قوله تعالى :«كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ».. فهذان الحيان من كنانة ممن عاهدوا عند المسجد الحرام في الحديبية، ثم لم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا. فهم المعنيون في الاستثناء أولا وأخيرا كما ذهب إلى ذلك المفسرون الأوائل، وقد أخذ بهذا القول الأستاذ الشيخ رشيد رضا. وذهب الأستاذ محمد عزة دروزة إلى أن المعنيين بالمعاهدين عند المسجد الحرام هم طائفة أخرى غير المذكورة في الاستثناء الأول. ذلك أنه كان يحب أن يذهب إلى جواز قيام معاهدات دائمة بين المسلمين والمشركين، فارتكن إلى قوله تعالى :«فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ» ليستدل منه على جواز تأبيد المعاهدات! وهو قول بعيد كل البعد عن طبيعة الموقف، وعن طبيعة المنهج، وعن طبيعة هذا الدين أيضا! كما بينا ذلك مرارا.
لقد وفى الإسلام لهؤلاء الذين وفوا بعهدهم، فلم يمهلهم أربعة أشهر - كما أمهل كل من عداهم - ولكنه أمهلهم إلى مدتهم. ذلك أنهم لم ينقصوا المسلمين شيئا مما عاهدوهم عليه، ولم يعينوا عليهم عدوا، فاقتضى هذا الوفاء لهم والإبقاء على عهدهم إلى نهايته.. ذلك مع حاجة الموقف الحركي للمجتمع المسلم في ذلك الحين إلى تخليص الجزيرة بجملتها من الشرك وتحويلها إلى قاعدة أمينة للإسلام لأن أعداءه على حدود الجزيرة قد تنبهوا لخطره، وأخذوا يجمعون له كما سيجيء في الحديث عن غزوة تبوك - ومن قبل كانت وقعة مؤتة إنذارا بهذا التحفز الذي أخذ فيه الروم. فضلا على تحالفهم مع الفرس في الجنوب في اليمن، للتألب على الدين الجديد.
ولقد حدث ما ذكره ابن القيم من أن هؤلاء الذين استثناهم اللّه وأمر بالوفاء لهم بعهودهم قد دخلوا في الإسلام قبل أن تنقضي مدتهم. بل حدث أن الآخرين الذين كانوا ينقضون عهودهم وغيرهم ممن أمهلوا أربعة أشهر يسيحون فيها في الأرض، لم يسيحوا في الأرض وإنما اختاروا الإسلام أيضا!
لقد علم اللّه - سبحانه - وهو ينقل بيده خطى هذه الدعوة، أنه كان الأوان قد آن لهذه الضربة الأخيرة وأن الظروف كانت قد تهيأت والأرض كانت قد مهدت وأنها تجيء


الصفحة التالية
Icon