أما بعد قراءة القرآن، فأجزم بأن قائل هذا الكلام محيط بالسموات والأرض، مشرف على الأولين والآخرين، خبير بأغوار الضمائر وأسرار النفوس، يتحدث إلى الناس تحدث السيد الحقيقي إلى عباده الذين خلقهم بقدرته، ورباهم بنعمته، ويتناول الأمم والقرون في هالة من الجبروت والتعالي، يستحيل أن تلمح فيها شارة لتكلف أو ادعاء. ومع رفعة المصدر الذي تحس أن القرآن جاء منه، وإحساسك بأن هذا الشيء أتى من بعيد، فإنك ما تلبث أن تشعر بأن الكلام نفسه قريب من طبيعتك، متجاوب مع فطرتك، صريح في مكاشفتك بما لك وما عليك، متلطف في إقناعك فما تجد بدًّا من انقيادك لأدلته، وانفساح صدرك لتقبله... ولا تحسبن هذا الوصف متأثرًا بمواريث التدين التي انتقلت إلينا من الأولين، فإن الكفار أنفسهم أدركوا أن القرآن مباين بأسلوبه الخاص لجنس ما ألفوا من كلام، وملكتهم الدهشة لدى سماعه. فقد روى أن الوليد بن المغيرة- وهو من زعماء الكفر في مكة- جاء إلى النبي ﷺ، واستمع إلى ما يتلو من هذا القرآن، فلما أنصت وتدبر، كأنما رق له قلبه، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه وقال له: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوك إياه، فإنك أتيت محمدًا وملت إلى دينه...!! قال الوليد- مستنكرًا عرض المال عليه- : لقد علمت قريش أني من أكثرها مالاً. قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك، فيعلمون أنك مكذب له وكاره. قال: وماذا أقول؟!. ، فو الله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر، ولا برجزه ولا بقصده، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقوله محمد شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. وغضب أبو جهل لهذه الشهادة، فإن الصدق في هذه القضية لا يعنيه، بل يؤذيه. والعراك على الرياسة في هذه البيئات يذهل عن شئون الكفر والإيمان. فليكن محمد ﷺ صادقًا. ص _١٢٥


الصفحة التالية
Icon