مناصحتهم تلطفًا بهم، ومداراة لهم ؛ ولأنه أدخل في إمحاض النصح، حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، ونبَّه العقول بذلك على أن عبادة العبد لمن فطره أمر واجب، وأن تركها مستهجن، والإخلال بها قبيح ؛ فإن خلق الله تعالى لعباده أصل إنعامه عليهم، ونعمه كلها بعد تابعة لإيجادهم وخلقهم، وقد جبل الله تعالى العقول والفطر على شكر المنعم، ومحبة المحسن.
ثم أقبل هذا الرجل المؤمن على قومه، مخوِّفًا لهم تخويف الناصح، بأن إليه تعالى مرجعهم جميعًا، فيعاقبهم على شركهم. وقدم الجار والمجرور ﴿ إِلَيْهِ ﴾ على الفعل ﴿ تُرْجَعُونَ ﴾ ؛ لإفادة الحصر مبالغة في تخويفهم بالرجوع إلى الله الخالق جل وعلا، لا إلى غيره. وإنما قال:﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾، ولم يقل:﴿ وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ ﴾- كما يقتضيه نظم الكلام- تنبيهًا على أنهم هم المعنيون بهذا الخطاب.
ومن الإشارات اللطيفة التي تضمنها هذا الخطاب قوله:﴿ وَماليَ لا أَعْبُدُ ﴾ ؛ فهو إشارة إلى عدم المانع من العبادة. أي: ما لي مانع من جانبي يمنعني من عبادته. أما قوله:﴿ الّذي فَطَرَني ﴾ فهو إشارة إلى وجود المقتضي للعبادة، وهو كونه فاطرًا. وقدَّم بيان عدم المانع من العبادة على بيان وجود المقتضي لها، لوجود الحاجة إلى الأول، وظهور الثاني.
وفي العدول عن مخاطبة قومه إلى مخاطبة نفسه لطيفة أخرى ؛ وهي أنه لو قال:﴿ وَمَا لَكُمْ لا تَعْبُدُونَ الَّذي فَطَرَكُمْ ﴾، جاز أن يفهم منه أنه يطلب بيان العلة على امتناعهم عن عبادة فاطرهم ؛ كما فهِم ذلك من قول نوح- عليه السلام- لقومه:﴿ مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ﴾( نوح: ١٣) ؛ ولهذا قال:﴿ وَماليَ لا أَعْبُدُ ﴾، مشيرًا إلى بيان عدم المانع.
والفرق بين القولين: أن نوحًا- عليه السلام- كان داعيًا لقومه. أما صاحب ياسين فإنه كان مَدعوًّا إلى الإيمان من قبل المرسلين، فقال:﴿ وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني ﴾، وقد طُلِبَ مني ذلك ؟ أي: لا يوجد عندي مانع يمنعني من الإيمان. فاختلف لذلك وجها


الصفحة التالية
Icon