وضعَّف أبو حاتم، وكثير من النحويين هذه القراءة، بسبب لحوق تاء التأنيث ؛ إذ الأصل عندهم أن لا يلحق ﴿ كانَ ﴾ تاء التأنيث ؛ لأن الفعل إذا كان مسندًا إلى ما بعد ﴿ إِلاّ ﴾ من المؤنث، لم تلحق العلامة للتأنيث، فيقال: ما قام إلا هند. ولا يجوز: ما قامت إلا هند، عند البصريين إلا في الشعر، وجوزه بعضهم في الكلام على قلة. وقرأ ابن مسعود، وعبد الرحمن بن الأسود:﴿ إِلاّ زقْيَةً واحِدَةً ﴾، بدلاً من:﴿ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً ﴾، من زقا الديك، أو الطائر، إذا صاح.
و﴿ إِذا ﴾ في قوله تعالى:﴿ فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ﴾ هي الفجائية. أي: فاجأهم الخمود إثر الصيحة مباشرة. و﴿ خامِدُونَ ﴾: ساكنون موتى، لاطئون بالأرض. كنَّى به عن سكونهم بعد حياتهم تشبيهًا بالرماد الذي خمدت ناره وطفئت بعد توقُّدها ؛ كما قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ** يحور رمادًا بعد إذ هو طالع
ويسدل الستار على مشهد هؤلاء القوم البائس المهين الذليل. وفي هذه اللحظة الحاسمة التي يختار فيها الإنسان الضلالة على الهداية والباطل على الحقّ، يصِحُّ أن يخاطبهم الله سبحانه وتعالى بقوله:
﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ﴾
وهو تذييل من كلام الله تعالى واقع موقع الرثاء للأقوام المكذبين للرسل، شامل لقوم هذا الرجل المقصودين بسَوْق المثل السابق، واطراد هذا السَنن القبيح فيهم. وقوله تعالى:﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ﴾ نداء للحسرة عليهم ؛ كأنما قيل لها: تعالَيْ يا حسرة ! فهذه من أحوالك التي حقُّك أن تحضري فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل. والمعنى: أنهم أحقاء بأن يتحسَّر عليهم المتحسِّرون، ويتلهَّف على حالهم المتلهِّفون. وأجيز أن يكون ذلك من الله تعالى على سبيل الاستعارة، تعظيمًا للأمر وتهويلاً له. وحينئذٍ يكون كالألفاظ التي وردت في حق الله تعالى ؛ كالضحك والنسيان والسخر والتعجب والتمني. ويعضِّد ذلك قراءة من قرأ:﴿ يَا حَسْرَتَا ﴾ ؛ لأن المعنى عليها: يا حسرتي.


الصفحة التالية
Icon