فالمفسرُ الناجحُ هو الذي يجعلُ من مقاصدِ القرآنِ وأهدافِهِ مقاصدَ له وأهدافًا، فالقرآنُ الكريمُ رسالةُ الله إلى البشرِ، وفي ثناياهُ نظامٌ شاملٌ وتشريعٌ كاملٌ ومنهجٌ واقعيٌّ يُراعِي الفطرةَ الإنسانيةَ بما تحقِّقُهُ تعاليمُهُ من توازنٍ بين متطلباتِ الروحِ والجسدِ وبينَ مصالح الفردِ والمجتمعِ، منهجٌ أمثلُ يقودُ الإنسانيةَ إلى الخيرِ ويسعَى بها إلى الفلاحِ وَيَضْمَنُ لها السعادةَ في الدنيا والآخرة.
وحينما تمسَّكَ المسلمون الأوائلُ بكتابِ ربِّهِم عاشوا حياةً آمنةً مطمئنةً، هادئةً هانئةً، سعيدةًً رغيدةً، وَبَنَوا حضارةً واسعةَ الآفاقِ أصيلةَ الأعراقِ وارفةَ الظلالِ (٢٨).
ومنهجُ القرآنِ يختلفُ عن المناهجِ القاصرةِ، الوضعيةِ الجائرةِ، النظريةِ الوهميةِ، التي لا تطبيقَ لها إلا في عالمِ المُثُلِ والخيالاتِ، تلك العوالمُ المعدومةُ، التي صوَّرَهَا لنا فلاسفةٌ فََبَنَوا لنا مدائنَ من الرمال على شواطئ الأحلامِ، وشيَّدوا لنا ممالك من الأساطير والأوهام.
كيفَ وبينَ أيدينا منهجٌ ربانيٌّ فطريٌّ واقعيٌّ ؟ ما أحوجنا إلى التمسك به ! لكنَّ كثيرا من الناسِ في غفلةٍ أو إعراضٍ عنه : وحالُهم : كما قال طُرْفَةُ بنُ العبدِ :
كالعيسِ في البيداءِ يقتُلُهَا الظَمَا والماءُ فوقَ ظُهُورِهَا محمولُ.
أو كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي :
فَقُلْ لرسولِ اللهِ ! يا خيرَ مُرْسَلٍ أَبُثُّكَ مَا أَشْكُو مِنَ الحَسَرَاتِ
شُعُوبُكَ في شرقِ البلادِ وَغَرْبِهَا كَأَصْحَابِ كَهْفٍ في عَمِيقِ سُبَاتِ
بِأَيمَانِهِمْ نُورَانِ ذِكْرٌ وَسُنَّةٌ فَمَا بَالهُم في حَالِكِ الظُّلُمَاتِ.
نعم ! بين أيدينا منهجٌ ربانيٌّ ما أحوجنا إلى أن نحسنَ التعاملَ معه حتى نستخلصَ فوائدَهُ ونستلْهِمَ فرائدَهُ، فهو أساسُ نهضتنا، ونبراسُ حضارتنا، ومنطلقُ أمجادِنَا، ودُستورُ وَحْدَتِنَا :(٢٩)


الصفحة التالية
Icon