أما الصفدي فقال : أنا لم أسمع منه في حق أحد من الأحياء والأموات إلا خيراً، وما كنت أنقم عليه شيئاً إلا ما كان يبلغني عنه من الحط على الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، على أنني ما سمعت في حقه شيئاً، نعم سمعته كان لا يثق بهؤلاء الذين يدعون الصلاح، حتى قلت له يوماً : يا سيدي، فكيف نعمل في الشيخ أبي مدين؟ فقال: هو رجل مسلم ديّن، وإلا ما كان يطير في الهواء، ويصلي الصلوات في مكة كما يدّعي فيه هؤلاء الأغمار. وكان فيه خشوع، يبكي إذا سمع القرآن، ويجري دمعه عند سماع الأشعار الغزلية. وقال كمال الدين المذكور، قال لي: إذا قرأت أشعار العشق أميل إليها، وكذلك أشعار الشجاعة تستميلني، وغيرهما، إلا أشعار الكرم ما تؤثر فيّ، انتهى.
وقال الصفدي أيضا : كان يفتخر بالبخل كما يفتخر غيره بالكرم، وكان يقول لي: أوصيك احفظ دراهمك، ويقال عنك بخيل ولا تحتج الى السُفَّل، ومن شعره في ذلك :
رجاؤك فَلْسا قد غدا في حبائلي قنيصا رجاء للنتاج من العقم
أأتعب في تحصيله وأضيعه إذاً كنت معتاضاً من البر بالسقم
ويقول الصفدي : والذي أراه فيه أنه طال عمره وتغرّب، وورد البلاد، ولا شيء معه، وتعب حتى حصّل المناصب تعباً كثيراً، وكان قد جرّب الناس، وحلب أشطر الدهر، ومرت به حوادث، فاستعمل الحزم، وسمعته غير مرة يقول: يكفي الفقير في مصر أربعة أفلس، يشتري له طُلْمة بايتة بفلسين، ويشتري له بفلس ربيباً وبفلس كوز ماء، ويشتري ثاني يوم ليموناً بفلس يأكل به الخبز. وكان يعيب علي مُشتري الكتب، ويقول: الله يرزقك عقلاً تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف، وإذا أردت من أحد أن يعيرني دراهم ما أجد ذلك.
ولة أيضا :
إن الدراهم والنساء كلاهما لا تأمننّ عليهما إنسانا
ينزعن ذا اللبّ المتين عن التقى فترى إساءة فعله إحسانا
ومن حزمه قوله :
عُداتي لهم فضل عليّ ومنّة فلا صرف الرحمن عني الأعاديا