فتصوير المعنى الصادق حتى يبرز في الحروف كما يبرز الجمال الإنساني في أبهى حلله، وحتى ينتقل سناه إلى الأفئدة نفاذًا أخاذًا ركن ركين في خدمة الحقيقة وبسط سلطانها، وإزاحة العوائق من أمامها. وقد تعرض لفيف من علماء الإسلام لشرح الإعجاز البياني في القرآن الكريم. وكنت أنا نفسي كثير الطواف حول هذا الجمال البياني، أسرح فيه الطرف وأردد فيه الفكر، لكني كنت كالذي شغله الإعجاب بالجمال، عن وضع تفاسير له أو لعلني حاولت ثم غلبني القصور، فتوقفت مؤقتًا حتى تسنح فرصة... إلى أن قرأت للمرحوم العلامة الشيخ " محمد عبد الله دراز " كتابه " النبأ العظيم- نظرات جديدة في القرآن " فرأيت الرجل وفَّى هذا المجال حقه، وأفاض في الحديث، كأنما يتدفق من ينبوع لا يغيض أبدًا، ووددت لو أن الرجل بقي حتى أكمل ما بدأ، بيد أن المنية عاجلته، فقضى وهو مجاهد في سبيل ربه- طيب الله ثراه. شرح الدكتور في تفصيل طويل المعاني التي احتواها القرآن والتي يستحيل- بالبراهين الحاسمة- أن تصدر عن بشر، وأحصى جملة الشبه التي يمكن أن تخطر ببال أي متردد مرتاب، ثم أجهز عليها. ومضى يستعرض ما يقوله المستقصي في طلب الحقيقة وبسط الإجابة في أدب وفقه، واسمع إلى هذا البيان: " …فإن قال: قد تبينت الآن أن سكوت الناس عن معارضة الناس كان عجزًا، وأنهم وجدوا في طبيعة القرآن سرًّا من أسرار الإعجاز يسمو عن قدرتهم. ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من نطاق هذا السر، لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية. فمن حروفهم تركبت كلماته، ومن كلماتهم ألفت جمله وآياته، وعلى مناهجهم في التأليف جاء تأليفه. ص _١٢٧


الصفحة التالية
Icon