والطبريُّ(١) في الآية لم يقدِّر التقديم الذي لحظه سيبويه من الإبدال، وأبقى النظم على أصله، وقال: «والمعنى أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً مخرجون، وكرَّر (أنَّ) مع اسمِها لوقوع الاعتراض بين الاسم والخبر بالجزاء، فتكرار (أنَّ) الثانية على هذا توكيد للأولى لمَّا طال الفصل»، وهو الذي مال إليه الفراء(٢).
المبحث الثالث: التفسير بتقدير المحذوف عند سيبويه:
يرقى التنزيل الحكيم إلى أعلى درجات البلاغة، وباب الحذف باب ثَرٌّ من أبواب البلاغة القرآنية، وقد تحدث المفسرون والبلاغيون عن مواضع الحذف في أسلوب القرآن، وحرصوا على بيان ما حُذِفَ من النظم، وَفْق منطوق العربية التي نزل القرآن بلسانها. وقد شارك سيبويه المفسرين في هذا البيان، وله في هذا وقفات متأنية، وليس هذا بمستغرب؛ لأن هذا هو ميدان علماء العربية في هذا الضرب من التفسير.
وقد أفادت كتب التفسير من تقديراته، وكثيراً ما نَسَبَتْ إليه ما كان يقدِّره من مواضع الحذف وتأويل الكلام.
اختلف المفسرون في تقدير قوله تعالى: ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ (النور: ٢)، فذهب سيبويه(٣) إلى أن معنى الآية: «فيما يتلى عليكم: حكم الزانية...»، فقوله: ؟؟؟ مبتدأ، خبره متعلَّق الجار والمجرور المتقدم، أي: فيما يُتْلى عليكم حُكمُ الزانية والزاني، ثم بيَّن ذلك بقوله: ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟.
قال سيبويه(٤): «كأنه لمَّا قال جلَّ ثناؤه ؟؟ ؟ ؟؟ (النور: ١) قال: في الفرائض الزانية والزاني، أو الزانية والزاني في الفرائض، ثم قال:
؟ ؟؟، فجاء بالفعل بعد أن مضى فيهما الرفع، كما قال(٥):
وقائلةٍ خَوْلانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ وأُكرومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما هيا
فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر»
.

(١) جامع البيان ١٧/٤١.
(٢) معاني القرآن ٢/٢٣٤.
(٣) الكتاب ١/١٤٣.
(٤) الكتاب ١/١٤٣.
(٥) لا يعرف قائله، وهو في البحر ٣/٤٧٧. والأكرومة: الكريمة وهي كريمة الأب والأم. والخلو: الخالية من الزوج.


الصفحة التالية
Icon