يريد مناصحتهم ؛ ليتلطف بهم، ويريهم أنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه. ثم لما انقضى غرضه من ذلك، قال:﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ؛ ليدل على ما كان من أصل الكلام، ومقتضيًا له. ولولا التعريض، لكان المناسب أن يقول:﴿ وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ ﴾. وهذا وجه حَسَنٌ من أوجه الخطاب في القرآن. ووَجْهُ حُسْنِهِ ظاهرٌ ؛ لأنه يتضمَّن إعلامَ السامع على صورة لا تقتضي مواجهته بالخطاب المُنكَر ؛ وكأنه لم يَعْنِِه هو. ثم هو أعلى في محاسن الأخلاق، وأقرب للقَبُول، وأدْعَى للتواضع. والكلام ممَّن هو رب العالمين، نزَّله بلغتهم، وتعليمًا للذين يعقلون.
وقال هنا:﴿ فَطَرَني ﴾، ولم يقل:﴿ خَلَقَني ﴾ ؛ لأنه أنسب في مقام الحِجَاج ؛ لإثبات إلهية الخالق جل وعلا ووحدانيته، وهو من قولهم: فطَر الشيءَ، إذا ابتدأ إنشاءَه وفتحَه. وأصل الفَطْر: الشَّقُّ طولاً. ومنه قوله تعالى:﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾(الأنعام: ١٤). أي: مبدعهما ابتداءً على غير مثال سابق. وليس كذلك قولنا:« خالق السموات والأرض » ؛ لأن الأصل في الخَلْق أن يكون من شيء ؛ كقوله تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾(الروم: ٢١). وقد يكون من لا شيء كَالفَطْر ؛ نحو قوله تعالى:﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ﴾(آل عمران: ١٩٠).
وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:« ما كنت أدري ما ﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾، حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها. أي: أنا ابتدأت حفرها ». وذكر أبو العباس أنه سمع ابن الأعرابي، يقول:« أنا أول من فطر هذا. أي: أول من ابتدأه ».
ثم احتج عليهم بما تَقِرٌّ به عقولهم وفطرهم من قبْح عبادة غيره، وأنها أقبح شيء في العقل وأنكره، فقال:﴿ أأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ ﴾، فبيَّن أن هذه الآلهة التي تعبد من دون الله تعالى باطلة، وأن عبادتها باطلة ؛ لأن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقت حاجته إليه. فإذا أراده الرحمن الذي فطره بضُرٍّ، لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما ينقذه بها من ذلك الضُّرّ،


الصفحة التالية
Icon