فأي جديد في مفردات القرآن لم تعرفه العرب من موادها وأبنيتها؟!.. وأي جديد في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها، ولم تأخذ به في مذاهبها حتى نقول: إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟ قلنا له: أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادًا وتركيبًا، فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز وأوضح في قطع الأعذار: " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي ". وأما بعد، فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان، فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ويخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانًا مرفوعة، وسقفًا موضوعة، وأبوابًا مشرعة. ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد، وأبقاها على الدهر، وأكنها للناس من الحر والقر، وفي تعميق الأساس، وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والارتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة وترتيب الحجرات والأبهاء بحيث يتخللها الضوء والهواء. فمنهم من يفي بذلك كله، أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء.. إلى فنون من الزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتًا بعيدًا. كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى، يتفاوت حظها في الحسن والقبول. وما من كلمة من كلامهم، ولا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة. ولكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع، قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك. وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجه أذنك وتفتر منه نفسك وينفر منه طبعك". ص _١ ص


الصفحة التالية
Icon