قد تجد في القرآن حقيقة مفردة، ولكن هذه الحقيقة تظهر في ألف ثوب. وتتوزع تحت عناوين شتى، كما تذوق السكر في عشرات من الطعوم والفواكه، وهذا التكرار مقصود، وإن لم تزد به الحقيقة العلمية في مفهومها. ذلك أن الغرض ليس تقرير الحقيقة فقط، بل بناء الأفكار والمشاعر عليها والتقاط آخر ما تختلقه اللجاجة من شبهات وتعلات، ثم الكر عليها بالحجج الدامغة حتى تبقى النفس وليس أمامها مفر من الخضوع للحق والاستكانة لله. وعندي أن قدرًا كبيرًا من إعجاز القرآن الكريم يرجع إلى هذا. فما أظن امرءًا سليم الفكر والضمير يتلو القرآن أو يستمع إليه ثم يزعم أنه لم يتأثر به.. قد تقول: ولم يتأثر به؟ والجواب أنه ما من هاجس يعرض للنفس الإنسانية من ناحية الحقائق الدينية إلا ويعرض القرآن له بالهداية وسداد التوجيه.. وما أكثر ما يفر المرء من نفسه، وما أكثر الذين يمضون في سبل الحياة هائمين على وجوههم. ما تمسكهم بالدنيا إلا ضرورات المادة فحسب. إن القرآن الكريم بأسلوبه الفريد يرد الصواب إلى أولئك جميعًا، وكأنه عرف ضائقة كل ذي ضيق، وزلة كل ذي زلل، ثم تكفل بإزاحتها كلها، كما يعرف الراعي أين تاهت خرافه، فهو يجمعها من هنا وهناك لا يغيب عن بصره ولا عن عطفه واحد منها. وذلك سمر التعميم في قوله عز وجل: " ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل ". حتى الذين يكذبون بالقرآن ويرفضون الاعتراف بأنه من عند الله. إنهم يقفون منه مثلما يقف الماجن أمام أب ثاكل، قد لا ينخلع من مجونه الغالب عليه، ولكنه يؤخذ فترة ما بصدق العاطفة الباكية. أو مثلما يقف الخلي أمام خطيب يهدر بالصدق، ويحدث العميان عن اليقين الذي يرى ولا يرون. إنه قد يرجع مستهزئًا، ولكنه يرجع بغير النفس التي جاء بها. ص _١٠٦


الصفحة التالية
Icon