ومع علمنا بأن قاعدة التغييرات الحضارية، والتحولات الاجتماعية تبين أنها تبدأ من عقيدة عظيمة في قلب رجل عظيم، ثم يتحرك بعقيدته منتقلاً بها من مرحلة النظرية إلى مرحلة العمل والتطبيق. ويبدأ في عملية التجميع المنظم، فيحرك المجموع حوله، حتى ينتقل بالعمل من الحركة الفردية إلى الحركة السياسية المنظمة.
وهذه الجماعة المنظمة، أو هذا التحرك يقوم على دعامتين:
الدعامة الأولى: الطليعة المؤمنة بالرسالة.
الدعامة الثانية: الرأي العام المناصر.
ثم يبدأ الصراع، أو التدافع الحضاري، بين أصحاب وحملة الرسالة، وبين أعدائها.
ويتحدد مصير الرسالة، أو التغيير الحضاري بناءً على نتيجة هذا الصراع.
وفي هذه القصة ـ ولأمر ما ـ بدأ التحرك بالرسالة الربانية، برسولين قيل إنهما رسل عيسى عليه السلام، وبعض المفسرين رجح أنهما أرسلا من قِبَله ـ سبحانه ـ، ثم قواهما الحق ـ جل وعلا ـ برسول ثالث.
«فهي قرية أرسل الله إليها رسولين، كما أرسل موسى وأخاه هارون ـ عليهما السلام ـ إلى فرعون وملئه، فكذبهما أهل تلك القرية، فعززهما الله برسول ثالث يؤكد أنه وأنهما رسل من عند الله، وتقدم ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من جديد: ﴿فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ﴾ [يس: ١٤]» (١).
«ولعل هذا هو الراجح؛ لأنه هو المتفق مع ظاهر النص القرآني» (٢).
وهذا الاستثناء من القاعدة الذي نجد فيه أن التحول والتغيير الحضاري قد بدأ بحركة أكثر من فرد؛ فلقد وضحته الآيات أنه كان للتعضيد والتثبت والتصديق، والتقوية والإعزاز.
كما في قوله ـ سبحانه ـ: ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ [يس: ١٤].
(٢) - مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، ٣ / ٢٣٨.