "معاني القرآن الكريم" للنحاس ٣/ ٢٥٣ بنحوه.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
47
-صلى الله عليه وسلم-] (١): إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة، والليلة الشاتية) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، قال الزجاج: (أطلع الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- على طويتهم وعلى أنهم سيحلفون كاذبين) (٣).
١٠٨ - قوله تعالى: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ الآية، قال المفسرون: (إن أهل مسجد الضرار قالوا للنبي - ﷺ -: إنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه وتدعو بالبركة، فنهاه الله عن ذلك، وقال: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ (٤)، قال ابن عباس وغيره: (يريد لا تصل فيه أبدًا) (٥).
ثم بين أي المسجدين أحق بالقيام فيه، فقال: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى﴾ اللام تأكيد للقسم، كأنه قيل: والله لمسجد أسس، أي (٦) بنيت حدوده ورفعت من قواعده، هذا معنى التأسيس، والتقوى: خصلة من الطاعة يحذر بها العقوبة، ثعلب عن ابن الأعرابي: (التقاة والتقية والتقوى والاتقاء: كله واحد) (٧)، والتقوى اسم، وموضع التاء واو وهي (فَعْلى) من
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ى).
(٢) رواه ابن إسحاق وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٩٥، وانظر: "السيرة النبوية" ٤/ ١٨٥.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٩.
(٤) رواه عن ابن عباس بنحوه ابن جرير ١١/ ٢٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨١، وانظر "الدر المنثور" ٣/ ٤٩٤ - ٤٩٥.
(٥) رواه البغوي ٤/ ٩٥، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٤، وانظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٢٦، وابن الجوزي ٣/ ٥٠٠.
(٦) في (ى): (أو بني أر بنيت)، وهو خطأ.
(٧) "تهذيب اللغة" (تقي) ١/ ٤٤٣.
48
وقيت مثل (شروى) من شريت وهذا بما قد تقدم الكلام فيه، قال ابن عباس: (أسس على التقوى: بني على الطاعة، وبناه المتقون الموحدون) (١)، وقوله تعالى: ﴿مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ (من) هاهنا: تدل على البداية؛ لأنها نقيضة (إلى) كقولك من كذا إلى كذا، قال زهير:
لمن الديار بقُنَّة الحِجْر (٢) أقوين من حِجَج ومن شَهْر (٣)
وقوله تعالى: ﴿أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ معناه أول الأيام إذا ميزت يومًا يومًا، كما تقول: أعطيت كل رجل في الدار، أي كل الرجال إذا ميزوا رجلاً رجلاً (٤)
﴿أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾، قال الزجاج: (أن) في موضع نصب، المعنى: أحق بأن تقوم فيه) (٥)، وهذا كما قلنا في قوله: ﴿وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا﴾
(١) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٤ مختصرًا.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) البيت مطلع قصيدة في "شرح ديوان زهير" ص ٨٦، ونسب إليه أيضاً في "زاد المسير" ٣/ ٥٠٠، و"خزانة الأدب" ٩/ ٤٤٣.
والقنة: الجبل الصغير الذي ليس بمنتشر، أر الجبل السهل المنبسط على الأرض. وأقوين: خلون من السكان. وقوله: من شهر: أراد: من شهور، ورواية ثعلب: ومن دهر. والحجر: بكسر الحاء، موضع، والمعروف بهذا الاسم منازل ثمود، أما بفتح الحاء فهي مدينة اليمامة. انظر: "شرح الديوان" و"خزانه الأدب" نفس الموضعين السابقين، و"لسان العرب" (قنن).
(٤) ذكر ابن جرير معنيين لقوله تعالى: ﴿مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ فقال: (من أول يوم): ابتدئ في بنائه.. وقيل: معنى قوله (من أول يوم) مبدأ أول يوم، كما تقول العرب: لم أره من يوم كذا، بمعنى: مبدؤه، و (من أول يوم) يراد به: من أول الأيام، كقول القائل: (لقيت كل رجك)، بمعنى (كل الرجال). "تفسير ابن جرير" ١١/ ٢٦.
(٥) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٩.
49
[التوبة: ٩٧] فإن قيل لم قال: ﴿أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ مع أنه لا يجوز قيامه في الآخر؟ قيل: للمظاهرة في الحجة بأنه لو كان من الحق الذي يجوز لكان هذا أحق.
واختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى فقال ابن عُمر، وزيد ابن ثابت، وأبو سعيد الخدري، وابن المسيب: هو مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة) (١). وروي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "هو مسجدي" رواه الخدري (٢) وأُبي بن كعب (٣)، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وقال في رواية الوالبي والعوفي: هو مسجد قباء (٤)، وهو قول الحسن (٥) وابن زيد (٦) وعروة بن الزبير (٧) واختيار الزجاج (٨).
(١) انظر آثارهم في "تفسير ابن جرير" ١١/ ٢٦ - ٢٧، والثعلبي ٦/ ١٤٨/ ب، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٩٦.
(٢) رواه عنه مسلم (١٣٩٨)، كتاب: الحج، باب: بيان أن المسجد الذي أسس.. إلخ، والترمذي (٣٥٩٩)، كتاب: تفسير القرآن، والنسائي في "سننه"، كتاب: المساجد، ذكر المسجد الذي أسس على التقوى ٢/ ٣٦، وأحمد في المسند ٣/ ٨.
(٣) رواه عنه أحمد في "المسند" ٥/ ١١٦، وابن جرير ١١/ ٢٨، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب والضياء في "المختارة" كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٩٦.
(٤) أخرج رواية الوالبي، ابن جرير في "تفسيره" ١١/ ٢٧، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٨٦، والبيهقي في "دلائل النبوة" ٥/ ٢٦٢، وأخرج رواية العوفي، ابن جرير ١١/ ٢٧، والثعلبي ٦/ ١٤٩/ أ، والبغوي ٤/ ٩٦.
(٥) انظر: "تفسير هود بن محكم" ٢/ ١٦٨، و"البحر المحيط" ٥/ ٩٧.
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٢٨، والثعلبي ٦/ ١٤٩/ أ، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨٢.
(٧) انظر المصادر السابقة، نفس المواضع.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٩.
50
وقوله تعالى: ﴿فِيهِ رِجَالٌ﴾، قال ابن عباس: (يريد الأنصار) (١)، ﴿يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا﴾، قال الحسن: (أي من الذنوب) (٢)، وقال ابن عباس والكلبي وغيرهما: (يعني غسل الأدبار بالماء) (٣)، ويروى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاهم وهم في مسجدهم فقال: "إن الله قد أحسن الثناء عليكم في طهوركم فبم تتطهرون؟ " فقالوا: نغسل أثر الغائط بالماء، فقال النبي - ﷺ - "دوموا عليه" (٤).
قال المفسرون: (كان من عادة هؤلاء في الاستنجاء [استعمال الأحجار ثم الماء بعدها وهو الأكمل والأفضل في باب الاستنجاء) (٥)] (٦)، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ أي: من الشرك والنفاق والأنجاس، قالوا: فلما نزلت هذه الآية أمر رسول الله - ﷺ - أصحابه (٧) فقال: "انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فأحرقوه واهدموه" (٨) ففعلوا ذلك، وأمر أن
(١) لم أقف عليه.
(٢) انظر: "تفسير هود بن محكم" ٢/ ١٦٨.
(٣) رواه عن ابن عباس، الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٤، ورواه عن الكلبي، الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٤٩ ب، وانظر: "الوسيط" ٢/ ٥٢٥، و"تفسير البغوي" ٤/ ٩٦، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٩٧.
(٤) رواه بنحوه ابن ماجه في (٣٥٤)، في الطهارة، باب: الاستنجاء بالماء، وأحمد ٣/ ٤٢٢، والحاكم في "المستدرك"، في الطهارة ١/ ١٥٥ وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: صحيح باعتبار شواهده. انظر: "إرواء الغليل" ١/ ٨٥.
(٥) ذكره الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٢١٤ بغير سند.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٧) من (ى).
(٨) رواه بنحوه ابن جرير ١١/ ٢٣، والثعلبي ٦/ ١٤٧ ب، والبغوي ٤/ ٩٤، وانظر: "سيرة ابن هشام" ٢/ ١٨٥، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٩٥.
51
يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف (١).
١٠٩ - قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾ الآية، البنيان: مصدر الغفران، يراد به المبني هاهنا، نحو ضرب الأمير ونسج اليمن، قال أدو زيد: (يقال بني يبنى بنيًا وبناءً وبنية وبنيانًا، وأنشد:
بني السماء فسواها ببنيتها ولم تُمد بأطناب ولا عُمُد (٢) (٣)
وجمع البنية: بني، ويجوز أن يكون البنيان جمع بنيانة إذا جعلته اسمًا؛ لأنهم قد قالوا: بنيانة في الواحد، قال الشاعر (٤):
كبنيانة القريي موضع رحلها وآثار نسعيها من الدف أبلق (٥)
وقرأ نافع وابن عامر (أُسِّس) بضم الألف، (بنيانُه) رفعًا (٦)، فمن قرأ
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" والبغوي، الموضعين السابقين.
(٢) لم أهتد إلى قائله، وهو في المصدر التالي بلا نسبة.
(٣) انظر قول أبي زيد في: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢١٩.
(٤) من (م).
(٥) البيت لكعب بن زهير كما في ديوان أبيه زهير بشرح ثعلب ٢٥٧ من قصيدة مشتركة بينهما، وليس في ديوان كعب، و"الأغاني" ١٧/ ٨٩، و"البحر المحيط" ٥/ ١٠٣، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٨٤ بلفظ: القاري، ونسبه الفارسي في "الحجة" ٤/ ٢١٩، و"إيضاح الشعر" ص ٣٤٣ إلى أوس بن حجر، وليس في ديوانه.
والقريي: ساكن القرية، والدف: الجنب، والنسع: سير تشد به الرحال، والأبلق: الأبيض في سواد.
والشاعر يصف دابته، ويشهها ببنيان القرية. انظر: "شرح الديوان"، الموضع السابق، و"لسان العرب" (نسع) و (بلق).
(٦) وقرأ الباقون (أسس) بفتح الألف والسين (بنيانه) بنصب النون. انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٧، و"إرشاد المبتدي" ص ٣٥٦، و"تقريب النشر" ص ١٢١.
52
بفتح الألف بني الفعل للفاعل (١) الباني (٢) والمؤسس، فأسند الفعل إليه، كما أضاف البنيان إليه في قوله (بنيانه) وكما أن المصدر مضاف إلى الفاعل كذلك الفعل يكون (٣) مبنيًّا له، ويدل على ترجيح هذا الوجه اتفاقهم على قوله: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾، ومن بني الفعل للمفعول لم يبعد أن يكون في المعني كالأول؛ لأنه إذا أسس بنيانه فتولى ذلك غيره بأمره كان كبنيانه (٤) هو له، والقراءة الأولى أرجح (٥).
وقوله تعالى: ﴿عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ﴾، قال ابن عباس: (يريد مخافة من الله، ورجاء ثوابه ورضوانه) (٦)، يريد أنهم طلبوا مرضاة الله في بنيانه (٧).
وقوله تعالى: ﴿خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ قال الحسن: (هذا مثل لنفاقهم، أي مثلهم كمثل من أسس بنيانه على سهل وتراب ليس له أجل، فانهار ولم يثبت (٨) البناء) (٩).
(١) في (م): اللفظ)، وهو خطأ.
(٢) في (ح): (الثا)، وفي (م): (الثاني)، وكلاهما خطأ.
(٣) ساقط من (ح) وفي (م): (يكون الفعل مبنيًّا).
(٤) في (خ) و (ى): (كبنائه).
(٥) لعله يعني من حيث المعنى، وقد قال ابن جرير في "تفسيره" ١١/ ٣٢: (وهما قراءتان متفقتا المعنى فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن قراءته بتوجيه الفعل إلى (من) إذ كان هو المؤسس أعجب إلى).
(٦) "تنوير المقباس" ص ٢٠٤ بمعناه.
(٧) في (خ) و (ى): (بنائه).
(٨) في (ى) و (م): (لم يلبث)، وما أثبته موافق للمصدر التالي.
(٩) ذكره هود بن محكم في "تفسيره" ٢/ ١٦٩ بنحوه.
53
وقال أبو إسحاق: (المعنى أن من أُسس بنيانه على التقوى خير ممن أُسس بنيانه على الكفر، وهذا مَثَل، المعنى: إن بناء هذا المسجد الذي بني ضرارًا كبناءٍ على جرف جهنم تتهور بأهلها فيها) (١).
قال ابن عباس في قوله: ﴿فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾، يريد: صيرهم النفاق إلى النار (٢).
وشرح أبو علي الفارسي هذه الآية أبلغ شرح فقال: (يجوز أن تكون المعادلة وقعت بين البانئين ويجوز أن يكون بين البناءين، فإذا عادلت بين البانئين كان المعنى: المؤسس بنيانه متقيًا خير أم المؤسس بنيانه غير متق؟ لأن قوله: ﴿عَلَى شَفَا جُرُفٍ﴾ يدل على أن بانيه غير متق لله، ولا خاش له، وإن عادلت بين البناءين قدرت حذف المضاف كأنه قيل: أبناء من (٣) أسس بنيانه متقيًا خير أم بناء من أسس بنيانه على شفا جرف (٤)؟ والبنيان يراد به المبني لأنه إنما يؤسس المبني، والجار من قوله: ﴿عَلَى تَقْوَى﴾ في موضع نصب على الحال تقديره: أفمن أسس بنيانه متقيًا، وكذلك قوله: ﴿عَلَى شَفَا جُرُفٍ﴾ لأ ن معناه غير متق، أو معاقبًا على بنائه) (٥).
(١) جمع المؤلف بين قولين للزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٩، ٤٧٠.
(٢) رواه البغوي في "تفسيره" ٤/ ٩٧.
(٣) ساقط من (ى).
(٤) في (ى): (جرف هار)، وما أثبته موافق للمصدر التالي.
(٥) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٢٢، ٢٢٣ باختصار، ونصب قوله (أو معاقبًا) بناء على أنه حال، والجملة مقدرة، ونص عبارة أي علي: (والمعنى: أمن أسس بنيانه غير متق، أو: من أسس بنيانه معاقبًا على بنائه).
