وظاهره يقتضي أنها بدعة؛ لأن الذين ترهبوا قبل الإسلام إنما فعلوا ذلك فرارًا منهم بدينهم، ثم سميت بدعة، والندب إليها يقتضي أن لا ابتداع فيها، فكيف يجتمعان ؟!.
ولكن للمسألة فقه يذكر بحول الله.
وقيل: إن معنى قوله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا﴾(١)أنهم تركوا الحق، وأكلوا لحوم الخنازير، وشربوا الخمر، ولم يغتسلوا من جنابة، وتركوا الختان ﴿فَمَا رَعَوْهَا﴾(٢)يعني: الطاعة والملة، ﴿حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾(٣)فالهاء راجعة إلى غير مذكور وهو الملة، المفهوم معناها من قوله: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾(٤)؛ لأنه يفهم منه أن ثَم ملة متبعة كما دل قوله: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ﴾(٥)على الشمس حتى عاد عليها الضمير في قوله تعالى: ﴿تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾(٦)وكان المعنى على هذا القول: ما كتبناها عليهم على هذا الوجه الذي فعلوه، وإنما أمرناهم بالحق، فالبدعة فيه إذًا حقيقية لا إضافية.
وعلى كل تقدير فهذا الوجه هو الذي قال به أكثر العلماء، فلا نظر فيه بالنسبة إلى هذه الأمة"(٧).
تبين لنا من هذا المبحث أن الإمام أبا إسحاق له آراء في التفسير، ومناقشات، وأنه ليس مجرد ناقل، يأخذ كل ما قيل مسلما، بل يناقش، ويشرح، ويأتي بالجديد، وما ذكرته أمثلة من كتاب واحد له، هو "الاعتصام" وما ذكره من الآراء والمناقشات في كتابه "الموافقات" أضعاف أضعاف ما جاء به في "الاعتصام".
المبحث السادس: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في نحو القرآن وبلاغته
(٢) سورة الحديد، الآية: ٢٧.
(٣) سورة الحديد، الآية: ٢٧.
(٤) سورة الحديد، الآية: ٢٧.
(٥) سورة ص، الآية: ٣١.
(٦) سورة ص، الآية: ٣٢.
(٧) الاعتصام (١/٣٧٠ - ٣٧٤).