يرجع إلى إحساسه بأن هالات القداسة التي حاول الإعلام العربي إضفاءها على رموز ذلك الجيل لا يمكن إسقاطها وكشف كذبها وزيفها إلا بهذا القدر من الوضوح ومن الصرامة الفكرية، كذلك كانت هناك جهود كبيرة وصبورة للراحل الكبير الأستاذ أنور الجندي، وأعتقد أن جهود أنور الجندي مع جهود محمد حسين صاحب الكتاب الشهير الآخر " حصوننا مهددة من داخلها " قد أديا الغرض بكفاءة عالية، وإن كانا لم يمحوا آثار وعي الصدمة عن الواقع العربي وحتى الفكر الإسلامي، خاصة في ظل صعود نجم الاشتراكية والفكر القومي والذي وصل من إبهاره إلى حد انكسار أفكار الإسلاميين أنفسهم وانجذابهم إلى "القطب" الجديد، حتى ولو كان برؤية نقدية، ولعلنا نذكر الكتابات التي عرفتها الستينات الميلادية من القرن الماضي، والتي حاولت الربط بين الإسلام والاشتراكية أو الإسلام والقومية، وكان من أبرزها كتاب الراحل الكبير مصطفى السباعي ـ يرحمه الله ـ عن " اشتراكية الإسلام".
في هذه اللحظة التاريخية ظهرت كتابات سيد قطب الأخيرة، والتي مثلت القفزة الروحية والفكرية الرائعة التي نقلت الوعي الإسلامي والوجدان الإسلامي من الانجذاب إلى الواقع وتراث الصدمة بكل آثاره وذيوله إلى أفق جديد وبعيد، لا تشوبه أية شائبة من ذلك التراث المهزوم والمأزوم، أتى سيد قطب لكي يقول للجيل الجديد بثبات مدهش وبساطة مفعمة بالثقة بالله ودينه وكتابه إن كل ذلك ركام من الفكر الضال، بعد عن الحق والحقيقة قدر بعده عن نور الله وهديه. ثم أخذ بيد قارئه إلى هناك، حيث النبع الصافي " الوحي الإلهي" لكي يعيد إلى قلب المؤمن بشاشة الإيمان، وإلى عقل المؤمن بهاء الفكرة القرآنية، ثم يكشف له عن خواء حضارة " الإنسان " الجديدة، وأن إبهارها كاذب، وأن عوراتها مفضوحة، وأنها " محض جاهلية " لا تخفي وحشيتها وانحرافها وبعدها عن " إنسانية الإنسان " كل مساحيق التجميل الحضارية.
عندما كشف سيد قطب زيف الحضارة الجديدة، لم يفعل ذلك مجرد حماسة، رغم العاطفة المشبوبة في كلماته ونبضها ؛ بل كان يقدم خطابًا فكريًّا عاقلا لا يسع أصحاب التأمل الفكري الفكاك من حجيته وسلامة منطقه، كما أنها كانت رؤى نقدية من بصير وخبير بتلك الحضارة، معايشة لها أيام سفره في أمريكا، وقراءة متأملة في كتابات مفكريها وروادها، كذلك كانت من العلامات الفارقة لكتابات سيد قطب عن الحضارة الغربية، وهي من النقلات التي لم يعرفها الفكر العربي قبله، أنه لم يكتب ما يكتب من منطلق الدفاع أو دفع التهمة عن دينه وأمته ؛ بل كان يكتب من منطلق استعلاء إيماني رائع وغير متكلف على هذا الواقع المنحرف الجديد الذي شكلته في عالم البشر الحضارة الغربية، كان يهاجم وينتقد دون أي حاجة إلى دفاع أو مرافعة عن حضارته ودينه وأمته، هذا لم يحدث قبل سيد قطب أبدًا. في تاريخ الفكر العربي الحديث، كانت الكتابات حتى التي تهاجم الحضارة الغربية والفكر الغربي ـ على ندرتها ـ كانت دفاعية تعتذر عن ذاتها مع نقدها للآخرين، ويذكر