وقد بدأ هذا الرجل خطابه لقومه بقوله:﴿ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ ﴾. وهو استئناف بياني وقع جوابًا عن سؤال نشأ من حكاية مجيئه ساعيًا ؛ فكأنه قيل: فماذا قال عند مجيئه ؟ فقيل: قال:﴿ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ ﴾. وفيه إشارات لطيفة:
أولها: قوله:﴿ يا قَوْمِ ﴾ ؛ فإنه ينبىء عن إشفاقه عليهم، وإنه لا يريد بهم إلا خيرًا ؛ ولهذا أضافهم إلى نفسه، ولم يقل: يا قومُ ! وأيضًا أراد تأليف قلوبهم، واستمالتها نحو قبول نصيحته.
وثانيها: قوله:﴿ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ ﴾ ؛ فإنه جمع بين إظهار نصحه لقومه، وإظهار إيمانه ؛ لأن قوله:﴿ اتَّبِعُوا ﴾ إظهار للنصح، وأن قوله:﴿ الْمُرْسَلينَ ﴾ إظهار لإيمانه.
وثالثها: أنه قدَّم في قوله السابق إظهار النصح على إظهار الإيمان ؛ لأنه كان ساعيًا في النصح. وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل. وقوله تعالى في حقِّه:﴿ رَجُلٌ يَسْعَى ﴾ يدل على كونه مريدًا للنصح. وممَّا ذكر في حكاية هذا الرجل أنه كان يقول، وهو يقتل: اللهم ! اهدِ قومي. ونظير قوله هذا قول مؤمن آل فرعون:﴿ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾(غافر: ٣٨).
فإن قيل: هذا الرجل قال:﴿ يا قومِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ ﴾، ومؤمن آل فرعون قال:﴿ اتَّبِعُونِ ﴾، فما الفرق بين القولين ؟ والجواب: أن مؤمن آل فرعون كان فيهم، واتبع موسى عليه السلام، ونصح قومه مرارًا، فقال: اتبعوني في الإيمان بموسى، واعلموا أنه لو لم يكن خيرًا، لما اخترته لنفسي، وأنتم تعلمون أني اخترته. وأما صاحب ياسين فلم يكن مع قومه، ولم يعلموا شيئًا عن إيمانه، فبدأ نصحه لهم بقوله:﴿ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ ﴾ الذين أظهروا لكم الدليل، وأوضحوا لكم السبيل. وبهذا يظهر الفرق بين القولين.
وأما قوله:﴿ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ فليس بتكرير- كما قيل- لقوله:﴿ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ ﴾ ؛ لأنه نبَّه أولاً بقوله:﴿ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ ﴾ على موجب الاتباع، وهو كون المتبوع رسولاً لمن لا ينبغي أن يخالف ولا يعصى، وأنه على هداية. ثم نبَّه ثانيًا بقوله﴿ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ﴾ على انتفاء المانع منه، وهو عدم سؤال


الصفحة التالية
Icon