فمن ذلك قوله تعالى :( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون )، فهذه مناظرة جرت بين المؤمنين والمنافقين فقال لهم المؤمنون لا تفسدوا في الأرض، فأجابهم المنافقون بقولهم : إنما نحن مصلحون، فكأن المناظرة انقطعت بين الفريقين، ومنع المنافقون ما ادعى عليهم أهل الإيمان من كونهم مفسدين، وأن ما نسبوهم إليه إنما هو صلاح لا فساد، فحكم العزيز الحكيم بين الفريقين بأن سجل على المنافقين أربع إسجالات
أحدها تكذيبهم
والثاني الإخبار بأنهم مفسدون
والثالث حصر الفساد فيهم بقوله :( هم المفسدون)
والرابع وصفهم بغاية الجهل
وهو أنه لا شعور لهم البتة بكونهم مفسدين.
وتأمل كيف نفى الشعور عنهم في هذا الموضع، ثم نفى العلم في قولهم :( أنؤمن كما آمن السفهاء ) فقال :( ألا أنهم هم السفهاء، ولكن لا يعلمون ) فنفى علمهم بسفههم، وشعورهم بفسادهم، وهذا أبلغ ما يكون من الذم، والتجهيل أن يكون الرجل مفسدا، ولا شعور له بفساده البتة، مع أن أثر فساده مشهور في الخارج، مرئي لعباد الله وهو لا يشعر به، وهذا يدل على استحكام الفساد في مداركه وطرق علمه.
وكذلك كونه سفيها، والسفه غاية الجهل وهو مركب من عدم العلم، بما يصلح معاشه، ومعاده، وإرادته بخلافه، فإذا كان بهذه المنزلة، وهو لا يعلم بحاله، كان من أشقى النوع الإنساني، فنفي العلم عنه بالسفه الذي هو فيه متضمن لإثبات جهله، ونفى الشعور عنه بالفساد الواقع منه متضمن لفساد آلات إدراكه.
فتضمنت الآيتان الإسجال عليهم بالجهل، وفساد آلات الإدراك، بحيث يعتقدون الفساد صلاحا والشر خيرا.