54
قال أبو عبيدة: (الشفا: هو الشفير) (١)، وشفا الشيء: حرفه، ومنه يقال: أشفى على كذا: إذا دنا منه، والجرف: ما ينجرف بالسيول من الأودية، وهو جانبها الذي ينحفر بالماء أصله، فيبقى واهيًا، قال شِمْر (يقال: جُرْف وأجراف وجُرْفَةٌ وهي المهواة) (٢)، وأصله من الجرف والاجتراف، وهو اقتلاع الشيء من أصله، فالجرف ما جرفه السيل، ويقرأ (جُرْفٍ) و ﴿جُرُفٍ﴾ مخففًا ومثقلًا (٣) وهما لغتان كالشُغْل والشُغُل والعُنْق والعُنُق.
وقوله تعالى: ﴿هَارٍ﴾، قال الليث: (الهور: مصدر هار [الجرف يهور إذا انصدع من خلفه وهو ثابت بعد مكانه وهو (٤) جرف هار] (٥) هائر، فإذا سقط فقد إنهار وتهور) (٦)
[وقال الزجاج: (هار: هائر] (٧) وهذا من المقلوب، كما قالوا: لاث الشيء به إذا دار (٨)، فهو لاثٍ، والأصل لائث) (٩).
(١) أهـ. كلام أبي عبيدة، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٦٩.
(٢) أهـ. كلام شمر، انظر: "تهذيب اللغة" (جرف (١/ ٥٨٥.
(٣) قرأ ابن عامر وحمزة وخلف وأبو بكر عن عاصم (جرف) بإسكان الراء، والباقون بضمها. انظر: "كتاب السبعة" ص ٣١٨، وكتاب "إرشاد المبتدي" ص ٣٥٦، و"تحبير التيسير" ص ١٢١.
(٤) هكذا، وكذلك هو في "تهذيب اللغة"، وفي كتاب "العين" (فهو) وهو أليق بالسياق.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) "تهذيب اللغة" (هور) ٤/ ٣٦٩١، والنص في كتاب "العين" (هور) ٤/ ٨٢.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٨) في (ح): (أراد)، وهو خطأ.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٠.
55
قال أبو علي: (الهمزة من (١) (هائر) منقلبة عن الواو؛ لأنهم قد قالوا: تهور الناء: إذا تساقط وتداعى، وتهور الليل: إذا مضى أكثره، وهذا في الليل كالمثل والتشبيه بالباء، ويجوز في العين إذا قلبت همزة في هذا النحو ضربان، أحدهما: أن يُعل بالحذف كما أعل بالقلب، فيقال هار (٢) وشاك السلاح، والآخر أن يُعلّ بقلبها إلى موضح اللام فيصير في التقدير: (فالع)، ويجوز في قوله:
خيلان من قومي ومن أعدائهم خفضوا أسنتهم فكلٌّ ناعي (٣)
أن يكون مقلوبا من النائع الذي يراد به العطشان، من قوله:
والأسلَ النياعا (٤) (٥)
أي العطاش إلى دماء من يغزون (٦)، ويجوز أن يكون من قولك: نعى ينعى، وهو أن تقول: يالثارات فلان، ويجوز في (هار) أن يكون على قول من حذف. فيقال: جرف هارٌ، وفي محل الخفض: جرفٍ (٧) هارٍ، ووزنه
(١) في (ى): (في)، والمثبت موافق للمصدر التالي.
(٢) كررت في (ح).
(٣) البيت للأجدع بن مالك الهمداني كما في "اللسان" (نوع) ٨/ ٤٥٧٩ و (نعا) ٨/ ٤٤٨٦، و"الأصمعيات" ص ٦٩، و"التنبيه" للبكري ص ٢٥.
(٤) في (ى): (النياعيا).
(٥) البيت بتمامه:
لعمر بني شهاب ما أقاموا صدور الخيل والأسل النياعا
وهو للقطامي كما في "المخصص" ١٤/ ٣٥، و"لسان العرب" (نوع) ٨/ ٤٥٧٩ أو لدريد بن الصمة كما في "الصحاح" (نوع) ٣/ ١٢٩٤. والأسل: أطراف الأسنة.
(٦) في (ح): (لا يغزون)، وهو خطأ.
(٧) ساقط من (ى).
56
من (فعل) (قال) لأن العين محذوفة (١)، ويجوز أن يكون على القلب، كأنه هاري، وإذا دخل التنوين سقط الياء لالتقاء الساكنين نحو قاضٍ ورامٍ، قال الأخفش: (ويقال هار يهار، مثل خاف يخاف) (٢).
وقرى (٣) (هار) بالإمالة (٤)، وهي حسنة لما في الراء من التكرير، فكأنك قد لفظت براءين مكسورتين وبحسب كثرة الكسرات تحسن الإمالة.
وقوله تعالى: ﴿فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ الانهيار والانهيال متقاربان في المعنى كما تقاربا في اللفظ، قال الشاعر (٥):
كمثل هيل نقًا طاف الوليد به ينهار حينًا وينهاه الثرى حينا
وفاعل (انهار): البنيان، والكناية في ﴿بِهِ﴾ تعود إلى الباني أي انهار البنيان بالباني ﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾؛ لأنه معصية وفعل لما كرهه الله من الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين، وهذه الآية بيان عما يوجبه تأسيس البنيان
(١) ما بين العلامين ليس من كلام أبي علي في "الحجة".
(٢) أهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٢٥ - ٢٢٧ باختصار وتصرف، ولم أجد كلام الأخفثس في كتابه "معاني القرآن".
(٣) في (ى): (ويقال).
(٤) وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ويحيى عن أبي بكر عن عاصم، وقالون عن نافع، والداجوني عن ابن عامر. انظر: "كتاب السبعة" ص ٣١٩، و"إرشاد المبتدي" ص ٣٥٦، و"تحبير التيسير" ص ١٢١.
(٥) هو: تميم بن أُبي بن مقبل، والبيت في "ديوانه" ص٣٢٦، و"الشعر والشعراء" ص ٢٩٩، ورواية البيت فيهما:
يمشين هيل النقا مالت جوانبه ينهال حينًا وينهاه الثرى حينًا
وانظر: البيت بلا نسبة بمثل رواية المؤلف في "الحجة" ٤/ ٢٢٩.
والشاعر يصف نسوة كما في "الشعر والشعراء"، الموضع السابق، والنقا: الكثيب من الرمل. انظر: "لسان العرب" (نقا) ٨/ ٤٥٣٢.
57
على التقوى من الله والرضوان من أن صاحبه هو الأفضل، مما يجب له من ثواب الله وكرامته، خلاف من أسسه على الفساد، فكان كمن بني على شفير النار، قال أبو إسحاق: (وفي هذا دليل على أن جهنم في الأرض؛ لأن البناء إنما ينهار إلى أسفل) (١).
١١٠ - قوله تعالى: ﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ الآية، ذكرنا الكلام في ﴿لَا يَزَالُ﴾ عند قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾
(١) لم أجد من ذكر هذا القول، ولم يتبين لي من أبو إسحاق هذا، ويبعد أن يكون الزجاج؛ لأنه يرى الانهيار -المذكور من باب التمثيل حيث قال في تفسير قوله تعالى: ﴿فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾: وهذا مثل، المعنى: (أن بناء هذا المسجد الذي بني ضرارًا وكفرًا كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها). "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٠، كما يبعد أن يكون أبا إسحاق الثعلبي؛ لأنه فسر الآية بمثل تفسير الزجاج فقال: (هذا مثل لضعف نياتهم وقلة بصيرتهم في عملهم)، "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٥٠ أوإلى مثل قولهما ذهب كثير من المفسرين كابن جرير ١١/ ٣٢، والسمرقندي ٢/ ٧٥، والزمخشري ٢/ ٢١٥، وذهب بعض المفسرين إلى ظاهر اللفظ، قال القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٦٥: اختلف العلماء في قوله تعالى: ﴿فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ هل ذلك حقيقة أو مجاز على قولين:
الأول: أن ذلك حقيقة، وأن النبي - ﷺ - إذ أرسل إليه فهدم رؤي الدخان يخرج منه، من رواية سعيد بن جبير، وقال بعضهم: (كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة)، وذكر أهل التفسير أنه كان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان، وروى عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال: (جهنم في الأرض ثم تلا ﴿فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ وقال جابر ابن عبد الله: (أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله - ﷺ -).
والثاني: أن ذلك مجاز، والمعنى: صار البناء في نار جهنم فكأنه انهار إليه، وهوى فيه، وهذا كقوله تعالى: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾ [القارعة: ٩]، والظاهر الأول؛ إذ لا إحالة في ذلك، والله أعلم.
58
[البقرة: ٢١٧] (١).
وقوله تعالى: ﴿بُنْيَانُهُمُ﴾ هو مصدر يراد به المفعول، وإذا كان كذلك كان المضاف محذوفًا تقديره: لا يزال بناء (٢) المبني الذي بنوه ريبة، ومعنى: ﴿الَّذِي بَنَوْا﴾ مع قوله: ﴿بُنْيَانُهُمُ﴾ يبين معنى ذلك البناء، إذ قد يجوز أن يراد به المستقبل لو لم يوصف بالماضي، وقوله تعالى: ﴿رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ الريبة والريب: الشك، قال ابن عباس: (يريد شكًا في قلوبهم، كما قال في سورة البقرة لأهل العجل: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: ٩٣] (٣) وهذا قول ابن زيد (٤) والضحاك (٥).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد الموت) (٦)، وقال الضحاك: (يقول: لا يزالون في شك منه إلى
(١) انظر: النسخة الأزهرية ١/ ١٣٢ أوقد قال في هذا الموضع: (وقوله تعالى: (ولا يزالون) يعني مشركي مكة، وهو فعل لا مصدر له يقال: ما يزال يفعل كذا أو لا يزال، ولا يقال منه فاعل ولا مفعول، ومثله من الأفعال كثير.. ومعنى (لا يزالون): أي يدومون، وكأن هذا مأخوذ من قولهم: زال عن الشيء، أي تركه، فقولك: ما زال يفعل كذا، أي لم يتركه).
(٢) في (ح): (بنيان).
(٣) رواه بنحوه الثعلبي ٦/ ١٥٠ أ، والبغوي ٤/ ٩٧، ورواه مختصرًا من رواية علي بن أبي طلحة الوالبي الإمام ابن جرير ١١/ ٣٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨٤، والبيهقي في "دلائل النبوة" ٥/ ٢٦٢.
(٤) رواه ابن جرير ١١/ ٣٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨٤.
(٥) ذكره مختصرًا الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٤٠٥، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٥، والقرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٦٦، وأشار إليه ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨٥.
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ٣٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨٥، والبيهقي في دلائل النبوة ٥/ ٢٦٢.
59
الموت) (١)، ونحو هذا قال مجاهد وقتادة: (إلى الممات) (٢)، وقال أبو عمرو: (معناه حتى يموتوا فيستيقنوا) (٣)، هذا الذي ذكرنا قول المفسرين، ومعنى الآية على ما قالوا: إن الريبة في التردد هي المعنى بالحيرة، يقول: لا يزالون شاكين مترددين في الحيرة، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين، كما حُبب (٤) العجل إلى قوم موسى، قال أبو علي: (والمعنى: لا يخلص لهم إيمان ولا ينزعون (٥) عن النفاق، ولا تثلج قلوبهم بالإيمان أبدًا، ولا يندمون على الخطيئة التي كانت منهم في بناء المسجد) (٦)، قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون الله -جل وعز- جعل عقوبتهم أن ألزمهم الضلال بركوبهم هذا الأمر الغليظ) (٧).
وقوله تعالى: ﴿إِلَأ أَن﴾ (إلا) هاهنا بمعنى (حتى) لأنها استثناء من الزمان المستقبل، والاستثناء منه منتهي إليه، فاجتمعت مع (حتى) في هذا الموضع على هذا المعنى، وموضع (أن) نصب، وفي ﴿تُقَطَّعَ﴾ قراءتان: ضم التاء (٨)، ومعناه: إلا أن تبلى وتتفتت قلوبهم بالموت، وقرأ حمزة وابن
(١) رواه الثعلبي ٦/ ١٥٠ ب، والبغوي ٤/ ٩٧، وأشار إليه ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨٥.
(٢) رواه عنهما ابن جرير ١١/ ٣٣.
(٣) لم أجد من ذكره، ولم يتبين لي من أبو عمرو هذا، والقول في "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٥٠ ب منسوبًا لقتادة والضحاك.
(٤) في (ح): (تحبب)، وهو خطأ.
(٥) في (ى): (يرجعون)، والمثبت موافق للمصدر التالي.
(٦) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٣٠ باختصار.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٠.
(٨) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي، وأبي بكر عن عاصم، وخلف. انظر: "كتاب السبعة" ص ٣١٩، و"تقريب النشر" ١٢١، و"إتحاف فضلاء البشر" ٢٤٥.
60
عامر ﴿تَقَطَّعَ﴾ بفتح التاء (١)، بمعنى تتقطع، ومعنى هذه القراءة كمعنى قراءة الأولى؛ إلا أن الفعل أسند إلى القلوب لمّا (٢) كانت هي البالية المتقطعة، وهذا مثل: مات زيد، ومرض عمرو، وسقط الحائط، ونحو ذلك مما يسند الفعل فيه إلى من حدث فيه، وإن لم يكن له، ويدل على صحة ما قلنا إن معنى (إلا) هاهنا: الغاية، ما روي أن في حرف أُبىَّ: (حتى الممات) (٣) وهذا يدل على أنهم يموتون على نفاقهم، فإذا ماتوا عرفوا بالموت ما كانوا تركوه من الإيمان، وأخذوا به من الكفر، وفي قراءة الحسن (إلى أن) (٤) مخففة بمعنى حتى، وهو اختيار أبي حاتم ويعقوب (٥) (٦)، هذا الذي ذكرنا مذهب عامة المفسرين وقول أصحاب المعاني (٧)، وفي الآية قول آخر زعم المبرد أن الآية على تقدير حذف
(١) وهي كذلك قراءة أبي جعفر ويعقوب، وحفص عن عاصم. انظر المصادر السابقة، نفس المواضع.
(٢) في (ى): (وما)، وهو خطأ.
(٣) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٣١، و"البحر المحيط" ٥/ ١٠١، وهي قراءة شاذة مخالفة لرسم المصحف.
