إن المقام قد يقتضي شيئين متساويين أو أشياء متساوية فيكون البليغ مخيرا في أحدهما وله ذكرهما تفننا وقد وقع في القرآن كثير من هذا: من ذلك قوله ) وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا( بواو العطف في سورة البقرة، وقوله في الأعراف )فكلا( بفاء التفريع وكلاهما مطابق للمقام فإنه أمر ثان وهو أمر مفرع على الإسكان فيجوز أن يحكي بكل من الاعتبارين، ومنه قوله في سورة البقرة )وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية وكلوا منها( وفي سورة الأعراف )وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية فكلوا منها( فعبر مرة ب)ادخلوا( ومرة ب)اسكنوا( وعبر مرة بواو العطف ومرة بفاء التفريع.
وهذا التخالف بين الشيئين يقصد لتلوين المعاني المعادة حتى لا تخلو إعادتها عن تجدد معنى وتغاير أسلوب، فلا تكون إعادتها مجرد تذكير.
قال في الكشاف في تفسير قوله تعالى )إن ربي يعلم القول في السماء والأرض( في سورة الأنبياء: ليس بواجب ان يجاء بالآكد في كل موضع ولكن يجاء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى كما يجاء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتنانا.
ومنها اتساع أدب اللغة في القرآن. لم يكن أدب العرب السائر فيهم غير الشعر، فهو الذي يحفظ وينقل ويسير في الآفاق، وله أسلوب خاص من انتقاء الألفاظ وإبداع المعاني، وكان غيره من الكلام عسير العلوق بالحوافظ، وكان الشعر خاصا بأغراض وأبواب معروفة أشهرها وأكثرها النسيب والحماسة والرثاء والهجاء والفخر، وأبواب أخر لهم فيها شعر قليل وهي الملح والمديح. ولهم من غير الشعر الخطب، والأمثال، والمحاورات: فأما الخطب فكانت تنسى بانتهاء المقامات المقولة فيها فلا يحفظ من ألفاظها شيء، وإنما يبقي في السامعين التأثر بمقاصدها زمانا قليلا للعمل به فتأثر المخاطبين بها جزئي ووقتي.