فمعايشةُ القرآنِ الكريمِ : مِنْ أعظمِ السُّبُلِ إلى فهمِ أحكامِهِ والوقوفِ على معانيه وإدراك حِكَمِهِ ومراميه، ومن تأمل على سبيل المثالِ في العواملِ التي أعانت الصحابة على التعمُّق في فهم كلام الله لوجد من أهمِّها معايشتَهُمْ للقرآن وحياتَهُم في ظلاله يتنسَّمُون عبيره وشذاه، ويترسَّمون سبيلَهُ وهُداه، ويقتبسون من أنواره، ويقتطفون من أزهاره، ويجتنونَ من ثماره.
و لقد أدرك العلماءُ قيمةَ تفسيرهم وأثنَوا على عمقِ فهمِهِم وَحُسْنِ تدُّبرهم :
وفي ذلك : يقول الإمام الشاطبيُّ وقد أرجَعَ نبوغَهم في التفسير إلى أمرينِ :" أحدهما : معرفتهم باللسان العربي فإنهم عرب فصحاء لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم، فإذا جاء عنهم قولٌ أو عملٌ واقعٌ موقعَ البيانِ صَحَّ اعتمادُهُ من هذه الجهة.
والثاني : مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة، فهم أقعدُ في فهمِ القرائنِ الحاليَّةِ وأعرفُ بأسبابِ التنزيلِ، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهدُ يرى ما لا يرى الغائبُ، فمتى جاء عنهم تقييدُ بعضِ المطلَقَاتِ أو تخصيصُ بعضِ العموماتِ فالعملُ عليهِ صوابٌ، وهذا إن لم ينقلْ عن أحدٍ منهم خلافٌ في المسألةِ فإن خالفَ بعضُهُم : فالمسألةُ اجتهادِيَّةٌ " (١٨).
" فلقد كانت الآيات تتنزَّلُ في أمورٍ باشرُوها بأيديهم أو أبصرُوها بأعينِهِم، أو خاضوا غِمَارَها فعاشوا حُلْوَهَا وَمُرَّهَا، وَفَرَحَهَا وَحُزْنَهَا، وكابدوا معاناتَهَا، وأدركوا ملابساتِهَا، فكانت الآياتُ تقعُ في قلوبهم مواقِعَهَا، فعنها يَصْدُرُون، وإليها يَرِدُون ورودَ الظامئ إِلى الماءِ الباردِ " (١٩).


الصفحة التالية
Icon