أما قولهم:﴿ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ ﴾ فيدل على أنهم قوم عادتهم الإسراف في الضلال، ومجاوزة الحد في العصيان، فمن ثَمَّ أتاهم الشؤم، ولم يأتهم من قبل المرسلين، وتذكيرهم ؛ فهو إضراب عما تقتضيه العبارة الشرطية:﴿ أَئِنْ ذُكّرْتُمْ ﴾ من إنكار كون التذكير سببًا للشؤم، وإثبات الإسراف الذي هو أبلغ، وهو جالب الشؤم كله. والإسراف هو الإصرار على الكفر، بعد ظهور الحق بالحجة والبرهان، وتجاوز الحدود في التفكير والتقدير، والمجازة على الموعظة بالتهديد والوعيد، والرد على الدعوة بالرجم والتعذيب ؛ ولذلك وجب إهلاكهم، فإن الكافر مُسِيءٌ، فإذا تمَّ عليه الدليل، وأوضح له السبيل، وبقي مُصِرًّا على الكفر، يكون مُسْرفًا. والمُسْرِفُ هو المجاوز للحدِّ، بحيث يبلغ الضدَّ، وهم كانوا كذلك ؛ لأنهم جزَموا بالكفر بعد البرهان على الإيمان. ودلَّت الجملة الاسمية على أن الإسراف صفة ثابتة فيهم، ملازمة لهم، لا تفارقهم. تلك كانت الاستجابة من القلوب المغلقة على دعوة الرسل، وهي مثل للقلوب التي تحدثت عنها السورة في الجولة الأولى، وصورة واقعية لذلك النموذج البشري المرسوم هناك.
سادسًا- فأما النموذج الآخر الذي اتَّبع الذكر، وخشِي الرحمن بالغيب، فكان له مَسْلَكٌ آخرُ، وكانت له استجابة غير هذه الاستجابة، ويتمثل في هذا الرجل الذي أخبر الله عنه، وحكى قصته بقوله تعالى:
﴿ وَجاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
إنه رجل جاء من أقصى المدينة. أي: من أبعد مواضعها، جاء يسعى. أي: يسرع في مشيه ؛ لبعد محله ومزيد اهتمامه، حرصًا منه على نصح قومه، ونُصْرة المرسلين، وتعزيز دعوتهم، ملبيًا نداء الفطرة. والظاهر أن هذا الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولم يكن في عزوة من قومه أو منعة من عشيرته ؛ ولكنها العقيدة الحيَّة في ضميره تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة إلى أقصاها ؛ لينضم إلى موكب المرسلين. وليس مهمًّا بعد ذلك، إن كان هذا الرجل هو حبيب النجار- على ما قيل- أو غيره ؛ لأن معرفة ذلك لا يزيد شيئاً في دلالة القصة وإيحائها.


الصفحة التالية
Icon