(٤) "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٤٥، و"معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٥٢، و"تفسير ابن جرير" ١١/ ٣٣ - ٣٤.
(٥) هو: يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله الحضرمي مولاهم، أبو محمد البصري، أحد القراء العشرة، وإمام أهل البصرة ومقرئها، كان عالمًا بالعربية ووجوهها، والقراءات واختلافاتها، فاضلًا نقيًا تقيًا، توفي سنة ٢٠٥ هـ.
انظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ١٥٧، و"غاية النهاية في طبقات القراء" ٢/ ٣٨٦.
(٦) انظر: "تفسير الثعلبى" ٦/ ١٥٠ ب، و"تقريب النشر" ١٢١، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٤٥.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٥٢، وللزجاج ٢/ ٤٧١، و"تفسير ابن جرير" ١١/ ٣٤ - ٣٥، والبغوي ٤/ ٩٧، و"الدر المنثور" ٣/ ٥٠٠.
61
المضاف كأنه قيل لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة، أي: حزازة وغيظًا في قلوبهم منكم ﴿إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ أي إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندمًا وأسفًا على تفريطهم (١)، وهذا قول السدي (٢) وحبيب بن أبي ثابت (٣) (٤)
والقول هو الأول (٥)، والآية بيان عما يوجبه البناء على الفساد من كون القلب على الريبة الموجبة للحيرة، حتى تتقطع حسرة حين لا تنفع الندامة، ولا يمكن استدراك الخطيئة، أو حتى تنقطع بالموت، فحينئذ يستيقن أنه كان مسيئاً بما فعل من النفاق، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾، قال ابن عباس: (يريد بخلقه، الصادق منهم والشاك ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما جعل للصادقين من الثواب، وللكاذبين (٦) من العقاب) (٧).
(١) انظر قول المبرد في: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٥٠ ب، وابن الجوزي ٣/ ٥٠٣، ولم أجده فيما بين يدي من كتب المبرد.
(٢) رواه الثعلبي ٦/ ١٥٠ أ، والبغوي ٤/ ٩٧، ورواه مختصرًا ابن جرير ١١/ ٣٤.
(٣) هو: حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الأسدي مولاهم، أبو يحيي الكوفي، تابعي ثقة فقيه جليل، وكان مفتي الكوفة، وتوفي سنة ١١٩ هـ.
انظر: "تذكرة الحفاظ" ١/ ١١٦، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٣٤٧، و"تقريب التهذيب" ص١٥٠ (١٠٨٤).
(٤) انظر قوله في "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٥٠ ب، ورواه مختصرًا ابن جرير ١١/ ٣٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨٥.
(٥) يعني القول بأن معنى (تقطع قلوبهم) أي يموتوا، وقد رواه ابن جرير ١١/ ٣٣ - ٣٥ عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة، وعن مجاهد وقتادة وحبيب بن أبي ثابت وابن زيد.
(٦) في (ى): (للكافرين).
(٧) لم أقف عليه.
62
١١١ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى﴾ الآية، قال القرظي: (لما بايعت الأنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة بمكة، وهم سبعون نفسًا، قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قالوا فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا قال: (الجنة) قالوا ربح البيع لا نقيل (١) ولا نستقيل فنزلت هذه الآية) (٢)، قال مجاهد ومقاتل (٣): ثامنهم (٤) فأغلى ثمنهم) (٥).
قال أبو إسحاق: (وهذا مثل، كما قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقر: ١٦] (٦).
(١) ساقط من (ى). ومعنى لا نقيل ولا نستقيل: لا نفسخ البيعة ولا نطلب فسخها، يقال: أقاله يقيله إقالة، وتقايلا: إذا فسخا البيع، وعاد المبيع إلى مالكه والثمن إلى المشتري. انظر: "لسان العرب" (قيل) ٦/ ٣٧٩٨.
(٢) رواه ابن جرير ١١ - ٣٥ - ٣٦، والثعلبي ٦/ ١٥٠ ب، والبغوي ٤/ ٩٨، ورواه عن جابر بنحوه مطولًا أحمد في "المسند" ٣/ ٢٢٢، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٦٢٤، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(٣) ساقط من (ى).
(٤) أي قرر معهم ثمنه، يقال: ثامنت الرجل في المبيع أثامنه إذا قاولته في ثمنه وساومته على بيعه واشترائه. "النهاية في غريب الحديث والأثر" (ثمن) ١/ ٢٢٣.
(٥) ذكره عنهما الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٩٩ ومقاتل هذا يبدو أنه ابن حيان إذ لم أجد هذا القول في تفسير مقاتل بن سليمان، وعندي شك في صحة نسبته إلى مجاهد، إذ أن المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٦، وغيره من المفسرين ذكروه عن قتادة، انظر مثلاً: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٣٥، والثعلبي ٦/ ١٥١ أ، والبغوي ٤/ ٩٨، وابن الجوزي ٣/ ٥٠٤، وابن كثير ٢/ ٤٣٠، و"الدر المنثور" ٣/ ٥٠٢.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧١.
63
قال أهل المعاني: (لا يجوز أن يشتري الله شيئًا في الحقيقة (١)؛ لأن المشتري إنما (٢) يشتري ما لا يملك، لكن هذا أجري -لحسن المعاملة والتلطف في الدعاء إلى الطاعة- مجرى ما لا يملكه (٣) المعامل فيه) (٤)، وحقيقة هذا أن المؤمن متى ما قاتل في سبيل الله حتى يقتل فتذهب روحه، أو أنفق ماله في سبيل الله، أخذ من الله في الآخرة الجنة جزاءً لما فعل، فجعل هذا استبدالًا واشتراء، هذا معنى قوله: ﴿اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾، قال ابن عباس: (يريد بالجنة) (٥)، وكذا قرأه عمر بن الخطاب والأعمش (٦).
قال الحسن: (اسمعوا والله بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن، والله ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة) (٧).
وقال الصادق (٨): (ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا
(١) في (ح) و (ى): (بالحقيقة).
(٢) ساقط من (ى).
(٣) في (ح): (يمكنه)، وفي (ى): (يملك).
(٤) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٩٩، والخازن في "تفسيره" ٢/ ٢٦٤ عن أهل المعاني. وانظر: "المحرر الوجيز" ٧/ ٥٠، و"تفسير القرطبي" ٨/ ٢٦٧.
(٥) رواه ابن جرير ١١/ ٣٥، وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٠٥، وهو من طريق علي بن أبي طلحة.
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٥١ أ، والبغوي ٤/ ٩٨، وهي قراءة شاذة ولم يذكرها ابن خالويه ولا ابن جني.
(٧) رواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨٦، والثعلبي ٦/ ١٥١ أ، ورواه البغوي ٤/ ٩٨ مختصرًا.
(٨) هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف بالصادق.
64
بها) (١).
وقال ابن عباس في قوله: ﴿وَأَمْوَاَلَهُم﴾: (يريد التي ينفقونها في سبيل الله، وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالاتهم (٢) فتفنى، اشترى (٣) الجنة التي لا تفنى ولا تبيد ولا تذهب) (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾، قال ابن عباس: (فيقتلون عدو المه ويقتلون في طاعتي ومحبتي) (٥)، هذه قراءة العامة قدموا الفعل (٦) المسند إلى الفاعل على المسند إلى المفعول؛ لأنهم يَقتُلون أولاً ثم يُقتلون، وقرأ حمزة والكسائي (فيُقتَلون ويَقتُلون) على تقديم الفعل المسند إلى المفعول به على المسند إلى الفاعل (٧)، وله وجهان: أحدهما: أن هذا في المعنى كالذي تقدم؛ لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم، والثاني: أن معنى قوله (يَقتُلون) بعد قوله (يُقتَلون) أي من بقي منهم بعد قتل من قتل، كما أن قوله: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ [آل عمران: ١٤٦]، أي ما وهن من بقي منهم.
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٥١ أ، والرازي: ١٦/ ١٩٩.
(٢) كذا، والمعروف في جمع العيال: عيائل. انظر: "لسان العرب" (عول) ٥/ ٣١٧٦.
(٣) هكذا في جميع النسخ، والجملة غير متناسقة مع ما قبلها، ولعل الصواب: اشتروا بها الجنة.. الخ.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٦، ونحوه في "تنوير المقباس"، ص ٢٠٤.
(٦) من (م).
(٧) قرأ حمزة والكسائي وخلف (فيُقتَلون ويَقتُلون) ببناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، وقرأ الباقون ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول. انظر: "إرشاد المبتدي" ص ٣٥٧، و"تقريب النشر" ص ١٠٣، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٤٥.
65
وقوله تعالى: ﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾ هو [قال أبو إسحاق: (نصب ﴿وَعْدًا﴾ للمعني؛ لأن معنى قوله: ﴿بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ وعدهم الجنة) (١)، وقوله: ﴿حَقًّا﴾]، (٢)، قال ابن عباس: [لآن مالهم من الله لا خلف فيه (٣)) (٤).
وقوله تعالى: ﴿فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾، قال الزجاج: (هذا يدل على أن كل أهل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه الجنة) (٥).
وقال ابن عباس: (يريد شهدت لهم بهذه الشهادة وهذا الثواب في التوراة والإنجيل والقرآن الذي أنزل على محمد - ﷺ -) (٦)، والمعنى أن الله تعالى بين في الكتابين أنه اشترى من أمة محمد - ﷺ - أنفسهم وأموالهم بالجنة، كما بين في القرآن، والقول هذا (٧)، لا ما قاله أبو إسحاق.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: (يريد بوعده) (٨)، وهذا استفهام معناه الإنكار، أي: لا أحد أوفى بما وعد من الله تعالى.
١١٢ - قوله تعالى: ﴿التَّائِبُونَ﴾، قال الفراء: (استؤنفت بالرفع لتمام الآية قبلها وانقطاع الكلام، فحسن الاستئناف) (٩)، وقال صاحب النظم:
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧١.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) في (ى): (له).
(٤) " تنوير المقباس" ص ٢٠٤ بمعناه.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧١.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) وهو ما ذهب إليه أيضًا ابن جرير ١١/ ٣٥ والبغوي ٤/ ٩٨.
(٨) "تنوير المقباس" ص ٢٠٤ بمعناه.
(٩) "معاني القرآن" ١/ ٤٥٣.
66
(زعم بعضهم أن قوله: ﴿التَّائِبُونَ﴾ منظوم بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ على النعت للمؤمنين، وإنما رفع كما رفع قوله: ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (٣٦) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النبأ: ٣٦، ٣٧] (١)، وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [المزمل: ٨، ٩] (٢)، وذكر أبو إسحاق في رفع قوله: ﴿التَّائِبُونَ﴾ وجوهًا: أحدها: المدح كأنه قال: هؤلاء التائبون، أو هم التائبون.
والثاني: أن يكون على البدل، المعنى يقاتل التائبون، قال: وهذا مذهب أهل اللغة (٣)، والذي عندي أن قوله ﴿التَّائِبُونَ﴾ رفع بالابتداء وخبره مضمر، المعنى: ﴿التَّائِبُونَ﴾ إلى آخر الآية: لهم الجنة أيضًا، أي: من لم يجاهد غير معاند ولا قاصد لترك الجهاد فله الجنة أيضًا) (٤)، وهذا الذي اختاره أبو إسحاق وجه حسن لأنه وعدٌ لجميع المؤمنين بالجنة، وإذا جعل
(١) وقد قرأ الكوفيون ويعقوب وابن عامر (رب السموات) بالخفض، وقرأ الباقون بالرفع. انظر: "كتاب السبعة" ص ٦٦٩، و"تحبير التيسير" ص ١٩٧، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ٤٣١.
(٢) وقد قرأ ابن عامر وحمزة الكسائي ويعقوب وخلف وأبو بكر عن عاصم (رب السموات) بالخفض، وقرأ الباقون بالرفع. انظر: "كتاب السبعة" ص ٦٥٨، و"تحبير التيسير" ص ١٩٤، و"الإتحاف" ص ٤٢٦.
(٣) لم أجد من اعتمد هذا المذهب دون غيره، بل قال النحاس في "إعراب القرآن" ٢/ ٤٣: (التائبون) رفع على إضمار مبتدأ عند أكثر النحويين، أي: (هم التائبون)، وهذا ما اعتمده أبو البقاء العكبري في "التبيان" ص ٤٣١، وابن جني في "المحتسب" ١/ ٣٠٥، والزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٢١٦، وقد ذكر المذهب المذكور بصيغة التمريض (قيل) الزمخشري في الموضع السابق، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ١٠٣.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧١.
67
قوله: ﴿التَّائِبُونَ﴾ تابعًا لأول الكلام كان الوعد بالجنة خاصًا للمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات (١).
وأما التفسير فقال ابن عباس في قوله: ﴿التَّائِبُونَ﴾ يريد: (الراجعون عن الشرك) (٢)، وقال قتادة: (التائبون من الشرك ثم لم ينافقوا في الإسلام) (٣)، وقال الزجاج: (الذين تابوا من الكفر) (٤).
وقال أهل المعاني: (كل من أخلص هذه الصفات مما يحبطها استحق إطلاق هذه الأوصاف عليه) (٥).
وقوله تعالى: ﴿الْعَابِدُونَ﴾، قال ابن عباس: (الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم) (٦).
وقال الزجاج: (الذين عبدوا الله وحده) (٧)، وهو معنى قول الكلبي:
(١) هذا التعليل فيه نظر؛ إذ إن تخصيص المجاهدين بالوعد في موضع لا يعني عدم شمول غيرهم في مواضع أخرى، وإلا فقد خص الله المجاهدين بالوعد بالجنة في قوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [آل عمران: ١٩٥] ثم إن السياق يدل على أن المحذوف هو المبتدأ وليس الخبر.
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٠٢، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ١٠٤، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٧.
(٣) رواه ابن جرير ١١/ ٣٦، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٠٣.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٢.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) ذكره عنه الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٠٣، وبمعناه ابن الجوزي في "زاد الميسر" ٣/ ٥٠٥.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٢.
68
(الذين أخلصوا لله العبادة) (١)، وقال الحسن: (هم الذين عبدوا الله باتباع أمره) (٢).
