أو كما يقول دروزة في كلام طويل :>من المحتمل أن يكون النبي ﷺ إذ يستدعي أحد كُتابِه لإملاء ما يكون نزل عليه من وحي فوراً، أن لا يكون متيسراً إلا شيء من هذه الوسائل البدائية، فيكتب الكاتب عليها ما يمليه النبي مؤقتاً ريثما ينقله إلى مكانه من سجلات القرآن، مما عبر عنه زيد بن ثابت في الحديث : كنا نؤلف القرآن في عهد رسول اللّه من الرقاع. ومن المحتمل كذلك أن أصحاب رسول الله من أهل المدن أو البادية قد كانوا يكتبون بعض الفصول القرآنية التي يتلقونها عن النبي على قطعة من تلك القطع للتبرك والحفظ والنقل، على اعتبار أنها أبقى على الزمن وأقل تعرضاً للفناء والتمزيق على نحو ما اعتاد المسلمون أن يفعلوا من قديم الأجيال من كتابة الألواح مع بعض التعديل. فلما دُعي المسلمون إلى الإتيان بما عندهم من قرآن بقصد الاستيثاق والضبط والتحرير أتوا بهذه القطع<(١). ويبدو أن المتعلمين كانوا يستعينون بهذه الألواح، لأغراض الكتابة العاجلة بصورة عامة، ثم ينقلون ما فيها إلى الدفاتر(٢). وكل ذلك لم يكن إلا من باب الاحتياط، وإلا فقد كانوا يحفظونه حفظاً، وكان زيد بن ثابت نفسه من الحفظة، والكتبة المعروفين. ومن الذين حضروا العرضة الأخيرة وكان ذلك من أحد وأقوى أسباب اختياره للقيام بجمع القرآن الكريم في عهد الخليفة الأول(٣). وكان يقرئ الناس بها حتى توفي(٤). وحتى قبل ذلك كان كل ما يكتب يوضع في بيت رسول الله ﷺ، وينسخ الكُتَّاب لأنفسهم نسخة منه(٥).
أما لماذا طلب من الآخرين تسليم كل ما عندهم من الصحف والأكتاف والأعساب إذا كان القرآن كله مكتوباً وموجوداً بين أيديهم، فهو ما يجيب عنه الإمام الزركشي بكلام قيم يوضح القصد من جمع مثل هذه الأدوات حيث يقول :>وإنما طلب القرآن متفرقاً ليعارض بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن ليشترك الجميع في علم ما جمع فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء، فلا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا يَشُكُّو في أنه جُمِعَ عن ملأ منهم<(١). حتى الآية التي افتقدها زيد ولم يجدها إلا عند أبي خزيمة، فالراجح في ذلك أنها كانت مكتوبة كما يقول الحافظ العسقلاني :>أن الذي أَشَار إليه أن فقده، فَقْدَ وجودها مكتوبة، لا فَقْدَ وجودها محفوظة، بل كانت محفوظة عنده وعند غيره<(٢).


الصفحة التالية
Icon