ومن أدلة الاجتهاد في بعض الآيات ما روي عن الإمام الأعمش(١) أنه لم يعد قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ)(٢) رأس آية لعدم المشاكلة لأنه يقرؤها خُيَّفا بضم الخاء وتشديد الياء مفتوحة بوزن نُصَّراً وهذا مبني [منه](٣)على الاجتهاد، روى الإمام الداني(٤) بسنده إلى حمزة إلى أنه قال: قلت للأعمش: ما لم تعدوا (أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ)؟ قال: لأنها في قراءتنا خُيَّفاً، قال الداني هذا الخبر أصل في معرفة رؤوس آي السور وفي تمييز فواصلها وذلك أن لفظ (خائفين) لما لم يكن مشاكلاً لما قبله ولما بعده من رؤوس [آي](٥) تلك السورة في وقوع الحرف المد الزائد قبل الحرف المتحرك الذي هو آخر الكلمة التي هي الفاصلة ولا مشبهاً في ذلك ولا مساوياً به في الزنة، والبِنْيَة يكن رأس آية في سورة رؤوس آيها مبنية على ما ذكر، ثم أن اختلاف الأعمش في هذا اللفظ وكذا ما يذكر من التوجهات لا يكون مانعاً لورود التوقيف فيه لأن التوجيه بالأصلين السابقين إنما هو تعليل بعد الوقوع لأن جانب التوقيف راجح في هذا الفن والتوجيه إنما يؤتى به لدفع الشبهة كما يكون (٦) في توجيه القرآن والرسم تطبيقاً لقواعد العرب بقدر الإمكان وفيه نفع مَّا وهذا معنى قول الشاطبي:
| وَفِي خَائِفِيْنَ اعْتَلَّ الأعْمَشُ بِالَّتِي | قَرَا خُيَّفَاً وَهُوَ اجْتِهَادٌ بِلا نُكْر |
| [وَلا] يمْنَعُ التَّوْقِيْفُ فِيْهِ اخْتِلافُهُ | إِذَا قِيْلَ بِالأَصْلَيْنِ تَأْوِيْلُ مُسْتَبْرِ(٧) |
(٢) سورة البقرة الآية: ١١٤.
(٣) سقط ما بين القوسين من (آ).
(٤) انظر البيان لأبي عمرو الداني مخطوط ورقة ٣٦.
(٥) سقط من (ب) وما ذكر من (آ، ج).
(٦) سقط ما بين القوسين من (ب).
(٧) قوله: اعتل يقال: اعتل فلان بكذا أي جعله كذا علة في عمله، والمراد هنا الاحتجاج.
والنكر: الإنكار. وفي هذا البيت دليل على وقوع الاجتهاد من السلف في الفواصل لأن الأعمش وهو من التابعين لما سئل عن عدم عده (خائفين) احتج بأنها في قراءته (خُيَّفا) وهذا يثبت اجتهاد السلف ورعايتهم للمشاكلة بين الفواصل من غير إنكار فأشار إلى أنها في قراءته لا تشاكل فواصل السورة حيث فقدت المشاكلة. وقوله: مستبري: أصلها مستبرئ ومعناه طالب البراءة من الشبه والشكوك لنفسه أو لغيره.
ومعنى هذا البيت: أنه لا يمنع التوقيف في هذا العلم وتعليم الرسول الصحابة إياه اختلاف أهل العدد وقت أن يقول بالأصلين تأويل مستبرئ أي تأويل شخص طلب لنفسه البراءة من الشبه وقطع الاحتمالات.
وفي هذا البيت إشارة إلى أن التعليل في هذا الفن بالأصلين وهما التشاكل والتناسب لا يكون مانعاً لورود النص والتوقيف فيه، فالتوقيف أرجح من الاجتهاد. كما قال الشارح.