وقوله تعالى: ﴿الْحَامِدُونَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: الله (٣) على كل حال) (٤)، ﴿السَّائِحُونَ﴾، قال عامة المفسرين: (الصائمون) (٥)، قال الوالبي عن ابن عباس: (كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام) (٦)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سياحة أمتي الصيام" (٧). وروى معمر (٨) عن الحسن قال:
(١) ذكره بنحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥٠٥، عن أبي صالح عن ابن عباس، وهو سند تفسير الكلبي.
(٢) رواه بنحوه ابن جرير ١١/ ٣٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨٨، وابن المنذر وابن أبي شيبة وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٠٣.
(٣) في (م) و (ى): (لله)، وما أثبته موافق لما في "الوسيط"، والمراد: الحامدون الله.
(٤) انظر: "الوسيط" ٢/ ٥٢٧ دون نسبة.
(٥) انظر: " تفسير ابن جرير" ١١/ ٣٧ - ٣٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨٩ - ١٨٩٠، و"الدر المنثور" ٣/ ٥٠٣ - ٥٠٤.
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ٣٨، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٠٣، وبنحوه ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٩٠، والبغوي ٤/ ٩٩.
(٧) أجده بهذا اللفظ عند أئمة الرواية، وقد ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٠٣ والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٧، والقرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٧٠، ورواه ابن جرير في "تفسيره" ٣٩/ ١١ موقوفاً على عائشة، وفي سنده إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو متروك الحديث كما في "تقريب التهذيب" ص ٩٥ (٢٧٢).
وقد روى أبو داود (٢٤٨٦)، كتاب: الجهاد، الحديث بلفظ: (إن سياحة أمتي الجهاد) وهو صحيح كما في "صحيح الجامع الصغير" رقم (٢٠٩٣).
(٨) هو: معمر بن راشد الأزدي مولاهم أبو عروة البصري، نزيك اليمن، الإمام الحافظ، كان ثقة فاضلًا من أوعية العلم، مع الصدق والورع، وتوفي سنة ١٥٤هـ. انظر: "التاريخ الكبير" ٧/ ٣٧٨، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ١٩٠، و"وسير أعلام النبلاء" ٧/ ٥، و"تقريب التهذيب" ص ٥٤١ (٦٨٠٩).
69
(هذا صوم القرض) (١)، وقيل (٢): هم الذين يديمون الصيام) (٣)، وقال الزجاج: (وقول الحسن أبين) (٤).
وقال الأزهري: (وقيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبدًا لا زاد معه فحين يجد الزاد يطعم، والصائم لا يطعم أيضًا فلشبهه به سمى سائحًا) (٥)، وهذا معنى قول سفيان بن عيينة: (إنما قيل للصائم سائح لأنه تارك اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح) (٦)، يريد أنه كالمسافر في تركه هذه الأشياء.
وقال أهل المعاني: (أجل السياحة: الاستمرار بالذهاب في الأرض كما يسيح الماء، فالصائم مستمر على الطاعة في ترك المنهي من المأكل والمشرب والمنكح) (٧)، وهذا اشتقاق، وقد روى لي الأستاذ أبو إسحاق (٨) -رحمه الله- بإسناده عن عكرمة أنه قال هم: طلبة العلم) (٩)،
(١) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" ٢/ ٤٧٢، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٧، ورواه بمعناه ابن جرير في "تفسيره" ص ٥٤١ (٦٨٠٩).
(٢) في (ى): (وقال).
(٣) هذا القول لأبي عمرو العبدي. انظر: "تفسير ابن جرير" ١٤/ ٥٠٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٠١ أ، و"الدر المنثور" ٣/ ٥٠٤.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٢.
(٥) "تهذيب اللغة" (ساح) ٢/ ١٥٨٦.
(٦) رواه الثعلبي ٦/ ١٥١ ب، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٠٤، وذكره بنحوه ابن جرير ١١/ ٣٩ بغير سند.
(٧) انظر: "معاني القرآن الكريم" للنحاس ٣/ ٢٥٨.
(٨) يعني الثعلبي.
(٩) "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٥٢ أ، ورواه أيضًا ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٩٠، والبغوي ٤/ ٩٩.
70
يريد: الذين يسافرون لأجل طلب العلم والحديث، والقول هو الأول.
وقوله تعالى: ﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ﴾، قال ابن عباس: (يريد الذين يصلون لله بنية صادقة (١)) (٢).
وقال الزجاج: (الذين أدوا (٣) ما افترض عليهم من الركوع والسجود) (٤)، وهو قول الحسن، قال: (هذا صلاة الفرض) (٥).
قوله تعالى: ﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قال عامة المفسرين: (بالإسلام والإيمان بالله) (٦)، وقال عطاء: (يريد بفرائض الله وحدوده وتوحيده).
وقوله تعالى: ﴿وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾، قال: (يريد عن ترك فرائض الله وحدوده والشرك به) (٧).
وقال الكلبي: (عن اتباع الجبت والطاغوت) (٨)؛ والأولى أن هذا عام في كل معروف ومنكر.
وأما دخول الواو في قوله: ﴿وَالنَّاهُونَ﴾ فإن العرب قد تنسق بالواو
(١) ساقط من (ى).
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٧.
(٣) في (ى): (يؤدون)، وما أثبته موافق للمصدر التالي.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٢.
(٥) رواه بنحوه ابن جرير ٣٩/ ١١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٩١، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٠٣.
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ٣٩ بنحوه عن أبي العالية، وهو قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٢، والبغوي في "تفسيره" ٤/ ٩٩، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٤٠٨، و"المحرر الوجيز" ٧/ ٥٦.
(٧) "تنوير المقباس" ص ٢٠٥ بمعناه.
(٨) لم أقف عليه.
71
وغير الواو، منه قوله (١) -عز وجل-: ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ﴾ [غافر: ١ - ٣]، وجاء بعض بالواو وبعض بغير الواو، ومنه قول الخرنق:
لا يبعدنْ قومي الذين هم... سم العداة وآفة الحزر
النازلين بكل معترك... والطيبون معاقد الأزر (٢)
وإنما يفعل ذلك لالتباس الكلام بعضه ببعض.
وقال صاحب النظم: قوله: ﴿التَّائِبُونَ﴾ إلى قوله: ﴿السَّاجِدُونَ﴾ مبتدأ يقتضي جوابًا، وجاء بهذا (٣) النظم منسوقًا بعضه على بعض بلا واو العطف، ثم أجاب هذا المبتدأ بقوله: ﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ فلما كان الفصل الأول مبتدأ جعل له نظمًا غير نظم الجواب، ونظم الجواب نسق بواو العطف فرقًا بينهما، ولولا هذا الفرق لما امتاز
(١) في (ى) زيادة نصها: (قوله: والناهون) وقوله... إلخ).
(٢) انظر: "ديوان الخرنق" ص ٢٩، و"أوضح المسالك" ١/ ١٠، و"كتاب سيبويه" ١/ ٢٠٢.
لا يبعدن: أي لا يهلكن. سم العداة: أي هم كالسم لعدوهم.
آفة الجزر: أي هم آفة للإبل التي تجزر لكثرة ما ينحرون منها. والمعترك: موضع ازدحام الناس في المعركة.
ومعقد الإزار: موضع عقده، والإزار: ما يستر النصف الأسفل من البدن، وطيبها كناية عن العفة والبعد عن الفاحشة.
قال ابن هشام بعد ذكر البيتين: يجوز فيه رفع (النازلين) و (الطيبين) على الإتباع لـ (قومي) أو على القطع بإضمار (هم)، ونصبها بإضمار (أمدح) و (أذكر) ورفع الأول ونصب الثاني على ما ذكرنا، وعكسه على القطع فيهما. أوضح المسالك ٣/ ١٢.
(٣) في (ى): (هذا).
72
الخبر من المبتدأ، فالتأويل: ﴿التَّائِبُونَ﴾ إلى قوله: ﴿السَّاجِدُونَ﴾ هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، أي الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعلى هذا التأويل دخله واو العطف، لأنه ذهب به مذهب الفعل (١) بعضه في إثر بعض.
وقوله تعالى: ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾، قال مجاهد: (حدود الله: فرائضه) (٢)، ومعناه: العاملون بما افترض الله عليهم)، وقال الزجاج: (القائمون بما أمر الله به) (٣).
١١٣ - قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية، قال عامة المفسرين: (إن النبي - ﷺ - عرض على عمه أبي طالب الإسلام عند وفاته، وذكر له وجوب حقه عليه، وقال: "أعني على نفسك بكلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة"، فأبى أبو طالب، فقال النبي - ﷺ -: "لأستغفرن لك حتى أنهى عن ذلك" فاستغفر له بعدما مات، فاستغفر المسلمون لآبائهم وذوي قراباتهم، فنزلت هذه الآية (٤)، وهذا قول الزهري (٥) وسعيد بن المسيب (٦)
(١) في (ح): (الفصل).
(٢) لم أجده فيما بين يدي من المصادر.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٢.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٤١ - ٤٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٩٤، والثعلبي ٦/ ١٥٢ أ، والبغوي ٤/ ١٠٠، والحديث في "صحيح البخاري"، كتاب: الجنائز، باب: إذا قال المشرك: لا إله إلا الله، و"صحيح مسلم" (٣٩)، كتاب: الإيمان،

باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت.


(٥) لم أجد من ذكره عنه، وإنما يروى عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه، انظر: المصادر السابقة، نفس المواضع.
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ٤٢.
73
وعمرو بن دينار (١) ومحمد بن كعب (٢)، واستبعده الحسين بن الفضل؛ لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولاً، ووفاة أبي طالب كانت بمكة في عنفوان الإسلام (٣)، والله أعلم.
وقال عطاء عن ابن عباس: إن رسول الله - ﷺ - سأل جبريل عن قبر أبيه وأمه فأرشده فذهب إليهما وكان يدعو لهما، وعلي يؤمن فنزلت هذه الآية) (٤) [وهذا قول أبي هريرة (٥).
وقال الوالبي عنه (٦): كانوا يستغفرون لأمواتهم المشركين فنزلت هذه الآية (٧)] (٨) وهو قول قتادة، وقال: استأذنوا رسول الله - ﷺ - أن يستغفروا لآبائهم فقال: "وأنا والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه" فنزلت هذه الآية) (٩).
(١) رواه ابن جرير ١١/ ٤١ - ٤٢.
(٢) رواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٩٤ - ١٨٩٥، والثعلبي ٦/ ١٥٢ ب، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٠٥.
(٣) انظر قول الحسين بن الفضل في "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٥٢ ب واعتراضه هذا محل نظر؛ فإن السور المدنية قد يتخللها بعض الآيات المكية، لاسيما وقد صح نزول الآية في قصة أبي طالب وخرجها البخاري ومسلم كما تقدم، وثمة احتمال آخر وهو أن النبي - ﷺ - استمر في الاستغفار لعمه حتى نزلت عليه هذه الآية في المدينة، والله أعلم.
(٤) لم أجده.
(٥) ذكره الثعلبي ٦/ ١٥٣ ب، والبغوي ٤/ ١٠١ بغير سند.
(٦) يعني عن ابن عباس كما في المصادر التالية.
(٧) رواه ابن جرير ١١/ ٤٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٩٣، والثعلبي ٦/ ١٥٣ ب.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٩) رواه ابن جرير ١١/ ٤٣، والثعلبي ٦/ ١٥٣ ب، والبغوي ٤/ ١٠١.
74
قال أهل المعاني: قوله ﴿مَا كاَنَ لِلنَّبِيِّ﴾ حظر وتحريم ونهي، وقد يأتي في القرآن بمعنى النفي البتة، كقوله: ﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾ [النمل: ٦٠] و ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٤٥] (١).
والاستغفار طلب المغفرة، وليس يجوز أن يطلب من الله غفران الشرك؛ لأنه طلب ما أخبر أنه لا يفعل (٢).
وقوله تعالى ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾، قال أبو إسحاق: (أي من بعد ما تبين لهم أنهم ماتوا كافرين، ثم أعلم الله -عز وجل- كيف كان استغفار إبراهيم لأبيه [فقال: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ﴾ (٣) الآية] (٤).
قال عطاء عن ابن عباس: (كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم أن يؤمن بالله ويخلع الأنداد، فلما مات على الكفر (٥) تبين لإبراهيم عداوة أبيه لله فترك الدعاء له) (٦)، فعلى هذا قوله: ﴿وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾ الكناية في ﴿إِيَّاهُ﴾ تعود
(١) ذكره عنهم دون تعيين الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٥٣ ب بنحوه، وانظر: "تفسير القرطبي" ٨/ ٢٧٤.
(٢) يعني في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨، ١١٦].
(٣) اهـ. كلام أبي إسحاق الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٣.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٥) ساقط من (ى).
(٦) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٨، والقرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٧٤، وبدون نسبة الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٣، والثعلبي ٦/ ١٥٤ أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥٠٩.
وقد سبق بيان أن رواية عطاء عن ابن عباس مكذوبة، ثم إن هذا القول مستبعد من =
75
على إبراهيم، والواعد أبوه، ويجوز أن تعود على أبي إبراهيم ويكون الواعد إبراهيم، وذلك أنه وعد أباه [أن يستغفر له رجاء إسلامه وأن ينقل الله أباه باستغفاره له] (١) من الكفر إلى الإسلام، فلما مات مشركًا ويئس (٢) من مراجعته الحق تبرأ منه، وقطع الاستغفار له، والدليل على صحة هذا قراءة الحسن (وعدها أباه) بالباء (٣)، وهذا الوعد من إبراهيم ظاهر في قوله تعالى: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم: ٤٧] وقوله: ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ [الممتحنة: ٤].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ﴾ روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "الأواه: الخاشع المتضرع" (٤).
ويروى أن عمر سأل رسول الله - ﷺ - عن الأواه فقال: "الأواه
= أبي إبراهيم لقوله فيما أخبر الله عنه: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم: ٤٦ - ٤٧] والآية الثانية تدل على أن إبراهيم وعده بالاستغفار وهو مصر على كفره.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) في (م): (تبين)، وهو خطأ.
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٥٤ ب، و"الكشاف" ٢/ ٢١٧، والبغوي ٤/ ١٠١. ونسبها ابن خالويه إلى حماد الراوية وقال: (يقال إنه صحفه). انظر: " مختصر في شواذ القرآن" ص ٥٥، وزاد أبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ١٠٥ نسبتها إلى ابن السميفع وأبي نهيك ومعاذ القارئ.
