الكلمات ومعانيها من جنس ما نعرف، أما آثارها فلسنا نعرف مأتاها، و إن تشبثت بأنفسنا إلى أبعد الحدود. والشيء قد يكون في إحدى حالاته مألوفًا لا يثير انتباهًا، فإذا أظهر هذا الشيء نفسه في أوضاع أخرى اكتنفته معان شتى ! ألا ترى الزخرفة في فن الرسم تتكون من " وحدة " معينة؟ لو رأيت صورتها مفردة ما لفتت نظرك، فإذا كررها الرسام بطرق مختلفة برزت معالم الجمال في أنواع من الزخارف تسحر الألباب. ثم إن إلفك الشيء قد يخفي ما فيه من أسرار، ويصرفك عن اكتشافها. وكثيرًا ما تتلو آيات القرآن مثلما تتصفح آلاف الوجوه في الطريق، ملامح تراها قد تكون دميمة، وقد تكون وسيمة، تمر أشكالها بالعين، فما تثبت على أحدها إلا قليلاً وفي ذهول. لأن المرء مشغول بشأنه الخاص عن دراسة القدرة العليا في نسيج هذه العيون وغرس هذه الرءوس، وصوغ تلك الشفاه، وإحكام ما تنفرج عنه من أسنان، وما تؤدي إليه من أجهزة دوارة لا تقف لحظة... إننا نقرأ القرآن فيحجبنا ابتداء عن رؤية إعجازه، إنه كلام من جنس ما نعرف. وحروف من جنس ما ننطق، فنمضي في القراءة دون حس كامل بالحقيقة الكبيرة. إلا أن طبيعة هذا القرآن لا تلبث أن تقهر برودة الإلف، وطول المعرفة، فإذا كتاب تتعرى أمامه النفوس، وتنسلخ من تكلفها وتصنعها، وتنزعج من ذهولها وركودها، وتجد نفسها أمام الله جل شأنه يحيط بها ويناقشها ويعلمها ويؤدبها، فما تستطيع أمام صوت الحق المستعلن العميق إلا أن تخشع وتطيع. وكما قهر القرآن نوازع الجدل في الإنسان وسكن لجاجته، تغلب على مشاعر الملل فيه، وأمده بنشاط لا ينفد، والجدل غير الملل، هذا تحرك ذهني قد يجسد الأوهام، ويحولها إلى حقائق. وذلك موات عاطفي قد يجمد المشاعر، فما تكاد تتأثر بأخطر الحقائق. ص _١٠٩


الصفحة التالية
Icon