صفحة : ١٨
إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى )وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين( فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية. فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية. وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية.
وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعي المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.
فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بينا وتعبدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال: )كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته، وليتذكر أولوا الألباب( سواء قلنا إنه يمكن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى وهو قول علمائنا والمشائخي والسكاكي وهما من المعتزلة، أم قال قائل بقول بقية المعتزلة إن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى غير ممكن وهو خلاف لا طائل تحته إذ القصد هو الإمكان الوقوعي لا العقلي، فلا مانع من التكليف باستقصاء البحث عنه بحسب الطاقة ومبلغ العلم مع تعذر الاطلاع على تمامه.