تذكرنا بما كان لقريش من ثقة بصدق محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وأمانته. فلما أن دعاهم إلى ربوبية اللّه وحده تنكروا له كما تنكر قوم صالح، وقالوا : ساحر. وقالوا : مفتر. ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه! إنها طبيعة واحدة، ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور..
ويقول صالح كما قال جده نوح :«قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من اللّه إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير»..
يا قوم : ماذا ترون إن كنت أجد في نفسي حقيقة ربي واضحة بينة، تجعلني على يقين من أن هذا هو الطريق؟ وآتاني منه رحمة فاختارني لرسالته وأمدني بالخصائص التي تؤهلني لها. فمن ينصرني من اللّه إن أنا عصيته فقصرت في إبلاغكم دعوته، احتفاظا برجائكم فيّ؟ أفنافعي هذا الرجاء وناصري من اللّه؟ كلا :
«فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ»..
ما تزيدونني إلا خسارة على خسارة.. غضب اللّه وحرماني شرف الرسالة وخزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وهي خسارة بعد خسارة. ولا شيء إلا التخسير! والتثقيل والتشديد! «وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ» ولا يذكر السياق صفة لهذه الناقة التي أشار إليها صالح لتكون آية لهم وعلامة. ولكن في إضافتها للّه :
«هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ» وفي تخصيصها لهم :«لكم آية» ما يشير إلى أنها كانت ذات صفة خاصة مميزة، يعلمون بها أنها آية لهم من اللّه. ونكتفي بهذا دون الخوض في ذلك الخضم من الأساطير والإسرائيليات التي تفرقت بها أقوال المفسرين حول ناقة صالح فيما مضى وفيما سيجي ء! «هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً. فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ»..
وإلا فسيعاجلكم العذاب. يدل على هذه المعاجلة فاء الترتيب في العبارة. ولفظ قريب :«فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ»..
يأخذكم أخذا. وهي حركة أشد من المس أو الوقوع.
«فَعَقَرُوها.. فَقالَ : تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ»..
ودل عقرهم للناقة، أي ضربهم لها بالسيف في قوائمها وقتلها على هذا النحو. دل على فساد قلوبهم واستهتارهم. والسياق هنا لا يطيل بين إعطائهم الناقة وعقرهم إياها، لأنها لم تحدث في نفوسهم تجاه الدعوة تغييرا يذكر. ثم ليتابع السياق عجلة العذاب. فهو يعبر هنا بفاء التعقيب في كل الخطوات :
«فَعَقَرُوها. فَقالَ : تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ»..
فهي آخر ما بقي لكم من متاع هذه الدنيا ومن أيام هذه الحياة :«ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ»..
فهو وعد صادق لن يحيد..