عطف على قصة التحاور الجاري بين أصحاب القرية والرسل الثلاثة لبيان البون بين حال المعاندين من أهل القرية وحال الرجل المؤمن منهم الذي وعظهم بموعظة بالغة وهو من نفر قليل من أهل القرية.
فلك أن تجعل جملة: [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ] عطفاً على جملة: [جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ] ولك أن تجعلها عطفاً على جملة: [فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ].
والمراد بالمدينة هنا نفس القرية المذكورة في قوله: [أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ] عبر عنها هنا بالمدينة؛ تفتناً، فيكون (أقصى) صفة لمحذوف هو المضاف في المعنى إلى المدينة.
والتقدير: من بعيد المدينة، أي طرف المدينة، وفائدة ذكر أنه جاء من أقصى المدينة الإشارة إلى أن الإيمان بالله ظهر في أهل ربض المدينة قبل ظهوره في قلب المدينة؛ لأن قلب المدينة هو مسكن حكامها وأحبار اليهود وهم أبعد من الإنصاف والنظر في صحة ما يدعوهم إليهم الرسل، وعامة سكانها تبع لعظمائها؛ لتعلقهم بهم، وخشيتهم بأسهم بخلاف سكان أطراف المدينة فهم أقرب إلى الاستقلال بالنظر وقلة اكتراث بالآخرين؛ لأن سكان الأطراف غالبهم عملة أنفسهم لقربهم من البدو.
وبهذا يظهر وجه تقديم: [مِنْ أَقْصَى المَدِيْنَةِ] على [رَجُلٌ] للاهتمام بالثناء على أهل أقصى المدينة.
وأنه قد يوجد الخير في الأطراف ما لا يوجد في الوسط، وأن الإيمان يسبق إليه الضعفاء؛ لأنهم لا يصدهم عن الحق ما فيه أهل السيادة من ترف وعظمة؛ إذ المعتاد أنهم يسكنون وسط المدينة، قال أبو تمام:

كانت هي الوسطَ المحميَّ فاتصلت بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
وأما قوله _تعالى_ في سورة القصص: [وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى] فجاء النظم على الترتيب الأصلي؛ إذ لا داعي إلى التقديم؛ إذ كان ذلك الرجل ناصحاً ولم يكن داعياً للإيمان.
وعلى هذا فهذا الرجل غير مذكور في سفر أعمال الرسل، وهو مما امتاز القرآن بالإعلام به.


الصفحة التالية
Icon