وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }(سبأ: ٤). وهذا الرجل كان من المؤمنين الصالحين ؛ ولذلك وجبت له المغفرة، ووجب له الإكرام.
و﴿ مَا ﴾ في قوله:﴿ بِما غَفَرَ لي رَبّي ﴾ إما موصولة، وإما مصدرية. وكونها موصولة أنسب وأجود ؛ لإبهامها ووقوعها على الجنس العام، وهو- هنا- جنس الذنوب. ولو جعلت مصدرية، لما دلت على هذا المعنى. ولا يجوز تفسيرها- إن كانت موصولة- بـ﴿ الَّذِي ﴾ ؛ لما يُرَاد به من التعيين لِمَا يعقل، والاختصاص به دون غيره ؛ ولأنه لا يقع على الجنس العام، كما تقع عليه ﴿ مَا ﴾. وهذا هو أحد أوجه الفروق الدقيقة بين معنى ﴿ مَا ﴾ هذه، ومعنى ﴿ الَّذِي ﴾.. هكذا كان جزاء المؤمنين الصادقين: غفران من جنس الذنوب كلها، وإكرام يجعل صاحبه مستغنيًا عن كل أحد، ويدفع جميع حاجاته بنفسه.
تاسعًا- أما الكفرة الطغاة فقد كانوا أهون على الله تعالى من أن يهلكهم بأن ينزل عليهم جندًا من السماء ؛ كالحجارة، والريح، وغير ذلك ؛ كما فعل بكفار مكة يوم بدر والخندق. وما كان ليرسل ذلك على الأمم قبلهم، إذا أراد إهلاكهم ؛ بل يبعث عليهم عذابًا يدمرهم. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
﴿ وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ ﴾
وهو خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيه توعُّد لقريش أن يصيبهم ما أصاب قوم هذا الرجل من الهلاك ؛ إذ هذا هو المروِّع لهم من هذا المثل. فنفى الله عز وجل أن يكون أنزل على قوم هذا الرجل، من بعد قتله جندًا من السماء ؛ ليهلكهم، ولله ﴿ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾(الفتح: ٤، و ٧). وما صَحَّ في حكمه الله جل وعلا أن ينزل في إهلاكهم جندًا من جنوده التي لا يعلمها إلا هو ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾(المدّثر: ٣١). فالأمر عند الله تعالى أهون من ذلك بكثير وأيسر.
فـ﴿ مَا ﴾ الأولى نفيٌ لإنزال الجند من السماء على أولئك القوم، أريد به الاستغراق والشمول لكل فرد من أفراد الجنس ؛ ولهذا أدخلت ﴿ مِنْ ﴾ على لفظ ﴿ جُنْدٍ ﴾ في قوله:﴿ مِنْ جُنْدٍ ﴾. و﴿ مَا ﴾ الثانية توكيدٌ للأولى على سبيل الجحد.. والسر في هذا


الصفحة التالية
Icon