... ثم لهذه اللغة العروض الذي يُقوّم به الشعر خاصة، فيُعرف استقامته من انكساره، ويُميّز سالمه من مُزاحفه، ويوزن به وزنا ؛ فيبيّن تقطيعه وأفاعيله وأعاريضه وضروبه، وقد كان الخليل بن أحمد الفرهودي أول من استخرج العروض، فاستنبط منه ومِن عِلل النحو ما لم يستخرجه أحد، ولم يُسبق إليه ؛ فوضع له أصولا، وقسّم الشعر ضروبا، وسمّاه بها، وجعل لتلك الأقسام دوائر وأسطرا، وبناه على الساكن والمتحرك من أحرف الكلمة، والخفيف والثقيل، وسمّى الشعر بأسماء، مثل : الطويل، والبسيط، والمديد، والوافر،
والكامل، والهزج، والرجز، والرمل، والسريع، والمنسرح، والخفيف٥أ والمضارع، والمقتضب، والمجتث، والمتقارب، إلى سائر ما رسم فيه ؛ فاستتبَّ له فيه الأمر، وانقاد عليه القياس، فوزن به الشعر وزنا سويا، وسماه عَروضا، يعني أنه راضَ به الصعب من الشعر المُلتَوي عن وجهه حتى قوَّمه، ثم إنّ للغة العرب دِيوانا ليس لسائر لغات الأمم، وهو الشعر، الذي قد قيدوا به المعاني الغريبة، والألفاظ الشاردة، فإذا احتاجوا إلى معرفة حرف مُستصعبٍ، أو لفظٍ نادرٍ التمسوه في الشعر الذي هو ديوان لهم مُتَّفق عليه، مَرضي بحكمه، والشعر هو الكلام الموزون على رويٍ واحد، المُقوّم على حذوٍ واحدٍ، قد حُذِيَ البيت بالبيت حذوَ النعل بالنعل، وإنما سموه شعرا لأنه الفطنة بالغوامض من الأسباب، وسموا الشاعر شاعرا ؛ لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من معاني الكلام وأوزانه، ومنه قولهم : ليت شعري، أي ليتني أشعر به، وسموا الكلمات المنظومة المؤلفة بعضها إلى بعض موزوناً قافيةً، أي أنه الكلام الذي يقفُو بعضُه بعضا على مثالٍ واحد، ومعنى القصيدة أنها الكلمة التي مُلِئت بالمعاني، وكثُرت فيها الألفاظ المستحسنة، يُقال : ناقةٌ قصيدة أي ممتلئة كثيرة الشحم سمينة ٠...


الصفحة التالية
Icon