عدم وجوده. ص _١٠٢
وهنا المزلق. فالمؤرخون قسمان: قسم لا يؤمن بالقرآن الكريم ولا يتخذ وحيه دينًا. وهذا يقول: إن القرآن لا يصح أن يكون- عنده - كتابًا تاريخيًّا يعتمد عليه في بحوثه الفنية المجردة عن أي اعتبار آخر. وهو معذور في هذا القول، ولا ينتظر منه غيره؛ لأنه لم يلتزم التصديق ولا الإيمان بالقرآن من قبل. وقسم آمن بالقرآن وقام عنده الدليل على صدقه. وعليه حينئذ واجبان: أولهما: أن يكون أصدق الأدلة التاريخية عنده وأثبتها، ما جاء في القرآن عن الأمم والعصور التي أرخ لها أو تناولتها آياته.. وثانيها أن يرد عنه تكذيب الصنف! الأول إن حاولوا ذلك أو أرادوه، وأن يقيم لهم الدليل على خطئهم بالأسلوب التاريخي الفني ولن يعجزه ذلك متى أراده. ولكن بعض الباحثين من هذا القسم يحلو له أن يتشبه بأولئك، فيجرف من شخصيته المؤمنة بالقرآن شخصية أخرى يدعي أنها تاريخية لا تهتم بأي اعتبار آخر، ثم يمضي في بحثه متقمصًا هذه الشخصية الجديدة، وينسى تمامًا شخصيته الأولى فيزل ويهوى. ولو عاد فذكر شخصيته المؤمنة، وعقب على بحثه المجرد بما يفيد إيمانه بصدد هذا التاريخ القرآني، ثم ناضل عن ذلك ودعمه بالأسلوب العلمي لقام ذلك عذرًا له أمام إيمانه أولاً، وأمام الناس بعد ذلك، ولاستحق الشكر والثناء. إن الدكتور طه حسين في هذا المزلق حين انتحل من قبل ما قاله أحد المستشرقين: " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم و إسماعيل، وللإنجيل أن يحدثنا عنهما، وللقرآن أن يفعل ذلك، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي ولا ينهض هذا الدليل ". وثار الناس وهم محقون. ولو قال بعد ذلك: " ولكني كمؤمن بالقرآن الكريم، أثبت وجودهما التاريخي بهذا الدليل، وإذا كان البحث التاريخي المجرد بأدلته الفنية الخاصة لم يصل إلى إثبات شيء عن إبراهيم و إسماعيل؛ فذلك لقصور قد يكشفه الزمن. وقد نصل في المستقبل إلى ما عجزنا عنه الآن. يحدث ذلك دائمًا، وأخيلة الأمس حقائق


الصفحة التالية
Icon