ما زالت قائمة حتى الآن، ولم يفلح حتى حواريوه وتلاميذه من الفكاك منها بفعل ضغوط الواقع وربما غياب الوعي بالقيمة المستقبلية لفكر سيد قطب.
سيد قطب كان ـ في تقديري ـ هو اللحظة الفارقة في تاريخ الفكر الإسلامي والعربي الحديث، بحيث يمكن أن يؤرخ المؤرخون للفكر العربي والإسلامي الحديث بهذه اللحظة، ما قبل سيد قطب وما بعد سيد قطب. وبإيجاز نأمل أن يتابعه من وهبه الله سعة الوقت والنشاط الذهني.
أقول: إن الفكر العربي والإسلامي بدأ رحلته في التاريخ الحديث بحال الصدمة والذهول أمام اكتشافه الفارق الحضاري الكبير بينه وبين العالم الغربي، ووقع التمزق النفسي بين ما يؤمن به ويدين الله تعالى به من أن دينه هو الدين، وأن نوره هو النور، وأن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، وأن أمته هي الأعلى بالإيمان، وبين الواقع الذي انكشف أمامه بهول الفارق بين ذلته وعلو الآخرين، وهوانه واستكبار الآخرين، وضعفه وقوة الآخرين، وفوضاه وعبقرية نظام الآخرين، وتخلفه وتقدم الآخرين، هذه الصدمة المذهلة للعقل والمربكة للوجدان انعكست في أفكار ذلك الجيل فوقعت سلسلة الانهيارات الفكرية والعقدية التي طال الحديث عنها، وانتشر فيمن أرخوا لتلك المرحلة، بدء من رحلة رفاعة الطهطاوي مرورًا بانكسارات الشيخ محمد عبده ومدرسته بما فيها كتابات قاسم أمين، وانتهاء بإحباطات طه حسين الذي رأى في النهاية أن النهوض بأمة المسلمين يكون باتباع أوربا في خيرها وشرها على السواء، هذا التراث كله يصعب أن يتوقف المتأمل أمامه بمجرد النقد والاشتباك الفكري لدحض منطقه وتسفيه منطلقاته والكشف عن فساد منهجه، وإن كان كل ذلك مطلوبًا بالتبعية، ولكن الأهم هو تأمل اللحظة التاريخية التي ولد فيها هذا الفكر، وأبعادها النفسية، أن تتعايش مع أصحابها وتفهم نزعاتهم والمؤثرات النفسية والاجتماعية التي أثرت عليهم قبل أن تناقش أفكارهم، لقد كان تراثهم حالة نفسية واجتماعية أكثر منها حالة فكرية.
ومع اقتراب القرن العشرين الميلادي من انتصافه بدأت تظهر في الأفق علامات وعي جديد، بكتابات نقدية لتراث الصدمة والذهول، كانت مقدماتها في التراجع الذي لاحظه مؤرخو الفكر على نزعات الكتابة عند طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وعلي عبد الرازق وآخرين، كانت هناك عودة إلى التراث الإسلامي، ومشاعر اعتزاز به، وافتخار بعطاء الأمة الكبير، وكان كل ذلك غائبًا عن كتابات لحظة الصدمة، وبدأ الوعي بمشكلات الحضارة الغربية، وتأملات نقدية في بنيتها وأمراضها النفسية والاجتماعية ونفاقها ووحشيتها التي حاولت إخفاءها بالترويج الكاذب لمعاني الإنسانية وحقوق الإنسان، كما أن هناك كتابات نقدية للأجيال الجديدة كانت أكثر جرأة وجسارة في نقد تراث مرحلة الصدمة في المنطقة العربية، ولعله في مقدمة هذه الكتابات مؤلفات الدكتور محمد محمد حسين يرحمه الله، وخاصة كتابه المهم "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" والذي هاجم فيه بضراوة وعنف ـ له ما يبرره ـ أفكار تلك المرحلة وأشخاصها، ولعل عنف الرجل


الصفحة التالية
Icon