وقال آخر : لولا ما عقدته الكتب من تجارب الأولين، لانحلّ مع النسيان عقود الآخرين. وقد أخطأ من اعتمد على حفظه، وأغفل تقييد العلم في كتبه، ثقة بما استقر في نفسه، لأن التشكك معترض، والنسيان طارئ عارض.
وقال آخر(١): الكتابة سبب إلى تخليد كل فضيلة، وذريعة إلى توريث كل حكمة جليلة، وموصلة لنا ما لفظ به الحكماء من الألفاظ الجميلة، ومبلّغة إلى الأمم الآتية أخبار القرون الخالية، ومعارف الأمم الماضية حتى كأن الخالف شاهد(٢)السالف، والجاهل يأخذ عن العارف. فمتى أردت مجالسة إمام من الأئمة الماضيين، ومحادثة شيخ من الشيوخ المتقدّمين، فانظر في كتبه التي صنفها ومجموعاته التي ألفها، ونوادره التي رسمها، وحكمه التي أحكمها، فإنك تجده مخاطبا لك ومعلما ومرشدا ومفهما(٣)، مع ما يحصل لك من الأُنس بكتابه، وما تستفيد من حكمه وصوابه.
وقال آخر : فكم من كلمة رافعة، وحكمة نافعة، وموعظة جامعة، وقصة واقعة وحجّة قاطعة، وسنة ساطعة، قد خزّنها الأول للآخر، ونقشها في الحجارة والدفاتر حنوّا من هذا البشر الذي يرحم بعضه بعضا، ويدلّه على ما يختار لنفسه ويرضى، ولم يزل الفقهاء من كل جيل، والنبلاء من كل قبيل، والناطقون بكل جميع(٤)على اختلاف القول منهم والقيل، يدوّنون ما يقع من الكلم النافعة، والحكم الجامعة، ويسارعون إلى حفظها بالكتابة، خوفا من ذهابها أشد المسارعة، نظما ونثرا حتى انتشرت في العالم نشرا، فكم من كلمة قد نفع الله بها قائلها، وحكمة ظاهرة على متناولها، وفائدة قد تبينت بالكتابة لسائلها.
مولاي محمد الطاهري، ص٤، ط٢، مكتبة الرشد، ٢٠٠٣ م.
(٢) في جـ :" يشاهد ".
(٣) في جـ :" ومفقها ".
(٤) في جـ، ز :" جميل "، لعله هو الصواب.