والقضاء له وسائله في الوصول إلى الحق ومعرفته، ومن أهم الوسائل الشهادة، وقد طلب الله عز وجل من الناس أن يتحملوها فقال: ﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ﴾ [البقرة: ٢٨٢]. كما طلب من الناس أداءها وحذر من كتمانها يقول سبحانه: ﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة: ٢٨٣] وإذا كان هذا وعيد لمن يكتم الشهادة، فما بالنا بمن يشهد الزور، فيهدر دمًا بريئًا، ويتسبب في ضياع حق مهضوم، أو سببًا في إلصاق التهم بالأبرياء.
إن شاهد الزور يصور الحق باطلاً، ويتهم البريء، ويطمس الحقائق ويغير الوقائع، ويبعث على الشقاق والنزاع، ويمزق المجتمع، إنه يسيء إلى نفسه فتسقط منزلته، ويخسر دينه ودنياه، ويسيء إلى المشهود له فيعينه على الظلم، ويمكنه من العدوان على الحقوق، ويسيء إلى المشهود عليه فيضيع حقه ويخذله في وقت تشتد الحاجة فيه إلى الناصر والمعين، كيف ينسى شاهد الزور وهو يدلي بشهادته الكاذبة أن هناك من سيشهد عليه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. إن أول من سيشهد عليه أعضاؤه ومنها اللسان سينطقها مالك الملك(١).
وحسبنا في تصوير بشاعة قول الزور أن الرسول × قال لأصحابه: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال ثلاثًا الإشراك بالله، وعقوق الوالدين. وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور. فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت) (٢).
(٢) …فتح الباري، جـ١٠، ص٤٩٧، كتاب الأدب، رقم الحديث ٥٩٧٦.