ولما كان القرآن الكريم أساس حضارة إنسانية كبرى ومبعث ثورة نفسية وعقلية نقلت تاريخ العالم كله من طور إلى طور. فنحن نريد أن نلمع على عجل إلى بعض خصائص الحركات التي لها في الحياة آثار غائرة. إن نجاح النهضات وبقاءها يرتبطان بمقدار ما تستند إليه من مشاعر وأفكار، بل إن الارتقاء الصحيح لا يكون إلا معتمدًا على خصب المشاعر ونضارة الأفكار. ولذلك لابد في الثورات الاجتماعية الكبرى من ثورات أدبية، تمهد لها، وتملأ النفوس والعقول إيمانًا بها.. وقد تعتري الأمم هزات موقوتة، أو انكسارات وانتصارات سريعة، وقد يصيب الحضارات مد وجزر لأسباب شخصية أو محلية. وذلك كله ينظر إليه المؤرخون نظرة عابرة، ولا ينتظرون من ورائه نتائج بعيدة المدى. أما النهضات التي تصحبها يقظات إنسانية واسعة، وتحف بها عواطف جياشه ونظرات عميقة؛ فهي أمر له خطره، وله ما بعده !! فنحن مثلاً ننظر إلى صنيع " محمد علي باشا " والي مصر منذ قرن ـ فنرى الرجل أحدث تغيرًا شاملاً في البلاد، وبلغت فتوحه العسكرية حدًّا لم تعرفه مصر بضعة قرون، حتى إن الرجل ملأ قلوب أعدائه بالفزع، فأبت الدول الكبرى وساقت عليه قواها مجتمعة، فهزمته برًّا وبحرًا. وما إن مات الرجل حتى ماتت معه النهضة التي صنعها! لماذا ؟ لأنها نهضة لم تنبجس عن المشاعر العامة، ولم يمش بين يديها وخلفها حشد من الأقلام الباعثة، والألسنة الناصحة. ولم يلتف حولها العلماء والأدباء، يصلون جذورها بالتربة التي تحفظ عليها الحياة، إن لم تحفظ عليها النماء والامتداد. قارن بين هذه الحركة التي قام بها الجندي التركي " محمد علي باشا " وبين الحركة التي عاصرته أو سبقته بسنين، أعني حركة حقوق الإنسان التي قامت في فرنسا، والتي مهد لها، وأشرف عليها كتاب وخطباء غرسوا في الدماء حب الحرية، وكراهية الظلم، وكانت مقالاتهم لهبًا يؤجج الجماهير، وينير لها المستقبل إن عزت إنارة الحاضر. ص _٠١٣