وربما ذهب أصحاب هذا الرأي إلى ما ذهبوا إليه لإثبات أبوة إسماعيل للعرب المستعربة، وأنه أول من تكلم منهم بالعربية التي تعلمها من العرب العاربة، أو لإعطاء نوع من القدسية للغة والخط العربي وحروفه، حيث إنه لما كثر الوضع في الحديث حاول أصحاب كل حرفة إعطاء الشرعية لحرفته، وإضفاء القدسية عليها سواء بوضع الأخبار أو أخذها من أهل الكتاب، وإن كانت لا تقوم على حقائق علمية، فمرةً ذهبوا إلى أن العربية لغة أهل الجنة، ومرةً أخرى إلى أن الحروف العربية نزلت من السماء، وأن من لم يؤمن بها كاملةً وهي (٢٩) حرفاً يكفر، إلى غير ذلك من الكلام غير المبني على أسس علمية أو أخبار صحيحة، فمن تلك الروايات ما ينقله القلقشندي :(قال الشيخ أبو العباس البوني رحمه اللّه في كتابه :(لطائف الإشارات في أسرار الحروف المعلومات) : يروى عن أبي ذر الغفاري أنه قال :(سألت رسول اللّه ﷺ فقلت : يا رسول اللّه، كل نبي مرسل بِمَ يُرسل ؟ قال : بكتاب مُنزل. قلت: يا رسول اللّه، أي كتاب أُنزل على آدم ؟ قال : أ ب ت ث ج إلى آخره. قلت : يا رسول اللّه، كم حرف ؟ قال : تسع وعشرون. قلت : يا رسول اللّه، عددت ثمانية وعشرين، فغضب رسول اللّه ﷺ حتى احمرت عيناه، ثم قال : يا أبا ذر، والذي بعثني بالحق نبيّاً ! ما أنزل اللّه تعالى على آدم إلا تسعة وعشرين حرفاً. قلت : يا رسول اللّه، فيها ألف ولام. فقال عليه السلام : لام ألف حرف واحد، أنزله على آدم في صحيفة واحدة، ومعه سبعون ألف ملك، من خالف لام ألف فقد كفر بما أنزل على آدم ! ومن لم يعد لام ألف فهو بريء منه ! ومن لا يؤمن بالحروف وهي تسعة وعشرون حرفاً لا يخرج من النار أبداً)(٥). وهي رواية موضوعة لا أصل لها(٦).
ويعقب صاحب الأعشى على هذا الخبر بقوله : وهذا الخبر ظاهر في أن المراد منه حروف اللغة العربية فقط، إذ قد أجاب ﷺ أبا ذر بحروف : أ ب ت ث وأثبت منها لام ألف، وليس ذلك في غير حروف العربية. وسذاجة هذا الرأي واضحة فلا حاجة إلى مناقشته أو الوقوف عليه.
الرأي الثاني : أن الخط اختراع، ولهم في ذلك روايتان مشهورتان وهما :
أولاً : أن العرب قد أخذت خطها عن الحيرة، والحيرة أخذته عن الأنبار(٧)، والأنبار عن اليمن ثم نقل إلى مكة وتعلمه من تعلمه وكثر في الناس وتداولوه.


الصفحة التالية
Icon