في أوانها المناسب وفق واقع الأمر الظاهر، وفق قدر اللّه المضمر المغيب. فكان هذا الذي كان. ونقف أمام التعقيب الإلهي على الأمر بالوفاء بالعهد للموفين بعهدهم :«فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ»..
إنه يعلق الوفاء بالعهد بتقوى اللّه وحبه - سبحانه - للمتقين. فيجعل هذا الوفاء عبادة له وتقوى يحبها من أهلها.. وهذه هي قاعدة الأخلاق في الإسلام.. إنها ليست قاعدة المنفعة والمصلحة وليست قاعدة الاصطلاح والعرف المتغيرين أبدا.. إنها قاعدة العبادة للّه وتقواه. فالمسلم يتخلق بما يحبه اللّه منه ويرضاه له وهو يخشى اللّه في هذا ويتطلب رضاه. ومن هنا سلطان الأخلاق في الإسلام كما أنه من هنا مبعثها الوجداني الأصيل.. ثم هي في الطريق تحقق منافع العباد، وتؤمن مصالحهم، وتنشئ مجتمعا تقل فيه الاحتكاكات والتناقضات إلى أقصى حد ممكن، وترتفع بالنفس البشرية صعدا في الطريق الصاعد إلى اللّه...
وبعد تقرير الحكم ببراءة اللّه ورسوله من المشركين.. المعاهدين وغير المعاهدين منهم سواء.. مع استثناء الذين لم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا بالوفاء لهم بعهدهم إلى مدتهم. يجيء ذكر الإجراء الذي يتخذه المسلمون بعد انقضاء الأجل المضروب :«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ، وَاحْصُرُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ. فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»..
وقد اختلفت الأقوال عن المقصود هنا بقوله تعالى :«الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ».. هل هي الأشهر الحرم المصطلح عليها وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب : وعلى ذلك يكون الوقت الباقي بعد الأذان في يوم الحج الأكبر بهذه البراءة هو بقية الحجة ثم المحرم.. خمسين يوما.. أم إنها أربعة أشهر يحرم فيها القتال ابتداء من يوم النحر فتكون نهايتها في العشرين من ربيع الآخر؟.. أم إن الأجل الأول للناقضين عهودهم. وهذا الأجل الثاني لمن ليس لهم عهد أصلا أو لمن كان له عهد غير مؤقت؟