ولنا في الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ أسوة في ذلك فلقد ذاق الصحابة حلاوة الانشغال بالقرآن، وأدركوا قيمته، وشاهدوا ثمرة ذلك في واقعهم الذي تغير تغيرًا جذريًا، وأصبحوا شخصيات أخرى غير تلك التي كانت قبل إسلامهم، وكأنهم ولدوا من جديد، ومن هنا كان حرصهم الشديد على تبليغ هذه الرسالة إلى من بعدهم، وكانوا ينزعجون من انشغال الناس بشئ غير القرآن.
فهذا عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يأتيه اثنان من التابعين بصحيفة يريدان منه أن يقرأها ويقولان له :
هذه صحيفة فيها كلام حسن، فقال: هاتها، يا خادم: هاتى الطست فاسكبي فيها الماء، فجعل يمحوها بيده، ويقول: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ" [يوسف: ٣] فقلنا: انظر فيها فإن فيها كلامًا عجبًا، فجعل يمحوها ويقول: إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره.(١)٢).
والقرآن كما قال محمد بن واسع : بستان العارفين، فأينما حلُّوا منه حلُّوا في نزهة.
وللعودة إليه لابد من اتباع عدة أمور:
أولاً: بالتضرع إلى الله والإكثار من الدعاء بطلب العون منه ـ سبحانه ـ على حفظ القرآن، والإلحاح في الدعاء من أعظم آداب الدعاء.
ثانيًا: بجعل وِرْد يومي يتلى فيه القرآن، وحبذا أن يكون ذلك في بداية اليوم. ولا يشغل الحفظ عن التلاوة، فإن التلاوة وقود الحفظ.
ثالثًا: المداومة على أذكار الصباح والمساء والنوم، وكذلك المداومة على الأذكار التي تحفظ المسلم ـ بإذن الله ـ من الشيطان، فإن الذكر عدو الشيطان قال تعالى: "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ" [المائدة آية ٩١].

(١) فضائل القرآن لأبي عبيد/ ٧٣ ـ ط/ دار بن كثير ـ دمشق


الصفحة التالية
Icon