…ومن يجل النظر في فتوى الشيخ رشيد هذه يجد أنها تطبيق لفتوى أساتذته، وزيادة عليهم في إضفاء الصبغة الشرعية على الربا وتسهيل التعامل به على الناس مستخدماً العقل والحيلة والأساليب الباطنية في اصطناع التقوى، واختراع الحِكَم العقلية للنصوص وإقامتها مقام العلة الشرعية لزحزحة المُحْكم عن إحكامه. فصوّر إيداع الأموال في صندوق توفير البريد بفائدة بأنه بيع وتجارة لأنه يفيد الآخذ والمعطي. ثم حصر الربا المحرم على ما قاله كبيرهم الذي علمهم التأويل بالربا الفاحش الذي يبلغ الأضعاف المضاعفة. وجعله السبب في تحريم الربا. أي وما كان دونه فلا بأس به. كما صور أن وضع الأموال في صندوق التوفير في البريد تخلو من استغلال الغني لحاجة الفقير لأن المستثمر هو الفقير بفائدة يأخذها من الغني وهو مصلحة البريد الحكومية. وهذه سفسطة لأن تحريم الربا جاء بالنص ولم يرد فيه تعليل البتة. وما زعمه أنه تعليل لا تسعفه اللغة. وما زعمه بأن، المعاملة نفع وتنفيع هي منطق المذهب الرأسمالي. ومنطق المسلمين أن المعاملة تشريع من رب العالمين لتنظيم العلاقة بين الفرد وغيره من الناس. وما زعمه أن التعامل بالربا دون الأضعاف المضاعفة رحمة للآخذ والمعطي ولولاها لفاتت المنفعة سفسطة لأن التحريم والتحليل في الإسلام جاء بنصوص الوحي وليس بالعقل والنص يحرم جنس الربا ﴿ وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ (١). والمسلم مقيد في كسبه وفي انفاقه للمال على الوجوه التي حددتها النصوص، ولا يتصرف في المال بوحي عقله وعادة المجتمع الذي يعيش فيه. وهذه الاستفاضة في إضفاء الشرعية على إباحة الربا دون الأضعاف المضاعفة من هذا الرمز صارت شرعاً فيما بعد إلى يومنا هذا. وكل الذين تواردوا بعده عالة عليه فلا يستطيعون أن يأتوا بجديد.

(١) سورة البقرة، الآية: ٢٧٥.


الصفحة التالية
Icon