فهو رحمن. وبالنظر إلى الخوف والرجاء فهو يدفع الضر. وثبت بذلك أن غير الله تعالى لا يصلح أن يعبد بوجه من الوجوه ؛ لأن أدنى مراتب المعبود أن يُعَدَّ ليوم كريهة يُرجَى منه فيه دفع ما يقع من ضُرٍّ بالعابد في ذلك اليوم. وغير الله تعالى ليست لديه القدرة على دفع شيء إلا بإذنه وإرادته ؛ كما قال سبحانه:﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾(البقرة: ٢٥٥). فمن يعبد من دون الله آلهة هذا شأنها، يكون في ضلال ظاهر بيِّن، لا يخفي على أحد من ذوي العقول والبصائر. وهذا ما أراده بقوله:﴿ إِنّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ ﴾.
وبعد أن تحدث بلسان الفطرة الصادقة العارفة الواضحة، أعلن قراره بالإيمان في وجه قومه المكذبين المهددين المتوعدين، غيرَ مُبالٍ بالعواقب ؛ لأن صوت الفطرة في قلبه كان أقوى من كل تهديد، ومن كل تكذيب ؛ وذلك قوله:﴿ إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴾. وهو عبارة عن جملتين: الأولى خبرية لفظًا ومعنى. والثانية إنشائية معطوفة على الأولى.
وقيل في تأكيد الأولى: إنهم لم يعلموا من كلامه أنه آمن ؛ بل تردَّدوا في ذلك، لما سمعوا منه ما سمعوا. قال كعب ووهب: إنما قال ذلك لقومه::﴿ إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ ﴾ الذي كفرتم به. وقيل: إنه لما قال لقومه:﴿ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ﴾، رفعوه إلى الملك، وقالوا: قد تبعت عدونا، فطَوَّل الكلام معهم ؛ ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل إلى أن قال: ﴿ إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴾، فوثبوا عليه، فقتلوه.
قال ابن عباس وغيره: خاطب بها قومه، على جهة المبالغة والتنبيه. وقال ابن مسعود: خاطب بها الرسل، على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ للأمر عندهم. فعلى هذا يكون معنى ﴿ فَاسْمَعُونِ ﴾: فاشهدوا. أي: كونوا شهودي بالإيمان. والصواب هو القول الأول.. والله تعالى أعلم !
وقد يقال: لم قال هنا:﴿ إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ ﴾، ولم يقل:﴿ إِنّي آمَنْتُ بِرَبِّي ﴾ ؛ كما قال من قبل:﴿ وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني ﴾ ؟ ويجاب عن ذلك بأنه لما قال هنا:﴿ إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ ﴾، فُهِم منه أنه قال لهم: ربي وربكم واحد، وهو الذي فطرني


الصفحة التالية
Icon