قائما على هذه الدنيا، وقد انتهى المشهد، وقد تحطم هذا الدولاب، وتحطم كل ما احتواه.. وإذن فلا التفات إلى هذا الحطام، ولا اشتغال به.. وإذن فإلام تتلفت النفوس ؟ وبم تشتغل القلوب ؟ هذه هي الدار الآخرة.. الدار الباقية التي ينبغى أن يلتفت إليها، ويشتغل بها..
ولكن لمن هذه الدار ؟ ومن يصلح للاتجاه إليها، والتعامل معها ؟ « لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً » ـ فهؤلاء هم أهلها، حيث لا تنصرف إرادتهم إلى الدنيا، وإلى طلب العلو والإفساد فيها.. إن إرادتهم متجهة إلى الآخرة، وإن كانت الدنيا معبرهم إليها، وطريقهم عليها.."
أي إن الدار الآخرة ونعيمها الدائم الذي لا يحول ولا يزول، ولا عناء فيه ولا مشقة، يجعلها ربك لعباده المؤمنين المتواضعين الذين لا يريدون ترفعا على خلق اللّه وتعاظما عليهم وتجبرا بهم بغير حق، ولا فسادا بأخذ أموالهم بغير حق.
ولم يعلق الوعد بالنعيم بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما. وقال : تِلْكَ على جهة التعظيم للجنة والتفخيم لشأنها، يعني تلك التي سمعت بذكرها، وبلغك وصفها.
عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :"إِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْجِبُهُ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ أَنْ يَكُونَ أَجْوَدَ مِنْ شِرَاكِ صَاحِبِهِ، فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " (١).