وكان في حبسه يقول: (لو بذلت مثل هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة)، أو قال: (ما جازيتهم على ما ساقوا إلي من الخير). والمحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه. انظر (الذيل على طبقات الحنابلة) (٢/٤٠٥) لتعلم كم بقي الشيخ في سجن القلعة. وانظر ما هَذَى به ابن بطوطة في حق شيخ الإسلام في (رحلته ص ١١٢/١١٣) مع الجواب عن تلك الفرية من كلام شيخ الإسلام نفسه وكلام أهل العلم وكم كذبوا على الشيخ، وبهتوه وَقَوّلُوهُ أشياء هو بريء منها، والأمر كما قال تلميذه ابن القيم :
فالبُهْتُ عندكم رخيصٌ سِعْرُهْ * حَثُّوا بلا كيل ولا ميزان
وبهتوا وكذبوا على تلميذه ابن القيم فسجن مع شيخه، ومرة وحده. قال ابن رجب في (الذيل على طبقات الحنابلة) (٢/٤٤٨): (وكان ابن القيم في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر، ففُتح عليه من ذلك خيرٌ كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف والدخول في غوامضهم، وتصانيفه ممتلئة بذلك). وهو القائل في (فوائده (٤٤٩) :(يا مخنث العزم أين أنت؟، والطريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إِسماعيلُ، وبيع يوسفُ بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكرياء، وذبح السيد الحصورُ يحيي، وقاسى الضُّرَّ أيوب، وزاد على المقدار بكاءُ داودَ، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقرَ وأنواعَ الأذى محمد r تُزهى أنت باللهو واللعب؟).
ثم ذكر فيه أيضاً قوله: (سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله؛ أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟. فقال الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً فلما صبروا مكنهم). إلى الله المشتكى. وصدق من قال:
ربما تجزع النفوس من الأمر * له فرجة كحل العقال


الصفحة التالية
Icon