ويبين الإمام القسطلاني في إرشاد الساري ذلك عند شرحه للحديث بكلام قيم حيث يقول :>... لا نعرف حساب النجوم وتسييرها فلم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، وإنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة لائحة يستوي في معرفتها الحُسَّاب وغيرهم. ثم تم ﷺ هذا المعنى بإشارته بيده من غير لفظ إشارة يفهمها الأخرس والأعجمي (الشهر هكذاو هكذا)، قال الراوي : يعني ﷺ مرةً تسعة وعشرين ومرةً ثلاثين<(٣).
ويشير الإمام ابن كثير إلى هذا المعنى بقوله :>وقال ﷺ :(إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا، وهكذا). أي لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتنا إلى كتاب ولا حساب<(٤).
ومن ناحية أخرى :>هذا الحديث لا يعني نفي الكتابة والحساب نفياً عامّاً شاملاً، وذلك لأن عرب الجاهلية قد كانوا يكتبون ويحسبون، وإنما هو نفي لأن تكون الكتابة وأن يكون الحساب نظاماً عامّاً متبعاً في كل الشؤون كما كان ذلك عند بعض الأمم الأخرى ذات التقاويم الفلكية<(١).
والغريب أن الكثيرين من الباحثين يستشهدون بالمقطع الأول من الحديث على إثبات عدم معرفة العرب للكتابة والقراءة، وأن الجهل كان مطبقاً عليهم، وأنهم كانوا على درجة من الجهل بذلك، بحيث يتم الاعتماد في كل شيء على الحفظ والسماع. وعليه كان الحفظ هو الطريق الأول والأساسي لحفظ القرآن الكريم ونقله، ولم تكن الكتابة إلا شيئاً ثانويّاً لا يلتفت إليه. ولم يكتف هؤلاء في ادعائهم هذا في إلصاق صفة الأمية التامة بالعرب قبل الإسلام فقط، بل إن كلاماً مثل ما قاله الإمام ابن قتيبة ـ رحمه اللّه ـ ليس المقصود به العرب في الجاهلية أو المسلمين في العهد المكي. وإنما صدر ذلك منه في معرض تعليقه على سماح الرسول ﷺ لعبد اللّه بن عمرو بكتابة الحديث. ولا شك أن ذلك كان في العهد المدني ـ وربما في السنوات المدنية الأخيرة ـ حيث قال : وكان غيره من الصحابة أميين لا يكتب منهم إلا الواحد أو الاثنان(٢).