فأما الجهة الأولى فمرجعها إلى ما يسمى بالطرف الأعلى من البلاغة والفصاحة، وهو المصطلح على تسميته حد الإعجاز، فلقد كان منتهى التنافس عند العرب بمقدار التفوق في البلاغة والفصاحة، وقد وصف أئمة البلاغة والأدب هذين الأمرين بما دون له علما المعاني والبيان، وتصدوا في خلال ذلك للموازنة بين ما ورد في القرآن من ضروب البلاغة وبين أبلغ ما حفظ عن العرب من ذلك مما عد في أقصى درجاتها. وقد تصدى أمثال أبي بكر الباقلاني وأبي هلال العسكري وعبد القاهر والسكاكي وابن الأثير، إلى الموازنة بين ما ورد في القرآن وبين ما بلغ في بليغ كلام العرب من بعض فنون البلاغة بما فيه مقنع للمتأمل، ومثل للمتمثل. وليس من حظ الواصف إعجاز القرآن وصفا جماليا كصنعنا ههنا أن يصف هذه الجهة وصفا مفصلا لكثرة أفانينها، فحسبنا أن نحيل في تحصيل كلياتها وقواعدها على الكتب المجعولة لذلك مثل دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، والقسم الثالث فما بعده من المفتاح، ونحو ذلك، وأن نحيل في تفاصيلها الواصفة لإعجاز آي القرآن على التفاسير المؤلفة في ذلك وعمدتها كتاب الكشاف للعلامة الزمخشري، وما سنستنبطه ونبتكره في تفسيرنا هذا إن شاء الله، غير أني ذاكر هنا أصولا لنواحي إعجازه من هذه الجهة وبخاصة ما لم يذكره الأئمة أو أجملوا في ذكره.
وحسبنا هنا الدليل الإجمالي وهو أن الله تعالى تحدى بلغاءهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يتعرض واحد إلى معارضته، اعترافا بالحق وربئا بأنفسهم عن التعريض بالنفس إلى الافتضاح، مع أنهم أهل القدرة في أفانين الكلام نظما ونثرا، وترغيبا وزجرا، قد خصوا من بين الأمم بقوة الذهن وشدة الحافظة وفصاحة اللسان وتبيان المعاني، فلا يستصعب عليهم سابق من المعاني، ولا يجمح بهم عسير من المقامات.


الصفحة التالية
Icon