وقال الله تعالى هنا:﴿ وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ﴾، وقال في سورة القصص:﴿ وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى ﴾(القصص: ٢٠)، فقدم الجارَّ والمجرور﴿ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ﴾ على الفاعل ﴿ رَجُل ﴾ في الأول، وأخره عنه في الثاني. وجعل أبو حيان ذلك من التَّفَنُّن في البلاغة. أما الخفاجي فجعل تقديم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم، بيانًا لفضل هذا الرجل ؛ إذ هداه الله تعالى مع بعده عنهم، وأن بعده لم يمنعه عن ذلك ؛ ولذلك عبَّر عن القرية بـ﴿ المدينة ﴾، بعد التعبير عنها بـ﴿ القَرْيَة ﴾ إشارة إلى السعة، وأن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرُب، أو بعُد.
وقيل: قدِّم للاهتمام، حيث تضمَّن الإشارةَ إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة، فيشعر بأنهم أتوا بالبلاغ المبين. وقيل: إنه لو أخِّر، تُوُهِّمَ تعلُّقُه بـ﴿ يَسْعَى ﴾، فلم يفد أنه من أهل المدينة، وأن مسكنه في طرفها، وهو المقصود. وقيل: قدِّم لاشتمال ما قبله من سوء معاملة أصحاب القرية الرسل، وإصرارهم على تكذيبهم، فكان مظنة التتابع على مجرى العبارة تلك القرية، ويبقى مخيلا في فكره: أكانت كلها كذلك، أم كان فيها على خلاف ذلك، بخلاف ما في سورة القصص.
وقوله تعالى:﴿ مِنْ أَقْصَى ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه من الإعراب: أحدها: أنه صفة لـ﴿ رَجُل ﴾، قدِّم عليه، فصار حالاً منه. والثاني: أنه صلة لـ﴿ جَاء ﴾. والثالث: أنه صلة لـ﴿ يَسْعَى ﴾. والأظهر أن يكون صلة لـ﴿ جَاء ﴾. والله أعلم !
وفي الإشارة إلى ﴿ رَجُل ﴾ بلفظ التنكير فائدتان: الأولى: هي تعظيمٌ لشأنه. أي: رجل كامل الرجولة. والثانية: هي بيانٌ لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن بدعوتهم رجل من الرجال، لا معرفة لهم به، فلا يقال: إنهم تواطؤا معه.
وفي تقييد مجيء هذا الرجل بصيغة ﴿ يَسْعَى ﴾، دون صيغة ﴿ سَاعِيًا ﴾، إشارة إلى تجدُّد السَّعْيِ منه، واستمراره دون تعب أو ملل. وفيه تَبْصِرةٌ للمؤمنين، وهدايةٌ لهم ؛ ليكونوا في النصح باذلين جهدهم لنصرة الحق أينما كان.