وأما الركن الثالث من أركان القراءات القرآنية وهو موافقة اللغة العربية، ولو بوجه ما، فضرورته بدهية، لأن القرآن بلسان عربي مبين، فلا تخرج إحدى قراءاته عن وجه ما من وجوه كلام العرب السائغة في لغتهم، والشائعة على ألسنتهم، وهي كلها تدور بين الفصيح والأفصح، إما مجمعاً عليه أو مختلفاً فيه، لقول ابن الجزري(١) – رحمه الله: ((وقولنا في الضابط: ولو بوجه، نريد به وجهاً من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحاً، مجمعاً عليه أم مختلفاً فيه، اختلافاً لا يضر مثله، إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئمة بالإسناد الصحيح)).
واشتراط الضابط اللغوي هذا يتفق ولسان الوحي الإلهي أولاً، ثم التلقي به، ومن ثم التعليم والنشر به في إطاره الواسع الذي يضم أول ما يضم الرسول ﷺ – أفصح العرب – وصحابته رضي الله عنهم، ومعظمهم من العرب الخلص، فالتزام السلامة اللغوية، أمر أولي لديهم، ((ولم يكن ذلك المقياس موضع نقاش بين المتقدمين من أصحاب رسول الله، ومن التابعين))(٢).
ومع تعدد وجوه اللغة العربية بتعدد القبائل الكبرى، واتساع ديارها، فإنها تنضبط وفق أصولها وقواعدها المستنبطة من كلام العرب الفصيح، المجموع – شفاهة أو كتابة مما يحتج به – في دواوينهم.
وإن أول ما يتأيد به الوجه اللغوي هو ورود لفظ الوحي موافقاً له، ومنه القراءات القرآنية، فقد وردت كلها موافقة لقواعد اللغة العربية من وجه أو وجوه ما، فالقرآن الكريم هو السند الأقوى للغة. يقول د. عبد الله بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي(٣): ((فالذي يوجد في القرآن من الأساليب حاكم على اللغة، ومع التتبع التام لا توجد مسألة واحدة في كتاب الله تعالى إلا ولها وجه في اللغة العربية فصيح مستفيض)).
(٢) تاريخ القرآن، د. عبد الصبور شاهين، ص ٢٠٣.
(٣) في تقديمه كتاب: الفتح الرباني في علاقة القراءات بالرسم العثماني، د. محمد محمد سالم محيسن، ص ٩.