ولا داعي للقول بأن هذا الأمر بالذكر في هذه الآونة قد كان قبل فرض الصلاة المكتوبة في أوقاتها المعلومة.
مما يوحي بأن فرض الصلاة المكتوبة قد أغنى عن هذا الأمر في هذه الآونة. فهذا الذكر أشمل من الصلاة، وأوقاته ليست مقصورة على مواقيت الصلاة المكتوبة. كما أنه قد يكون في صور غير صورة الصلاة - المكتوبة وغير المكتوبة - في صورة الذكر بالقلب، أو بالقلب واللسان دون بقية حركات الصلاة.. بل إنه لأشمل من ذلك كذلك. إنه التذكر الدائم والاستحضار الدائم لجلال اللّه - سبحانه - ومراقبته في السر والعلن، وفي الصغيرة والكبيرة، وفي الحركة والسكنة، وفي العمل والنية.. وإنما ذكر البكرة والأصيل والليل.. لما في هذه الآونة من مؤثرات خاصة يعلم اللّه ما تصنع في القلب البشري، الذي يعلم خالقه فطرته وطبيعة تكوينه! «وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ»..
الغافلين عن ذكر اللّه.. لا بالشفة واللسان، ولكن بالقلب والجنان.. الذكر الذي يخفق به القلب فلا يسلك صاحبه طريقا يخجل أن يطلع عليه اللّه فيه ويتحرك حركة يخجل أن يراه اللّه عليها ولا يأتي صغيرة أو كبيرة إلا وحساب اللّه فيها.. فذلك هو الذكر الذي يرد به الأمر هنا وإلا فما هو ذكر للّه، إذا كان لا يؤدي إلى الطاعة والعمل والسلوك والاتباع.
اذكر ربك ولا تغفل عن ذكره ولا يغفل قلبك عن مراقبته فالإنسان أحوج إلى أن يظل على اتصال بربه، ليتقوى على نزغات الشيطان :«وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». ولقد كانت السورة من قبل معرضا للمعركة بين الإنسان والشيطان في أوائلها، وظل سياقها يعرض موكب الإيمان وشياطين الجن والإنس تعترض طريقه، كما ذكر الشيطان في نبأ الذي آتاه اللّه آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. وكما ذكر في أواخرها نزغ الشيطان والاستعاذة منه باللّه السميع العليم.. وهو سياق متصل، ينتهي بالتوجيه إلى ذكر اللّه تضرعا وخيفة، والنهي عن الغفلة.. ويأتي هذا الأمر وهذا النهي في صدد توجيه اللّه سبحانه لرسوله - صلى اللّه عليه وسلم - أن يأخذ العفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين.. فإذا هو تكملة لمعالم الطريق، وتزويد لصاحب الدعوة بالزاد الذي يقوى به على مشاق الطريق..
ثم يضرب اللّه مثلا بالذين عنده من الملائكة المقربين : الذين لا ينزغ في أنفسهم شيطان، فليس له في تركيب طبيعتهم مكان! ولا تستبد بهم نزوة، ولا تغلبهم شهوة. ومع هذا فهم دائبون على تسبيح اللّه وذكره، لا يستكبرون عن عبادته ولا يقصرون. وللإنسان أحوج منهم إلى الذكر والعبادة والتسبيح. وطريقه شاق! وطبيعته قابلة لنزغ الشيطان! وقابلة للغفلة المردية! وجهده محدود. لولا هذا الزاد في الطريق الكؤود :«إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ. وَيُسَبِّحُونَهُ. وَلَهُ يَسْجُدُونَ»..
إن العبادة والذكر عنصر أساسي في منهج هذا الدين.. إنه ليس منهج معرفة نظرية. وجدل لاهوتي.