(٤) رواه ابن جرير ١١/ ٥١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٩٦، والثعلبي ٦/ ١٥٤ ب، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٠٩ عن عبد الله بن شداد وهو تابعي فالحديث مرسل، ولم أجد من ذكره موصولاً، ثم إن في سنده شهر بن حوشب، متكلم فيه، قال ابن حجر: صدوق كثير الإرسال والأوهام، وقال ابن عدي: (ضعيف جدًا). "تقريب التهذيب" ١/ ٣٥٥، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٣٣٨.
76
الدعاء" (١).
قال ابن عباس (٢) في رواية عطاء: (الأواه: الدعاء (٣) الكثير البكاء) (٤).
وقال في رواية عطية: (الأواه: المؤمن [بالحبشية) (٥)، وقال في رواية الوالبي: (الأواه: المؤمن التواب) (٦)] (٧).
وقال في رواية أبي ظبيان: (الأواه: الموقن) (٨) وهو قول مجاهد (٩).
وقال الفراء: (هو الذي يتأوه من الذنوب) (١٠).
وقال ابن مسعود والحسن وقتادة: (الأواه: الرحيم) (١١).
(١) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢١١ ولم أجد من ذكره غيره، وذكر الثعلبي بغير سند عن أنس قال: تكلمت امرأة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيء كرهه فنهاها عمر -رضي الله عنه- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوها فإنها أواهة"، قيل يا رسول الله وما الأواهة؟ قال: "الخاشعة". "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٥٤ ب.
(٢) في (ى): (ابن إسحاق)، وهو خطأ.
(٣) ساقط من (م).
(٤) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٨.
(٥) رواه ابن جرير ١١/ ٥٠، والثعلبي ٦/ ١٥٥ أ.
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ٥٠، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨٦، والثعلبي ٦/ ١٥٥ أ، والبغوي ٤/ ١٠٢.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٨) رواه ابن جرير ١١/ ٤٩، والثعلبي ٦/ ١٥٥/ أ.
(٩) انظر: المصدرين السابقين، نفس الموضع، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٨٩٦، والبغوي ٤/ ١٠٢.
(١٠) "معاني القرآن" ٢/ ٢٣، ونسبة هذا القول للفراء فيها نظر؛ فإن نصر عبارته: (قوله (أواه): دعاء، ويقال: هو الذي يتأوه من الذنوب).
(١١) رواه عنهم ابن جرير ١١/ ٤٧ - ٤٩، وابن أي حاتم ٦/ ١٨٩٦، والثعلبي ٦/ ١٥٥ أ.
77
وقال أبو عبيدة: (الأواه: المتأوه شفقًا وفرقًا، المتضرع يقينًا ولزوماً للطاعة) (١).
قال الزجاج: (انتظم قول أبي عبيدة أكثر ما روي في الأواه) (٢)، ويقال: تأوه الرجل تأوهًا، وأوه تأويهًا إذا قال: آه للتوجع ومنه قوله:
تأوهُ آهة الرجل الحزين (٣)
ويقال لتلك الكلمة: آه وهاه وآهة (٤) وأوه، قال أبو تراب: (وهو توجع الحزين الكئيب يخرج نفسه بهذا الصوت لينفرج عنه بعض ما به، ولو جاء من الأواه فعل لكان آه يؤوه أوهًا، مثل قال يقول قولًا) (٥).
وقوله تعالى: ﴿حَلِيمٌ﴾، قال ابن عباس: (لم يعاقب أحدًا إلا لله ولم ينتصر من أحد إلا لله) (٦).
١١٥ - قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ الآية، لما حرم الاستغفار للمشركين على المؤمنين بين أنه لم يكن الله
(١) "مجاز القرآن" ١/ ٢٧٠ بنحوه، والنص بلفظ المؤلف عند "الثعلبي" ٦/ ١٥٥ ب.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٣.
(٣) عجز بيت، وصدره:
إذا ما قمت أرحلها بليل
والبيت للمثقب العبدي في "ديوانه" ص ١٩٤، و"الصحاح" (أوه)، و"مجازالقرآن" ١/ ٢٧٠، "المفضليات" ص ٢٩١.
والشاعر يتحدث عن دابته، وأنها تشكو كثرة أسفاره.
(٤) في (ي): (هاهه).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٩، واعتبره القرطبي ٨/ ٢٧٦ أحد قولين في الكلمة لكن لم ينسبه لابن عباس.
78
ليأخذهم به من غير أن يدلهم على أنه يجب أن يتقوه، فهذا أمان بما يخاف من تلك الحال، وهذا معنى قول مجاهد (١).
قال ابن الأنباري: (والتأويل (٢): حتى يبين لهم ما يتقون فلا يتقونه فعند ذلك يستحقون الإضلال، فحذف ما حذف لبيان معناه، كما تقول العرب أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال، يريدون فتجرت وكسبت) (٣)، قال: واختلف الناس في تفسير الإضلال هاهنا فقالت فرقة: تأويله: وما كان الله ليحكم عليهم بالضلالة حتى يكون منهم ذا (٤)، واحتجوا بقول الكميت:
فطائفة قد أكفروني بحبكم (٥)
أي نسبوني إلى الكفر وحكموا علي به.
وقال آخرون: وما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يكون منهم الأمر الذي يُستحق عليه العقاب، وأبطلوا القول الأول، وقالوا: العرب إذا أرادت ذلك المعنى قالت: ضلل يضلل، واحتجاجهم
(١) رواه ابن جرير ١١/ ٥٣ - ٥٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٩٧، والثعلبي ٦/ ١٥٥ ب، والبغوي ٤/ ١٠٣.
(٢) في (ى): (والمعنى).
(٣) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥١٠.
(٤) هذا أحد أقوال المعتزلة، انظر: "مقالات الإسلاميين" ١/ ٣٢٥، و"شفاء العليل" ١/ ٢١٧.
(٥) صدر بيت، وعجزه:
وطائفة قالوا مسيء ومذنب
انظر: "هاشميات الكميت" ص ٣٥.
79
ببيت الكميت باطل؛ لأنه قياس في اللغة، [واللغة لا تؤخذ قياسًا] (١) وليس كل موضع تكلم فيه بفعل يصلح في موضعه (٢) أن يقال (أفعل) (٣) في النسبة (٤) إلى ذلك الفعل، فلا يقال: أكسر ولا أضرب، فليس علينا إلا اتباع العرب في استعمال ما استعملوا ورفض ما رفضوا) (٥) هذا كلامه، والآية بيان عما توجبه حال من لم (٦) يدل على (٧) ما يجب (٨) أن يجتنب (٩) من الأمر السمعي من أنه لا يطالب (١٠) باجتنابه ولا يضل بإتيانه حتى يُبين له أمره وتقرر عنده منزلته، فحينئذ يجازى به.
١١٧ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ الآية، يروى عن ابن عباس في معنى التوبة على النبي - ﷺ - أن ذلك لإذنه للمنافقين في التخلف عنه (١١)، وقد مر ذلك.
وقال أبو عبيدة: (هو مفتاح كلام كقوله تعالى: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ [الأنفال: ٤١] (١٢).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) ساقط من (ى).
(٣) ساقط من (ح).
(٤) في (ى): (اللغة).
(٥) ذكر الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢١٣ بعض كلام ابن الأنباري بنحوه.
(٦) ساقط من (ى).
(٧) في (ى): (عليه).
(٨) في (ج): (يوجب).
(٩) ساقط من (ح).
(١٠) في (ح): (يطلب).
(١١) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٧٨.
(١٢) ذكره الثعلبي ٦/ ١٥٦ أ، وابن الجوزي ٣/ ٥١١، والقرطبي ٨/ ٢٧٨، و"الخازن" ٢/ ٢٦٨، منسوبًا لأهل المعاني ولم أجد من ذكره عن أبي عبيدة، وليس في كتابه "مجاز القرآن".
80
ومعني هذا أن ذكر النبي - ﷺ -[بالتوبة عليه] (١) هاهنا تشريف للمهاجرين والأنصار، كما أن ضم اسم الله تعالى إلى اسم الرسول إنما هو تشريف للرسول فقط، فأما توبة الله على المهاجرين والأنصار فمن ميل (٢) قلوب بعضهم إلى التخلف عنه وهو قوله: ﴿كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ﴾ ويذكر ذلك، ولكن الله تعالى قدم ذكر التوبة فضلًا منه، ثم ذكر ذنبهم.
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾، قال أبو إسحاق: (معناه في وقت العسرة لأن الساعة تقع على كل الزمان) (٣) فهي عبارة (٤) عن جميع وقت تلك الغزوة، وهذا معنى قول الكلبي: (في حين العسرة) (٥).
وقال غيره: (يريد أشد الساعات التي مرت بهم في تلك الغزوة) (٦)، وهي الساعة التي كادت قلوبهم تزيغ فيها، والعسرة: تعذر الأمر وصعوبته، قال جابر: (هي عسرة الظهر، وعسرة الماء، وعسرة الزاد) (٧).
أما عسرة الظهر فقال الحسن: (كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم) (٨).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٢) في (ح): (مثل).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٤.
(٤) في (ح): (جماعة)، وهو خطأ.
(٥) "تنوير المقباس" ص ٢٠٥.
(٦) انظر: "المحرر الوجيز" ٧/ ٦٧ - ٦٨، و"تفسير القرطبي" ٨/ ٢٧٨.
(٧) رواه ابن جرير ١١/ ٥٥، وابن المنذر وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥١٢، وذكره بغير سند الثعلبي ٦/ ١٥٦ أ.
(٨) "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٥٦ أ، والبغوي ٤/ ١٠٤، والقرطبي ٨/ ٢٧٩.
81
وعسرة الزاد أنه (١) ربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواه (٢)، وأما عسرة الماء فقال عمر -رضي الله عنه -: (خرجنا في قيظ شديد، وأصابنا فيه عطش شديد، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه) (٣).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد: يميل بعض من كان فيها إلى التخلف والعصيان) (٤).
وقال الكلبي: (هم أناس من المسلمين هموا بالتخلف ثم لحقوه) (٥).
وقال أبو إسحاق: (أي من بعد ما كادوا يقفلون عن غزوتهم للشدة ليس أنه زائغ (٦) عن الإيمان، إنما هو أن كادوا يرجعون) (٧).
وقرأ حمزة (يَزِيغُ) بالياء (٨) [فمن قرأ] (٩) بالتاء فله وجهان:
(١) ساقط من (ى).
(٢) هذا معنى قول مجاهد وقتادة فيما رواه عنهما ابن جرير ١١/ ٥٥، وقول الحسن فيما رواه عنه الثعلبي ٦/ ١٥٦ أ، والبغوي ٤/ ١٠٤.
(٣) رواه ابن جرير ١١/ ٥٥، وابن حبان في "صحيحه" (الإحسان) رقم (١٣٨٣) ٤/ ٢٢٣، والحاكم ١/ ١٥٩، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(٤) "تنوير المقباس" ص ٢٠٥ بمعناه.
(٥) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥١٢، والبغوي في "تفسيره" ٤/ ١٠٥، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٩.
(٦) في "معاني القرآن وإعرابه": يزيغ.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٤.
(٨) وكذلك هي قراءة حفص عن عاصم وقرأ الباقون بالتاء، انظر: "السبعة" ص ٣١٩، و"التيسير في القراءات السبع" ص١٢٠، و"رشاد المبتدي" ص ٣٥٧، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٤٥.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
82
أحدهما: أن يضمر فاعل كاد، ويكون تقدير الكلام: كاد الحزب (١) أو القوم تزيغ قلوب فريق منهم (٢).
والثاني: أن يكون فاعل (كاد) القلوب، كأنه: من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ، ولكنه قدم (تزيغ) كما تقدم خبر كان في قوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧]، وجاء تقديمه وإن كان فيه ذكر من القلوب (٣)، ولم يمتنع من حيث يمتنع الإضمار قبل الذكر، لما كان النية به التأخير، كما لم يمتنع: ضرب غلامه زيد، لما كان التقدير به التأخير، [ألا ترى أن حكم الخبر أن يكون بعد الاسم، كما أن حكم المفعول به أن يكون بعد الفاعل، وعلى هذا التقدير يجب التأنيث في (تزيغ)؛ لأن المراد به التأخير] (٤) وجاز التذكير في (كاد) لتقدم الفعل، وهذان الوجهان ذكرهما أبو علي الفارسي (٥)، وذكر الفراء وجهين آخرين:
أحدهما: أن يكون الكلام على النظم الذي هو عليه، والفعل المسند إلى المؤنث إذا تقدم عليه جاز تذكيره وتأنيثه، فلما جاز الوجهان ذكر الفعل الأول لما وقع من الحيلولة بينه وبين المؤنث بالفعل الذي هو (يزيغ) فصار كقولهم: حضر القاضي امرأةٌ، وأنث الفعل الثاني لأنه ملتزق بالقلوب.
الوجه الثاني: أن (كاد) ليس بفعل متصرف كغيره من الأفعال، ألا
(١) في جميع النسخ لم توضع نقطة فوق الزاي والتصحيح من"الحجة للقراء السبعة".
(٢) في (ح) زيادة نصها: (تزيغ ولكنه قدم) وهي وهم من الناسخ وتكرار لبعض ما ذكر في الوجه الثاني.
(٣) يعني أن فيه ضميرًا يعود على القلوب.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من: (ح).
(٥) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٣٦.
83
ترى أنه لا يبنى منه فاعل ولا مفعول فصار كـ (ليس)، و (ليس) يجوز تذكيره وإن أسند إلى مؤنث كقولك: ليس تخرج جاريتك (١).
ومن قرأ (يزيغ) بالياء فوجهه تقدم الفعل (٢) فذكر (يزيغ) كما ذكر (كاد) ليتشابه الفعلان ويتشاكلا.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ كرر ذكر التوبة وهما واحد لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم الله ذكر التوبة فضلا منه، ثم ذكر ذنبهم، ثم أعاد ذكر التوبة، وقيل: إن المراد بالتوبة بعد التوبة رحمة بعد رحمة، وقد قال رسول الله - ﷺ -: "إن الله تعالى ليغفر ذنب الرجل المسلم (٣) عشرين مرة" (٤)، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ يريد (ازداد عنهم رضًا) (٥).
