الكلام.
قال ابن قيِّم الجوزيَّة:« فتأمل هذا الخطاب، كيف تجد تحته- على وجازته- أشرف معنى وأجله، وهو أن كونه سبحانه فاطرًا لعباده يقتضي عبادتهم له، وأن من كان مفطورًا مخلوقًا، فحقيق به أن يعبد فاطره وخالقه ؛ ولا سيما إذا كان مرده إليه، كما كان مبتدأه منه سبحانه. وهذا يوجب عليه التفرغ لعبادته سبحانه وتعالى وحده، لا شريك له ».
وهذا النوع من الخطاب يسميه علماء البيان: التعريض. ويعرفونه بأنه الدلالة على المعنى من طريق المفهوم. وإنما سمَّوْه: تعريضًا ؛ لأن المعنى باعتباره يُفْهَمُ من عرَض اللفظ. يقال: نظر إليه بعَرَض وجهه. أي: بجانبه. ويُسَمَّى: تلويحًا أيضًا ؛ لأن المتكلم يلوِّح منه للسامع ما يريده ؛ كقول تعالى يحكي قول إبراهيم عليه السلام:﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ﴾(الأنبياء: ٦٣)، جوابًا لقولهم:﴿ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ﴾(الأنبياء: ٦٢) ؛ لأن غرضه بقوله:﴿ فَاسْأَلُوهُمْ ﴾ الاستهزاء بهم، وإقامة الحجة عليهم بما عرض لهم به من عجز كبير الأصنام عن الفعل، مستدلاً على ذلك بعدم إجابتهم، إذا سألوا. ولم يرد بقوله:﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ نسْبةَ الفعل الصادر عنه إلى الصنم، فدلالة هذا الكلام عجْزُ كبير الأصنام عن الفعل بطريق الحقيقة.
ومن أقسام هذا النوع من الخطاب: أن يخاطب الشخص، والمراد غيره ؛ سواء كان الخطاب مع نفسه، أو غيره ؛ كقوله تعالى:﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾(الزمر: ٦٥)، وقوله تعالى:﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ﴾(الرعد: ٣٧). فالخطاب في هاتين الآيتين للنبي صلى الله عليه وسلم. والمراد به قومه، تعريضًا بأنهم أشركروا، واتَّبعوا أهواءهم ؛ لأن النبي ﷺ لم يقع منه ذلك، فأبرز غير الحاصل في معرض الحاصل ادِّعاء.
وعلى هذا ورد قوله تعالى:﴿ وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني ﴾، والمراد: مالكم لا تعبدون الذي فطركم. هذا هو أصل الكلام ؛ ولكنه أبرزه في معرض المناصحة لنفسه، وهو