والذي يصح عندنا أن الأربعة الأشهر المذكورة هنا غير الأشهر الحرم المصطلح عليها. وأنه أطلق عليها وصف الأشهر الحرم لتحريم القتال فيها بإمهال المشركين طوالها ليسيحوا في الأرض أربعة أشهر. وأنها عامة - إلا فيمن لهم عهد مؤقت ممن أمهلوا إلى مدتهم - فإنه ما دام أن اللّه قد قال لهم :«فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» فلا بد أن تكون هذه الأشهر الأربعة ابتداء من يوم إعلانهم بها.. وهذا هو الذي يتفق مع طبيعة الإعلان.
وقد أمر اللّه المسلمين - إذا انقضت الأشهر الأربعة - أن يقتلوا كل مشرك أنى وجدوه أو يأسروه أو يحصروه إذا تحصن منهم أو يقعدوا له مترصدين لا يدعونه يفلت أو يذهب - باستثناء من أمروا بالوفاء لهم إلى مدتهم - بدون أي إجراء آخر معه. ذلك أن المشركين أنذروا وأمهلوا وقتا كافيا فهم إذن لا يقتلون غدرا، ولا يؤخذون بغتة، وقد نبذت لهم عهودهم، وعلموا سلفا ما ينتظرهم.
غير أنها لم تكن حملة إبادة ولا انتقام.. إنما كانت حملة إنذار ودفع إلى الإسلام :«فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»..
لقد كانت هنالك وراءهم اثنتان وعشرون سنة من الدعوة والبيان ومن إيذائهم للمسلمين وفتنتهم عن دينهم، ومن حرب للمسلمين وتأليب على دولتهم.. ثم من سماحة لهذا الدين. ورسوله وأهله معهم.. وإنه لتاريخ طويل.. ومع هذا كله فلقد كان الإسلام يفتح لهم ذراعية فيأمر اللّه نبيه والمسلمين الذين أوذوا وفتنوا وحوربوا وشردوا وقتلوا.. كان يأمرهم أن يكفوا عن المشركين إن هم اختاروا التوبة إلى اللّه، والتزموا شعائر الإسلام التي تدل على اعتناقهم هذا الدين واستسلامهم له وقيامهم بفرائضه. وذلك أن اللّه لا يرد تائبا مهما تكن خطاياه :.. «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»..
ولا نحب أن ندخل هنا في الجدل الفقهي الطويل الذي تعرضت له كتب التفسير وكتب الفقه حول هذا النص :«فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ»..
وعما إذا كانت هذه شرائط الإسلام التي يكفر تاركها؟ ومتى يكفر؟ وعما إذا كان يكتفى بها من التائب دون بقية أركان الإسلام المعروفة؟.. إلخ فما نحسب أن هذه الآية بصدد شيء من هذا كله. إنما هو نص كان يواجه واقعا في مشركي الجزيرة يومذاك. فما