١١٨ - قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ الآية، هؤلاء هم المعنيون بقوله: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾ الآية، وقد ذكرنا هناك من هم، والمعنى: وتاب على الثلاثة الذين خلفوا، قال ابن عباس ومجاهد: (خلفوا عن التوبة عليهم) (٦).
(١) لم أجد قول الفراء بهذا السياق، والوجه الأول في كتابه "معاني القرآن" ١/ ٤٥٤ مختصرًا، وذكره كذلك المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٩.
(٢) من (م).
(٣) ساقط من (ى).
(٤) لم أجده في المصادر التي بين يدي سوى "تفسير الرازي" ١٦/ ٢١٦.
(٥) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢١٦.
(٦) ذكره عنهما ابن الجوزي ٣/ ٥١٣، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٩، ورواه عن عكرمة الإمام ابن جرير ١١/ ٥٦.
84
وقال كعب بن مالك الشاعر -وكان أحد الثلاثة الذين تخلفوا بغير عذر-: (ما هذا من تخلفنا إنما هو تأخير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا) (١) لثير بذلك إلى قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١٠٦].
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ قال المفسرون: (ضيق الأرض عليهم بأن المؤمنين منعوا من كلامهم ومعاملتهم، وأمر (٢) أزواجهم باعتزالهم، وكان النبي - ﷺ - معرضًا عنهم، إلى أن أنزل الله توبتهم وأمر بالرجوع لهم بعد خمسين يومًا (٣)) (٤)، ومعنى ضاقت الأرض بما رحبت ذكرناه في هذه السورة (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ يعني ضيق صدورهم بالهم الذي حصل فيها، قال ابن عباس: (يريد من الوحشة) (٦)، يعني حين لم يكلمهم أحد من المؤمنين، وقوله تعالى: ﴿وَظَنُّوا﴾ أي أيقنوا ﴿أَ {أَنْ لَا مَلْجَأَ﴾ معتصم من الله إلا به (٧)، أي من عذاب الله إلا به.
(١) رواه بنحوه البخاري (٤٦٧٧)، كتاب التفسير، سورة براءة، ومسلم (٢٧٦٩)، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب، والإمام أحمد في "المسند" ٤/ ٤٥٧.
(٢) في (م): (وأمروا).
(٣) في (ى): (ليلة).
(٤) انظر: "تفسير هود" ٢/ ١٧٤، والماوردي ٢/ ٤١٣، وابن الجوزي ٣/ ٥١٣، والرازي ١٦/ ٢١٨.
(٥) يعني عند قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَت﴾ [التوبة: ٢٥].
(٦) لم أقف عليه.
(٧) هكذا في جميع النسخ، ولذا لم أجعل الجملة من القرآن، وتفسير المؤلف للجملة يوحي أنه يريد قول الله تعالى: (من الله إلا إليه) وعبارته في "الوسيط": (لا ملجأ) لامعتصم (من الله) من عذاب الله (إلا إليه) إلا به.
85
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾، قال صاحب النظم: قول: ﴿وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾ معرفة منهم بالذنب وإضمار للتوبة وطلب لها، والله -عز وجل- يقبل النية الصالحة، فلما كان هذا نيتهم أضمر الله -عز وجل- في الكلام أنه قبل ذلك منهم ورحمهم، ثم نسق بـ (ثم) على هذا الإضمار، على تأويل: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وعلموا (١) ألا ملجأ من الله إلا إليه رحمهم، ثم تاب عليهم) انتهى كلامه، وقوله: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ إعادة للتوكيد؛ لأن ذكر التوبة على هؤلاء قد مضى في قوله: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾، قال ابن عباس: (يريد: ازداد لهم رضا وعصمة) (٢)، وقد ذكرنا نظير هذا في الآية الأولى.
ومعنى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ أي لطف لهم (٣) في التوبة ووفقهم لها، وهذا دليل على أنه ما (٤) لم يرد الله تعالى توبة العبد ولم يوفقه لها لا يمكنه ذلك.
وقال ابن الأنباري: (معناه: ثم تاب عليهم ليدوموا على التوبة، ولا يراجعوا ما يبطلها، قال: ويجوز أن يكون المعنى: ثم تاب عليهم لينتفعوا بالتوبة (٥) ويتوفر عليهم ثوابها، وهذان لا يقعان إلا بعد توبة الله عليهم) (٦).
(١) في (ج): (واعملوا).
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢١٦.
(٣) في (ى): (بهم)، وما في (م) و (ح) موافق لما في "الوسيط" ٢/ ٥٣٣.
(٤) ساقط من (ى).
(٥) في (ح): (في التوبة).
(٦) "تفسير الرازي" ١٦/ ٢١٩ بلا نسبة.
86
١١٩ - وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾، قال ابن عباس ومقاتل: (يعني به مؤمني أهل الكتاب يأمرهم بالجهاد وأن يكونوا مع المهاجرين) (١)، قال ابن عباس: (سمى الله المهاجرين في هذه السورة صادقين وفي الحجرات ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: ١٥] [وفي الحشر ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر:]] (٢).
وقال نافع (٣): (يريد بالصادقين محمدًا - ﷺ - والأنبياء) (٤)، أي كونوا معهم في الجنة بالعمل الصالح، وقال سعيد بن جبير والضحاك: مع أبي بكر وعمر) (٥).
(١) انظر قول ابن عباس في: "تفسير هود بن محكم" ٢/ ١٧٤، والزمخشري ٢/ ٢١٩ وانظر قول مقاتل -وهو ابن حيان- في "تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٩٠٦، والماوردي ٢/ ٤١٣ وقد ذكر قولهما المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٣، وليس هناك دليل على تخصيص مؤمني أهل الكتاب بالخطاب، والأصل حمل كلام الله على العموم، فالخطاب موجه إلى كافة المؤمنين في كل زمان ومكان.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) هو: نافع المدني أبو عبد الله القرشي مولاهم، مولى ابن عمر وراويته، الإمام المثبت المفتي، عالم أهل المدينة، وأحد فقهائها، مات سنة ١١٧ هـ.
انظر: "تذكرة الحفاظ" ١/ ٩٩، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ٩٥، و"تقريب التهذيب" ص ٥٥٩ (٧٠٨٦).
(٤) رواه ابن جرير عن نافع بلفظ محمد - ﷺ - وأصحابه ١١/ ٦٣، والثعلبي ٦/ ١٦ ب، والبغوي ٤/ ١٠٩، ورواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٠٦ عنه عن ابن عمر، ولفظه عندهم جميعًا: مع محمد - ﷺ - وأصحابه.
(٥) رواه عنهما ابن جرير ١١/ ٦٣.
و (مع) تقتضي المصاحبة، والمعنى على (١) أنهم أمروا بأن يكونوا مع النبي - ﷺ - في الشدة والرخاء، قاله أبو إسحاق (٢).
١٢٠ - وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ قال ابن عباس: (يعني مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار) (٣)، ﴿أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾، قال: يريد لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة، ورسول الله - ﷺ - في الحر والمشقة (٤)، يحرضهم ويحضهم على الجهاد، يقال رغبت بنفسي عن هذا الأمر: أي ترفعت عنه
(١) في (ح): (علم)، وسقطت الكلمة من (ى)، وما أثبته من (م) موافق لما في "الوسيط" ٢/ ٥٣٣ ونص العبارة في "المصدر السابق": (.. وكونوا مع الصادقين) على نسق الكلام يدل على أنهم أمروا... إلخ.
أقول: وقد ذكر الزجاج قولًا آخر في الآية فقال: (يجوز أن يكون ممن يصدق ولا يكذب في قول ولا فعل)، وذكر هذا القول أيضًا ابن جرير ١١/ ٦٣ تفسيرًا لقراءة ابن مسعود (وكونوا من الصادقين) لكنه لم يرتض هذا المعنى محتجًا بأنه مخالف للقراءة الموافقة لرسم المصحف، واحتجاجه هذا فيه نظر؛ لأن (مع) في لغة العرب للصحبة اللائقة، ولا تستلزم المخالطة والممازجة، بل تختلف باختلاف مصحوبها، فكون الله تعالى مع المتقين لون، وكون عقل الإنسان معه لون، وكون زوجته معه لون، وكون أميره معه لون.. وهكذا، فإذا علم هذا كان المعنى اللائق بقوله تعالى: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ كونوا منهم؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون مع مجموعة جمعهم الصدق إلا إذا كان صادقًا موافقًا لهم في الخصلة الي جمعتهم. والله أعلم.
وانظر مبحث المعية في " مختصر الصواعق المرسلة" ٢/ ٢٦٥، و"لسان العرب" (معع) ٧/ ٤٢٣٤، و"البحر المحيط" ٥/ ١١١.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٥.
(٣) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٥١٥، و"الوسيط" ٢/ ٥٣٤.
(٤) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع.
88
وتركته (١)، وأنا أرغب بفلان عن هذا الأمر: أي أبخل به عليه (٢)، ولا أتركه له.
وقال عطية العوفي: (ولا يرغبوا بأنفسهم عن الأمر الذي بذل له رسول الله - ﷺ - نفسه) (٣).
وقال قطرب: (أي ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول لنفسه) (٤).
وقال الحسن: (لا يرغبون بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد مثل ما يصيب رسول الله - ﷺ -) (٥)، وهذه ألفاظ معناها متقارب.
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ الإشارة ﴿ذَلِكَ﴾ تعود إلى ما تقدم من النهي عن التخلف، وقال: ذلك النهى لما يحصل من الأجر والثواب في مقاساة كلف السفر، وهو قوله: ﴿لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ وهو شدة العطش، يقال: ظمئ فلان يظمأ ظمأً (٦) على (فَعِلَ) إذا اشتد عطشه، وهو ظمئ وظمآن، ويجوز في المصدر: ظمأة وظماء، قال ابن عباس: (يريد عطشٌ في الطريق) (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا نَصَبٌ﴾ النصب: الإعياء من العناء، يقال:
(١) ساقط من (ح).
(٢) ساقط من (م).
(٣) لم أجده.
(٤) لم أقف عليه، وقد ذكره الرازي ١٦/ ٢٢٣ - ٢٢٤ بلا نسبة.
(٥) رواه الثعلبي ٦/ ١٦١ أ، والبغوي ٤/ ١٠٩.
(٦) ساقص من (م).
(٧) "تنوير المقباس" ص ٢٠٦.
89
نصب ينصب، وأنصبني هذا الأمر، قال ابن عباس: (يريد التعب من شدة الحر) (١)، (ولا مخمصة) مضى الكلام فيها (٢)، قال ابن عباس: (يريد: مجاعة) (٣)، ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في طاعة الله، ﴿وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ﴾، قال: يريد: (ولا يضع قدمه ولا حافر فرسه ولا خف بعيره) (٤)، وقال الحسن: (ولا يقفون موقفًا) (٥).
وقوله تعالى: ﴿يَغِيظُ الْكُفَّارَ﴾، قال ابن الأعرابي: (يقال غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى واحد) (٦)، أي أغضبه ﴿وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا﴾، قال ابن عباس والحسن (٧): (أسرًا وقتلًا وهزيمة، قليلاً ولا كثيرًا، إلا كان ذلك قربة لهم عند الله) (٨).
قال العوفي: (وفي الآية من الفقه أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ونصبه ومشيته وحركاته كلها حسنات مكتوبة له، وكذلك في المعصية، فما أعظم بركة الطاعة، وما أعظم شؤم المعصية) (٩).
(١) المصدر السابق، نفس الموضع، مختصرًا.
(٢) انظر: "تفسير البسيط" المائدة: ٣.
(٣) رواه ابن جرير ٦/ ٨٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٠٨، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٢/ ٤٥٨.
(٤) لم أجده، وقد ذكر الرازي ١٦/ ٢٢٤ نحوه بلا نسبة.
(٥) لم أجده.
(٦) اهـ. كلام ابن الأعرابي، انظر: "تهذيب اللغة" (كاظ) ٣/ ٢٦٢٢، و"لسان العرب" (غيظ) ٦/ ٣٣٢٧.
(٧) ساقط من (ح).
(٨) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٦، عن ابن عباس مختصرًا، ولم أجد من ذكره عن الحسن.
(٩) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٤.
90
وأما حكم هذه الآية فقال قتادة: هذه خاصة لرسول الله - ﷺ - إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر (١).
وقال ابن زيد: (هذا حين كان المسلمون قليلاً، فلما كثروا نسخها الله بقوله: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ (٢).
وقال عطية: (وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم وأمرهم) (٣)، وهذا هو الصحيح، أن تتعين الإجابة والطاعة لرسول الله - ﷺ - إذا أمر، وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا؛ لأنا لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض، ولأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد.
١٢١ - وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً﴾ قال ابن عباس: يريد تمرة فما فوقها ولا أدنى منها (٤)، وروي عنه: ولو عِلاقة سوط (٥)، وروى جماعة من الصحابة عن النبي - ﷺ - أنه قال: "من غزا بنفسه وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم سبعمائة ألف (٦) درهم" (٧).
(١) رواه الثعلبي ٦/ ١٦١ ب، والبغوي ٤/ ١١٠، وبنحوه ابن جرير ١١/ ٦٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٠٩.
(٢) رواه ابن جرير ١١/ ٦٥، والثعلبي ٦/ ١٦١ ب، والبغوي ٤/ ١١٠.
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٢٤.
(٤) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥١٥، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٤، دون الجملة الأخيرة.
(٥) لم أجده، وفي "تنوير المقباس" ص ٢٠٦: قليلة ولا كثيرة في الذهاب والمجيء.
(٦) ساقط من (ى).
(٧) رواه ابن ماجه (٢٧٦١) كتاب الجهاد، باب: فضل النفقة في سبيل الله، والثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٦٢ أ، وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده الخليل بن عبد الله وهو مجهول كما في "تهذيب التهذيب" ١/ ٥٥٤.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا﴾، قال الليث: الوادي كل مَفْرج بين جبال وآكام وتلال يكون مسلكًا للسيل (١)، والجمع: الأودية، مثل: ناد وأندية (٢)، وقال ابن الأعرابي: يجمع الوادي أوداء على (أفعال) مثل صاحب وأصحاب (٣).
قال ابن عباس: ولا يجاوزون واديًا في مسيرهم مقبلين أر مدبرين ﴿إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ﴾ يعني آثارهم وخطاهم (٤).
﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ﴾ أي: بأحسن، ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وهذا يدل على أن الجهاد من أحسن أعمال العباد.
قال أكثر المفسرين: هذه الآية خاصة في صحبة النبي - ﷺ - والخروج معه (٥)، وقال الأوزاعى، وابن المبارك: هى لآخر هذه الأمة وأولها (٦).
١٢٢ - وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ الآية، قال أبو إسحاق: هذا لفظ خبر فيه معنى أمر كقوله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ (٧) [التوبة: ١١٣]، وقال صاحب النظم: هذا نفي معناه الحظر.
(١) في (ح) و (ى): (للسبيل)، والمثبت موافق للمصدرين التاليين.
(٢) "تهذيب اللغة" (ودي) ٤/ ٣٨٦٥، والنص في كتاب "العين" (ودى) ٨/ ٩٨ بنحوه.
(٣) "تهذيب اللغة" (ودى) ٤/ ٣٨٦٥.
(٤) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٤.
(٥) هذا قول قتادة واعتمده ابن جرير وابن عطية والقرطبي وأبو حيان، انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٦٥ - ٦٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٠٩، وابن عطية ٧/ ٧٥ - ٧٦، والقرطبي ٨/ ٢٩٢، "البحر المحيط" ٥/ ١١٢.
(٦) رواه عنهما ابن جرير ١١/ ٦٥، ٦٦، ٦٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٠٩.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٥.
92
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية؛ فالذي عليه الجمهور أنه لما عيب من تخلف عن غزوة تبوك قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن غزوة يغزوها رسول الله - ﷺ -[ولا عن سرية أبدًا، فلما أمر رسول الله - ﷺ -] (١) [بالسرايا إلى العدو نفر المسلمون جميعًا إلى الغزو وتركوا رسول الله - ﷺ -] (٢) وحده بالمدينة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي (٣)، وقتادة (٤)، واختيار الفراء (٥)، والزجاج (٦)، وعلى هذا معنى الآية: ليس لهم أن يخرجوا جميعًا إلى الغزو.
وقوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ (لولا) إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل (هلّا).
قال صاحب النظم: وإنما جاز أن يكون (لولا) بمعنى (هلّا) كلمتان: (هل) وهو استفهام وعرض و (لا) وهو جحد، فـ (هلا) تنتظم معنيين الجحد وهو (لا) والعرض وهو (هل)، وذلك أنك إذا قلت للرجل [هل تأكل] (٧) هل تدخل؛ كأنك تعرض ذلك (٨) عليه، وإنما جمعوا بين (هل) و (لا) (٩)؛
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٦٢ أ، وابن الجوزي ٣/ ٥١٦، والبغوي ٤/ ١١١، "أسباب النزول" للمؤلف.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٦٧ - ٦٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩١٠.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٤٥٤.
(٦) " معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٥.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٨) ساقط من (م).
(٩) في (ح): (ألا).
93
لأنهم أرادوا أن (١) يخبروا بأنه لم يفعل ذلك (٢)، وكان يجب عليه أن يفعله، وكذلك (لولا)؛ لأن (لو) شبيهة المعنى بـ (هل)؛ لأنك إذا قلت: لو دخلت إليّ، ولو أكلت عندي، فمعناه أيضًا عرض (٣) وإخبار عن سرورك به لو فعل، فلذلك اشتبها في المعنى، وكذلك (لوما) بمنزلة (هلّا) (ولولا)؛ لأن (لا) و (ما) بمنزلة واحدة في النفي ومنه قوله: ﴿لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَة﴾ [الحجر: ٧]، ومعنى الآية: فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة، ويبقى مع النبي - ﷺ - جماعة؛ لئلا يبقى وحده.
وقوله تعالى: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ قال ابن عباس: يريد: يتعلموا القرآن والسنن والحدود والفرائض (٤)، ويريد بالتفقه الفرقة القاعدين عن الغزو، ونظم الكلام يصح بإضمار واختصار كأنه قيل: فلو نفر من كل فرقة طائفة [وأقام طائفة] (٥) ليتفقهوا في الدين، فاقتصر من ذكر إحدى الطائفتين على الأخرى، ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ يعني النافرين إلى الغزو، ﴿إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾، قال أبو إسحاق: المعنى أنهم إذا بقيت منهم بحضرة النبي - ﷺ - بقية فسمعوا منه علمًا (٦) أعلموا الذين نفروا ما علموا فاستووا في العلم (٧).
(١) في (ح): (لآن).
(٢) ساقط من (م).
(٣) في (ى): (بعوض).
(٤) ذكره بمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥١٧، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٦.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٦) في "معاني القرآن وإعرابه": وحيًا.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٥.
94
قال المفسرون: إذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن وتعلمه القاعدون قالوا لهم إذا رجعوا: إن الله تعالى قد أنزل بعدكم على نبيكم قرآنًا، وقد تعلمناه فتتعلم السرايا ما أنزل الله على نبيهم بعدهم، فذلك قوله: ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ أي: وليعلموهم بالقرآن ويخوفوهم به، ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ ولا يعملون بخلافه، وهذا الذي ذكرنا معنى قول ابن عباس في رواية الوالبي (١)، وعطاء الخراساني عنه (٢).
وقال الحسن: هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة (٣)، ومعنى الآية: ليتفقهوا: أي: ليتبصروا وليتيقنوا بما يريهم الله -عز وجل- من الظهور على المشركين، ونصرة الدين، ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد، فيخبروهم بنصرة الله النبي والمؤمنين [وأنهم لا يدان لهم بقتال النبي - ﷺ - والمؤمنين] (٤) ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ أن ينزل بهم ما نزل بغيرهم من الكفار.
قال أبو إسحاق: وفي هذه الآية دليل على أن فرض الجهاد يجزئ فيه
(١) رواه ابن جرير ٦٨/ ١١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩١٣، وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في "المدخل" كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٢١.
(٢) رواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٩١٣، وابن مردويه وأبو داود في "ناسخه" كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٢١.
(٣) هذا معنى قول الحسن.
انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٦٩ - ٧٠، و"ابن أبي حاتم" ٦/ ١٩١٣، و"الصنعاني" ١/ ٢/ ٢٩١، وقد ذكره بنحو ما ذكره المؤلف، "الثعلبي" ٦/ ١٦٢/ ب، و"البغوي" ٤/ ١١١.
(٤) ما بِن المعقوفين ساقط من (ح).
95
الجماعة [عن الجماعة (١)] (٢).
[قال أبو عبيد (٣)] (٤): لولا هذه الآية لكان الجهاد حتمًا واجبًا (٥) على كل مؤمن في خاصة نفسه وماله، كسائر الفرائض، ولكن هذه الآية جعلت للناس الرخصة في قيام بعضهم بذلك عن بعض (٦).
١٢٣ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ يريد: الذين يقربون منكم، قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الأدنى فالأدنى (٧) من عدوهم من المدينة مثل قريظة النضير وخيبر وفدك (٨)، وقال في رواية عطاء: يريد الشام من الروم والعرب الكفار، وذلك أن الشام كانت أقرب إلى المدينة من العراق (٩).
وقيل: إن النبي - ﷺ - كان ربما تخطى في حربه الذين يلونه من الأعداء ليكون أهيب له، فأمر بقتال من يليه (١٠)، وهذا دليل أنه إنما
(١) " معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٥.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) وفي (ى): عن الجهاد، والمثبت موافق لـ"معاني القرآن وإعرابه".
(٣) في (م): (أبو عبيدة).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٥) من (م).
(٦) لم أجده في كتاب "الأموال"، وكتاب "غريب الحديث" لأبي عبيد، ولا في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة، ولم تذكره المصادر التي بين يدي.
(٧) ساقط من (ى).
(٨) رواه مختصرًا الثعلبي ٦/ ١٦٣ ب، والبغوي ٤/ ١١٣، ونحوه في "تنوير المقباس" ص ٢٠٧.
(٩) ذكره بنحوه الثعلبي ٦/ ١٦٣ ب، والبغوي ٤/ ١١٤ دون تعيين القائل.
(١٠) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٦.
96
ينبغي أن يقاتل أهل كل ثغر الذين يلونهم، وفيه فوائد: خفة المؤنة على بيت المال بقرب الطريق، وأن كل طائفة من المسلمين أهدى إلى مكايد من يليهم وإلى عوراتهم؛ ولأن المسلمين إذا تباعدوا وخلفوا بالقرب منهم طائفة من المشركين لم يأمنوا أن يهجموا على ذراريهم فتوجل لذلك قلوب الغزاة.
قوله تعالى: ﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾، قال الزجاج: فيها ثلاث لغات: فتح الغين وضمها وكسرها (١)، قال ابن عباس: يريد شجاعة (٢)، وقال مجاهد: شدة (٣)، وقال الحسن: صبرًا منكم على الجهاد (٤)، وقال الضحاك: عنفًا (٥).
وقال أهل المعاني: الغلظة ضد الرقة وهي الشدة في إحلال النقمة، وذلك أدل على البصيرة في الإيمان، وأزجر عن الكفر باللهِ، وأهيب لأعداء الله، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التحريم: ٩]، وقوله تعالى في صفة الصحابة: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ [الفتح:]، وقوله: ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤].
ويخرج الكلام في هذه الآية على الأمر بالوجود، وإنما هو بالغلظة كانه قيل: اغلظوا عليهم بحيث يجدون ذلك.
وقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾، قال أبو إسحاق: أي أن
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٤٧٦ بمعناه
(٢) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٥١٨، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٥.
(٣) انظر: المصدرين السابقين، نفر الموضع.
(٤) رواه الثعلبي ٦/ ١٦٣ ب، والبغوي ٤/ ١١٤.
(٥) رواه الثعلبي، الموضع السابق.
97
الله ناصر من أَمَرَهُ بالحرب (١).
١٢٤ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾ (ما) صلة مؤكدة، ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ﴾ يعني من المنافقين، قاله جميع أهل التفسير (٢).
﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ﴾ هذه السورة ﴿إِيمَانًا﴾ يقوله المنافقون بعضهم لبعض هزؤًا، فقال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾، قال ابن عباس: يريد: تصديقًا ويقينًا وقربة من الله (٣).
ومعنى الزيادة ضم الشيء إلى غيره بما يشاركه في صفته، فالمؤمنون إذا أقروا بالسورة عن ثقة ازدادوا تصديقًا إلى ما كانوا عليه من التصديق، وفي هذا دليل على زيادة الإيمان.
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أي: يفرحون بنزول السورة، قاله ابن عباس في رواية الضحاك (٤)، وقال في رواية عطاء: يستبشرون بالنعيم الدائم والرضوان الكبير (٥)، ومعنى الاستبشار: استدعاء البشارة بتذكر ما فيه النعمة، كأن المؤمنين (٦) يتذكرون ما بشروا به من النعيم فيفرحون به.
وقال ابن كيسان في هذه الآية: كلما نزلت سورة كانت بينة لهم
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٦.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٧٢، والثعلبي ٦/ ١٦٣ ب، والبغوي ٤/ ١١٤، وابن الجوزي ٣/ ٥١٨، "الدر المنثور" ٣/ ٥٢٣.
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٥، ورواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٩١٥، مختصرًا من رواية الوالبي.
(٤) رواه بمعناه ابن جرير ١١/ ٧٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩١٥، من رواية العوفي، وكذلك الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٧ من رواية الكلبي.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) في (ح) و (ى): (كان المؤمنون).
وحجة ازدادوا إخلاصًا ويقينًا (١).
١٢٥ - وقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، قال المفسرون: شك ونفاق (٢)، وسمي الشك في الدين مرضًا؛ لأنه فساد في القلب يحتاج إلى علاج كالفساد في البدن.
وقوله تعالى: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾، قال الحسن والأكثرون: زادتهم كفرًا إلى كفرهم (٣)، قال أبو إسحاق: لأنهم كلما كفروا بسورة ازداد كفرهم (٤)، وقال عطاء ومقاتل: أي إثمًا وعذابًا إلى ما أعد لهم من الخزي والعذاب (٥).
١٢٦ - قوله تعالى: ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ﴾ الآية، هذه واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام فهو متصل بذكر المنافقين وفي ﴿يَرَوْنَ﴾ قراءتان الياء والتاء (٦)، فمن قرأ بالتاء فهو خطاب للمؤمنين على معنى التنبيه، وقال سيبويه عن الخليل في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾
(١) لم أجده.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٧٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩١٠، والثعلبي ٦/ ١٦٤ أ، والبغوي ٤/ ١١٤.
(٣) انظر: " تأويل مشكل القرآن" ص ٤٧١، "تفسير الطبري" ١١/ ٧٣، والسمرقندي ٢/ ٨٤، والثعلبي ٦/ ١٦٤ أ، والبغوي ٤/ ١١٤، ولم أجد من ذكره عن الحسن.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٦.
(٥) انظر: قول مقاتل في "تفسيره" ص ١٣٧/ أ، والثعلبي ٦/ ١٦٤/ أ، والماوردي ٢/ ٤١٦، وابن الجوزي ٣/ ٥١٩ مختصرًا، ولم أجد من ذكره عن عطاء.
(٦) قرأ حمزة ويعقوب بالتاء، وقرأ الباقون بالياء.
انظر: "الغاية في القراءات العشر" ١٦٨٩، "إرشاد المبتدي" ص ٣٥٧، "تقريب الشر" ص ١٢١.
99
[الحج: ٦٣]، المعنى: انتبه! أنزل الله من السماء ماءً، فكان كذا وكذا (١)، والمعنى في هذه الآية: أن المؤمنين نُبِّهوا على إعراض المنافقين عن النظر والتدبر لما ينبغي أن ينظروا فيه (٢) ويتدبروه.
ومن قرأ بالياء فمعناه التقريع بالإعراض عن التوبة للمنافقين من غير أن يُصرف التنبيه إلى المسلمين (٣) في الخطاب؛ لأن المسلمين قد عرفوا ذلك من أمرهم.
والرؤية على ما ذكرنا بمعنى العلم، ويجوز أن تكون من رؤية العين المتعدية إلى مفعولين وسدَّ (أن) مسدهما، وهذا الوجه أولى؛ لأن معنى الآية أنهم يُستبطؤون (٤) على مشاهدة ما يفتتنون (٥) به في الاعتبار والإقلاع عما هم عليه من النفاق، وهذا أبلغ في هذا الباب؛ ألا ترى أن تارك الاستدلال أعذر من المضرب عما يحس ويشاهد.
وقوله تعالى: ﴿أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: يمتحنون بالمرض في كل عام مرة أو مرتين (٦).
(١) "كتاب سيبويه" ٣/ ٤٠بنحوه، وذكره أبو علي الفارسي في "الحجة" ٤/ ٢٣٢ بلفظ المؤلف.
(٢) ساقط من (ح).
(٣) في (ى): (المؤمنين).
(٤) في (ى): (يستبطنون)، والصواب: ما أثبته وهو موافق لما في "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٣٣، الذي نُقل منه النص.
(٥) في (م): (يفتنون).
(٦) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٣٣، ورواه بمعناه مختصرًا بن أبي حاتم ٦/ ١٩١٥ من رواية الضحاك.
100
﴿ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ﴾ من النفاق، ولا يتعظون بذلك المرض، كما يتعظ المؤمن إذا مرض ذكر ذنوبه وموقفه بين يدي الله، فيزيده ذلك إيمانًا وخوفًا من الله، وازداد الله له رحمة ورضوانًا.
وهذا قول عطية قال: يفتنون بالأمراض والأوجاع وهن روائد الموت (١)، وهذا اختيار أبي علي قال: إنهم يمتحنون بالأمراض والأسباب التي لا يؤمن معها الموت، فلا يرتدعون عن كفرهم، ولا ينزجرون عما هم عليه من النفاق، ولا يُقَدِّمون عملًا صالحًا يقدمون عليه إذا ماتوا (٢).
وقال مجاهد: يفتنون بالقحط والجوع (٣).
وقال قتادة: بالغزو والجهاد (٤)؛ وذلك أنهم كانوا إذا نقضوا العهد بعث إليهم رسول الله - ﷺ - بالسرايا فيقتلونهم (٥)، وكل هذا من أسباب
(١) رواه الثعلبي ٦/ ١٦٤ ب.
(٢) "الحجة" للقراء السبعة ٤/ ٢٣٢.
(٣) رواه ابن جرير ١١/ ٧٣، ٧٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١١٣ ب، والثعلبي ٦/ ١٦٤ ب، والبغوي ٤/ ١١٥.
(٤) المصادر السابقة، نفس الموضع.
(٥) ليس للمنافقين عهد حتى ينقضوه، وليسوا من أهل الحرب حتى يبعث إليهم النبي - ﷺ - بالسرايا، بل ظاهرهم الإسلام والولاء والطاعة، ولذا تعليل المؤلف قول قتادة بما ذكره فيه نظر، بل قول قتادة يحتمل أحد ثلاثة أمور:
أ- أنهم يفتنون بالغزو والجهاد فيتخلفون بغير عذر فيظهر نفاقهم.
ب- أنهم يفتنون بالغزو والجهاد فيخرجون ويتعرضون للقتل قبل التوبة والإيمان الصحيح.
ج- أنهم يبتلون بالغزو والجهاد فيرون تصديق ما وعد الله - ﷺ - رسوله من النصر والظفر، وهذا معنى قول الحسن البصري كما في "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٦٤ ب، بل نسبه القرطبي ٨/ ٢٩٩ إلى قتادة نفسه.
101
الموت التي يجب أن يتعظوا ويعتبروا بها.
وقال مقاتل (١): يفضحون بإظهار نفاقهم، وهذا اختيار ابن الأنباري؛ قال: إنهم كانوا يجتمعون على ذكر رسول الله - ﷺ - بالطعن عليه، وكان جبريل يخبره بذلك فيوبخهم ويعظهم، فلا يتعظون ولا يرجعون عن ذلك (٢).
قال أهل المعاني: وهذه الآية بيان عما يوجبه تقلب الأحوال مرة بعد مرة من تذكر العبرة التي تدعو إلى إخلاص الطاعة والتوبة من كل خطيئة لشدة الحاجة إلى من يكشف البلية ويسبغ النعمة (٣).
١٢٧ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾ الآية، قال ابن عباس: كان إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين، وخَطَبَهم رسول الله - ﷺ - فعرض بهم في خطبته شق ذلك عليهم، فنظر بعضهم إلى بعض، يريدون الهرب من عند رسول الله - ﷺ -، ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ إن (٤) قمتم (٥)، فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد، وإن علموا أن أحدًا يراهم ثبتوا مكانهم حتى يفرغ من خطبته، ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا﴾ من (٦) الإيمان (٧)، فعلى هذا قوله:
(١) هو ابن حيان، انظر قوله في "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٦٤ ب، والبغوي ٤/ ١١٥، وابن الجوزي ٣/ ٥١٩.
(٢) ذكر هذا القول الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٣٣ دون تعيين القائل.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) ساقط من (ح).
(٥) في (م) و (ى): أقمتم، وما أثبته من (ح) أليق بالسياق وهو موافق لما في المصادر.
(٦) هكذا في جميع النسخ، ولم يذكر المؤلف هذه الجملة في "الوسيط"، وفي "تفسير الثعلبي"، والبغوي وابن الجوزي: (عن الإيمان)، وبهذا اللفظ سيذكره المؤلف بعد عدة أسطر.
(٧) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٥، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥٢٠، كما ذكره من غير نسبة الثعلبي ٦/ ١٦٥ أ، والبغوي ٤/ ١١٥ بنحوه.
102
﴿نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ فيه إضمار أي: نظر بعضهم إلى بعض [وقال هل يراكم من أحد.
وقال الأخفش: معنى ﴿نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾] (١) [قال بعضهم لبعض] (٢)؛ لأن نظرهم في هذا المكان كان (٣) قولًا (٤). فعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار؛ لأن نظرهم قام مقام قولهم: ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ في المفهوم، وذلك أنه لما جرت عادتهم بأنهم إذا نظر بعضهم إلى بعض أرادوا هذا المعنى صار كأنهم تلفظوا به.
وقوله تعالى: ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ إن أضمرنا (٥) القول في الآية كان هذا ملفوظًا به، وإن جعلنا النظر بمعنى القول لم يكن ملفوظًا به، وعرف ذلك بدلالة الحال.
والمعنى: هل يراكم من أحد إن خرجتم، على ما ذكرنا وفيه حذف، ويصح المعنى من غير حذف وهو أن المعنى هل يراكم أحد (٦) من المؤمنين أنكم هاهنا، يقولون ذلك استسرارًا وتحرزًا أن يُعلم بهم مخافة القتل، وهذا معنى قول الضحاك (٧)، والزجاج (٨).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) ساقط من (ى).
(٤) كتاب "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٣٦٨، وعبارته: لأن نظرهم في هذا المكان كان إيماء أو شبيهًا به.
(٥) ساقط من (م).
(٦) رواه الثعلبي ٦/ ١٦٥ أ.
(٧) رواه الثعلبي ٦/ ١١٦٥.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٧.
103
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا﴾ ذكرنا فيه قول ابن عباس: إن المعنى: ثم انصرفوا عن الإيمان به، ونحوه قال مقاتل (١).
وقال الحسن: ثم انصرفوا على عزم الكفر والتكذيب بمحمد - ﷺ - وما جاء به (٢).
قال الزجاج: جائز أن يكونوا ينصرفون عن العمل بشيء بما يسمعون (٣).
وهذا كما (٤) حكينا عن المفسرين، قال: وجائز أن يكونوا ينصرفون عن المكان الذي استمعوا فيه (٥)، وعلى هذا لا إضمار؛ لأن المعنى أنهم ينظرون (٦) بعضهم إلى بعض ثم ينصرفون.
وقوله تعالى: ﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾، قال ابن عباس: عن كل رُشْد وخير وهدى (٧).
وقال الحسن: صرف الله قلوبهم فطبع عليها بكفرهم ونفاقهم (٨)،
(١) انظر: "تفسيره" ١٣٧ أ.
(٢) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥٢٥، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٥، وبمعناه مختصرًا هود بن محكم في "تفسيره" ٢/ ١٤٨.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٧.
(٤) ساقط من (ى).
(٥) المصدر السابق، نفس الموضع.
(٦) كذا في جميع النسخ، وقد جرى المؤلف على لغة لبعض العرب غير مشهورة، وجمهور العرب يوجبون توحيد فعل الفاعل مع جمعه كحالته مع الإفراد والتثنية. انظر: "أوضح المسالك" ١/ ٣٤٥.
(٧) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٣٤، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ١١٧، ورواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٧.
(٨) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٣٤، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ١١٧.
104
﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ عن الله دينه وما دعاهم إليه.
وقال الزجاج: أي أضلهم الله مجازاةً على فعلهم (١)، وهذا معنى قول الحسن (٢).
١٢٨ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾، قال ابن عباس: يريد: محمدًا - ﷺ -، وليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي - ﷺ - مُضَريُّها (٣) وربعيها (٤) ويمانيها (٥) (٦)، وقال السدي: من المحرب من بني إسماعيل (٧).
قال الزجاج: أي: هو بشر مثلكم فهو أوكد للحجة عليكم؛ لأنكم تفهمون ممن هو مثلكم (٨)، وذكرنا الكلام في هذا مستقصى في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٤].
(١) معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٧.
(٢) يعني السابق.
(٣) نسبة إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو جد جاهلي تنتسب إليه كثير من القبائل العدنانية.
انظر: "سيرة ابن هشام" ١/ ١.
(٤) هكذا في جميع النسخ، وفي مصادر التخريج عدا "تفسير الثعلبي": ربيعيها، وفي "تفسير الثعلبي": ربيعتها، وهو يعني القبائل المنسوبة إلى ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. انظر: "سيرة ابن هشام" ١/ ٩.
(٥) يعني القبائل القحطانية.
(٦) رواه الثعلبي ٦/ ١٦٥ أ، وعبد بن حميد والحارث بن أبي أسامة في "مسنده"، وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في "دلائل النبوة"، وابن عساكر، كما في " الدر المنثور" ٣/ ٥٢٤، ورواه البغوي في "تفسيره" ٤/ ١١٥ مختصرًا.
(٧) رواه الثعلبي ٦/ ١٦٥ أ، والبغوي ٤/ ١١٥.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٧.
105
قوله تعالى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾، قال ابن عباس: يريد: يعز عليه مشقتكم وكل مضرة تصيبكم (١).
وقال أهل المعاني: معنى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ﴾ شديد عليه بامتناعه من إمكان زواله (٢) (٣)، ﴿مَا عَنِتُّمْ﴾ ما يلحقكم من الضرر، ومعنى عزّ عليّ كذا: أي اشتد (٤) عليّ بامتناعه (٥) من إزالته (٦)، ويقال: عَنَتَ الرجل يعنت عنتًا: إذا وقع في مشقة شديدة، أو أذى لا يهتدى للمخرج منه، وأعنته غيره إعناتًا، وقد سبق الكلام في هذا في مواضع (٧).
وقال الزجاج: معناه: عزيز عليه عنتكم، وهو لقاء الشدة والمشقة (٨).
وقال الفراء: (ما) في موضع رفع، معناه: عزيز عليه عنتكم (٩)،
وقوله تعالى: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ قال أبو إسحاق: أي: حريص على إيمانكم (١٠)، وهو قول الكلبي (١١)، فعلى هذا هو من باب حذف
(١) رواه بنحوه ابن أبي حاتم ٦/ ١٩١٧، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٢٩.
(٢) المعنى: شديد عليه لكونه ممتنعًا من إمكانية الإزالة.
(٣) انظر: "معاني القرآن الكريم" للنحاس ٣/ ٢٧١ مختصرًا.
(٤) في (م): (استغز).
(٥) في (م): (من امتناعه).
(٦) في "مختار الصحاح" (عزر)، "لسان العرب" (عزز): عز عليّ ذلك: أي حقَّ واشتد.
(٧) انظر مثلاً: تفسير آية ١٢٥ من سورة النساء.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٧ بنحوه.
(٩) "معاني القرآن" ١/ ٤٥٦.
(١٠) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٧.
(١١) ذكره السمرقندي في "تفسيره" ٢/ ٨٥، ورواه الفيروزأبادي في عنه، عن ابن عباس في "تنوير المقباس" ص ٢٠٧.
106
المضاف. وقال الحسن: حريص عليكم أن تؤمنوا (١).
وقال الفراء: الحريص الشحيح بأن تدخلوا النار (٢)، والمعنى على هذا: شحيح عليكم أن تدخلوا النار، والحرص على الشيء: الشح عليه أن يضيع ويهلك، وتم الكلام هاهنا، ثم استأنف فقال: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾، قال عطاء، عن ابن عباس: سماه الله تعالى باسمين من أسمائه (٣).
١٢٩ - قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾، قال ابن عباس: يريد: المشركين والمنافقين والكفار (٤).
وقال الكلبي: أعرضوا عن الإيمان وعنك يا محمد فلم يؤمنوا بك (٥).
وقال الحسن: تولوا عن طاعة (٦)، ﴿فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ أي: الذي يكفيني الله -عز وجل-، ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، قال النحويون: موضع هذه الجملة نصب؛ لأنه في موضع الحال بتقدير: حسبي الله مستحقًّا لإخلاص العبادة، والإقرار بأن لا إله إلا هو (٧).
(١) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٤١٨، وابن الجوزي في "الزاد" ٣/ ٥٢١.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٤٥٦.
(٣) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥٢١، والرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٣٧، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٦.
(٤) رواه مختصرًا ابن جرير ٧٨/ ١١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩١٩، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٢٩.
(٥) "تنوير المقباس" ٢٠٧ بنحوه، عن الكلبي، عن ابن عباس.
(٦) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٤١٩، ولفظه: عن طاعة الله.
(٧) انظر: "إعراب القرآن وبيانه" ٤/ ١٩٩، "الجداول في إعراب القرآن" ٦/ ٦٩.
107
﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾، قال أهل المعاني: إنه رب كل شيء، وخص العرش بالذكر؛ لأنه لما ذكر الأعظم دخل فيه الأصغر (١)، ويجوز أن يكون التخصيص تشريفًا للعرش وتفخيمًا لشأنه.
(١) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٥٢٢، "تفسير القرطبي" ٨/ ٣٠٢. ولم أجده في كتب أهل المعاني.
108
سورة يونس
109
Icon